صحيفة المثقف

على ضوء الفانوس واصوات المدافع كتبتها

قاسم المحبشيفي مثل هذا اليوم من شهر سبتمبر ٢٠٠٤م ناقشت أطروحة الدكتوراه الموسومة؛ فلسفة التاريخ في الفكر الغربي المعاصر؛ ارنولد توينبي موضوعًا) بإشراف الأستاذ الراحل مدني صالح في قسم الفلسفة بكلية آداب جامعة بغداد باب المعظم. ناقشتها بعد قرابة عام من الحرب الاجتياح الشامل للعراق في ظروف بالغة القسوة والتردي العربي العام. بعد سقوط بغداد فكرت وزارة التعليم العالي اليمنية في كيفية حل مشكلة المبتعثين للدراسة الأولية والعليا بين البلدان العربية ومنها مصر وسوريا والمغرب والجزائر وتونس والأردن وبعضهم تم توزيعهم على الجامعات اليمنية لاسيما طلبة الدراسات الجامعية الأولية. جاء توزيع ضمن عدد من الزملاء والزميلات في برنامج الدراسات العليا على جامعة دمشق كنا ١٣ طالب وطالبة اتذكر منهم الزميل حسن الرهوي فضل الربيعي وعبدالله المعلم والفيش والزميلة فاكهة جعفر التي التقيتها بالصدفة البحتة في بهو جامعة دمشق. كنا قلقون جدا من هذا الاضطراب. ذهبنا إلى جامعة دمشق وقدمنا الكشف واحالوا للكليات والأقسام العلمية المعنية. كنت الوحيد في تخصص الفلسفة وكان رئيس قسم الفلسفة بجامعة دمشق هو الأستاذ الدكتور أحمد نسيم برقاوي مشرفي العلمي في الماجستير وكنت سعديا بذلك. الدكتور أحمد رحب بي ومنحني مشكورا تأكيد بموافقة القسم على استيعابي في برنامج الدراسات العليا دكتوراه. غير أن نظام الجامعات بوصفها مؤسسات مستقلة لا يحتسب للطالب المدة التي أمضاها في جامعة أخرى. قيل لنا في ادارة جامعة دمشق عليكم التسجيل في البرنامج من أول وجديد. هذا الرد الاداري الصارم جعلنا في حيرة من أمرنا لا سيما نحن الذين قد امضينا ثلاثة سنوات في برنامج الدراسات العليا بالجامعات العراقية وبعض الزملاء كانوا على وشك المناقشة فضلا عن ما علمناه من زملائنا اليمنيين المبتعثين في الجامعة السورية من صعوبة وتعقيد روتينها الأداري والأكاديمي. جلسنا نضرب الأخماس بالاسداس لمدة شهر في فيحاء الشام دمشق.واثناءها كنا نتواصل مع زملائنا في بغداد ونسألهم عن كيفية الأحوال بعد أشهر من الاجتياح.

اتصلت بالأستاذ المشرف مدني صالح وتلك كانت المرة الوحيدة التي كلمني بها عبر الهاتف الأرضي بعد السلام والتحية اليمنية قال قال لي: شلونك قاسم؟ هل أنجزت الأطروحة؟ قلت له: كيف الوضع في القسم والكلية والجامعة؟ قال لي: عال العال.. تعال ناقش اطروحتك. كانت هذه المكالمة أشبه بنجدة من السماء وهي التي جعلتني اتخذ القرار المناسب في الوقت المناسب، إذ قررت العودة إلى بغداد وأخبرت زملائي بقراري مستلهما ما قراته بالقرآن الكريم (لكل آجل كتاب، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) ناقشت الأمر مع الزملاء واتفقنا بننا لسنا أفضل من ٢٥ مليون عراقي ومادام الجامعات شغالة هناك فجني تعرفه أفضل من أنسي ما تعرفه! حزمنا أمتعتنا وانشدنا لابد من بغداد وأن طال السفر. في مدة اقامتي بدمشق اغتنمت الفرصة وجمعت من تيسر من المصادر والمراجع المتصلة بموضوع اطروحتي وصادف حينما افتتاح معرض دمشق الدولي للكتاب. اشتريت حوالي ٧٥ كتابا في مختلف انساق المعرفة الأدبية والإنسانية والفلسفية تركت مالا احتاجه منها مع الزميل عبدالله الفيش وآخذت ما خف وزنه وغلاء ثمه المتصل بموضع بحثي. قطعت تذكرة على باص شركة براق الصحراء صعدت في مقعد قريب من السائق. كانت النقاشات بين الركاب محتدمة طوال مدة الرحلة عن معاوية والحسن والحسين والمهدي المنتظر وأهل العترة وآل البيات وسقوط نظام صدام واشياء واشياء كثيرة أخرى. كانت الصامت الوحيد في تلك الجلبة وحاولت أخفي هويتي. ولكن القاعد بجانبي سألني في منتصف تلك الليلة الظليمة من أين أنت يا معود؟ قلت له: من اليمن رد يا هلا بأهل اليمن؛ أنهم أرق قلوب وآلين أفئدة! وأضاف المهدي المنتظر سوف يطلع من اليمن! هو الحوثي عجّل الله فرجه! أحسست بحالة من الحصار والاختناق وتلعثمت ولا ادري ما اقول لمحدثي. قال لي: اش بيك معود ما تحكي.. أنت من اتباع علي أو معاوية؟ قلت له: علي ومعاوية من قريش وأنا من اليمن لا دخل لي بصراعاتهم .. وسألته؛ متى نصل بغداد؟ محاولا أن اتجاوز هذه الموقف الملغوم رد عليّ؛ بعدها طويلة.. ربما قطعنا نصف الطريق. بتلك الحيلة الاستفهامية البريئة حولت مجرى الحدث من القرن الأول الهجري إلى اللحظة الحاضرة. استجابت محدثي فتحت لي الباب للحدث عن العراق وعن تاريخ العراق العظيم منذ جلجامش وعشتار وأنت طالع.. حاولت أن اوصل له رسالة بأنني لست مهتم بالدين والسياسة.. فهمها وصمت.

بعد ٢٤ ساعة من السفر ببراق الصحراء وصلنا بغداد المدمرة. كان شارع السعدون مظلما والمدينة موحشة.

سكنت في فندق متواضع في السعدون وفي صباح اليوم التالي ذهبت أبحث عن الزملاء في عمارة الكهف على شارع أبو نواس. كان الزميل الدكتور حسن الرهوي والزميل الدكتور عباد السلامي قد سبقاني اليها. عمارة كبيرة تتعب وقف الكنسية المعمدانية. شروط السكن فيها ميسرة ولا خوف من الصراعات الطائفية. كان يحرس رجل مصري محترم أسمه رمضان على درجة عالية من الثقافة والرقي. كانت الزميلة فاكهة جعفر تسكن بها قبل الاجتياح وفضلت البقاء في دمشق وكانت شقتها معروضة للإيجار والمفتاح مع الدكتور حسن. تفاوضنا واشتريت منها الاثاث سكنت مع الزملاء كنا كلنا من اليمن قرابة عشرة طلاب في مختلف التخصصات.

هناك في الكهف كتبت اطروحتي على ضوء الفانوس واصوات الصواريخ التي كانت تستهدف المنطقة الخضراء على الضفة الاخرى من نهر دجلة.

بعد ستة أشهر في عمارة الكهف سافر معظم الزملاء فانتقلت مع الدكتور فضل الربيعي والدكتور عبدالله المعلم إلى شارع حيفأ إذ بات السكن في عمارة الكهف خطرا. وفي العمارات الهولندية ذات الطوابق ١٥ أمضينا الأشهر الأخيرة من رحلتنا البحثية في ظروف أمنية بالغة التهديد والخطر. إذ كنا نجد صعوبة في الوصول إلى الكلية لمقابلة المشرف في باب المعظم. انتقلت قبل يوم من المناقشة إلى الوزيرية شقة الزميل الدكتور عادل عوض الطاهر كما جاء في منشوري البارحة الذي كتبت بها تفاصيل ليلة ما قبل يوم المناقشة المصادف الثلاثاء ٢١ سبتمبر٢٠٠٤م ومن شروط الاطاريح والرسائل العلمية في بغداد أن تكتب آية قرآنية في مستهل الأطروحة وتلك كانت الآية: (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) مسهم قلبكم وبعدكم واليكم. واصبحنا واصبح الملك لله.

 

ا. د. قاسم المحبشي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم