صحيفة المثقف

طلاقة اللسان الأدبي ومهمات الفكر الحر(3)

اميثم الجنابيلعقلانية واللاعقلانية في الفكر العربي الحديث (5)

لقد تميزت رؤية الكثير من شخصيات النهضة العربية الحديثة بمواقفهم النقدية والعقلانية تجاه مختلف جوانب الحياة، بما في ذلك نقد الغرب من خلال نقد التقليد الأجوف لمظاهر التمدن الأوربي. فقد كشف الشدياق عن رذائل المبشرين الأوربيين سواء في ركاكة اللفظ والمعنى المميز للغتهم أو في دعوتهم النصارى إلى الزهد والتقشف بينما لا همّ لهم غير السرقة والاستحواذ على ثروات البلاد، إضافة إلى نشرهم صفات البخل والحرص والطيش والسفاهة. وفي معرض انتقاده لأبناء جنسه الذين عاشروا الإفرنج ولم تسترق طباعهم منهم إلا الرذائل دون الفضائل. واعتبر اغلب ما يشاع عن الغرب تعظيما أو تسفيها مجرد أوهام. ووجد في أكثر من يحب بلدان الغرب من العرب لا لأكلها ومائها وهوائها وأخلاقها وسلوكها، بل لفجورها!

بينما حاول بطرس البستاني أن يعطي لموقفه الفكري من التقليد الحضاري بعدا فلسفيا من خلال تعريفه ما اسماه بالتمدن الحقيقي والتمدن الأجوف ومن هذا المنطلق انتقد تاريخ التمدن وتاريخ التقليد فيه. ففي معرض انتقاده تاريخ التمدن اليوناني والروماني والعربي اعتقد بان كل منهم لم يقدّر الإنسان والمجتمع جميعا في كل جوانبهم. وان هذا التمدن لم يشمل جميع الشعوب والأمم. ونفس الشيء يمكن قوله عن التمدن الأوربي المعاصر. وبغض النظر عن سموّه إلا انه جزئي ويسوده حب التسلط والفحشاء وغيرها من الرذائل. ووضع هذه الفكرة في أساس نقده الذاتي من خلال التركيز على الفكرة القائلة بان كل شيء مميز في هذه الدنيا قابل للتقليد والتزوير بما في ذلك بضاعة الغرب وسلوكه. غير أن هذا السلوك سوف يعرض التمدن في العالم العربي للفشل. وإذا كان من الممكن الاتفاق مع التقليد السليم، فان ليس كل ما في الغرب سليم ومفيد وموافق لنجاح الشرقيين، كما يقول بطرس البستاني. لان مظاهر التمدن في حالة أخذها لحالها لا تدل على تمدن، بل على العكس أنها قشور مؤذية.

وأعطى سليم البستاني لهذه الفكرة أبعادا سياسية من خلال اكتشافه البعد المدمر لتقليد الغرب في العالم العربي. فهو يشير إلى أن تقليد الأجنبي في المأكل والملبس يؤدي إلى إفراغ البلد من ثرواته. وان التوجه الاستهلاكي المقلد للغرب يؤدي إلى انحلال الصناعة المحلية واضمحلالها. لهذا طالب بدعم الصناعة المحلة من حلال دعمها المادي والمعنوي ورفض تقليد الغرب في المأكل والملبس. ودعا لتربية الجيل الناشئ بجب واحترام الصناعات المحلية وبضائعها. وهو موقف يعكس رؤية واقعية في نقد الواقع ونقاط ضعفه الأساسية، التي حصرها أديب اسحق فيما اسماه بعدم رؤية الشرقي للعبرة لا فيه ولا في غيره. بمعنى ضعفه البنيوي الشامل. وهو واقع دعاه سليم البستاني بالفساد الشامل للدولة والمجتمع (فساد الرؤساء وانتشار الرشوة والكذب في الاجتماع والاقتصاد والتجارة والزراعة والأخلاق).

كان اتقاد الغرب في نفس الوقت نقدا ذاتيا، بفعل استثارته مشاعر الاحتجاج الصادق ضد حالة الانحطاط المعنوي للدولة (العثمانية). مما حدد بدوره إفراط الوجدان في طلاقة اللسان وبالعكس. أما السبيكة الحية للوجدان واللسان في الاحتجاج ضد الحالة القائمة، فقد كان لابد لها من استثارة مشاعر الاحتجاج الصادق على حالة الانحطاط المعنوي للعرب أنفسهم. فسليم البستاني نفسه يشتكي في أحد مواقفه قائلا "هل نقول قد راحت طوالع سعد الأمة فلا تعود إلى رعتها، وقد لبط بها فلا تنهض؟ لان صدر الدهر قد وغر عليها وأيادي الزمان قد تخللتها النوائب، وقد لشت فلا تقدر أن تأتى بما يمهجها بعد أن خدشت ناعم وجنتيها جيوش الرزايا والآفات بعد أن كانت تجر ذيول المجد والعزّ؟" بينما كثف إبراهيم اليازجي حزمة الأضواء الساطعة وسلطها على خبايا الخلل المعنوي للعرب عندما خاطبهم قائل

فيم التعلل بالآمال تخدعكم 

 وانتم بين راحات القنا سلب

الله اكبر ما هذا المقام فقد  

شكاكم المهد واشتاقتكم الترب

كم تظلمون ولستم تشتكون وكم  

تستبغضون فلا يبدو لكم غضب

ألفتم الهون حتى صار عنكم  

 طبعا، وبعض الطبع مكتسب

  استتبع نقد الذات تعميق المحتوى العقلاني للأبعاد التحررية والاجتماعية والقومية. أننا نلاحظ على سبيل المثال، تزاوج الدفاع عن المرأة ونقد رياء رجال الدين عند الشدياق. حيث انهمك فيها للدرجة التي جعلته يرى في جمال المرأة نفيا لقبح رجال الدين، وجعل من إبراز تفاهة رجال الدين أسلوبا لتعظيم النساء. وكشف عن دقائق هذه التناقضات كما لو انه أراد أن يرينا طبيعة التناقض القائم في الوجود العربي آنذاك بين ثقل وجمود وقمعية الهياكل المقدسة الزائفة وبين الهياكل المسجونة في كيان المرأة باعتبارها تجليا وتجسيدا للجمال. واعتبر قول من يقول عنه انه ألف كتابا عن النساء يفضلهن في على سائر المخلوقات أمرا مدعاة للاعتزاز. لذا نراه يتناول حركاتهن جمالهن وخواطرهن وأفكارهن وكل ما أختصن به. ووجد فيهن زخرف الكون ونعيم الدنيا وزهاها وغبطة الدنيا ومناها، وسرور النفس ومشتهاها، وروح الروح وجنة الجان، ولذة الحواس ونزهة الألباب، وزينة الزمان وبهجة المكان! بل استفرغ قاموس اللغة العربية في وصفها الواقعي والخيالي. بل اظهر جمالها في "شرورها" أيضا. ودافع عن حريتها بحرارة صادقة، وصدّ كل ما يفتري على عقلها ووجدانها وهواجسها وخواطرها وسلوكها. وعرض على لسان زوجته كيف أن "الحكمة" السائد عن النساء كتبها رجال. ومن ثم فهي تعّبر عن مواقفهم ومصالحهم فقط. وان كثرة اختلافهم بالنساء تجعل من "حكمتهم" عرضة للشك. وجعل من الدفاع عن المرأة ميدان الدفاع عن الحرية، ومن خلالها حاول التأسيس أيضا لحرية الإنسان من خلال البرهنة على أن الحياة أوسع وأعمق وأجمل مما هي عليه في تصور وحكم أيا كان. وتول في مجرى تأمله للحياة إلى أن من نظر إليها بعين المعقول والى ما اختلف فيها وما ائتلف من الأحوال والأطوار والجواهر والأعراض والعادات والمذاهب والمراتب والمناصب، وجد أن كل شيء يمر عليه فيها يفوق كنهه وإدراكه ويفوق تأمل. لان حواسنا وان تكن قد الفت أشياء، إلا أن تلكم الأشياء لا تنفك في نفس الأمر عن كونها معجبة محيرة كما يقول الشدياق.

ودفع أدباء النهضة بشكل عام فكرة الحرية الفردية والاجتماعية صوب أبعادها السياسية. ففي (غاية الحق) لفرانسيس مراش يجري تحويل حرية اللغة إلى لغة الحرية. ففي جمال اللغة نعثر على عمقها البرهاني لا على نموذجها البياني. وتجلى ذلك في الصيغة الرمزية للغة كما لو انه أراد أن يعبرّ عن خرس الواقع بإشارة مثيرة. وحاول عبر جمال اللغة أن يصور التاريخ بالحلم الذي يحوي في ثناياه على مسار الحضارات وغزو وتقاتل من اجل الحطام وتناحر على الغنيمة، إلى أن رأى مكتوبا عليه (العقل يحكم). ومن خلاله رأى بيرقا يخفق وعليه شعار (العلم يغلب. وهو بيرق التقدم الحديث، الذي بنى مجده على أساس الاختراعات العلمية والاكتشافات المذهلة والمدنية المترامية المتنورة بأسلحة الحكمة والعدل والمتدرعة بروح الحرية المنقضّة على عوالم الظلام. وجسّد فكرته هذه في القصة الرمزية التي تبرز فيها عرش الحرية على هيئة جبار بسيف على رأسه تاج مكتوب عليه (يعيش ملك الحرية)، وعرش الحكمة على هيئة امرأة تجلس وعلى رأسها تاج مكتوب عليه (تحيا ملكة الحكمة) من حروف نارية. وبينما ملك الحرية يرعد فان زوجته (الحكمة) تهدئه. وفي هذا الأثناء يدخل قائد جيش التقدم ووزير محبة السلام. والمقصود بالجيش هو جيش الحرب على التخلف والجهل بسلاح التربية والتعليم، ووزير السلام إلى الجميع لان العالم واحد. إلا أن الجدل مع ذلك لم يخفت. عندها يدعو الملك فيلسوفا ليشرح له موقفه ويهدئه ويقنعه. ويجيب الفيلسوف على أسئلة الملك عن ماهية وقيمة مملكة الروح التي ينوي غزوها، بأنها المملكة الوحيدة القادرة على ردع الأنا، والتي تعجز الحكومة المدنية عن القيام بها. من هنا دعوة الفيلسوف من اجل تحقيق هذه المملكة عبر نشر العلم والمعرفة والتأسيس للتمدن المبني على خمس دعائم هي تهذيب السياسة، وتثقيف العقل، وتحسين العادات والأخلاق، والصحة، والمحبة.

إننا نرى في هذه الأفكار الصيغة الأدبية الأولى لبناء "مملكة الروح"، باعتبارها النظام الاجتماعي السياسي الاقتصادي الأمثل. إذ لا تعني مملكة الروح في الواقع سوى مملكة الحرية. ولم تعد الحرية هنا اشتقاقا للكلمة من قواميس اللغة والروح والجسد فحسب، بل وذوبانها في الرؤية الواقعية عن الحرية الحقيقية. بهذا المعنى يمكن القول، بان فرنسيس مراش تحسس وتلمس ووضع الصيغة الأدبية الأولى لتأسيس فكرة الحرية من خلال إرساءها على ركني العلم والتمدن. أي التأسيس لعقلانية الحرية. إذ ليست وحدة العلم والمعرفة بوصفها أساس دعائم التمدن الخمس، سوى هيكل الفكرة المتجانسة عن حرية العقل والروح والجسد، أي الكيان الشامل للفرد والجماعة والدولة.

وبهذا المنحى أيضا سارت آراء أديب اسحق في محاولته تأسيس وتثوير العلاقات الاجتماعية من خلال إشراك المجتمع في ترسيخ حريته الفردية والجماعية. من هنا انتقاده خمول الجمهور، حيث اعتبر غيابهم عن المشاركة الفعلية في الحياة السياسية أحد الأسباب الكبرى للتأخر. واعتبر لهذا السبب الفكرة القائلة، بان "تغير النظام مجاراة للأحوال مخالف لأحكام الشريعة" فكرة باطلة، لان اغلب مفكري الإسلام الكبار اجمعوا على عكسها. فأبو بكر ابن العربي على سبيل المثال، قال بوجوب الاستشارة باعتباره أحد أسس الشريعة في الحكم. واجمع الفقهاء والمفكرين المسلمين على أن القصد من أعمال الإمام (السلطة والدولة) المصلحة العمومية. وجعل أديب اسحق من العدل والحرية غاية المصلحة العمومية. ووجد ذلك انعكاسه في إعطائه لشعارات الثورة الفرنسية أبعادا ملموسة في ظل السلطة العثمانية (والعالم العربي). فقد جعل من الاتحاد والمساواة والعدل والعلم والحرية حلقات ضرورية في سلسلة الإصلاح الحق.

يعكس صعود فكرة الإصلاح واحتلالها حيزا متسعا في فكر أدباء النهضة العربية التوسع الطبيعي الذي بلغته إيماءات العقل الناطق. فقد كانت عباراتهم المتحمسة ونقدهم اللاذع وأشعارهم وقصصهم، ورموزهم ومجازهم تطوي ين جوانحها أصوات الرغبة العارمة للخلاص من ثقل الاستبداد العثماني والعبودية الاجتماعية. وحالما جرى تحويل هذه الأصوات إلى لغة معقولة، والإيماءات الخرساء إلى ما صريحة، فان إشكاليات الإصلاح أصبحت موضوعا مركزيا للفكر وتأملاته، بحيث تحولت مشكلة الإصلاح إلى مشكلة جامعة. ومع أنهم تطرقوا إليها بمستويات مختلفة، إلا أنها ظلت تقض مضاجعهم ووعيهم الأدبي وتجبره على التفلسف والتسييس. فنرى بطرس البستاني، على سبيل المثال، يتطرق إلى قضية الإصلاح من خلال انتقاد التمدن المزيف، حيث وجد فيه إفلاسا للحالة الاجتماعية والسياسية والروحية للمجتمع والدولة. وحاول ربط التمدن الحقيقي بما اسماه بالتهذيب الداخلي والخارجي. وجعل من ترسيخ وتعميق المعارف والآداب والفضائل مضمون التهذيب. لان التمدن الحقيقي هو الذي يعبّر عن الحالة الاجتماعية التي توافق نمو كل قوى الجنس البشري أفرادا وإجمالا، كما يقول البستاني. وقد أدت هذه الفكرة إلى الإقرار بضرورة تطوير مختلف جوانب الحياة المادية والروحية من خلال رفع مستوى أفراد المجتمع رجالا ونساء. وربط التطوير الشامل للمجتمع بعوامل ثلاثة  هي "الديانة الصحيحة" و"الحكم السياسي" و"وسائط اكتساب الآداب". واعتبر الديانة السليمة تلك التي تدعو للعلم والأخلاق السليمة. أما المقصد بالحكم السياسي فهو الحكم المتمدن الذي يمثل قدوة للمجتمع في الفضائل، والذي يدرك انه لا حكم متمدن على شعب غير متمدن. أما وسائط اكتساب الآداب فهي المدارس والمكتبات والمجلات والجرائد.

بينما وجد سليم البستاني في الإصلاح علاجا لأمراض الدولة والمجتمع. وانطلق من الفكرة القائلة بان الأمم تمرض كما يمرض الأفراد. ولكل أمة أمراضها، وأسباب خاصة لأمراضها تختلف باختلاف الزمان والمكان والدين والذوق والفطرة. وأن التاريخ مرآة معرفة هذه الأمراض. ففيه نتعرف على أسباب ارتقاء الأمم وسقوطها. وفي حالة تطبيق ذلك على العالم العربي (والعثماني ككل)، فان أسباب سقوطه تنحصر في التعصب الديني والطائفي والانشقاق الداخلي. ووضع هذه الرؤية في افتراضاته عما اسماه بأساليب تلافي السقوط، وذلك عبر الارتقاء بالدولة والمجتمع وتحسينهما، انطلاقا من أن الشعب شبيه بحكومته، وكذلك توسيع العلوم وليس اللغة فقط. وهي أساليب لا يمكن تجسيدها دون تحسبن حال الدولة، والسياسة المخلصة المبنية على العدل، والعمل دون الكلام، والاتحاد بالضد من الانشقاق، وترتيب نظام السياسية على القدر الذي تقتضيه مهامها.(يتبع....).

 

ا. د. ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم