أقلام ثقافية

ضياء نافع: أخماتوفا وتشيخوف

ولد تشيخوف عام 1860، وولدت أخماتوفا عام 1889، وتوفي تشيخوف عام 1904، عندما كان عمرها 15 سنة ليس الا، ولهذا لا يمكن القول انهما عاصرا بعضهما البعض في مسيرة الابداع الادبي الروسي، ومن المؤكد، ان تشيخوف لم يسمع باسمها بتاتا . ومع ذلك  - وياللغرابة -  يمكن تلخيص موقف الشاعرة الروسية الكبيرة أخماتوفا تجاه تشيخوف بكلمة واحدة فقط، وهي – (اللاحب)، ولكن مما يخفف من وقع تلك الخلاصة، انها تمثّل موقفا عاما من قبل جماعة تيّار (الذروة) الادبي، الذي ظهر في بداية القرن العشرين، وكان على رأسه زوج أخماتوفا الاول، الشاعر والناقد الادبي والمترجم غوميليوف (انظر مقالنا عنه بعنوان غوميليوف الشاعر الروسي المخضرم)، هذه الجماعة التي ظهرت بالذات في فترة التحولات والاحداث المصيرية الكبيرة، التي مرّت بها روسيا (الثورة الروسية الاولى والحرب العالمية الاولى وثورة اكتوبر الاشتراكية وانهيار الامبراطورية الروسية وبدايات بناء دولة الاتحاد السوفيتي ..الخ ..الخ)، ولم يكن تشيخوف في تلك الاحداث الجسام نجما ساطعا طبعا، اذ لا توجد عنده – كما هو معروف – موضوعات تتناغم مع طبيعة تلك الاحداث الساخنة جدا، ولا يمكن لابطاله الذين يتحدثون عن شؤونهم ومعاناتهم الحياتية اليومية ان يثيروا ادباء وقراء ذلك الزمان العاصف، او ينسجموا او يتعاطفوا معهم، حتى تروتسكي نفسه (الرجل الثاني في ثورة اكتوبر عندها) كتب في كتابه المعروف (الادب والثورة) الصادر عام 1923 حول فرقة مسرح موسكو الفني ما يأتي – (... اناس يعيشون لحد الان في اجواء مسرح تشيخوف من الاخوات الثلاث والخال فانيا ونحن في عام 1922 .. وانهم لحد الان يعرضون للاوربيين والامريكان كيف كان رائعا بستان الكرز في روسيا الاقطاعية العتيقة..) . آنا أخماتوفا ايضا كانت ضمن هؤلاء الذين لم يتقبّلوا تشيخوف، ولكن موقفها لم يكن بالطبع منطلقا من موقف تروتسكي تجاه تشيخوف ولا متطابقا معه ولا حتى قريبا منه،  اذ انها لم تعتبر تشيخوف ممثّلا لروسيا العتيقة كما هو حال تروتسكي، وانما انطلقت من مواقف منها مثلا موضوع الفن ودوره الانساني وقيمته الاجتماعية، لانها تعتبر الفن (..ظاهرة سامية ..وان الفنان يتقبّل الفن من قوى روحية عليا ..وانه يميّز النص الشاعري العالمي المطلق ..)، وهذه بالطبع آراء جماعة تيار الذروة، وكانت تؤكد ان تشيخوف لم يكن فقط بعيدا عن تلك الافكار حول الفن، بل انه لم يكن يعترف بها اصلا، وانه بالتالي أساء لدور الفنان وقيمته – حسب رأيها – لانه أخذ يكتب كما اراد القارئ منه ان يكون . لقد كتب الكثيرون ممن كانوا يعرفون أخماتوفا ويختلطون معها أقوالها حول تشيخوف في مذكراتهم، ومنها – (..تشيخوف يتناقض مع الشعر ..) و(..لا اصدّق الذين يقولون انهم يحبون تشيخوف ويحبون الشعر ايضا ..) و(.. ابطاله يثيرون الملل وهم باهتون وقرويون ..) الخ .. وبشكل عام كان من الواضح تماما، ان أخماتوفا لم تكن تحب قصص تشيخوف ومسرحياته، ولكن بعض النقاد والباحثين الذين كتبوا حول موقف اخماتوفا هذا توقفوا عند نقاط كانت – مع ذلك – تجمع بين خصائص ابداع اخماتوفا وتشيخوف حسب رأيهم، ومن بين هذه النقاط مثلا، آراء باسترناك حول تشيخوف، التي تحدّث عنها في اربعينيات القرن العشرين، اذ انه لم يتفق فيها مع أخماتوفا بشأن تشيخوف، معتبرا اياه  الكاتب الروسي الوحيد الذي لم يرشد القراء او ينصحهم او يعظهم، وبالتالي، فانه بقي فنانا (..نقيّا وخالصا..)، بل ان باسترناك اعتبره (..جوابا على فلوبير..)، وربط هؤلاء النقاد ملاحظات باسترناك بموقف غوميليوف وأخماتوفا، اذ انهما كانا يحلمان معا بتطبيق تلك المواقف والمبادئ نفسها لدرجة ان غوميليوف كان يقول لها مازحا (..اسقيني السمّ..) عندما ترين باني بدأت بارشاد الناس او نصحهم ووعظهم . وأشار هؤلاء النقاد ايضا الى مسألة في غاية الاهمية، وهي ان تروتسكي في كتابه الذي أشرنا اليه اعلاه قد ذكر، ان عبقرية أخماتوفا ترتبط بروسيا العتيقة، مثلما يرتبط موقف فرقة مسرح موسكو الفني بأدب تشيخوف المسرحي (..لروسيا الاقطاعية العتيقة ..)، ويستنتج هؤلاء النقاد ان أخماتوفا تناولت واقعيا في شعرها نفس تلك الموضوعات الانسانية والصور الخالدة في الادب، التي تناولها تشيخوف لدرجة  انهم وجدوا في شعرها بعض الاحيان (..تنفّسات بستان الكرز التشيخوفية ..)، كما كتب احدهم، وان تروتسكي كان محقا – من وجهة نظره طبعا – عندما اعتبرها تمثّل روسيا العتيقة مثلما كان تشيخوف يمثلها ايضا . وهذه كلها ملاحظات صحيحة من وجهة نظرنا . ومن الطريف ان ننهي هذه السطور الوجيزة عن هذا الموضوع الجديد تماما للقارئ العربي بالاشارة الى ما كتبته أخماتوفا نفسها مرّة، عندما كانت محاربة من قبل النظام وممنوعة من النشر في حينها، اذ انها لم تجد افضل من تشيخوف للحديث عن اوضاعها آنذاك . وهكذا قالت، انها تعيش وكأنها في (ردهة رقم 6)، وهو عنوان لقصة تشيخوف المعروفة والمشهورة جدا، هذه القصة التي كتب عنها حتى لينين مرّة قائلا، انه ترك الغرفة متضايقا نفسيا عندما انتهى من القراءة، لانه شعر وكأنه كان في تلك الردهة . لينين استخدم القصة في روسيا القيصرية رمزا لها، وأخماتوفا استخدمتها في روسيا السوفيتية رمزا لها ايضا، وما أبعد روسيا تحت حكم القياصرة عن روسيا السوفيتية، ولكن كلاهما (لينين وأخماتوفا) كانا على حق، ولا نظن ان هناك أروع واعظم من هذا المثل للتأكيد على ان تشيخوف قد رسم في ثنايا ابداعه كل معاناة الانسان في مسيرة حياته بغض النظر عن النظام السياسي القائم في بلاده، وهذا ما يفسّر سر استمرار حب القراء له الى الوقت الحاضر، وليس فقط في وطنه، وان أخماتوفا (التي لم تكن تحبه) قد ساهمت ايضا بالاقرار بذلك .

وختاما لهذه الملاحظات، نريد الاشارة الى ان اللاجئين الروس في الغرب قد اسسوا دار نشر كبيرة في نيويورك، والتي قامت بنشر الكثير من الكتب الروسية وتم توزيعها في اوروبا الغربية بالاساس طبعا وعلى نطاق واسع، وكانت تسمى دار تشيخوف للنشر، وقد طبعت دار النشر هذه مجموعة من قصائد أخماتوفا عام 1952، وهكذا صدر كتاب يحمل اسمها واسم تشيخوف معا على غلاف ذلك الكتاب، وقد أشار احد النقاد الروس المعاصرين الى ذلك واعتبره رمزا  للتقارب الروحي بين أخماتوفا وتشيخوف رغم كل مواقفها تجاهه، وهي اشارة جميلة ورشيقة جدا .

***

ا. د. ضياء نافع

....................

* من كتاب (سبعون مقالة عن تشيخوف)، الذي سيصدر عن دار نوّار للنشر قريبا في بغداد وموسكو .

في المثقف اليوم