صحيفة المثقف

العولمة إشكالية العصر الكبرى.. نظرة تحليلية (3)

المقترب الفكري والتاريخي للعولمة:  شهد القرن الماضي غزواً اقتصاديا وثقافيا وعسكريا امريكيا واوربيا لمناطق مختلفة من العالم، تجسد في صيغة الاستعمار بكل اشكاله وغاياته ووسائله، بحيث بات يعبر عن معاني السيطرة والهيمنة الشمولية على مختلف روافد الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية .

ورغم ان فكرة العولمة ليست نتاج العقود القليلة الماضية فحسب، إنما هي تعود الى تاريخ يبدأ مع ظهور الدولة القومية ثم ولادة النظام الرأسمالي وتطوره عبر قرون . فقد وجدت العولمة في القاعدة الرأسمالية منذ اكثر من خمسة قرون (1) مجالها في الانتشار، كما وجدت في الهيمنة الامريكية منذ بداية العقد الاخير من القرن الماضي وسيلتها الشمولية . وإنتشار العولمة كما يراها البعض تتمثل في أن الاستراتيجية الامريكية تنتشر على كل الكرة الارضية وليس على جزء منها وهي تطمح الى ان تجعل العالم كله يتحول الى الاتجاه والشكل الذي تفكر فيه هي (2) ، فيما يراها البعض انها تبشر بوعود مشرقة للجميع (3) ، ويعتبرها البعض الوجه الثاني للهيمنة الاستعمارية على العالم تحت الزعامة المتفردة للولايات المتحدة (4)، فهي قد لا تكون القوى التي لا يمكن السيطرة عليها للأسواق الدولية والشركات متعددة الجنسيات، أو انها حركة السلع والخدمات والأيدي العاملة ورأس المال والمعلومات، عبر الحدود الوطنية والاقليمية (5)، أو انها الظاهرة التاريخية لنهاية القرن العشرين أو بداية القرن الواحد والعشرين (6) أو انها حقبة التحول الرأسمالي العميق للإنسانية جمعاء في ظل هيمنة دول المركز بقيادتها وتحت سيطرتها، وفي ظل نظام عالمي للتبادل غير المتكافئ (7) .

هذه الأراء جميعها تنطلق من رؤية ذات أبعاد تصب في الشكل العام للعولمة، بيد أن حقيقة مقومها كما نرى هو صياغة جديدة لمنظومة القوى القديمة، وذلك لكون الفكر الاستراتيجي لا يخترع فهو محكوم بحقائق الجغرافيا وحقائق التاريخ بما تحمله هذه الحقائق من عناصر القوة وتوازناتها واختلالاتها عبر مسار الصراع والتنافس والتناقض بين الدول. فهو إعادة صياغة لعناصر القوة بكل ابعادها الجيوبوليتيكية مع تغير العقود كمصطلح يجري تسويقه من قبل الدول العظمى وخاصة الرأسمالية، وهو أحد محطات الاستعباد والاستغلال مثله مثل مرحلة الرجل الابيض أيام حمى الاستعمار التي اصابت القوى الاوربية في القرن التاسع عشر، ولا يختلف عن مرحلة الانتداب التي انشأتها عصبة الأمم في عشرينيات القرن الماضي، ولا يختلف الشيء عن مرحلة الاستقطاب الدولي، وحمى الاحلاف العسكرية التي كانت أبرز ملامح الحرب الباردة بعد الحرب العالمية الثانية. فالعولمة إذن ، مرحلة متممة أو بالأحرى متقدمة لوضع العلاقات الدولية في اطار شمولي (8)، فهي مفهوم جديد لمضامين قديمة تعبر عن استراتيجية خاصة بالرأسمالية.

إن العمق الأستراتيجي للعولمة تفصح عنه صياغة (رولاندا روبرتسون) التي رصدت فيها المراحل التي مرت بها هذه الظاهرة، وكانت نقطة البداية عند روبرتسون هي ظهور الدولة القومية الموحدة باعتبار ان هذه النشأة تسجل نقطة تاريخية فاصلة في تاريخ المجتمعات المعاصرة، لأن المجتمع القومي منذ ان ظهر في منتصف القرن الثامن عشر مَثلً مرحلة تاريخية متميزة، كما ان الدولة القومية المتجانسة شكلت نمطاً من الحياة اعطتها إتفاقية (واستفاليا) عام 1648، تراكماً كمياً في تأطير الأعتراف الدولي المقابل بالدول والاشكال المتماثلة (9)، وعليه كما يقول (روبرتسون)، فأن شيوع المجتمعات القومية في القرن العشرين هو فعل من افعال العولمة، خاصة وان ذلك الظهور والانتشار قد ترافق مع الشعارات التحررية والديمقراطية التي اعلنها المنتصر بعد كل حرب عالمية يخوضها المتنافسون مع بعضهم .

وربما كان روبرتسون يقصد بـ(الدولة القومية) ونشوئها إعمام نموذج هذه الدولة في ظل النظام الرأسمالي القائم على اساس الفلسفة الاقتصادية (دعه يمر ، دعه يعبر)، ولأن مقاسه على ذلك مجموع القوميات الاوربية التي ترمي الى التوحد، ليس على اساس ذوبان هذه القوميات، إنما طغيان إحداها وبناء الهياكل الاوربية العامة الاقتصادية والسياسية والثقافية والعسكرية في بناء كتلوي متجانس.

فقد ظهرت الدولة القومية منذ منتصف القرن الثامن عشر حتى عام 1870 نتيجة لصراع دام سنين طويلة عكست مرحلة استطاعت من خلالها تطوير ادواتها واساليبها. كما تمكنت من التكيف مع المتغيرات التي كانت تجتاح المسرح السياسي في شكل صراعات ومعارك عسكرية وسياسية وفكرية شهدتها القارة الاوربية تمثلت في التحول الحاد في فكرة الدولة المتجانسة الموحدة (10)، ثم اعقب ذلك حتى نهاية العشرينيات من القرن الماضي، حيث ظهرت مفاهيم كونية جديدة افرزتها الحرب العالمية الاولى مثل المجتمع القومي ومناطق النفوذ وبرزت تنظيمات وافكار لها ابعاد عالمية.

إن هذه التطورات وما صاحبها من حركات تدعو الى التحرر الوطني من الاستعمار وتبعاته السياسية والاقتصادية والثقافية وبروز القطبية الثنائية وانقسام العالم الى معسكرين وإنشاء احلاف عسكرية وظهور حركة عدم الانحياز وتصاعد في تقنيات وتكنولوجيا صنع السلاح غير التقليدي ووسائل إيصاله الى اهدافه وعسكرة الفضاء، قد كرس سباق التسلح الذي قاد الى إنهيار المعسكر الشرقي في ظل الحرب الباردة. فالقطبية الاحادية ممثلة بالولايات المتحدة الامريكية انتهزت الفرصة لإعمام نموذج الدولة القومية على وفق معايير المركز الرأسمالي، وبهذا الشكل فقد بات ان هنالك (ثلاثة عناصر رئيسية حكمت إعادة تشكيل العالم الراهن من وجهة نظر المجتمعات السائدة التي انتجتها، ومن خلال الدور الذي لعبته في تفكيك التشكيلات الحضارية الاخرى من اجل تسهيل إختراقها ومن ثم استيعابها ضمن استراتيجية شمولية، وهذه العناصر هي الأمة ، والدولة ، والتقنية (11).

المقترب الثقافي للعولمة:   التأسيس على منهج التحليل الذي يفضي الى نتائج تعتمد على منطق الأشياء وحقائق التاريخ .. فهل يمكن ان يتحول الخاص (الخصوصية الحضارية) الى عام العولمة في كل منحنياتها الوجودية؟، وإذا كان الأمر كذلك ، فهل تندثر الخصوصيات وتذوب الثقافات حين تسود العولمة؟ والى اين ينتهي مسار تلك الثقافات الضاربة جذورها في اعماق التاريخ؟ وهل التبشير  بالعولمة هروب من الاشكالية القائمة في الأزمة الأنسانية للرأسمالية؟

الحضارات الأصلية تتلاقح وتتفاعل مع بعضها البعض في مراحل نموها وترعرعها وشيخوختها قبل انحدارها بإتجاه الانهيار أو السبات الذي قد يمتد عقود طوال من السنين. وتفاعلها هذا يبني على اساس السمات الذاتية والمقومات الموضوعية المشتركة ذات الطابع الانساني. أما الحضارات الفرعية، فهي حضارات بعضها منغلق وغير متفاعل، وبعضها الاخر قد انقرض أو يكاد. فهي محكومة بسماتها الذاتية. والمعنى في هذه الصيرورة الحضارية واضح وهو طغيان الشروط الذاتية لمجتمع هذه الحضارة على الظروف الموضوعية والعكس يحمل المعنى ذاته من حيث عدم التكامل بين الذاتي والموضوعي في وحدة تخلق ثقافة انسانية شفافة مشبعة بقيم الانفتاح على الآخر.

هذه الحضارات الفرعية يقول عنها الفيلسوف البريطاني (ارنولد توينبي) ، أنها حضارات متحجرة وتوصف بانها ذات بُعْدٍ واحد (12) . فهل ان ما قاله (صموئيل هنتنغتون) حول صراع الحضارات يعبر عن جوهر الحقيقية الموضوعية للصراع الانساني، أم ان ما قاله يمثل قمة التشويه والتسويغ للذرائع الامبريالية من اجل الهيمنة على مقدرات العالم.؟

ان اخطر ما في نظرية صموئيل هنتنغتون، هو انه يرى الحضارة الغربية مهددة بصورة جدية من حضارات الشرق على اساس ان عناصرها ومكوناتها الدينية والثقافية تصطدم مع الحضارة الغربية بشكل يتخطى أنماط التناقض نحو مستوى الصراع الحتمي، الذي يستدعي حسب هنتنغتون فعلاً إستباقياً لضرب هذا (العدو) في اسسه أو منظومة قيمه التي هي أهم مقومات حركته ونهضته، وخلق مسببات الصراع والتناقض بين فئاته على اساس العرق والدين والثقافة.

والمعروف ان في كل حضارة  جانباً مادياً وأخر روحياً يتفاعلان معاً ليشكلا السمات المميزة لتلك الحضارة. والعنصر الانساني فيها يُعَدُ القاسم  المشترك الذي يربط الحضارات أو الثقافات في منحاها ومعطياتها الانسانية. أما خصوصياتها فهي التي تفرق مثلاً بين الحضارة السومرية والآشورية والأكدية والبابلية  والمصرية والبوذية والصينية والاغريقية والحضارة العربية الاسلامية .

فكلما طغى الجانب المادي في الحضارة تراجعت الرؤى الروحية والاخلاقية فيها الى مستوى العالم السفلي، مما يجعل التوازن بين المادي والروحي يعاني من الإختلال الى درجة تهتز فيها البنى الاجتماعية ومنظومتها القيمية لكونها تفتقر للمعادل الروحي- الاخلاقي وتأكيدها الحاجة الى مقولات تعيد للمادي والروحي توازنهما، وحين يتحقق التعامل الصحيح والموضوعي مع المحيط الخارجي دون أية نزعات مريضة تكون مبعثاً للشعور بغرور القوة وبالتفوق والهيمنة.

ففي كل حضارة قوى  وطبقات وفئات اجتماعية مختلفة لها تكوينها وثقافتها الخاصة، كما ان فيها قوى تدميرية تبرز حين يختل التوازن بين المادي والروحي في الحضارة، لتحرف الاتجاه الانساني فيها نحو الاستعمار والهيمنة كما يحصل الان في الحضارة الغربية حيث طغيان الجانب المادي على الجانب الروحي- الاخلاقي. ولتحريف الانساني  للحضارة طرائق متعددة واساليب مختلفة توظف من خلالها الاشياء ومعطياتها باتجاه خدمة الهدف، وهو تدمير الآخر والاستحواذ على حقوقه في ان يعيش بحرية، وفي مقدمة هذه الوسائل ابتداع النظريات والافكار وترويجها كالعولمة، لتزيد إحساس الغرب بالتفوق الذي سرعان ما يتحول هذا الاحساس الى حقيقة مادية تسندها نظريات عرقية  مثل نظرية (دارون)، التي ترى ان الاساس هو قيمة البقاء، وإن الآلية الاساسية لهذا البقاء هي الصراع ، وإن الجنس الانساني لا يختلف عن الجنس الحيواني، أي ان كليهما ينتمي الى عالم الطبيعة. وتدعو هذه النظرية الى اخلاقيات جديدة مبنية على الانتخاب الطبيعي، وعلى الصراع الدائم والبقاء للأصلح.!!

يتبع رجاءً ...

 

د. جودت صالح

26/07/2020

...........................

الهوامش:

1- جلال أمين/ العولمة والدولة- مجلة المستقبل العربي- العدد (2) لسنة 1998 ص (29).

2- المصدر نفسه .

3- مصطفى حمدي/ العولمة آثارها ومتطلباتها- ادارة البحوث والدراسات- ابو ظبي لسنة 1997 ص(10).

4- مسعود ظاهر/ صراع الحضارات كمقولة ايديولوجية- جريدة الاتحاد الظبيانية 21/ نيسان 1997 .

5- مصطفى حمدي/ مصدر سبق ذكره .

6- صادق جلال العظم/ ما هي العولمة – ورقة قدمت الى ندوة المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في تونس سنة 1996.

7- د. حميد حمد السعدون/ العولمة وقضايانا – دار الأمل للطباعة والنشر ط1 عمان الاردن سنة 2000 ص (13).

8- رونالد روبرتسون/ تخطيط الوضع الكوني: العولمة باعتبارها المفهوم الرئيسي- مجلة المستقبل العربي- العدد (28) شباط 1998.

9- المصدر نفسه .

10- برهان غليون/ ازمة الدولة القومية – مستقبل النظام العالمي- مجلة الفكر العربي- العدد (35) تشرين اول سنة 1998 .

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم