صحيفة المثقف

حَدِيثُ الْفِرْقَةِ النّاجِيَةِ وَمَبانِي مابَعْدَ الْحَداثَةِ

حَديثُ الفِرْقَةِ النّاجِيَةِ الذي رواهُ المُحَدِّثُونَ عن النَّبِيِّ (ص): (سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي الى ثَلاثٍ وسبعينَ فرقة، كُلُّها في النّارِ الاواحدة) . رواه احمد بن حنبل في فضائل الصحابة برقم 1068، ورواه الكثير من المحدثين، وعَدَّهُ السُّيُوطيُّ مُتَواتِراً .

 لا اُريدُ أَنْ أُناقشَ سَنَدَ الحَديثِ وَمَتْنَهُ، وَأَحْتَرِمُ مَنْ ناقشَ الحديثَ مناقشةً سَنَدِيَّةً وَدِلالِيّةً، وفق موازين وضوابط علوم الحديث، مهما كانت النتيجة التي توصلَ اليها . ولكنَّ المُشْكِلَةَ فيمن يرفضُ الحديثَ المَذْكُورَ استناداً الى المِزاجِ أَو الى مباني مابعدَ الحداثَةِ .

 مابَعْدَ الحَداثَةِ جاءت رَدَّةَ فِعْلٍ على الحَداثَةِ . الحَداثَوِيُّونَ كانُوا يُؤمنونَ بوجودِ حقيقةٍ مُطلَقَةٍ خارجَ اذهاننا وَتَصَوُّراتِ عُقولِنا، وأَنَّ العقلَ بامكانِهِ ادراكَ هذهِ الحقيقة، ولاحاجةَ الى الوحي والدين في ادراك هذهِ الحقيقةِ . اَمّا مابعدَ الحَداثويينَ، فهم لايرون وجود حقيقة مطلقة خارج اذهاننا يقوم العقلُ باكتشافها، وانما يقولون ان الحقيقة لاتُكتَشَف وانما نحنُ نخترعها، ولكلِّ واحدٍ منّا حقيقتهُ التي تخُصُّهُ. الحقيقةُ نِسبِيَّةٌ عند مابعد الحداثويين . ومابعدَ الحَداثَةِ ليستْ عِلماً وانما هي مزاجٌ عامٌ تركَ بَصَماتِهِ على حياةِ الناسِ ودخلَ في تفاصيلِ حياتِهم . وَأَثَّرَ على طَرائِقِ تفكيرِهم . مابعدَ الحداثويينَ فَسَّروا الحديثَ تفسيراً (مابعد حداثوي)، فَسَّروهُ على اساس نسبية الحقيقة، فحكموا على كل آراءِ الفِرَقِ المتعارضة والمتناقضة بالنجاة، حتى انهم اعتسفوا تفسيرَ النصوص الواضحة الدلالة اعتسافاً . واتجاه مابعد الحداثةِ أَثَّرَ على تفكيرِ بعضِ المفكرين في تناولهم لنصوص القرآنِ وفي تأويلهم لظاهرةِ الوحي وتصحيح كل المعتقدات المختلفة والمتعارضة تفسيراً مابعد حداثوي على اساسِ نِسْبِيّةِ الحقيقةِ .

حَدِيثُ الفرقةِ الناجيَة وازدواجيّةُ المَجال

حديثُ الفرقةِ الناجيَةِ يتحدثُ عن مجالَيْنِ، مجالٌ دُنْيَوِيٌّ (ستفترقُ امتي الى ثلاثٍ وسبعينَ فرقة) هذا هو المجالُ الدنيوي، كل هذه الفرق الثلاث والسبعين  المُنْضَويّةُ تحتَ عباءةِ أُمَّةِ النبي (ص)، كلها يجمعها الاسلام، وينبغي ان تتعايش دنيوياً ويحترم بعضها البعض الاخر ويتعايشون بحبٍ ومودة رغم هذه الاختلافات . وفي الحديث مجالٌ أُخروي وهو عنوان (النَّجاة)، النجاةُ شأنٌ أُخروي نحنُ غيرُ معنيين به . وهو لايدعونا الى الاحتراب والاقتتال؛ لانّهُ ليسَ شأننا، هو شَأنُ الله تعالى . (ن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).المائدة: الاية:(118). العذابُ والمَغفِرَةُ شَأنٌ اخروي يرجع الى الله تعالى الذي وسعت رحمتُهُ كلَّ شيء .

 لاداعي ان نستنسخَ تجاربَ الاخرين، فالاخرون الاخرةُ ليست في حساباتهم ؛ فليس لهم شأنٌ أُخروي، هم معنيّونَ بالشأنِ الدُّنيويِّ، والعلمنة عندهم هي الاهتمام بالشأنِ الدُّنيويّ وفصله عن الشأن الأُخرويّ، ومقولةُ الدولة المدنيّة شأنٌ دُنْيَوِيٌّ لتنظيمِ حياةِ الناس ِ وطرائقِ معاشِهم في دنياهم.

حديثُ الفرقةِ الناجيَةِ وفقَ مباني مابعد الحداثةِ التي تقولُ بنسبيّة الحقيقة حديثٌ مرفوضٌ وأَنَّ الجميعَ ناجون، ووفق القول بالحقيقة المطلقة لايمكن ان تكون كل هذه الاتجاهات المتعارضة والمتناقضة ناجية ؛ فلابد ان تكون واحدة ناجية . امّا وفق التفصيلِ الذي ذكَرْتُهُ من التمييز بين الشأن الدنيوي والشأن الاخروي، فنحن في الدنيا تجمعنا خيمة النبي (ص)، فينبغي ان نتعايش ونتسامح ويعذر بعضُنا بَعْضاً في اختلافاتِنا. وهذا الحديثُ وفق مبدأ التمييز بين الشأنين الدنيوي والاخروي لايؤسس لاحترابٍ طائفي وحروب داخليّة. الاحترابُ سببُه فينا، وهو اننا لم نتدرب على قبول الراي الاخر واحترام الاخر .

القرآنُ الكريم تحدّثَ عن الشأنين :

(وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ).التوبة: الاية: (6)، هذا هو الشأنُ الدُّنيَوِيُّ للمشرك، وامّا الشأن الأُخرويُّ للمشرك فقد تَحَدَّثتْ عنه الاية الكريمة التاليّة:

(إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا).النساء: الاية: (48). هذا هو الشأنُ الأُخروي للمُشركِ، وهذا الشأنُ متروكٌ الى الخالق ان شاءَ عّذَّبَ وان شاءَ رَحِمَ، ولايجوز الخلط بين الأَمرَينِ .

 

زعيم الخيرالله

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم