صحيفة المثقف

غرابة الاستقرار النغمي في الأغنية العراقية (وعد مني وعد) مثالاً

تحسين عباس غناء: رحمه رياض أحمد / كلمات: رامي العبودي / ألحان: علي صابر/ توزيع: محب الراوي

انتاج 2018 .

لاحظت في الآونة الأخيرة ظهور أساليب جديدة في تنغيم الأغنية العراقية من حيث اختيار درجة الاستقرار الغريبة والأسلوب المغاير لما كانت عليه ، فقد كنت مبتعداً عن الاغاني الحديثة لأسباب كثيرة منها علمي بعدم خضوعها للمراقبة الفنية وكذلك حريّة كلماتها التي احياناً ما تخدش الحياء بطريقة ماكرة وتحت شعار (صفّي النية) كـــ أغنية (أحطه بيك !! الجرح لو صاباني) و(الزمي شوفيه شكبره ! گلبي الـــ ما خلص صبره) فكأنَّ الكاتب عجز عن الاتيان بالمفردة المدهشة فراح يبحث عن تأمين احتياج الجمهور المراهق لتأسيس قاعدة شعبية ومن ثمَّ الانتشار الذي بدورهِ يوفّر المال!! لكن ، وبالضدِّ من هذا التيّار ظهرت الأغاني التي تحمل مسحة العاطفة المهذَّبة المتكلمة عن الوجدان بأسلوب يمزج ما بين الواقع والخيال من حيث الكلمات والتنغيم وهذا ما تجلى في أغنية (وعد مني وعد) لرحمة رياض أحمد و(أوف منه گلبي) لـ أصيل هميم ، فالأغنيتان تتشابهان بعدة أمور منها:اختيار النغم وهو البيات ، اختيار الدرجة النصف وهي الــ (دو#- صول#)، تبدآن بفالت موسيقي وغنائي وتنتهيان بفالت موسيقي، تتحدثان بلسان حال المرأة في المجتمع العربي ومعاناتها أو مشاعرها نحو الرجل ، وهذه النقطة لها الأثر في أن تحصد هذا الكم الهائل من المشاهدة والاستماع لأنّ الرجل العربي كثيراً ما يتلهفُ لسماع بوح المرأة لكونها تعيشُ حالة من الكتمان الجبري بسبب احاطتها بالأعراف الاجتماعية التي تعتبرُ البوحَ عيباً وعورة ، كما وتختلفُ الأغنيتان بكون الأخيرة استخدمت الـ ديوتو مع صوت شاعر.

وقد اخترتُ هنا أغنية (وعد مني وعد) لــ رحمة رياض أحمد لكونها الأكثر مشاهدات في الـ يوتيوب فقد بلغت 105,645,352 مليون مشاهدة كما بلغت (أوف منه گلبي) لـ أصيل هميم 52,818,404 مليون مشاهدة .

فكرة العمل:

عند سماعي لأغنية (وعد مني وعد) دعتني الى الاستماع لها منذ اللحظات الأولى فكأني أستمع الى شيء غريب ولما حللت النغم وجدته من مقام البيات، فتساءلت اين الغرابة في ذلك حتى انتبهت أن الأغنية بُنيت من درجة غير محتملة في الموسيقى الشرقية وهي درجة الـ (دو#) عكس ما هو مُشاع في الموسيقى الغربية ، ولما استمعت الى عدة أغانٍ لنفس المطربة وجدتها لا تعتمد على درجة استقرار واحدة فقد غنت على الـ (سي، دو، ري) ولحنجرتها مساحة جيدة من السلم الموسيقي، وهذا ما دعاني الى أن أقول: انّ اختيار هذه الدرجة هو لاستفزاز عُرف التلقي وجذبهِ الى ساحة المنغِّم حيث أن أغلب الأغاني تُبنى على درجات السلم الطبيعية الخالية من زيادة نصف البعد ونقصانه ، فبهذه الطريقة قد تمرّد على المألوف من حيث اختيار درجة الاستقرار للموسيقى المقامية كما أنّ هذه الدرجة (دو#) ستبرز امكانية الحنجرة ومدى سيطرتها واحاطتها بالسلم لكونها على غير ما اعْتادتْ عليه الذاكرة الغنائية . أما عن كلمات الأغنية فكانت تتراوح ما بين الندم والحزن الشفيف ومن ثـَـمَّ الثبات ومواصلة الحياة وقد طوّع المُنغّمُ فحوى نغمِ البيات لمعنى النص الغنائي الذي كُتبَ هو الآخر بطريقة غير معهودة سابقاً (شطران متشابهان في قافية الصدر والعجز):

{اريد الله يسامحني لأن اذيت نفسي اهواي = طيبة گلبي أذتني تعبتچ يروحي وياي{ثمَّ تتلوها أربعة أشطرٍ على الطريقة نفسها:} انا بحظي غلطان  لعبت بحالي لعبه

چنت بالناس وهمان مشيت بنيه طيبه

صاحبت الوفي وخان غدر بيه الأحبه

شلون تعلي بُنيان  ويروح للناس غربه}

وهكذا ليختم بقافية مُوحّدة بصدرها وعجزها مختلفة عما سبقها:{وعد مني وعد بعد ما اثق ابد = ولا انطي مجال كلشي وله حد}. ولنا هنا الْتفاتة في استخدام نغم البيات الذي عادة ما يكونُ مفرحاً مع ايقاع الهيوه الراقص، فقد يتبادر للمتلقي المثقف ذوقياً أو المختص موسيقياً سؤال مفادُهُ: كيف يتوافق النغم المفرح مع كلمات في الندم والحزن والتوجع الخفي؟! وهنا أقول: أن تنغيم الأغنية أُخِذَ من خلاصة المعنى الذي انتهى بالثبات في خاتمة المقاطع {وعد مني وعد بعد ما اثق ابد = ولا انطي مجال كلشي وله حد} فهذه الكلمات هي بمثابة صحوة بعد انتكاسة عاطفية وهذه الصحوة تحمل في طيّاتها السعادة .

التنغيم:

ابتدأت الأغنية بجملة فالت موسيقي ومن ثمَّ فالت غنائي في {اريد الله يسامحني لأن اذيت نفسي اهواي = طيبة گلبي أذتني تعبتچ يروحي وياي} من الدرجة السادسة وحتى الثامنة وبعد ذلك تدخل الأغنية بإيقاع الهيوه أو ما يسمى بــ الدارج الخليجي 6/8 ؛ وتستمر الأغنية في التنقل بين درجات نغم البيات لتأخذ كامل الدرجات السبعة والثامنة من درجة العودة الخاتمة، ولم تكن هناك أيّ إنتقالة الى نغم آخر وهذه رؤية المُنغّم ، فالنص لا يحتاج الى تنويع في المقامات.

الأداء:

بعد أن عرفنا غرابة درجة الاستقرار ومدى خروجها عن المألوف السائد يقيناً سيكون أداء التنغيم على غير المعتاد ، فقد أجادت الفنانة رحمة رياض بصوتها الذي لن نبالغ اذا صنّفناه من الأصوات الملكوتية ، فعاشتْ لحظة الندم والحزن ومن ثم الثبات في سماء النغم والمعنى بحيث أنّها كانت خير ممثل للمرأة العربية والشرقية بشكل عام، وخاصة في المقطع الثاني كأنّ احساسها ذابَ في حزنها الساخر من الواقع .

{اريد اعتب على حظي وي الناس ما گاعد

خل الي وفى وياي تقريباً ولا واحد

آنه اهوايه ممنون من العاشرتهم

علموني البچي اشلون البروحي شلتهم

بسيطه سهله وتهون هم يفتر وكتهم

علي بظهري يحچون الدنيه غيرتهم

***

وعد مني وعد بعد ما اثق ابد

ولا انطي مجال كلشي وله حد}

التوزيع:

كان اختيار التشيلو مع البيانو في الفالت الموسيقي موفقاً فقد أجاد استدراج الانتباه لما ممكن ان تحملهُ طيّاتُ الأغنية ويأتي الفالت الغنائي ثم دخول ايقاع الهيوه ناجحاً لإحداث عنصر المفاجأة في تلقي السامع وكذلك عندما يرجع التشيلو في موسيقى المقطع الثاني ومن ثم الغناء وترجمتهِ الخافتة في أصوات الكمانات والناي.

قد أبدع الموزّع في تصور أصوات الآلات وتنفيذها ولم يغريه التنوّع غير المُبرّر في تعدد الآلات.

 

تحسين عباس/ شاعر ناقد موسيقي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم