صحيفة المثقف

جَني فون وستفيلن: البارونة التي فضلت الفقر والتشرد مع كارل ماركس

مصدق الحبيبكانت عائلاتهما تعرف بعضها رغم الفارق الطبقي الكبير. جَني بنت البارون لدفگ فون وستفيلن مستشار حكومة منطقة ترير ومن طبقة النبلاء، وكارل ماركس من عائلة يهودية من الطبقة الوسطى وقد اعتنقت المسيحية حديثا. كانوا يلتقون ويلعبون معا: كارل واخته صوفي وصديقه إدگار واخته جني. تسارعت السنون ودخل الاربعة في مرحلة الشباب وظهرت مفاتن جني وأناقتهاوكياستها واتزانها في صالونات موسيقى ورقص الطبقات العليا واحاديثها عن استقلال المرأة وضمان حقوقها، فاصبحت مثار اعجاب الشباب لكنها كانت تميل الى كارل رغم شكها بانه ليس من السهل ان تكون من نصيبه حيث ان السائد عند تلك العوائل هو تزويج بناتها للضباط والدبلوماسيين والاثرياء الشباب من نفس الطبقة الاجتماعية. فلم يكن بالحسبان آنذاك امكانية زواج فتاة ارستقراطية من راديكالي ينحدر من أصل يهودي! ولذلك حين تقدم ضابط شاب وسيم لطلب يد جني، قبلت، وبدأت تلتقي به مرات قليلة دارت بينهما نقاشات عامة من اجل ان تتوثق معرفتها به. وفي يوم كان الحديث عن واجبه العسكري  حيث بدأ يفخر بطاعته العمياء للواجبات والاوامر دون عواطف واعتبارات من اجل ان يصبح ضابطا اصيلا مخلصا لواجبه الوطني ومتطلبات مهنته . فبادرته جني بسؤال افتراضي قائلة: ماذا لو تلقيت أمرا باطلاق الرصاص على المتظاهرين في مدينتك وبينهم من اهالي المدينة الطيبين؟ فكان جوابه بلا تردد. نعم بالتأكيد سأفعل ذلك لانني لا استطيع ان أعصي الأمر العسكري. كان ذلك الحديث بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير والتي قررت جني بموجبها ان تفسخ الخطبة.

حين عاد كارل الى اهله بعد انتهاء السنة الاولى في جامعة بون، واصل اللقاءات بجني التي تعلقت به أكثر فأكثر وصرحت بذلك لاخيها إدگار واخت كارل صوفي. عندما جاء ماركس من بون كان بلحية طويلة وشعر داكن كث، ومع  سحنته السمراء بدا شكله مختلفا عن السابق لكنه كان محببا لجني فكانت تسميه "حبيبي وحش الاحراش"! وهكذا كانت خطبتهما غير الرسمية التي لن تعرفها العائلتان سوى ادگار وصوفي. كان والد جني معجبا ايما اعجاب بكارل الذكي الواعي اجتماعيا والنشط سياسيا، فكان يناقشه في امور عديدة ويخرج للمشي معه عبر الحقول ليواصلوا مناقشات سياسية وقضايا فكرية عديدة كان كارل قد تعرف من خلالها الى مذهب الاشتراكية ومفاهيم الحرية وحقوق الانسان، الامر الذي سيعترف كارل به لاحقا ويعتبر والد جني معلمه الاول ويكتب له الاهداء في رسالة الدكتوراه. كانت جني مطمئنة من جانب موافقة والدها، وواثقة من ان امها لن ترد لها رغبة ، وهكذا تحقق لها ما ارادت فاصبحت الخطبة رسمية . وبرغم ذلك كانت تحترس من أخيها الاكبر، فردناند ، اخوها من والدها فقط وهو الموظف الكبير في ادارة المدينة والذي اصبح بعدئذ وزيرا للداخلية. علم هذا الاخ من شرطة وامن المدينة بنشاطات كارل السياسية المناوئة للحكومة، فجاء يطلب من والده التدخل وفسخ الخطبة فرفض الاب ووقفت ام جني بوجهه فعاد خائبا.

1538  جيني ماركس

واصل كارل سنته الجامعية الثانية في جامعة برلين وتواصلت بينه وبين جني رسائل حب كثار مليئة بالقبل والزهور والآمال الكبار:

" بكامل الصدق.. سأكتبها المرة تلو الاخرى ، تلو الاخرى

لتبقى حية عبر القرون

الحب هو جني، وجني هي الحب"

فتمتلأ جني بفيض من السعادة ويشيع وجهها بالنور، فتكتب:

"سوف لاتصدق ياحبيب روحي، كم من السعادة تمنحني رسائلك، وكم كانت رسالتك الاخيرة المترعة بالحنان مبعثا للاطمئنان والصفاء والسلام"

لكن مدة البعد والحب بالمراسلة ولوعة الانتظار طالت اكثر مما يجب، فلم يكتف كارل بالتخرج من الجامعة بل واصل دراسته العليا وانشغل اكثر بالبحث والنشاط السياسي للحد الذي جعل والده يشعر بغرابة الحال وحراجة الموقف، فبدأ يكتب لابنه كارل رسائلا عديدة لجذب انتباهه الى هذا الحال غير الطبيعي ويهيب به تقدير الموقف وحسمه باسرع مايمكن، فيكتب له متحدثا عن جني:

" هاهي تنكر نفسها، تضحي من أجلك تضحية لاتثمّن، فإياك إياك ان تنسى ذلك يوما أو تخذلها. لو كان بمقدوري أنا ان اعطي هذه الانسانة النبيلة أي شئ يعوض لها بعدك وانتظارك لما توانيت، فليس هناك شئ اعزه عليها.....انت تعرف ان لعائلتها الكريمة الحق ان تتوقع الافضل لها، ولو اردت الحقيقة فان آلاف العوائل، لو كانوا في موقفهم، لرفضوا، ولرفضت انا ايضا هذا الحال من اجل سعادة هذه البنت-الملاك التي اعزها كما لو كانت ابنتي"

وكتبت له اخته صوفي:

" جني تحبك حبا جما، وهي تأتي الينا كل يوم..كانت معنا يوم امس وهي تقرأ رسائلك ودموعها تنهمر على خديها، مما جعل دموعي تنهمر لها"

في عام 1842 توفى والد جني قبل ان يرى زفاف ابنته الذي انتظرته طويلا. وفي السنة التالية، عام 1843 وبعد انتظار دام سبع سنوات بعد الخطبة الرسمية تم اخيرا زواج جني من كارل. وبعد الزواج ببضعة أشهر بدأت رحلة المطاردة والنفي والتشرد عبر أربعة بلدان: ألمانيا ، فرنسا ، بلجيكا ،وانكلترا مكللة بالعوز والفاقة والمرض وموت الاطفال. حزمت جني حقائبها المحملة بالملابس والحاجات الثمينة من امها وحزم كارل حقيبة كبيرة احتوت على اربعين كتابا وبحثا. ولم تتململ جني اوتشتكي قط  من فرط انشغاله الدائم بالبحث والنشاط السياسي، بل كانت مؤازرة مخلصة!  وفي المنافي الثلاث اصبحت مناضلة حقيقية.

تقول الكاتبة ميري گبريل في كتابها "الحب ورأس المال" الصادر عام 2012:

"ان دور وموهبة جني كانت بالدرجة الاولى اضفاء الانسانية والآدمية على حياة زوج انكب على الدراسة والبحث وانشغل بالسياسة طيلة عمره". ولكن كان لجني دورا عمليا كبيرا في خدمة حركة النضال الشيوعية، وكان رمز ذلك انها كتبت بخط يدها البيان الشيوعي الذي حرره ماركس ونقحه أنگلز. وكان عملها المتواصل داخل البيت هو اعادة كتابة (تبييض) مسودات ماركس من اجل ارسالها للنشر. يضاف الى ذلك دورها الاساسي في ادارة شؤون الحركة والثورة كجدولة وتنظيم الاجتماعات ورعاية المبعدين والمنفيين ومتابعة شؤون النشر والتوزيع. ولم يكن ذلك ممكنا مع ادارة شؤون البيت وسبعة اطفال لولا مساعدة هلينا ديمث التي لازمتها لمدة اربعين عاما.  كانت أم جني قد تولت رعاية البنت هلينا حين كانت بعمر 11، وكانت قريبة لعمر جني فنشأتا كأخوات علما ان هلينا اتخذت دور المساعدة في ادارة شؤون البيت الى ان ارسلتها الام لتصاحب جني في رحلتها وتدير شؤون بيتها، في بروكسل وثم في لندن.

بين 1844 و 1857 انجبت جني سبعة اطفال، خمس بنات وولدين. ثلاثة منهم توفوا بعمر سنة أو أقل نتيجة لسوء التغذية وقلة الخدمات الصحية، ولد واحد مات بعمر 8 سنوات وبنت واحدة توفت بعمر 38 بسرطان المثانة. والبنتين الاخريين اصبحتا ناشطات سياسيات وتزوجن وساهمن في الادب والصحافة والترجمة لكن حیاتهما انتهت نهاية مفجعة. واحدة انتحرت انتحارا ثنائيا مع زوجها، والثانية انتحرت نتيجة لخيانة زوجها لها وذلك عند معرفتها انه تزوج بالسر من ممثلة.

كانت جني قد كتبت في يومياتها حول وفاة ابنها أدگار ذي الثمان سنوات عام 1853:

"كان ذلك اليوم الاسود أقسى يوم في حياتي، فقد تجاوز حزني كل الاحزان والمصائب مجتمعة. إدگار بوجهه الطافح بنور الشمس، هو حياتي ووجودي وفخر والده وأمله الكبير"

وكانت قد فقدت طفلين آخرين قبل ادگار وذلك بعد ان اكملوا سنة واحدة فقط من اعمارهم، هنري گاي عام 1850 وجني فرانسز عام 1852. كان ماركس قد سمى كل بناته جني على اسم امهن الاول وباختلاف اسمهن الوسطي.  بعد هذه المحن اصيبت جني الام بالجدري وكان عليها ان لاتلتقي بالاطفال. وحين تماثلت للشفاء وسمح لها ان تلتقي بهم، اصابهم الرعب لمرأى وجهها الذي شوهته بثور الجدري، الامر الذي أثار بكائهم الجماعي.   عاشت جني كل تلك السنين بفقر وألم وعوز. باعت وارتهنت كل ماجلبت من اهلها من مصوغات وحاجات ثمينة ثم جاء الدور لكل ماموجود في البيت من اثاث وحاجات. وفي يوم طرقت الباب صاحبة الدار لتطالب بأيجار ثلاثة اشهر متراكمة وكان معها مُبلـّغ الشرطة ولم يكن لجني أي مال تدفعه فقالت لهم خذوا ماتشاؤوا فحملوا اسرة الاطفال واغطيتهم وبضمنها مهد الطفل الرضيع.

عندما أكمل كارل "رأس المال" ابتهجت جني فكتبت في يومياتها: : قليل جدا من الكتب الفكرية انجزت تحت ظروف قاهرة وضغط متواصل ونكبات متلاحقة وهذا ما انجزه كارل! فما عانى في انجازه يوازي معاناة اولئك الذين كتبه من اجلهم ". وحين تم نشر وتوزيع الكتاب كانت جني في صحة يرثى لها. في عام 1881 وهي على فراش المرض طلبت من كارل ان يقرأ لها أول مراجعة للكتاب ظهرت باللغة الانكليزية. بعدها بيومين، في 2 ديسمبر توفت جني بعمر 67.

خلال مراسيم دفنها وقف فريدرك انگلز ليقول:

" كانت لهذه المرأة مساهمات بالغة الاهمية والخطورة للحركة والثورة تميزت بذكائها الحاد وحسها السياسي الثاقب والتزامها وحماسها وطاقتها التي لم تنضب خلال اكثر من اربعين عاما. انه أمر لايظهر في التقارير ولن يعرفه الا من يراه بأم عينه. سنفتقد تلك الصراحة واالجرأة في نصائحها. الاقدام بلا تفاخر والحكمة بلا مهادنة. أذا كانت هناك امرأة تصنع سعادتها من خلال اسعاد الاخرين، فهي جني".

سنتان بعد رحيلها توفت ابنتها جني كارولاين، وبعد ذلك بشهر واحد توفي ماركس في 14 مارس عام 1883.  

 

ا. د. مصدق الحبيب

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم