صحيفة المثقف

منظرو الاقتصاد (13): ولفريدو پاريتو

مصدق الحبيب(1848 – 1923)  Vilfredo Pareto

هو الاقتصادي الايطالي الذي ينتمي للجيل الثاني من الاقتصاديين النيوكلاسيكيين، وهو أحد مؤسسي مدرسة لوزان في الاقتصاد، المهندس واستاذ الرياضيات والاقتصاد. وكان قد تحول في أواخر سني حياته الى دراسة الاجتماع والنبوغ  فيه. وقد كتب ونشر الكثير في هذا الحقل حتى عُرف بنظريتة - نظرية النخبة، اضافة لكونه من أوائل الذين صمموا التطبيقات الرياضية في الاقتصاد ومن اكثر المتحمسين لها.

ولد ولفريدو في باريس عام 1848 لعائلة ايطالية-فرنسية ، حيث كان والده روفائيل باريتو مهندسا وماركيزا ارستقراطيا من أبناء جنوة، وقد فرّ الى فرنسا عام 1835واقام هناك كلاجئ سياسي وتزوج امرأة فرنسية ولدت له بنتين ووليفريدو، الذي كان آخر العنقود.  عادت العائلة الى ايطاليا عندما كان ولفريدو بسن الرابعة، فتعلم في مدارس جنوة حيث عمل والده مدرسا للغة الفرنسية. دخل ولفريدو المعهد التكنولوجي الملكي ثم جامعة تورن وتخرج في قسم الرياضيات والفيزياء عام 1867. ثم بدأ دراسته العليا في معهد تورن البوليتكنيكي وكانت رسالتة للدكتواره حول التوازن الميكانيكي، الموضوع الذي وجد له الصلة العلمية مع نظرية التوازن الاقتصادي العام التي ساهم في صياغتها باريتو فيما بعد.  تخرج ولفريدو الاول على دفعته عام 1870 وعمل مهندسا في سكك  حديد روما. في عام 1874 اصبح مديرا لشركة الحديد والصلب في فلورنسا. ومن هنا ومن خلال مواجهة مشاكل العمل والانتاج والعرض والطلب على المواد الاولية والمنتجات النهائية، بدأ اهتمامه الجدي بدراسة الاقتصاد التي تكثفت مع تصاعد مسؤولياته وازدياد معرفته واطلاعه من خلال سفراته المتكررة الى ألمانيا وبلجيكا والنمسا.  وهكذا قرر ان يتفرغ لدراسة الاقتصاد وهو في أوائل الاربعينات من عمره.

في عام 1889 تقاعد من عمله في شركة الحديد والصلب وقرر ان يعيش اعتمادا على ميراث متواضع من والديه، فانتقل الى شقة صغيرة وتزوج من فتاة روسية فقيرة وانهمك بالدراسة والبحث في الاقتصاد، اضافة الى كتابة المقالات الصحفية ضد الاوضاع السياسية القائمة آنذاك في ايطاليا.  ولأن ميول ولفريدو كانت منذ ايام الشباب نحو المثالية اللبرالية وزعيمها كافوار Cavour، كانت كتاباته تبدي رفضا شديدا للسياسة البسماركية والتدخلات السافرة من قبل السياسيين الجدد في كل نواحي الحياة. تميزت مقالاته الصحفية في تلك الفترة بانتقاد سياسات الحكومة الاقتصادية والفساد الاداري المتفشي مع التواطؤ أو عدم الاكتراث البرلماني. كان يدعو الى ديمقراطية برلمانية حقيقية وشجب عسكرة البلاد وسياسات الحماية التجارية. وكان قد اطلق على سياستي العسكرة والحماية اسم "عدوّي الحرية". كان اصدقاؤه والمقربون منه قد ألحوا عليه أن يرشح نفسه لمنصب سياسي لكنه رد عليهم بقولته الشهيرة " أفضّل أن أكشف العار على أن لا أكون جزءً منه". ومع انتشار كتاباته التهجمية ضد الحكومة ازدادت مراقبة البوليس له وتكثفت مضايقات شقاوات السياسيين ومكائدهم ضده. لكن تلك الكتابات كانت في نفس الوقت الوسيلة التي تعرف اليه من خلالها الاقتصادي الايطالي الشهير آنذاك  مافيو بانتليوني فانبثقت بينهما صداقة قوية، فكرية وسياسية تمخضت عن تعاون مثمر في النشر والمحاضرات والندوات. كما تمخضت عن أهم ما حدث في حياة ولفريدو، وهو توصية بانتليوني به لفالراس اثناء بحثه عن خليفة له في رئاسة قسم الاقتصاد في جامعة لوزان، وهذا ما ساعد ولفريدو أن  يكون في ذلك المنصب عام 1893.

في وقت مبكر لذلك كان بانتليوني هو الذي أشار الى ولفريدو أن يقرأ لفالراس ويتعلم منهجه، مما نتج فعلا عن اعجاب ولفريدو بفالراس للحد الذي اصبح فيه أحد اتباعه الاوائل في مدرسة لوزان، نظرا لتقارب افكارهما وتطلعاتهما رغم اختلاف شخصياتهما. في مقالة عن باريتو نشرها معهد التفكير الاقتصادي الجديد يذكر الكاتب بعضا من الاختلاف في شخصيات الرجلين. فبينما كان فالراس برجوازيا مثاليا هادئا ومسالما وليس لديه الكثير من الجرأة والاقدام، كان باريتو عكس ذلك، شجاعا تهكميا ومولعا بالجدل والردود المباشرة اللاذعة والساخرة. ولم يحل هذا الاختلاف دون حصول باريتو على المنصب. لقد احرزه أولا بذكاءه وكفاءته وخلفيته الرياضية التي يميل اليها فالراس، وثانيا بسبب موضوعية فالراس واخيرا بتأثيرتوصية بانتليوني.

تمكن باريتو من تبوء منصب رئاسة قسم الاقتصاد في جامعة لوزان بكفاءة عالية تليق به كخليفة لاقتصادي مخضرم مثل فالراس. كان مثابرا في عمله الاكاديمي وساعيا، ليس فقط لتطوير القسم كوحدة ادارية انما تطوير النظرية الاقتصادية من خلال ذلك الموقع الذي ينظر اليه الاقتصاديون وسواهم بهيبة واحترام.     ومن موقعه كتدريسي في القسم، حرص باريتو على نشر محاضراته بجزئين متتالين عامي 1896 و1897 وقد اسمى هذا العمل "كورس في الاقتصاد السياسي" الذي أعتبر فيما بعد كتابه الاول من أصل كتابين أساسيين حملا افكار باريتو ومساهماته النظرية الهامة. الكتاب الثاني كان قد نشر عام 1906 وكان بعنوان "دليل الاقتصاد السياسي".

عمل باريتو على تطوير النظرية الاقتصادية الجزئية بتبنيه التحليل الهندسي الكرافيكي للعديد من المفاهيم وادوات التحليل الاقتصادية كمنحنى اللاتفضيل      Indifference Curve وصندوق ايجورث           Edgeworth Box ، المفهومان اللذان لم يُعرفا الا بعد الثلاثينات من القرن العشرين واللذان مايزال يجري العمل بهما الى اليوم كأدوات تحليلية اساسية في علم الاقتصاد. كما عمل على صياغة نظرية توزيع الدخل ونظرية خيارات المستهلك وكان أول من صرح بعدم اهمية المنفعة الكاردينالية ودعا الى اعتماد المنفعة الاوردينالية حصرا، خاصة في نظرية التوازن الاقتصادي العام. ابتكر باريتو بعض المفاهيم الجديد التي سميت بإسمه واصبحت شائعة الاستعمال لفعاليتها النظرية. من أهم هذه المفاهيم مايلي:

مبدأ باريتو Pareto Principle : ويسمى أيضا قانون باريتو أو قاعدة باريتو أو قانون القلة الفعالة.  يشير هذا المبدأ الى انه على العموم سنرى ان 80% من النتائج تتأتى من 20% من الاسباب. يعود هذا المبدأ الى الدراسة التي اجراها باريتو في جامعة لوزان والمنشورة عام 1896 والتي بينت ان 80% من الاراضي في ايطاليا مملوكة من قبل 20% من السكان. بعد ذلك جمع باريتو احصاءات من بلدان عديدة في أوربا وخارجها  ، ولحقب  زمنية مختلفة، فتكررت لديه نسب مقاربة جدا للنسبة في ايطاليا. خلال الاربعينات من القرن العشرين قام المهندس وخبير الادارة الروماني-الامريكي جوزيف جوران Joseph Juran  باختبار تلك القاعدة على عدة مجالات في الادارة فحصل على نتائج متقاربة، فما كان منه إلا ان يعمم هذه القاعدة ويطلق عليها اسم باريتو بالصيغة التي نعرفها اليوم. وهكذا بدأت هذه القاعدة تتحقق في حقول ومجالات عديدة. فيما يلي بعض الامثلة:

-        80% من المبيعات يشتريها 20% من العملاء

80% من الارباح التي تجنيها الشركات الكبيرة تأتي نتيجة لمجهود 20% من موظفي الادارة العليا.

-        80% من دخل ومكافآت المستشارين الماليين يأتيهم من 20% من عملائهم.

-        80% من التبرعات تأتي من 20 من المتبرعين

-        80% من ايرادات الضرائب تأتي من 20% من دافعي الضرائب

-        80% من مشاكل الكومبيوتر تختفي نتيجة لمعالجة 20% من الفايروسات الالكترونية.

وقد اصبح معروفا اليوم ان 83% من الدخل العالمي يقع في أيدي 20% من سكان الارض، فيما يحصل 80% من السكان على 17% فقط من اجمالي الدخل العالمي. أما في الولايات المتحدة فيتطرف التوزيع أكثر ليكون 90% من اجمالي الدخل يقع في أيدي 10% من السكان، فيما يحصل 1% فقط من نسبة الـ 10% المباركة على 80% من تلك الـ 90%. ومن هذه النسب المتكررة  استنتج باريتو بأن نظرية الانتاج محكومة بحقيقة أن مدخلات الانتاج ومخرجاته ليست متكافئة التأثير والاثر. 

أمثلية باريتو Pareto Optimality  أو  كفاءة باريتو   Pareto Efficiency  هي الحالة الاقتصادية التي لايمكن معها اعادة توزيع وتنظيم الموارد لجعل طرف ما افضل مالم يصبح طرف آخر أسوء من ذي قبل. فهي اذاً ، حالة الاستخدام الكامل التي يصل اليها نظام ما حيث لايمكن احراز اي تقدم اضافي بعدها. وان كان احراز اي تقدم في جانب معين امرا ضروريا ، فسوف لن يكون ذلك التقدم ممكننا إلا على حساب تراجع او خسارة جانب آخر في  نفس النظام. فلو كان نظام المنافسة الحرة كاملا تاما كما تفرضه بعض النظريات وتصفه بنظام المنافسة الحرة التام، لاصبح من الممكن ان يصل الى تلك الحالة المثلى التي يصفها باريتو.

لنفترض ان هناك قدرا من البطالة المقنعة في القطاع الزراعي وهناك في نفس الوقت حاجة لمزيد من العمال في القطاع الصناعي. عندئذ سيكون من المناسب سحب عدد العمال المطلوب من القطاع الزراعي وتشغيلهم في القطاع الصناعي لسد العجز في كمية العمل وتحقيق الزيادة في الانتاج. هذه الحالة لا تصف أمثلية أو كفاءة باريتو، انما تنفيها!  ذلك لأن كان من الممكن تصعيد اجمالي الانتاج من خلال زيادته في القطاع الصناعي بدون أي تقليل في انتاج القطاع الزراعي بسبب سهولة الاستغناء عن بعض العمال فيه. ولو كان القطاع الزراعي يشغل العدد الامثل من العمال لكان من الصعوبة الاستغناء عن اي منهم وسوف لن يكون بمقدور القطاع الصناعي ان يزيد من انتاجه الا اذا كان ذلك على حساب الحاق الضرر في القطاع الزراعي، وهذا مايصف حالة كفاءة باريتو.

خلال عمله في جامعة لوزان كرئيس لقسم الاقتصاد، لم يتوقف باريتو عن مزاولة نشر مقالاته السياسية وكتاباته الصحفية المناوئة لسياسات الحكومة الايطالية. ورغم ان باريتو كان في شبابه ليبراليا كلاسيكيا متحمسا للديمقراطية والسوق الحرة ورافضا التدخلات الحكومية في الاقتصاد إلا انه تحول فيما بعد نتيجة لتغير وجهة نظره عن قادة الاشتراكية آنذاك ودعاواهم التي اعتبرها زائفة ومشبوهة وليست في صالح القطاع الاعظم من الشعب كما يزعمون. لقد كانت الاضطرابات السياسية الدامية خلال عقد التسعينات من القرن التاسع عشر في ايطاليا وفرنسا قد حملت باريتو على ادراك ان لاوجود للديمقراطية والرفاه الحقيقين بل كانا عبارة عن اوهام تتخدر بواسطتها الشعوب فيما تبقى الطبقة الحاكمة دائما وابدا ساعية وراء مصالحها وامتيازاتها الخاصة. كان باريتو آنذاك قد اعتقد بأن كل الوعود التي يقسم بها الايديولوجيون والسياسيون كانت مضللة بما في ذلك توقعات ووعود ماركس نفسه. ورغم ان باريتو كان مؤمنا بتحليل المادية التاريخية لدى ماركس الا انه اختلف معه في وسائل الوصول لتحقيق هدف الاشتراكية. كان يعتقد جازما بأن تقييد الحرية الاقتصادية مهما كان مصدره ومهما كانت نواياه سيؤول الى تبديد الثروة الوطنية ويظلم القاعدة العريضة من الفقراء والكادحين. ولذلك فلم يحجم عن ايمانه بأن النظم الاشتراكية والشيوعية والفاشية وحتى اللبرالية عموما تنتهي الى مجرد پروباگاندا يختفي وراء بهرجتها الانتهازيون والفاسدون الذين يلهثون وراء الكسب غير المشروع والسريع،  فيما يبقى المغلوبون على امرهم يعانون شظف العيش، وتبقى النظريات الجميلة والاحلام الوردية كالستار الدخاني الذي يحجب انظار الشعوب عن حقائق السلطة والنفوذ والمال. وقد وصل به الغضب ان يصف زعماء الاشتراكية وايديولوجيتهم بـ "ارستقراطية قطاع الطرق"!

وفي ضوء هذه الخلفية الفكرية والسياسية، تضمنت بعض مصادر تأريخ الفكر الاقتصادي بعض الغموض عن علاقة باريتو بفاشية موسليني. وهنا يمكنني الاستنتاج بأن باريتو كان قد شجع بعض اجراءات حكومة موسوليني في سنتها الاولى. تلك الاجراءات التي تناسبت مع فكر باريتو، كتقليل الضرائب على الملكية وتقليل دور الدولة في الاقتصاد بتحويل العديد من شركات القطاع العام الى القطاع الخاص وتشجيع التطور الصناعي والتضييق على اللبرالية السياسية التي كان باريتو يعتبرها منفلتة. وفي نفس الوقت حذر السلطة الفاشية من مغبة تقييد الحريات وضرورة الرقابة الشديدة على المسؤولين الذين قد ينحدرون الى درب الفساد. كان موسوليني قد ابدى استعدادا للتحول من الاجراءات الاشتراكية الى ما قد يسمى منهج السياسة النخبوية. ولأن باريتو قد جاء بنظرية النخبة في الاجتماع ، فقد اصبح ذلك تبريرا لمستشاري موسوليني ومن يطبل له أن يستخدموا اسم باريتو لصالحهم ويدّعون ان الحكومة تهتدي بفكره، خاصة وان موسوليني كان أحد طلاب باريتو في يوم ما! على ان تهمة باريتو كمرشد للنظام الفاشي لم تقو على ان تثبت ركائزها، وباريتو قد أدركه الموت بعد أشهر قليلة من استلام موسوليني السلطة.

تقاعد باريتو من عمله في جامعة لوزان عام 1907 وكان مصمما على دراسة الاجتماع لاعتقاده ان الاقتصاد وحده غير قادر على الاجابة على كل اسئلة الحياة الصعبة، خاصة وان النظرية الاقتصادية تفترض العقلانية والمنطق في السلوك الاقتصادي للافراد والمؤسسات وتنتهج التحليل الرياضي في الحساب والتقدير وهذا مايجافي حقيقة ودوافع السلوك الانساني في احايين كثيرة. تمكن باريتو من انجاز ثلاثة كتب في الاجتماع بين 1916 و1921.

كانت زوجة باريتو الروسية اليساندرينا قد تركته وهربت مع عشيقها الشاب الذي كان احد الخدم!  فلم يفكر باريتو في الزواج بعدها إلا بعد مرور عشرين عاما، حيث التقى بأمرأة فرنسية وتزوجها عام 1923 لكنه لم يكمل السنة معها فتوفى بعد اشهر في نفس العام. وفي الختام يمكننا القول بأن على يدي هذا الاقتصادي الايطالي اللامع انتقل الاقتصاد نقلة نوعية من حقل وصفي يعتمد المنطق والفلسفة والاخلاق الى علم حديث يعتمد البحث العلمي والتحليل الرياضي والاحصائي، وتلك كانت من اعظم المساهمات في تاريخ الفكر الاقتصادي.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم