صحيفة المثقف

ضمير اللغة ولغة الضمير الثقافي العربي الحديث (1-2)

ميثم الجنابيالعقلانية واللاعقلانية في الفكر العربي الحديث(1)

لقد طوت الوهابية في رمالها بقايا الأطلال المندرسة لعوالم تبجحت في غضون قرون من الانحطاط الثقافي بقدسية أحجارها المتناثرة وعظام أوليائها التالفة. واستطاعت أن تكشف في زوبعة عواصفها العملية عن القيمة الإيمانية والعقلية للجهاد. وان تبرهن أيضا على أن التوحيد هو الكلمة الوحيدة الحقة في الوجود. وأفلحت من خلال الكلمة جعل القرآن والسنّة إماما للموحدين. وأدى ذلك موضوعيا إلى تلازم قيمة الكلمة (القرآنية) وتطبيقها العملي (السّنة) في كل ما أرادت الوهابية قوله وفعله.

ووجد ذلك انعكاسه المباشر وغير المباشر في تحريك ذاكرة التصوف وتنشيطها "الحر" في استدراك قيمة ومعنى التأويل الصوفي للآية القرآنية القائلة "نسوا الله فأنساهم أنفسهم". غير انه لم يكن بإمكان أتباعه المقلدون منهم والجدد آنذاك بلوغ مستوى تحدي حقيقة الذات على مثال البسطامي، ولا حقيقة الحق على مثال الحلاج، ولا حقيقة البدائل المنظومية على مثال الغزالي وابن عربي. إلا أنهم اضطروا تحت ضغط الهياج العارم للوهابية إلى نفض غبار النسيان المتراكم على ذاكرة العقائد العملية.

والزم ذلك الجميع على شحذ الذهن والعاطفة في تأمل الكلمات ومعانيها. ومن ثم تتبع خطاها في العبارة. كما لو أنهم اخذوا يتذكرون المعنى الخفي في سحرية الكلمة القرآنية باعتبارها آية، و"المعجزة" التي صنعت على مثالها نموذج الحضارة الإسلامية.

فقد لضمت الحضارة الإسلامية كلماتها من حروف معاناتها المرهقة في صيحات المعارك وصمت الزاهدين، ومن سفاهات الماجنين وورع المتقين، وشطح العارفين وهمس العاشقين، ومديح الشعراء وهجائهم، وخلافات الفقه وتفريعاته، وتمنطق الكلام وتشقيقاته، وأزهقت في معاناتها حياة الأبرار والأنذال، وزكّت أرواح أبطالها في "أعلى عليين" وأنزلت أراذلها إلى "أسفل سافلين"، واستثارت في ظاهرها وباطنها لعاب الرجال والنساء، وحنين الشيوخ والصبايا، وعقل العقلاء وبلادة البلداء، وألزمت الجميع مع ذلك بالاحتكام إلى ما في منطقها التوحيدي من قدرة على ترسيخ القناعة والاقتناع بكل المتضادات الممكنة في الوجود والفكر.

ووضع ذلك القوى "المتهورة" و"الثائرة" أمام مهمة تأمل النصوص الخالدة. وبالتالي تحريك الوجدان العقائدي واللاهوتي بالشكل الذي اخذ يتحسس الحركة غير المتناهية للحروف. غير أن تهشم الكيان الثقافي العربي وانحلال تاريخه السياسي جعل من الصعب عليها إيجاد الصلة المعقولة بالعوالم الثقافية المتراكمة للخلافة فيما وراء القرآن والحديث، أي انه لم يكن بإمكانها التعامل المباشر مع الكم الهائل من حروف المعاناة المتراكمة في ووعي الثقافة الإسلامية. إلا أن مجرد إنزال "النصوص المقدسة" إلى معترك الحياة الواقعية، والاقتناع الحر والقناعة الجازمة بما في هذه النصوص من أثر قاهر ومرجعية دائمة للصلاح والإصلاح، أدى بالضرورة إلى تعميق رمزية الكلمة. وإذا كانت هذه الكلمة قد تمركزت وتركزت في "التوحيد" وعباراته القليلة، فان ذلك يكشف عن أنها الصيغة المناسبة لاستدرار معاني "الفعل الحق".

إن استدرار معاني الفعل الحق يعني تحويلها إلى نماذج مثلى لتجلي رموز التوحيد. مما يفترض بحد ذاته تعميق الوجدان الفاعل في تأمل النص ومفرداته. ووجدت هذه النتيجة تجسيدها الأرقى حينذاك في "التصوف الفاعل". ولم يكن ذلك بسبب تحويله لغة الضمير القرآني إلى ضمير المخاطبة الروحية للذات السائرة في "طريق الحق" فحسب، بل وبسبب تأسيسه المبدئي لاستظهار هذا الضمير في الفعل السياسي. وهو اثر سيتجلى بصورة متزايدة في إبداع أدباء وعلماء النهضة العروبية والإسلامية. حيث اتخذ  عند الأدباء صيغة الاستلهام البياني والوجداني، وعند العلماء صيغة الاستلهام الوجداني والعملي.

فقد كان التصوف الحلقة الأخيرة التي لم تفقد بريقها في سلسلة الوجود التاريخي للعرب، وذلك لفنائه الوجداني في حقائق الإسلام المتجرد عن واقع الانحطاط العثماني وضمور العربية الثقافية والسياسية. إذ بقت كلماته وعباراته واصطلاحاته متغلغلة في مسامات اشد الفئات تخلفا وأكثرها رفعة، كما لو انه الصدى المجهول لعالم مجهول. وهو واقع يمكن فهمه في حال النظر إلى ما في إبداع التصوف من خيال ذوّب في عباراته حقائق اللسان والوجدان والعرفان المتراكمة في مجرى قرون الازدهار الإسلامي. لهذا كان بإمكانه الاختباء في قاع الزوايا، وفي خلجات الضمير، وعقل العقلاء، وحنق الفقهاء، وجهل العامة، وحثالة الفقراء وزهو الأغنياء. ولم تخل كتابات الأدباء والشعراء والمفكرين والساسة الكبار للنصف الثاني من القرن التاسع عشر وحتى عشرينيات القرن العشرين من اثر مباشر وغير مباشر للتصوف فيها. إذ نعثر عليه في كتابات الطهطاوي وخير الدين التونسي، والأفغاني ومحمد عبده، والكواكبي وأمين الريحاني، والشدياق والمويلحي. ويعكس هذا الاشتراك في ميدان اللغة رد الفعل التلقائي على ما في تحّجر الوهابية وصلفها العملي من تضييق للوجدان الآخذ في الانعتاق من أسر الحياة الرخوة في ضواحي العثمانية المتهرئة. فإذا كانت الوهابية قد استثارت الضمير العربي وإسلاميته المتحزبة، فإنها لم تستطع أن تؤسس لإشكالية الانتماء العربي بمعايير الفكرة الثقافية. أما "التصوف الفاعل" فانه استثار الضمير العربي في وجدانيته الإسلامية، ولكنه لم يستطع أن يؤسس لإشكالية الانتماء العربي بمعايير الرؤية السياسية العملية. ومع ذلك ساهم كلاهما من الناحية الموضوعية على استثارة قضية الانتماء، كما استثارا في ظهورهم وصراعهم وأفكارهم حوافز الإحساس والإدراك الثقافي والسياسي الكامن في فعل التحدي السافر للوثنية" و"الإفرنجية".

لقد رجمت الوهابية القبور والقصور دون الالتفات إلى من فيها أولياء كانوا أم أنبياء. وملئت بأحجارها وحصاها زوايا التصوف المظلمة، مما اجبر شيوخها ومريديها على الاستفاقة من غيبوبتهم وسكرهم، والخروج من عزلتهم واختبائهم وراء "حجاب الحق" إلى عوالم الحضور والصحو والأنس "المتدرع بالخلق". وإذا كان لهذه المعادلة معناها العميق في سلوك الأولياء والشيوخ العظام القدامى، فإنها لم تعد عند نهاية القرن التاسع عشر أكثر من "محاكاة" فجة لنماذجها الروحية الكبرى. وذلك لان خروج الصوفية في مرقعات دراويشهم الرثة جعلهم غرباء لا بالمعنى الصوفي، بل بالمعنى التاريخي. فقد كان من الصعب إدراك "غلبتهم" الجديدة بالوجد الإصلاحي، الذي صوره الحديث الممجد للإصلاح في كلمات "طوبى للغرباء" باعتبارهم "ورثة الأنبياء". لقد واجهوا للمرة الأولى "غربتهم" كاغتراب عن الواقع. وحالما حاولوا النظر إلى أنفسهم بمرآة الوجود، فإنهم لم يروا سوى عزلة أحوالهم وضآلة وجدهم، لأن مرآة "الوجود الحق" هي مرآة الوجود الثقافي للأمم. ولا أمة عربية آنذاك! مما حدد بدوره جوهرية الكينونة الإسلامية في "التصوف الفاعل"، مثلما حدد قبل ذاك في الوهابية. وأدى ذلك في مجرى الرجوع إلى أصول الإسلام الأولى إلى مواجهة واقع الإسلام السائد، باعتباره إسلاما بلا أصول ولا جذور. فالإسلام الجذري والأصولي هو الإسلام العربي المتراكم في تجارب العربية الثقافية.

كان إسلام الوهابية و"التصوف الفاعل" إسلاما مجردا، بلا ضمير ملموس. لان ضميره الغائب هو العربية الثقافية، والذي كان يصعب إعرابه بمعايير "الأصول" الوهابية و"الكلمة المحمدية" "للتصوف الفاعل". ولم يكن ذلك بسبب ضعف "الأصول" و"الكلمة المحمدية" بحد ذاتهما، بقدر ما أن كل منهما كان يفتقد لتاريخه الخاص. فالأصول الوهابية هي ليست أصول الثقافة الإسلامية، كما أن الكلمة المحمدية في "التصوف الفاعل" ليست الكلمة المحمدية للتصوف القديم. فالهوّة المتعمقة بأثر غياب التاريخ السياسي المستقل للعالم العربي ومركزيته الثقافة ابتلعت في جوفها كامل تاريخ العربية الثقافية.

فإذا كانت الأصول في الثقافة الإسلامية تستند إلى تاريخ عريق في صراع المدارس والعقائد سواء من حيث مواجهاتها الاجتماعية والسياسية وتأسيسها النظري، فان أصول الوهابية "واحدية" لا خلاف فيها ولا حولها، أي أنها تفتقد إلى روح الصراع الفاعل فيها. كما أنها منقطعة عن تاريخ المواجهات العنيفة والسلمية، والغلوّ والاعتدال باعتبارهم الممر الضروري لصيرورة الروح الثقافي وأثره في الوجود التاريخي للدولة والأمة. وينطبق هذا أيضا على "الكلمة المحمدية"، التي لم تكن في منظومات التصوف الكبرى نصا قرآنيا ولا حديثا نبويا بل حقيقة متسامية في ظاهر وباطن المرجعيات الإنسانية (المشخصنة) والروحية للأمة. إذ ليست "الكلمة المحمدية" سوى الصيغة المجردة للمرجعيات المتجددة وإبداعها الدائم عند الأئمة والأمة على السواء. أما في "التصوف الفاعل"، فإنها لم تتعد في أفضل الأحوال عن كونها مطالعة فردية ومعاناة جزئية لاستنزال قيمتها المجردة إلى واقع عاجز عن تمثلها وتمثيلها. من هنا استعاضة "التصوف الفاعل" عنها "بأصول الوهابية"، أي مسايرة الوهابية في أصولها عبر استدرك هذه الأصول في تاريخ التصوف نفسه. مما جعلهما يشتركان في رفضهما للمذاهب والتاريخ. فقد كان الرفض فضيلة وخطوة إلى الأمام، لأنه حدث في تاريخ بلا تاريخ للمذاهب فيه. لذا كان النظر في "بداية" التاريخ الإسلامي، باعتباره بدايتهما ومنطلقهما يحوي على محاولة استعادة الصلة الفعلية المفقودة بالماضي لا الرجوع إليه كليا. وتقوم مأثرتهما هنا في أنهما كلاهما الزما الجميع بتأمل الشعلة الأولى لا تلمّس رمادها المتراكم في مراحل الانحطاط وتهشم الكيان السياسي العربي وتلاشي مركزيته الثقافية. فقد تحولت المذاهب والمدارس والتاريخ إلى صندوق مغلق وتجارب ميتة. فالتجارب العظيمة للتاريخ تصبح ثقلا خانقا وكابوسا كثيفا حالما تتحجر في نصوص ملزمة تحتوي على كامل "علوم الأواخر والأوائل".

أما الحصيلة النهائية لتداخل الوهابية و"التصوف الفاعل"، فإنها تقوم في توليدهما شرارة البحث في النص والكلمة عن معنى وجداني عملي. فالكلمة والنص هما ضمير الثقافة. وشأن كل ضمير قابل للحضور والغياب. ومأثرة الوهابية و"التصوف الفاعل" بهذا الصدد تقوم في استثارتهما الضمير الإسلامي في الثقافة. وهو السبب الذي يفسر سرّ بقائهما معلقين في فضاء الثقافة المجردة، أي أننا لا نعثر فيهما على تاريخ في تأسيس الفكرة، ولا تاريخ في الوجدان. وسبب ذلك يقوم أولا وقبل كل شيء في افتقاد العالم العربي آنذاك لتاريخه السياسي المستقل، مما حدد بدوره غياب الأفكار الاجتماعية السياسية المستقلة، والرؤية التاريخية المستقلة، والرؤية الإشكالية "للآفاق والأنفس"، أو المعاصرة والمستقبل.

وأدى كل من الطابع العملي المباشر للوهابية، وصيغته الوجدانية في "التصوف الفاعل" إلى ظهور إشكالية الأصل والعقل والحق والدولة، بوصفها إشكاليات المبادئ المجردة لا إشكاليات الوجود التاريخي العربي المعاصر. لهذا اندرجت عندهما مفاهيم وقضايا المعاصرة والمستقبل في استعادة "البداية الحقة" للماضي، ولعبت دور القوة المنحلّة في التاريخ والمخيلة. بمعنى سيادة التقليد والخيال في العلم والعمل، والرؤية والفعل. وهو تناقض يحتوي في أعماقه على احتمالات متعددة للتطور. إذ لا زيف في هذا التقليد والتخيل، وذلك لأنهما كانا عناصر "الرجوع إلى الماضي الحق"، والصيغة الوحيدة القادرة على ملئ الفراغ التاريخي بين بداية الماضي والحاضر، أي توهم واعتقاد انه لا ماض ولا فراغ، بل يوم جديد دائم، كما هو الحال عندا النائم حالما يستفيق. غير أن الصحوة تلزمه بالنظر إلى يومه الجديد على انه جزء من حياة لها ماضيها. وتعمّق هذا الإدراك في مجرى صيرورة الكيان العربي المعاصر وتنامي وعيه الذاتي، الذي شكلت تجربة الإصلاح المصري زمن محمد على باشا، نموذجها الأول والأكبر. حقيقة أن كل منهما لم يدرك معالم وجوهرية العربية الثقافية بالنسبة للحاضر والمستقبل. من هنا صدامهما الحاد واندثارهما اللاحق بفعل تنافر أولوياتهما. وليس مصادفة أن تتحول العربية (اللغة) إلى الدولة الوحيدة المستقلة بعد انحسار العربية في الجزيرة وانحسار تجربة محمد علي باشا النهضوية.(يتبع....).

 

ا. د. ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم