صحيفة المثقف

عوائل اللغات القوقازِيَّة

Kaukasischen Sprachfamilien

Caucasian language families

القوقاز:

القوقاز: Καύκασος تسمية أطلقها اليونانيون القدماء على مناطق جغرافيَّة محددة تقطنها منذ آلاف السنين شعوب وقبائل مختلفة، ولا علاقة لهذه التسمية بأصل أو جنس أو لغات  هذه الشعوب أو الأقوام التي إسْتَقَرَّت فيها، إلا أنَّ هذه التسميَة شاع إستخدامها وأصبحَت  رديفاً لهذه الأقوام وكناية للغاتهم في جميع أماكن تواجدهم.

يذكر البعض من المؤرخين بأنَّ هذه التسمية مأخوذة من اسم أحد قادة هذه الأقوام، الذي كانت له سطوة كبيرة وقاوَم قوّات الإمبراطورية الرومانيَّة التي تَوَغَّلت في مناطق القوقاز في وقت مبكر قبل التأريخ الميلادي.

1582 القوقازمنظر طبيعيَّ من مناطق القوقاز

https://www.google.de/imgres?imgurl=http://kaukasus-reisen.de/wp-

في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وبالتحديد عام 1779 نشر الباحث الألماني المتخصص بعلم السُلالات والأجناس يوهان فريدريك بلومنباخ   (Johann Friedrich Blumenbach  11. Mai 1752 in Gotha; 22. Januar 1840 in Göttingen†)* رسالته للدكتوراه التي تناول فيها نظريَّة السُلالات، حيث قَسَّم فيها المجاميع البشرية في حينها إلى خمسة أقسام هي: (القوقاز والمنغول والأثيوبيين والأمريكيين والماليزيين) وقد تقادم هذا الطرح لسطحِيَّته ولِما ينطوي عليه من خلفيَّة عنصريَّة وكراهيَّة ولم يعد صالحاً للإستخدام بفعل التطورات العلميَّة المتسارعة في مختلف العلوم، إلا أنَّ تسمية القوقاز شاعت وترَسَّخت وبقيت مستَخْدَمة إلى يومنا هذا.  (https://de.wikipedia.org/wiki/Kaukasische_Rasse)

تمتد المناطق التي تتواجد فيها شعوب القوقاز من الشمال الغربي حتى الجنوب الشرقي للسلاسل الجبليَّة الممتدة بين القارتين الآسيويَّة والأوروبيَّة الواقعة بين البحر الأسود وبحر قزوين، وتضم سلسلة جبال القوقاز الكبيرة وسلسلة جبال القوقاز الصغيرة وسلسلة جبال تاليا، وتحدها من الجنوب إيران وتركيا  ومن الشمال روسيا الفيدرالية، وهي بمجملها جبال وعرة شديدة الإرتفاع يصل إرتفاع بعضها إلى 5642 متر فوق مستوى سطح البحر. كان لهذه الطبيعة القاسية بجبالها وتِلالِها ووديانِها وكثرة ثلوجها وشِدَّة بَردِها أسبابها المباشرة في عزلة شعوب القوقاز عن بعضهم البعض وإنغلاقهم عن العالم الخارجي من جهة وعلى تباين واضح في تطور ثقافاتهم وتعدد لغاتهم وتنوع لهجاتهم وكثرة الإختلافات فيما بينها في مجالات متعددة منها سعة الثروة اللغويَّة وإختلاف البناء اللغويّ وتباين المنظومات الصوتيَّة والتنوع الصرفيّ والنحويّ وغيرها. ومن جهة أخرى فإنَّ لكل قبيلة أو شعب لغته وثقافته الخاصة بحيث أصبحت هذه اللغات في مجمل تَطَوِّرها لا تمت بصلة إلى بعضها البعض ولا تتعدى تسمِيَتها باللغات القوقازِيَّة سوى الإشارة إلى المنطقة الجغرافِيَّة التي تتواجد فيها.

يشير معظم المؤرخون إلى أنَّ تأريخ تواجد هذه الأقوام في هذه المناطق يمتد إلى آلاف السنين ق.م.، ورغم ذلك لا تتوفر لُقط أثريَّة أو مخلفات تأريخيَّة يمكن الإستدلال من خلالها على الفترة الزمنيَّة الصحيحة لظهور هذه الأقوام أو على مواطنهم الأصليَّة وكيفيَّة وصولهم إلى هذه الأماكن، وقد كثرت النظريّات والتكهنات فيما يتعلق بأصلهم فمنهم من إعتمد على مقولات دينيَّة وآخر على معطيات تأريخِيَّة وغيرها، فَظّنَّ بعض المؤرخون بأنهم بقايا الساميين المتقهقرين من بلاد الرافدين وآخر إعتقد بأنهم بقايا لشعوب مختلفة هاجرت من أماكن تواجدها لأسباب عديدة وبإتجاهات مختلفة في فترة هجرة الشعوب الكبرى وإعتبار سلاسل جبال القوقاز بمنخفضاتها وممراتها وبواباتها من الطرق التي سلكتها تلك الشعوب وتخلفت هذه أو تلك من المجاميع عن أخواتها ولاذت بهذه المرتفعات لتشكل إحدى مجاميعها السكانِيَّه لاحقاً،  بينما يذهب البعض إلى القول بأنَّ هذه  الأقوام هي شعوب أصليَّة ظهرت وترعرعت وتكاثرت هنا، إنهم من رحم هذه الأرض ولبناتها، من مائها ونبعها، وهم كالمرتفعات والوديان والشللالات والسهوب المنتشرة فيها.

أنشأ اليونانيون وعلى مقربة من مناطق القوقاز منذ نهايات القرن السابع ق.م. بعض الأحياء السكنيَّة الخاصة بهم على سواحل البحر الأسود وتردد الكثير من المؤرخين اليونانيين إلى هذه المناطق، ويُذكَر بأنَّ أوَّل من تطرق إلى ذكر الأقوام القوقازيَّة هو المؤرخ اليوناني الشهير هيرودوت (HERODOT) في القرن الخامس ق.م.، وقد تمكنت قوّات الإمبراطوريَّة الرومانِيَّة في القرن الثاني للميلاد، أي في زمن القيصر الروماني تراجان، من غزو مناطق القوقاز وضم أجزاءاً منها إلى إمبراطوريَّتهم، وإستمر تواجدهم هناك حتى نهاية النصف الأول من الألف الثاني للميلاد (حتى عام 1453) تحت مسمى الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة. (Weltgeschichte Band 2/ Bibliographisches Institut Leipzig 1991/ Seite 194).

تحوَّلت ديار القوقاز بعد توغل قوّات الإمبراطوريَّة الرومانِيَّة فيها إلى مسرحاً للحروب الطاحنة بين الإمبراطوريتين الرومانية والفارسية الطامحتان بالتوسع وإستمرت هذه الحروب حتى النصف الأول من القرن الأول للميلاد. مع بدايات القرن الرابع للميلاد إعتنقت الإمبراطوريَّة الرومانِيَّة الديانة المسيحية وإنتشرت هذه الديانة عند البعض من شعوب القوقاز التي كانت تحت سيطرتها وبخاصة بين الجورجيين. في القرن السابع الميلادي تعرضت أجزاء كبيرة من مناطق القوقاز إلى التمدد الإسلامي بفعل التوغل الفارسي هناك فإعتنقوا الديانة الإسلاميَّة التي أصبحت حينذاك الديانة الرسميَّة للإمبراطوريَّة الفارسيَّة وفي القرن السادس عشر قامت الإمبراطورية العثمانيَّة بغزو شعوب القوقاز وإخضاعهم لسيطرتها وترسيخ الديانة الإسلاميَّة عندهم، بعد إنْ أصبَح الإسلام أيضاً الدين الرسمي لهذه الإمبراطوريَّة. دارت حروب طويلة بين الفرس والأتراك والروس من أجل السيطرة على هذه المناطق وتمكنت روسيا القيصريَّة بداية القرن التاسع عشر من الإنتصار على منافسيها وضم جميع مناطق القوقاز إليها بعد حرب إستمرت 60 عاماً. (Weltgeschichte Band 2/ Bibliographisches Institut Leipzig 1991/ Seite 371).

أما ما يخص التطورات التي جرت لاحقاً على ديار القوقاز وشعوبها وبالتالي لغاتها فإنَّ الفترة الزمنيَّة بين القرنين الحادي عشر والرابع عشر هي من أكثر الفترات أهميَّة فيما يتعلق بتنوع القوميّات التي نزحت إلى هذه المناطق وإستقرت فيها. كانت البداية إلى التغلغل المنغولي مع بدايات القرن الثالث عشر 1218/ 1221 حيث توغَّلت القوّات المنغوليَّة الغازِيّة بقيادة جينكيزخان عبر إيران حتى مناطق القوقاز وصولاً إلى جنوب روسيا وإستقرت البعض من قبائلها في هذه المناطق. نهاية القرن الرابع عشر وبداية القرن الخامس عشر 1380/1405 نزحت عدد من القوميّات التي تتكلم بلغات التورك عقب تغلغل السلاجقة النازحين من توركمينستان وشمال إيران وأخيراً توغل القوميّات الإيرانيَّة مثل الأذريَّة والأوسيتيَّة بعد تمدد الإمبراطوريَّة الإيرانيَّة في مناطق القوقاز وإخضاعها لسيطرتها.

تتوزع شعوب القوقاز حالياً بين دول عديدة في مقدمتها جمهورية روسيا الفدرالِيَّة في كل من: أديغيا، قاراتشاي ـ تشيركيسين، قبردينو ـ بلقاريا، أنغوشيشيا، الشيشان، أبخازيا وداغستان، وهي شبه جمهوريات فدرالية مستقلة في جمهوريَّة روسيا الإتحادِيَّة كما أنهم ينتشرون في مدن روسِيَّة عديدة وفي الكثير من جمهوريات الإتحاد السوفيتي السابقة، بالإضافة إلى ذلك فإنهم يتواجدون في جمهوريّات جورجيا وأرمينيا وأذربيجان وتركيا وإيران وهناك أعداد كبيرة منهم نزحت بفعل الحروب المختلفة والظروف الطبيعيَّة الصعبة بإتجاه سوريا والأردن والعراق، كما نزحت أقوام من غير الأقوام القوقازيَّة إلى ديار القوقاز وإستقرت فيها  بفعل العوامل المشار إليها أعلاه ونشرت معها لغاتها ومنها اللغات الهنديَّة ـ الأوربيَّة مثل الأرمنيَّة والأوسيتِيَّة والكرديَّة واليونانِيَّة، ولغات التورك مثل الأذريَّة والكوموكشيَّة والنغويَّة واللغات المنغوليَّة مثل الكالميكيَّة، واللغات السلافِيَّة مثل اللغة الروسيَّة واللغة الأوكرانِيَّة، وإنتشرت هناك أيضاً بعض القبائل السامِيَّة مثل العربيَّة والعِبريَّة بحيث تجاوز عدد اللغات المتواجدة حالياً في مناطق القوقاز 60 لغة وإنقرض عدد آخر ربما يزيد على عدد المعاصرة منها. يذهب البعض من علماء اللغات إلى أنَّ هذه المناطق كانت تموج بمختلف الشعوب والكثير من اللغات التي يَظُن البعض بأنَّ عددهها تجاوز ال 300 لغة ناهيك عن إنتشار مئات من اللهجات.

إشتهرت لغات القوقاز بغنى منظوماتها الصوتِيَّة وبِسِعة أبجدياتها حيث يصل عدد الحروف الصحيحة في اللغة الأبيشِيَّة إلى 80 حرفاً صحيحاً، كما إنها إشتهرت بِقِلَّة حروف العلة فيها.

إعتادت الأقليات الصغيرة من شعوب القوقاز ولقرون عديدة، وهي مُجْبَرة بشكل مباشر أو غير مباشر على تعلم لغات القوميات الأكبر التي تُحيط بها لتتمكن من التفاهم معها واللوذ بحمايتها، كما يجري إتباع نفس الطريقة حالياً فيتعلم على سبيل المثال السانيون واللازيون والمينغريليون وغيرهم اللغة الجورجيَّة كونها لغة القوميَّة الأكبر بينهم بالإضافة إلى أنها اللغة الرسميَّة لجمهوريَّة جورجيا التي تتواجد فيها هذه الأقليات وتتعايش مع بعضها، وقد ترتب على هذه الممارسات مع مرور الزمن إنصهار الكثير من هذه الأقليَّات داخل المجاميع السكّانِيَّة الأكبر وبالتالي إندثار لغاتهم لعدم حاجتهم لإستعمالها.

إنَّ الأعداد القليلة للبعض من الأقليّات القوميَّة للناطقين باللغات القوقازِيَّة والتي لا تتجاوز بضعة آلاف وأحياناً بضعة مئات، وكذلك إنحسار تواجد هذه الأقليات في مناطق جغرافيَّة محددة وربما نائيَة عن مراكز المدن أو المراكز الحضاريَّة كانت أسباباً لعدم إهتمام الباحثين بهذه اللغات وعدم إهتمام السياسين بتطوير هذه اللغات وترسيخها بين الناطقين بها وإعداد البرامج الثقافيَّة اللازمة لها مثل وضع أبجديات خاصة لها وتدوينها أو طرح برامج لتعليمها للأطفال في مناطق تواجدها، وقد أدى هذا الإهمال إلى إنكماش مستمر في أعداد الناطقين بها، بالإضافة إلى تراجع واضح في دور أو أهميَّة هذه اللغات بين الناطقين بها أنفسهم، فرغم الزيادة في أعداد الولادات للأشخاص اللذين ينتمون إلى البعض من هذه الأقليات القوميَّة يلاحظ بذات الوقت إنخفاض في أعداد الناطقين بلغاتهم الأصليَّة، حيث يتعلم الجيل الجديد اللغات السائدة في مناطق تواجدهم أو اللغات التي تفرضها السلطات السياسيَّة عليهم ليتمكنوا من التفاهم مع جيرانهم أو مع الإدارات المحليَّة في مناطق تواجدهم كما تم ذكر ذلك. في فترة الحكم القيصري في روسيا تم إلزام جميع الأقليات بتعلُّم اللغة الروسيَّة وإعتبارها لغة وطنيَّة وليست لغة أجنبيَّة، وأُعْتُمِدَت هذه السياسة أيضاً في فترة الإتحاد السوفيتي حيث تم إلزام جميع الجمهوريات والفيدراليات التي كانت ضمن إطار الإتحاد السوفيتي سابقا وبضمنها جميع مناطق القوقاز آنذاك بتعلم اللغة الروسيَّة كونها لغة الدولة الرسميَّة كما تم إلزام جمهوريات وشعوب الإتحاد بإستخدام الأبجديَّة السيريليَّة التي تُكْتَب بها اللغة الروسيَّة لكتابة لغاتهم، حتى وإنْ كانت بعض هذه اللغات تكتب بأبجديات أخرى مثل الأبجديَّة العربية أو اللاتينيَّة أو الجورجيَّة وقد إستُثنيت من ذلك اللغات الأكثر إنتشاراً وتلك التي يتكلم بها أعداد كبيرة من المواطنينً، حيث تم دعم هذه اللغات ووضع أبجديات حديثة لها وتوفير المستلزمات اللازمة لتعليمها في المدارس و الجامعات وإستمر التعامل بها كلغة أولى بالإضافة إلى تعلم اللغة الروسيَّة أيضاً.

تسمى المناطق الجغرافيَّة التي يقطنها القوقاز في اللغة العربية بأسماء مختلفة منها القوقاز والقفقاز والقفقاس و بلاد القَبْق. جاءت هذه التسميات إرتباطاً بتنوع اللغات القوقازيَّة من جهة وبتعدد البلدان العربيَّة التي نزحت إليها شعوب القوقاز من جهة أخرى.

 

د. محمد شطب

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم