صحيفة المثقف

ضباب اﻷمكنة.. بين العرض والنقد

حاتم جعفرإنْ قَفُرَ المكان فَقَدَ قيمتهُ، وإن غاب عنه عاشقوه فسيمسي موحشا، يعبث به مَنْ يشاء بغير حساب. ما بين يدي كتابا أراد له صاحبه أن يكون مكثفا في تعبيره، دقيقا في وصفه أمينا له، ناقلا لصور كان قد أحبها وما انفكت ترافقه حين صغره ويفاعته وحتى بلغ المشيبا. وصلة الوصل والتناغم بين روحه وروحها لم يكن مرهقا أو مستحيلا، فمشاها ليلا كما السراة وعلى إيقاع من الشجن، قاطعا شوارع بغداده بتؤدة ومحبة.

بعد حين من الوقت، راح يتلفت يمينا وشمالا، فوقع خطواته لم تكن من الثبات والثقة كما كان عليها قبل رحيله، ربما للكبر بعض نصيب في ذلك، الاّ أن لهول الخراب والدمار الماثل أمام عينيه النصيب اﻷكبر في تعثرها. فالطرق لم تعد سالكة، منسابة، كما كانت على عهده رغم محاولات التظاهر بالراحة والنشوة.سيعقد كاتبنا شكلا من أشكال المقارنة بين ما كان قد إستقر في ذاكرته من صور عن أيامه الخواليا، وبين ما تراه عيناه، ستفضي به الى ما هو أبعد من التحسّر على ما فات وعلى ما كان زاهيا.انه ربع قرن من البعاد.

ضباب اﻷمكنة، هذا هو اسم الكتاب وزهير الجزائري إسم صاحبه. كان قد صدر بطبعته اﻷولى عن دار المدى العراقية في الربع اﻷول من هذا العام، بواقع 166 صفحة، توزعت على العديد من العناوين، إلتقت في جلّها على أماكن كان قد أحبها الكاتب وشكَّلت بالنسبة له عيون عاصمته ولآلئها.

 ــ1ــ

رحلته خفيفة ظل على ما أعتقد وسبرها ليس باﻷمر العسير. فمع مطلع صفحاته اﻷولى، كانت قد وردت العبارة التالية وأظنه قد توفق فيها وفي شدّنا اليه: أحببت وأنا أكتب عن اﻷمكنة أن تكون حاضرة أمامي. وعلى ما أرى ومن خلال هذه الجملة، أراد أن يقول لنا أنَّ المكان كان برفقته مادام في غربته، بل هما كما التوأمان لا ينفصلان، وانه لم يغب عن عيونه رغم إبتعاده الإضطراري المفروض عليه. ولا شكَّ عندي في صدق ما ذهب اليه الكاتب، لذا إخترتها مفتتحا.

وفي جملة لاحقة وعلى ذات الصفحة ستهتز ذاكرته حيث يتواجد. (بيني وبين هذه اﻷمكنة كثير من الغموض هو بعض من ذاكرة المنفى المعطوبة). إذن هنا وحيث تجواله سيكتشف الكاتب أن تغييرا هائلا وكبيرا قد لحق بالمكان وطال أهم الدلالات والعلامات المساعدة التي تشكلت منها ذاكرته.

ومن أجل إستعادة اﻷمكنة ستبدو العملية ليست بالسهلة، هذا ما يراه، فالعطب لم يصب ذاكرته فحسب بل واﻷمكنة كذلك، فها قد تبدلت ملامحها لتستجيب لرغبة القابض على السلطة، المتحكم بشكلها وطعمه. لذا ستجده متخبطاً (باحثا عن الجدران الصلبة) وســ (أتلمسها ﻷعبر الهاوية المحتملة وأعرف الإتجاهات). وﻷنه لا زال قلقا غير مطمئن لذاكرته، فسيستعين بالضوء لإدراك حياطنها وشوارعها، فاﻷحداث قد تراكمت وأخذت مآسيها بالتسارع أكثر بعد الزلزال الكبير الذي وقع لبغداده في سنة 2003. لابد إذن والحال كذلك من فض خيوط وخطوط الإشتباك والإلتباس الحاصل، كي يستعيد ذاكرته ويرى اﻷمكنة التي يبتغيها مرة أخرى.

 ــ2ــ

في مكان آخر، سيحدثنا الكاتب عن منطقة كان قد أحبها كثيرا (أمشي في الكرادة وأنا أسأل نفسي بين زحمة البضائع وزحمة الشارين). تساؤلا لا يخلو من وجع بل هو الوجع بعينه. هل أمسى زهير غريبا عن وطنه وعن حيّه وعن مدينته التي أحبها؟. ومن أجل ضبط إيقاع ذاكرته وتنشيطها سيدور دورتين أو ثلاثة، ليسترجع اﻷماكن التي ألفته وألفها! الاّ انه سيجد نفسه وقد وقع في حيرة أشد مرارة وأكثر وجعا، حين يباغتك بسؤال: ماذا أفعل هنا؟ وبذا سيحتاج الكاتب الى وقت أطول لإعادة ترتيب ما فاته في سنوات إغترابه، وسيحاول الإئتلاف والتوائم مع المكان، إن استطاع.

وﻷنه لم يوفق في محاولته الآنفة الذكر فقد قرر أن يستريح قليلا، ملتقطا أنفاسه، كذلك ملتقطا بعض الصور المحببة الى قلبه، مسجلا ما لذَّ له من إنطباعات لطيفة، كصورة(إبن المحلة الكهل الذي خرج ليشتري الخضار وهو لا يزال بروب البيت، البنت البدينة القبيحة التي تتظاهر بالقرف من كثرة المتحرشين، أو التي تتلوى من ضيق البنطلون الذي جسد عجيزتها). أضحكته هذه اللقطات قليلا، وربما حسَّنَت من مزاجه لبعض الوقت.

قرر الإطالة أكثر في مشواره بعد أن لمس تحسنا في المشهد العام، لذا راح متسربلا في مشيته، قاطعا شوارع مدينته بطمأنينة وغنج، غير ان وقع المفاجئآت لم ينقطع بل كانت كبيرة عليه، لذا تجده مضطرا لقطع سلسلة تماديه، فها قد وقع إنفجار كبير بالقرب منه، ليعود بصاحبنا الى نقطة القلق اﻷولى، فالإنفجار رفعه ( عاليا، عاليا، عاليا من دون أن تتناثر أو تنزل أشلائه). في ذات الوقت فما لفت إنتباهه هي عودة الحياة الى طييعتها وبسرعة فائقة وكأن شيئا لم يكن. هنا سيسائل نفسه من جديد: هل أِلفَ العراقييون الفوضى والموت والخراب؟.

 ــ3ــ

 خطوط العرض والطول ستتداخل في ما بينها بإنسيابية عالية، هي في ذلك تشبه ساكنيها، ففيها جمع مختلف من قوميات وأديان ومذاهب وأثنيات شتى، فضلا عن إنتماءات وولاءات سياسية عديدة، يجمعها عشق لمكان إسمه البتاوين ببيوتها العريقة ذات الأطرزة العتيقة، والتي كان لليهود الكلمة اﻷولى في هندستها وبناءها وفي سكناها أيضا. في هذه المنطقة من بغداد ستختبر مدى قدرتك على قبول الآخر البعيد ليمسي قريبا. فهي (البتاوين) تُعدٌ من المناطق التي لا تغيب عنها عيون رجال اﻷمن، ففي تركيبة سكانها الطبقية ما يفتح شهية اﻷحزاب والتنظيمات اليسارية المعارضة، للتحرك عليها وكسب رضاها، مما سبب قلقا دائما للسلطات الحاكمة.

 وبسبب التداخل والتصاهر بين العوائل وطبيعة البناء، فقد كانت العلاقات الإجتماعية قائمة على نحو من الإنفتاح والثقة المتبادلة. لذا وتجنبا لما يمكن أن يقع لبعض الناشطين السياسيين المعارضين فقد كانت تأتي التحذيرات من أهليها. وكلمة (دير بالك) أي إنتبه، كانت شائعة الإستعمال. وعن ذلك فسيورد الكاتب مثالا هذا مفاده: زوجته أسرَّت زوجتي بأن هناك (شائعات) عن إجتماعات شيوعية في شقتنا وكررت التحذير(ديروا بالكم).

وغير بعيد عن ذات المكان وعلى ما ورد على لسان الكاتب من فضائح طالت كبار رجال الدولة، فقد (كَبس الملازم ماجد ذات يوم بيتا للدعارة في حي راق من غير أن يعرف أن برزان التكريتي يقضي بعض لياليه فيه). أمّا ما الذي ترتب على ذلك في ما بعد فالعلم عند الله. وعلى أغلب الظن وإنطلاقا من تجارب سابقة شبيهة، فقد جرى تسوية اﻷمر بالتستر عليه، مستخدمين لغة تهديد،ستطال بكل تأكيد الملازم ماجد ومَنْ كان بمعيته، هذا إن خَرَجَ منها سالما.

وعلى الرغم من أهمية المكان ومدى إرتباطه به الاّ ان الكاتب سوف لن يتوقف طويلا عند واحدة من أهم معالم منطقة البتاوين الا وهي مقهى المعقدين، رغم حبه لها وما له فيها من ذاكرة لا زالت طرية، خصبة. فزهير لم يعد يهمه كثيرا إستحضار تلك الحوارات الساخنة التي كانت تدور رحاها بين أهم أقطابها، كوليد جمعة(بروحه الحائرة بين المثقف وبين القاع الشعبي) وسفيرهم الى ملعب سباق الخيل، ومؤيد الراوي القادم من كركوك النفط، وشريف الربيعي الذي لم يتوقف عن دعاباته، وفلان وفلان، وما كان يشغلهم من موضوعات ساخنة، مثَّلت أهم ركائز وموضوعات فترة الستينات الثقافية، كقصة المنتمي واللا منتمي والوجود والعدم، وحديث من نوع كيف رفض جون بول سارتر إستلام جائزة نوبل، التي تُعَد من أهم الجوائز العالمية وبمختلف الفروع وعلى رأسها اﻷدب، فالذي شغل الكاتب ولفتَ إنتباهه على نحو واضح هو أن مرابع شبابه، منطقة البتاوين وبعد عودته سنة 2003 (قد تحولت الى أخطر منطقة في العالم).

لكنه ورغم ذلك فإنَّه لم يفقد اﻷمل في لقاء بعض من أحبته، فمن بين كل هذا الركام سيشم من بعيد عطر أحدهم، انه (بابيت) الرجل اﻷرمني اﻷخير المتبقي في تلك العمارة ذات الطوابق العالية، وفق مقاسات أهل بغداد القدامى. أنيق لا زال في زيه ومشيته وفي تصفيفة شعره رغم زحف العمر. لم يتنازل عن تشبهه باشهر الفنانين العالميين، كيف لا وصنوه مارلون براندو. كذلك إلتقى صاحبنا بشخصية أخرى لا تقل جمال وحضورا عن سابقته. انه أدمون، عاشق الموسيقى والغناء وفرقة البيتلز وربما فرقة آببا السويدية، عارضا عليه حصيلة عمره وإرثه الموسيقى وعدد كبير من الإسطوانات النادرة والعزيزة على قلبه ومن دون مقابل، شريطة الحفاظ عليها ليس الاّ. بهذا العطاء السخي لم يكن أدمون وفيا لموسيقاه التي أحبها فحسب، بل وفيا لصداقاته القديمة أيضا وهذا هو اﻷهم.

 ــ4ــ

 وعن جسر الجمهورية الرابط بين جهتي القلب، الرصافة والكرخ، سيلفت إنتباه الكاتب، ظاهرة جديدة، لم يكن المجتمع العراقي والبغدادي بشكل خاص قد ألفها على هذا النحو وبهذا الحجم. فبين أضلاع ثلاثة(الحديد والطين والماء)سيحدث ما لم يكن في الحسبان (رأيتها تركض، تنورتها حمراء، أردت أن أقطع طريقها، لكنها قفزت مثل قردة). مشهد كهذا سيتكرر كل يوم وربما بين ساعة واخرى، وبات وللأسف (طقسا) أليفا،سيشاهده المارة من على جسور العاصمة وربما جسور المدن اﻷخرى، المطلة على نهرانها. وعندما تسأل أحدهم عما يجرى، سيأتي ردَّه ومن دون إكتراث قائلا: انها لم تبلغ بعد العشرين من عمره. وعن حادثة أخرى سيقول لك انه كان على خلاف مع أخيه بسبب الإرث أو لرفض عائلته تزويجه إبنة عمه. أو وهذا إحتمال آخر يدفع للإنتحار: ﻷن سيد البيت لم يعد سيدا بعدما فلت زمام اﻷمر من بين يديه وراح اﻷبناء يبحثون عن لقمة، تنجيهم من شظف العيش، وبأي ثمن وتحت أي شرط أو ظرف.

 ــ5ــ

كان زهير وفيا لصداقاته السبعينية وربما لمن هم أبعد من تلك الحقبة، فراح يستذكرهم واحدا واحدا، ابراهيم زاير، سركون بولص، سعد سلمان وآخرين، منهم مَن إستعجل الرحيل ومنهم من هو على شاكلة زهير، لا زال يستحضر تلك المتع التي راحت بغير عودة. ومن قبل هؤلاء كان أشد وفاءا ﻷبي نؤاسه، إذسيقف قبالة نصب صاحب الخمريات، حاملا كأسه ساعة أصيل الشمس، معيدا ما مرَّ به من أحداث ووقائع. بعد رشفتين على عجل، سيندب أبو نؤاسه وما حلَّ به من خراب على يد جلاوزة العصر. (ما من مكان تعرض للتشويه في غيابي مثل هذا الشارع).

 ولعل حبيبته وداد ستكون أولى اللواتي سيستحضرهن، فلها القدح المعلى من غير منازع ولا ندٍ . سيعود بنا الى أواسط السبعينات و(سيمشي الكاتب على إيقاع خطواته متخيلا حبيبته وداد الى جانبه). لقد أحبها كثيرا حتى بلغ حد العشق إن لم يكن الهيام، غير ان هناك مَنْ كان يراقبهم، فـ(ثمة خطوات رجل خلفي، انه قاتلي بكل تأكيد، وربما هو الذي عبر الشارع الى الرصيف اﻵخر، لِمَ بدَّل إتجاهه). لذا ما كان على زهير لحظتها الاّ أن يُفلت يد محبوبته، لتفويت الفرصة على أولئك السفلة وما يمكن أن يدَّعوه من تأويل، بحقه وحق حبيبته.

 ــ6ــ

فوضى اﻷمكنة وفوضى ما تراه عيناه، ستتسلل اليه وتتحكم بطريقة تفكيرة ولابد والحال كذلك من إعادة ترتيب ما أسماه(اﻷبعاد الثلاثة) فراح سائلا أخيه ليعينه على ما ينوي الوصول اليه، غير أن اﻷخير ردَّ عليه: أنت تبحث في زمن العثمانيين، ثم أكمل: فالزعيم لم يَعُدْ واحداً كي تراه من شرفة وزارة الدفاع، وزعامات البلاد باتوا من الكثرة بحيث يصعب عدَّهم. أمّا عن الطالبات فسوف لن تراهنَّ بتنانيرهن القصيرة كما كنت على زمانك، فالحشمة تقتضي الجهالة والضلالة وضروب من فنون التخلف .

 ــ7ــ

سيواصل الكاتب رحلته متأرجحا بين شوق عارم وألم يكاد يخترقه. أخيرا قرر أن يدخل شارع المتنبي وسيجتاز (السيطرات بلا تفتيش فليس في مظهره النحيل والشائب ما يثير الشبهات). وعن نص كهذا وإذا ما اطلع عليه أي قارئ عربي، سيذهب به الظن بأن كاتبنا يهم بالدخول الى ثكنة عسكرية، أو الى أحد اﻷماكن الذي يضم فيما يضم مفاعلا نوويا، يُحضرْ دخوله لمن لا يحمل ترخيصا خاصا، أو في طريقه الى لقاء أحد كبار مسؤولي الدولة.

أيها الناس، أيها الخلق، اننا نتحدث هنا عن شارع المتنبي، عن معلم حضاري ثقافي، عن شاهد عصر محايد وأمين وهادئ الطبع أيضا، لا زال يحمل بين جنباته نكهة الماضي ورائحة الشعر والموسيقى وكل ضروب الراحة الروحية وما إختطته لنا أقلام اﻷولين كي نمشي الهوينا. انه آخر معلم ثقافي وآخر قبلة نتوجه اليها بطمأنينة كما يُفترض. حري بنا أن نباهي به ونفخر، فهو إمتداد طبيعي لساحات اﻷدب العربي الشقيقة اﻷخرى، من طنجا حتى بيروت، مرورا بقاهرة نجيب محفوظ وجمال الغيطاني ورائعته الزيني بركات. فيا ايها المتنبي الكبير كُنْ شفيعنا في ما ابتلينا به، فها هم الهمج الجدد كما تتار اﻷمس كما هولاكو، واقفون على بابك ينتظرون لحظة الإنقضاض عليك وعلينا.

 ــ8ــ

أمّا عن القشلة فيقول الكاتب: في هذا الرواق سار الضباط العثمانيون ذوو الشوارب الكثة. وجوههم متجهمة وهم يستشرفون هزيمتهم. سيأمرون الجنود بالإنسحاب.. من بعدهم سيدخل (الجنرال مود محررا لا فاتحاً) كما ادعى. بعد عقود عدة سيتكرر الشعار الذي رفعه الإنكليز ولكن هذه المرة على يد اﻷمريكان في سنة 2003، حين غزوا العراق وداسوا أرضه ببساطيلهم كـ(محررين) على ما روجوا به، وبمعيتهم كبار الخونة، سيصبحون في ما بعد قادة للدولة، سيتقاسمون غنائمها وعلى مبدأ المحاصصة، بعد أن أسس لها وأرسى دعائمها بول بريمر.

سيقف زهير عند ساعة القشلة (المتوقفة بإنتظار الحدث الذي سيغير الزمن والتأريخ). هذا ما كان يأمله بعد أن رأى بعينين واسعتين حجم الخراب الذي طال القشلة وأخواتها، إبتداءاً من المتحف الوطني العراقي وليس إنتهاءاً بـ(نزع الكابلات من تحت البناء لبيعه كنحاس يشتريه تجار ايرانيون كقوالب).

 ــ9ــ

وعن شارع الرشيد وما علق بذاكرته، سيستعيد الكاتب ما مر به وصديقه عمران من مآزق قبل سنوات بعيدة. فاﻷزقة كانت ملاذهم وفيها تواريا وتقفازا بين رصيف وآخر، فـ(صاحب الدكان هذا مدين له، سيخجل مني إذا رآني). صورة ملفتة، تعكس مدى الشهامة التي يمتلكها ولنسميه الدائن، فهو أكثر خجلا من المدين. بالمناسبة هو لم يكن دائنا واحداً، فقد زرع زهير وصاحبه وعلى طول شارع الرشيد العديد من (الديانة).

ليس بعيدا عن سينما الخيام كان هناك مقهى إتخذ منه الشاعر الراحل عبداﻷمير الحصيري مناما له إذا ما جنَّ الليل. وفي هذا المقهى أيضأ سيتلقى زهير أسوأ خبر في تأريخ جيله وربما في حياته، انه (إستقالة جمال عبدالناصر إقرارا بهزيمة العرب أمام إسرائيل). وعن آثار تلك الهزيمة والإستقالة يقول الكاتب (خمسة منا سقطوا مغميا عليهم عند سماع ذلك الصوت المنكسر). وفي إشارة واضحة تدل على مدى تفاعل المثقف العراقي مع القضايا العربية.سيحدثك الكاتب عن الحوارات الساخنة التي كانت تدور رحاها في أشهر بارات بغداد، وهو يشعر بالحزن لما آلت اليه حرب حزيران.

وفي ذات السياق سيتوقف الكاتب عند واحد يُعد من بين أهم المثقفين الفلسطينيين، فعنه يقول (أحبَّ غالب هلسا حي المربعة الذي تحول الى قطعة شعبية من القاهرة). وعن تلك الفترة أي السبعينيات، وﻷن الحكم في بغداد أراد أن يسوّق مشروعه السياسي وعلى صعد مختلفة، فقد حذا حذو بعض العواصم العربية المشهود لها بالحضور الثقافي القوي، فما كان منها الاّ أن تفتح أبوابها ﻷشقاءها العرب أو هكذا بدا اﻷمر، محاولة كسب ود ورضا مثقفيها، كجبرا ابراهيم جبرا وخالد علي مصطفى ومعين بسيسو وغالب هلسا وكبيرهم عبدالرحمن منيف، حيث شغل اﻷخير رئاسة تحرير مجلة النفط والتنمية، فضلا عن أسماء أخرى لا تستحضرني اﻵن. ومن هناك ستشهد النور العديد من اﻷعمال اﻷدبية المهمة، كثلاثة وجوه لبغداد وشارع اﻷميرات وعالم بلا خرائط واﻷشجال واغتيال مرزوق وشرق المتوسط وغيرها الكثير.

 ــ10ــ

رصده لمعالم بغداد سوف لن يكتمل إن لم يمر بساحة التحرير وما يجاورها، فهناك سينما غرناطة ومنها ستخرج العوائل بعد أن شاهدت آخر عرض سينمائي لذلك اليوم. وبالقرب منها بعض من مقاهٍ وبارات كانت وجهة لمشارب وطبقات اجتماعية مختلفة. ومن بين ثنايا ذلك المكان سيستعيد الكاتب صورة (القواد ابراهيم بشعره السبط المدهون ذهابا وايابا وهو يدخن، وحين تسأله عن واحدة يجيبك برصانة رجل اﻷعمال: عندي منهن ست وثلاثون؟).

وﻷنها (الساحة) كانت شاهدا على الكثير من المنعطفات واﻷحداث التأريخية، منها ما خلَّده الشعب وصار إرثا وطنيا يحتفى به كل عام، ومنها ما كان موضع إجتهاد وخلاف بين أغلب القوى السياسية الفاعلة والمؤثرة في سيرورة المجتمع العراقي. ومما شهدته الساحة وبقي في ذاكرة العراقيين ردحا من الزمن هو (يوم الإثنين السابع والعشرين من كانون الثاني سنة 1969) حيث سيدشن البعثيون سلطتهم ليقيموا ما أسماه الكاتب (مهرجانا سيكون بداية للرعب التأريخي الشامل) والحديث هنا يدور عمّا أسمته السلطة آنذاك بشبكة من الجواسيس التي تدار من قبل الصهيونية العالمية، والتي تمَّ على اثرها إعدام مجموعة من العراقيين المرتبطين بتلك الشبكة على حد زعم إعلام السلطة، وكان من بينهم مَنْ أشيع اسمه وعُرِفَ على نطاق واسع، انه عزرا ناجي زلخا.

بعد نحو أربعين سنة أو يزيد قليلا ومع تغيير النظام الحاكم على يد اﻷمريكان، ومن على هذه الساحة التي أراد لها جواد سليم أن تكون رمزا للوحدة الوطنية وعنوانا للتحرر من الإضطهاد والديكتاتورية، ستنطلق مظاهرات عارمة، تنديدا بالنظام الحاكم وديكتاتوريته، حيث خرج الشعب في شباط 2011 بمظاهرات صاخبة، جرى التصدي لها بقوة السلاح والإلتفاف والتآمر ومن قبل حزب الدعوة الحاكم بقيادة المالكي، ليستشهد على أثرها عددا ليس بقليل من العراقيين كان من بينهم الفنان والصحفي هادي المهدي.

(ملاحظة أظنها مهمة، فكم تمنيت على الكاتب أن يتوقف طويلا عند إنتفاضة تشرين المباركة عام 2019 ، حيث حملت معها نذر تغيير جذري للطبقة الحاكمة الفاسدة وتخليص الشعب من بطشها وعمالتها لولا بعض الظروف الخارجة عن السيطرة).

 ــ11ــ 

الحديث عن الجادرية كما الحديث عن عشيقة كانت قد فلتت من بين يديه على حين غفلة. فها هو واقف عند أطلال سدير نخيلها بتأسف وحسرة (تقطع نخلة ثم نخلتين، ثلاثة فتتحول الى أرض سكنية). أنها مجزرة من نوع آخر، فها نحن أمام أكبر جريمة ترتكب بحق إحدى الثمرات التي باركها الرب وقال عنها محمد العربي: ارحموا عمتكم النخلة، والعمل لا زال جاريا وعلى قدم وساق ودون هوادة وإكتراث، لتصفية ما طاب للطبقة الحاكمة من بيئة نظرة خضراء، لا تتسق وذائقتهم. وها هو زهير يحدثنا بوجع عن (بستان شوكت) يوم كانت مأواه في صغره وفي كبره وفي ساعات الهوى، فهي قبلته وتحت فيئها إستظل وبها وتبارك.

انهاسياسة تطهير من نوع خاص، فمثلما استولى رجال العهد السابق على أكثر المناطق جمالا وبهاءا وأهمها موقعا، فالحاليون كذلك سائرون على ذات النهج إن لم يكونوا أسوأ وأكثر تخلفا ممن سبقهم، حيث راحوا يتقاسمون الغنيمة، الضحية فيما بينهم، فهنا مثلا (استولى الرئيس جلال الطالباني على بيت برزان التكريتي). وهنا يسكن عمار الحكيم في بيت طارق عزيز وهنا يسكن العامري في... وهنا المالكي في.... وهنا رئيس البرلمان، فالمتحاصصون لم يكتفوا بتقاسم المواقع السياسية والمناصب فحسب بل طالت كل مفاصل الدولة، وكأنك يا عبيد ما غزيت، على ما يقوله أخوتنا الفلسطينيون في مثلهم الشعبي.

 ــ12ــ

(في المنطقة الخضراء تتوزع بيوت الحيتان الجدد، أغلبهم ريفيون اكتشفوا ان البذار في السياسة أكثر ربحا) بهذه العبارة المباغتة والبليغة، سيدلنا الكاتب ويقودنا الى عقلية وطبيعة الطبقة السياسية المتحكمة بالقرار وعلى مستوى الدولة. وفي صفحات لاحقة سيدخلنا الكاتب بيوتهم، ليوصف لنا ما رأته عيناه وما شكلَّت له من صدمة. فمثلا عن أثاث المسؤول الجديد يقول (لا يحمل ذرة ذوق ولا نأمة انسجام، مزيج من ولع الطغاة بالفخامة الشكلية والذوق السوقي).

 وﻷنهم يدركون بأن عاقبتهم ليست بالبعيدة فتراهم قلقون، يتراجفون في سرهم، رغم كل الإجراءات الإحترازية التي قاموا بها، كوضع أجهزة تنصت ونصب كاميرات عالية الجودة والكلفة على مداخل محل إقاماتهم وحتى داخل بيوتهم. فضلا عن العيون التي إنتشرت في الشوارع وراحت تراقب ليل نهار معارضي حكمهم. لم يكتفوا بذلك بل لجأوا الى نصب نقاط حراسة من نوع مختلف وعند مداخل مربع الرعب المسمى بالمنطقة الخضراء. وعن هذا الموضوع يتحدث الكاتب ما تعرَّضَ له عند دخوله المنطقة إياها (تشمني كلاب من مختلف القوميات ويفتشني رجال فلبينيون، جنوب أفريقيين، أمريكيون...). أنهم لا يثقون حتى بكلابهم ولا حتى بأعوانهم حين تقع الواقعة، لذلك (استوردوها) من خارج الحدود.

في العبارة اﻵنفة ربما أراد الكاتب أن يقودنا الى النتيجة المنطقية التالية: ان مَنْ يحكم ليس أهلا لها، فالدولة لا تدار الاّ بذوي الإختصاص، ومن طبقة وسطى لديها من التعليم والثقافة ما يؤهلها لتلبية متطلبات المجتمع وإدارته على نحو صحيح. وبذا سيحفزنا على إثارة أهم اﻷسئلة: لماذا جرت عملية تمشيط وتصفية وإبعاد لكوادر الدولة وذوي الكفاءات، وإحلال كل مَنْ هبَّ ودب كبديل عنها. إذن فالقصة لا تُقرأ بحسن ظن أو ببراءة أو سذاجة، بل هي لا تبتعد كثيرا عن أن تكون مؤامرة خبيثة، كان قد جرى التخطيط لها وحبكها بليل حالك، الهدف منها تحويل العراق وبذرائع شتى ومن بينها ما كان واهيا الى دولة فاشلة وعلى كل الصعد وهذا ما تحقق فعلا.

 ــ13ــ

لا يفصله عن البيت الذي فارقه قبل أكثر من عقدين سوى مسافة قصيرة حَسَبَها دهرا. انها أصعب اللحظات والخطوات وأبعدها. ربما أنقذته أصوات الموسيقى الصاخبة المنبعثة من إحدى المقاهي القريبة. متى بُنيت؟ مَنْ هو صاحبها؟ كيف سُمح له بفتحها؟ اسئلة كثيرة راحت تتدافع في داخله، لم ينجح في الإجابة عليها. علامات البهجة البادية على ابنة شقيقته التي كانت برفقته، لم تعفها من الإنتباه الى الخال الذي بدت عليه حالة من التشتت والإستغراب مما ترى عيناه ويسمع، لذا راحت ملتفتة اليه، قائلة: (ذوقنا رديء يختلف عن ذوقكم الرومانسي...). رأي كهذا أعطاه دفعة قوية من الثقة بخزين ذائقته الموسيقي فضلا عن الإحساس بالنشوة والزهو.

 قبل أن يجتاز عتبة الباب تناهى الى مسامعه صوت عتاب وملامة. تَوَقَّفَ ليصغى ثانية، انه صدى صوت أمه: لماذا رحلت، لماذا رحلت؟ لقد كسرت ضلعينا، أنا وأبيك، وضيقت الطرق على أخوتك وتعبنا من عسس الليل ووقاحة رجال اﻷمن. حبس دمعته ثم إتجه نحو إحدى زوايا حديقة البيت، متذكرا بأنه في ربيع ما وقبيل رحيله سنة ...... كان قد زرع هنا شجرة رمان، ظنها لا زالت نضرة، لكنه لم يجد لها أثرا، سأل عنها، قيل له لم يعد لها أثرا، كان عليك أن تبقى لتسقيها.

تذكَّرَ ما كتبه ديستوفسكي في اﻷخوة كارامازوف: أنت تكترث لكل شيء وهذا ما يجعلك أتعس الناس. ظلَّ مترددا قلقا في قراره، بين أن يحسم أمره ويستقر في بلده اﻷصلي الذي أمسى غريبا عليه، وبين أن يعود من حيث أتى. (لا أحد هنا يثق بقدرتي على البقاء)، هذا ما توصل اليه بعد سماعه من اﻷقربين رأيا كهذا. عند رجوعه الى مغتربه أسمعته إبنته (ستتركنا وتذهب الى هناك). لا زال زهير متأرجحأ، متذبذبا، بين هذا الخيار وذاك فكلاهما مرٌ والضباب لا زال يُعَتِّمُ على اﻷمكنة.

بعد أن فرغ منه، فاته أن يخطَّ على الغلاف الخارجي للكتاب وبحروف كبيرة، واضحة العبارة التالية:

 سيأتي اليوم الذي ستشرق فيه الشمس على ربوع بلادي، وستتضح الرؤيا ويزاح الضباب عن اﻷمكنة، لنراها أكثر بهجة وجمالا، وستحيا من جديد شجرة الرمان التي أحببتها.

 

حاتم جعفر

مالموــ السويد

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم