صحيفة المثقف

استاذي الشهيد محمد زكي يوسف

محمد حسين النجمفي ليلة من ليالي رمضان نهاية سبعينات القرن الماضي، كنا بزيارة لاستاذنا الشهيد محمد زكي يوسف . كنا طلبة اعدادية وكان استاذنا، لكنه، في صلته مع طلبته، لم يكن معلما فقط، كان ابا يحدب على تلاميذه ويرتقي بهم، يتعامل معهم ككبار، بغرق معهم في الاحاديث فتشعر معه بالصداقة مهما كان فارق العمر بينكم، يتفاعل مع حديثك، ويصغي لما تقول بانتباه وكأن ما تقول امرا جديدا عليه، هاديء الطبع لاتفارق الابتسامة مبسمه، ورغم الفارق بين المعلم وتلميذه، لكنك تشعر معه بانك تعرفه منذ زمن بعيد، يبادلك النكته، ولا يبخل عليك بالابتسام مهما كانت نكتتك لاتدعو لها .

 في الدرس، كنا نرى اسلوبا مختلفا في التعليم لم نعتد عليه، علمنا لاول مرة كيف ان قراءة نص في كتاب القراءة ( Reader ) الانجليزية، ليس فقط ان تعرف ما معناه، بل ان تفككه، ان تتعرف على بناه النحوية والاسلوبية، عرفنا لاول مرة، مثلا، كيف ان هناك جملة في النص (اعتراضية) يمكنك تجاوزها والانتقال لما بعدها دون ان يختل المعنى، كانت تلك الجملة غالبا ما تربكنا ونحن نفتش بالقاموس عن معاني الكلمات لنتوصل الى معنى المقطع الذي نقرأه، واذا بهذه تبدو مخربة للسياق ولا ندري لماذا . ونحن نقرأ النص معه، كانت الخطوط تملأ الصفحة الواحدة، فعلينا ان نضع خطا تحت كل (حرف جر) نمر عليه فيها، لنتوقف نهاية الصفحة، نقارن بين كل كلمة لحقت هذا الحرف يدفعنا لنفهمها بشكل عقلي حيثما امكن، فهذه كلمة معنوية وتلك مادية، هذه تفيد الاحتواء وتلك تفيد التعالي . تلك مقاربات كان يقربنا بها لادراك معنى الحرف، والموقع المناسب الذي ينبغي وضعه به . غرز  في داخلنا عشق اللغة الانجليزية، كلغة ثقافة يجب ان نتعاطاها . لم نعهد يوما، طيلة مسارنا ومسار زملائنا الدراسي ان تكون هذه اللغة محل عشق، بل لعل الجميع يعلم ان الانجليزية كارثة عراقية بامتياز، فكم من الاذكياء والواعدين كسرتهم هذه اللغة، بل كم منهم كانت سببا بتحطيم مستقبله حين يكون المعيا في كل المواد والمعارف الا هذه، فينتهي مساره الدراسي الى الفشل . بل ان من اكثر جوانب اللغة الانجليزية كان النحو او القواعد كما نسميه، كان كتاب النحو ايامنا معدا ومطبوعا في جامعة كامبردج ويتشكل بثلاث اقسام كل قسم لمرحلة من مراحل الاعدادية، وشاء حسن حظنا، ونحن في الفرع الادبي، ان يكون مدرسنا لثلاث سنوات خلافا لزملائنا في الفرع العلمي  . كم اصبح هذا الدرس لذيذا ونحن نجد استاذنا ياخذ بيدنا بسلاسة، يعلمنا كيف نطبق  (النموذج) المعطى لنا لتركيب جملة سليمة النحو . كنا ننظر احيانا لزملائنا في الفرع العلمي بالشفقة كونهم يخفقون في التطبيق . ربما ما اذكره هنا يعتمد مصطلحات لا يتعامل بها اصحاب اللغة، فانا لست مختصا فيها، ولكنني اتحدث عن كيف كان استاذنا يقودنا لان نفهم هذه اللغة . في كل مسلكه ومساره كان يشدنا لان نتعلم لغة اخرى، وكيف لا وهو الذي يتحدث بجملة لغات، وقد فاجئنا يوما، وكان في المدرسة احتفال على هامشه معرض رسم في المدخل الذي يطل على الشارع العام، كنا مجتمعين داخل المعرض وامام المدرسة مما اثار حب استطلاع مجموعة من السياح الاجانب، كانوا يمرون من امام المدرسة، فدخلوا، اتجه اليهم استاذنا مرحبا، والمعتاد ان يتحدث مع اجنبي باللغة العامة العالمية الانجليزية، وسار معهم يطلعهم على اللوحات المعلقة في المعرض، يحدثهم بها، واثناء الحديث اتضح بانهم سياح فرنسيين، وما اشد استغرابهم حين تحول معهم من الانجليزية الى الفرنسية، سالوه متى زرت فرنسا وانت تتكلم لغتها مثل ابنائها فاجاب: ولدت في البصرة وشببت فيها ولم اغادرها يوما . .

في زيارتنا له في رمضان ذاك، وكانت الثورة في ايران مشتعلة نهاية السبعينات، فاجئنا بانه قد بدأ بتعلم اللغة الفارسية، وكانت مفاجئتنا اكبر حين وجدنا على الطاولة قاموس ضخم في اللغة الفارسية مفتوح، يبدو اننا قطعنا سلسلة قراءته له حين زرناه، سالته عنه فاخبرني بنيته تعلم هذه اللغة، فقلت له ضاحكا : يا استاذي، اعتدنا حين سعينا لتعلم اللغة الانجليزية ان نبدأ معها بقراءة كتاب (كيف تتعلم الانجليزية في خمسة ايام) لا ان نتابط كتابا بهذا الحجم، وضحكنا وضحك، وتعلمنا منه ان تعلم لغة ما ليس بالمركب السهل الذي يكفيه كتاب تجاري كالذي اشرت اليه . كان مما قاله انه لم يندم على شيء من تعلم اللغات مقدار ندمه على تعلم (اللغة اللاتينية)، فهو لايجد من يتحدث معه بها . ونعرف تماما، وكنا آنئذ لانعلم، بان اللغة اللاتينية لغة ماتت كلغة عامة منذ امد بعيد ولا يتعاطاها الان الا الباحثون المختصون بها او بالمحيط الذي كان لها دور فيه في التاريخ او الفكر. كان مضيفنا انئذ، او لنقل مساعده في ضيافتنا ولده فراس، وكان لازال طفلا صغيرا، الا ان ما اثار انتباهنا انه كان احيانا يوصيه بامر من البيت بلغة لاندري ماهي، وحين سالناه قال هذه اللغة هي المقرر ان تكون اللغة العالمية البديلة عن الانجليزية، وهي لغة (السبرانتو)، وكانت هذه اللغة قد بدأ ظهورها حديثا ولم يكن بتعاطاها آنئذ الا القلة على مستوى العالم، ولا ادري هل سمح الزمان لفراس ان يتعلم هذه اللغة قبل استشهاد والده .

انها بعض من ذكريات رجل  بدا انه لايشبه الكثيرين في طيبته رغم ما في مدينتي من طيبة لا توصف . كان خدوما للصغير والكبير، سباقا للفضل على محيطه، متفاعلا اشد التفاعل مع من يعرف، فربما تجده، وهو يسمع بجار له اصابه المرض، مهتما بان يتواصل معه سحابة ليله، يشتري له ما يحتاجه من دواء، ويصاحبه في ليله ولا يعود الا بعد ان يطمئن الى استقرار حالته، ليسال عنه صباحا وهكذا حتى يشفى . كان انيسا بمجلسه لا تشعر بمضي الليل وانت تستمع له وتضحك على ما يورده من نوادر ونكت . كان حين يزورنا في رمضان، وكان الزمن شتاءا، ونعرف كم كان ليل الشتاء طويلا، فنغرق في الحديث معه ولا نشعر الا وقد ازف السحر .

رحمك الله ابا فراس، ولعن الله من حرمنا هذه الدرة الثمينة التي تمشي على الارض .

 

محمد حسين النجم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم