صحيفة المثقف

النشأة الأولى ونظريّة الفَيض عِندَ الفيلسوف أفلوطين (3)

 اكرم جلال كيفيّة أنبعاث الكثرة:

 أمّا الواحد الأوّل (الحق) فَهو الأصل الأعظم ووحدانيّته حقيقيّة وهو الخير المَحض، ليسَ له شبيهٌ يشابهه ولا مَثيل يماثله، والصادر الأوّل عَنِ الواحد هو في حقيقته واحد لكنّه ذو كثرة، وفي ذلك يقول أفلوطين: (ولكن كيف تنبعث منه أشياء كثيرة؟ ألا، إنَّ الأشياء التي تنبعث منه ليس شأنها أن تكون مثله.

 وإن لم تكن مثله، فإنَّها ليست أشرف منه، ولعمري ما عسى أن يكون أشرف من الواحد أو فوقه بوجه من الوجوه؟)1، فالموجود الأوّل وهو دون الواحد الحق وأنَّه نقص منه لذلك فإنَّ وحدته فيها كثرة، وفي هذا يقول أفلوطين:

 (إنّ تلك الأشياء إنَّما هي دون الواحد إذاً؛ وهذا يعني أنَّها نقص منه. وما عسى أن يكون ما هو أنقص من الواحد؟ ألا، إنّه ما هو ليس واحداً؛ فهو ذو كثرة؛ على أنّه يسعى إلى أن يكون واحداً. أنّه واحد ذو كثرة إذاً. فإنّ كلّ ما لا يكون واحداً إنّما يبقى مُتماسكاً بفضل الواحد، وبفضل هذا الواحد يكون كما هو عليه في ذاته: وما لم يُصبح واحداً، إن كان مركّباً من أشياء كثيرة، فإنّا لا نستطيع أن نقول فيه أنّه ((موجود حقاً)).

 وإن كنا نستطيع أن نحكم في كل شيء من هذه الأشياء أنّه واحد، فذلك لأنّ هذا الشيء إنما هو واحد ولأنه يبقى دائماً على ما هو عليه في ذاته. فليس واحجاً بمشاركته للواحد في كيانه، بل إنّه هو الواحد بالذات....)2.

 والكثرةُ في الصادر الأوّل عنِ الواحد الحق هيَ كثرةٌ تتمايز فيما بينها بالعقل فَسُمّيَ الصادر الأوّل بـ"العقل"، بينما أسماه أفلوطين الروح إنطلاقًا من أن تركيب هذا الصادر الذي هو تركيبٌ روحانيّ.

 وأمّا إنبعاث الأشياءِ عن الواحد والتي بيَّنَها أفلوطين من خلال تصنيفه للفعل، فهو يقول أنّ الفعل عبارة عن فعلين، فعلُ الذّات وفعلٌ يَخرج عَنِ الذّات نتيجة قُوّة عظيمة، ففي تاسوعاته يشير إلى هذا المعنى بقوله: (إنَّ الفعل إنّما هو فعلان؛ فعل هو فعل الذات أصلاً، وفعل يخرج من الذات التي يقوم الشيء بها.

 أمّا فعل الذات فهو الشَّيء ذاته محقَقاً في ذاته؛ أمّا الفعل المُنبعث من الذات، فهو ما يجب فيه أن يكون التِبعَ في كل شيء حتماً، وهو آنذاك يختلف عن هذا الشَّيء في ذاته. مثل ذلك مثلما أنّ في النار حرارة تحقّق ذات النار وحرارة تنشأ عنها إذا فعلت النار فعلها المطبوعة عليه ذاتاً مع بقائها ناراً. وكذلك الأمر في الملأ الأعلى أيضا، بل إنّه بالملأ الأعلى أحرى: يبقى الأول في ما هو عليه طبعاً، قائماً في كماله ومع فعله فيُصبح بهما الفعل المولود منه فعلاً قائماً في ذاته لأنّه ناتج عن قوّة عظيمة، لا بل عن القوّة العُظمى بين القوى) 3.

 ونحن في هذا المقام لا نودّ إقحام النص القرآني أو ليِّ عنق الروايات والأحاديث عن المصطفى وأهل بيته عليه وعليهم السلام لنجعلها منسجمة مع فلسفة عقلية روحية أو إثبات رؤية هي محل خلاف بين العلماء، فهذا تحديدًا ما سنشرحه بالتفصيل وسنتوقّف عنده في الفصول القادمة، إنَّما هي قراءة محايدة وعرض لدلالات قرآنية وأحاديث نقدمها من أجل التدبر والتفكر وتوضيح المغزى وإكمال الصورة، من هنا ومن أجل التقريب ما بين النصّ الذي أشار إليه أفلوطين والرؤية الإسلامية في هذا السياق، نشير إلى أنَّ المراد من فعل الذات إنّما هو علم الله تعالى، والفعل الثاني هو أمره بخلق ما هو عالمٌ به بفعله الأوّل، وأنَّ الفعل الثاني إنَّما هو الفيض المقدّس وهو الفيض الإيجادي المرتبط بـ"كُنْ" في الآية المباركة: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾، [يس: 82].

 وبإسناده إلى جابر الجعفي، عن أبي جعفر عليه السلام قال:) يا جابر كان الله ولا شيء غيره (و) لا معلوم ولا مجهول، فأوّل ما ابتدأ من خلق خلقه أنْ خَلَقَ محمدًا صلّى الله عليه وآله وخلقنا أهل البيت معه من نور عظمته فأوقفنا أظلة خضراء بين يديه حيث لا سماء ولا أرض ولا مكان ولا ليل ولا نهار ولا شمس ولا قمر يفصل نورنا من نور ربنا كشعاع الشمس من الشمس نسبح الله ونقدسه ونحمده ونعبده حق عبادته، ثم بدا لله أن يخلق المكان فخلقه)4.

 والفعل الذي يَخرج عنِ الذّات كما وَصَفَه أفلوطين هو ثابت في علم الواحد، فَكُنْ هو الأمر في إخراج وإصدار الشيء وهو نابع بالأساس ومُثبّت في فعلهِ الأوّل، فجميع الموجودات إنَّما كانت موجودة في علمهِ الأزليّ، وبفيضٍ من الواحد من خلال القول الإلهي كُنْ تخرج هذه الموجودات، حيث يُشَبّه أفلوطين طريقة إنبعاث الكَثرة مِنَ الواحد كَمَثَل النورالمُنبعث من الضوء، فرغم أنّ الضوء واحد إلّا أنّ النور ينتشر ليشمل أشياء كثيرة.

 فهو يُشَبّه الواحد بالنور، ويشبّه الصادر الأوّل عنه (الروح) بالشمس، والنفس بفلك القمر؛ وهذا التشبيه مردّه إلى أنّ القمر يَستمدّ نوره من الشمس، وأمّا الشمس فإنّ النور الذي فيها إنّما هو الذّات المُشعشعة، فهي الأخرى من أصل النور الذاتي. وفي ذلك يقول أفلوطين: (... وكيف نتصوَّر هذا الأمر الثاني الذي يبقى كذلك حول الواحد؟ نُجيب: نتصوّره على أنّه إشعاع ينبعث من الواحد؛ أجل إنّه ينبعث من الواحد الذي يبقى ثابتاً في ذاته. مثل ذلك مثل الشمس: فإنّ إشعاعها إنَّما يكون من حولها وكأنّه يُحيط بها، وهو ينبعث منها دائماً، ثم تبقى على حالها)5.

 وفي صورة أكثر إشراقًا وتوضيحًا في هذا الشأن، يقول أفلوطين: (وينبغي أن نشبّه الأوّل بالنور، وما يليه بالشمس، والأمر الثالث بفلك القمر الذي يستمد النور من الشَّمس، فإنّ للنَّفس روحًا مكتسبًا وهو الذي ينشر النور عليها ما دامت نورانيّة.

 أمّا الروح فإنَّ الروحانيّة حقيقة في ذاتها؛ وليس نورًا خالصًا بل إنَّه الذات المُشعشِعة بالنور في صميمها. ثُمَّ إنّ الذي يمدّ الروح بالنور، ما دام هو ليس شيئًا غير النور، فإنّه هو النور الصافي البسيط الذي يجعل الروح قادرًا على أن يكون ما هو عليه في ذاته..)6.

 ولأفلوطين توصيف أخر للأقانيم الثلاثة حينما يصوّرها على أنها دوائر مُثبّتة بشكل تراتبي:

 (.. ثمَّ يأتي بعد الواحد الحقّ والروح. وتلي النفس في حقيقتها في المقام الثالث أخيراً..)7، وكلٌّ إمّا لها نورها أو تستمد نورها بحسب قربها من الواحد الذي تحيطه دائرة تشعَّ نورًا، وحول الواحد دائرة أخرى تستمد نورها من نور الواحد، ثم دائرة ثالثة غير مضيئة تستمد وجودها من الدائرة الثانية، ويقول في هذا الشأن: (.. فالأمر حينئذ مثله في مركز حوله هالة من نور تشعُّ منه، وحولها دائرة ثانية، والكل نور من نور، ثم يلي هاتين الدائرتين دائرة أخرى خالية من النور: إنّها دائرة لا يشعُّ منها النور قطّ، وهي بحاجة إلى أن تستنير بغيرها...)8.

 التراتبيّة بَين الأقانيم الثلاثة:

 وحينما يكونُ الواحدُ هو مُطلق التمام وهو الكمال وأنّ كلّ ما يَصدر منه فهو متكثر وأقل كمالًا، وهو دائم الاحتياج إلى الواحد، فهذا يدلّ على أنَّ هناك تَدرّجًا في مراتب الفيض أو الصدور، فمن المُحال أنْ تَصدر الكثرة عن الواحد مباشرة وبدون واسطة، لقول أفلوطين: (الأشياء التي تنبعث منه - أي الواحد - ليس شأنها أن تكون مثله. وإن لم تكن مثله، فإنها ليست أشرف منه، ولعمري ما عسى أن يكون أشرف من الواحد أو فوقه بوجه من الوجوه؟)9.

 فالنظام التراتبي الذي يُقدّمه أفلوطين طبيعتُهُ التّكامل والتّمايز بين الأقانيم، وحاجة الثاني إلى الأوّل وحاجة الثالث إلى الثاني من أجل بلوغ الأوّل، واستغناء الأوّل عن كلّ شيء، وفي ذلك يقول أفلوطين: (إن كان بعد الأوّل شيء، فهو من هذا الأول حتماً. فإمّا أن يكون منه سواءً بلا توسّط، وإمّا أن يُردّ إليه بتوسّط ما بين الطرفين، فيكون نظام الثواني والثوالث: فالثاني يُردّ إلى الأوَّل، والثالث إلى الثاني. ذلك لأنَّه لابدّ من أن يكون شيء قبل الأشياء كلّها وهو بسيط. فيكون مختلفاً عمّا يتأخر عليه، قائماً في ذاته مع ذاته، ليس مختلطاً بما ينبعث عنه... فهو الواحد حقاً...)10.

 والتراتبيّة بين الثاني والثالث نابعة من التأثُّرِ والتأثير، وأنّ الأقل مرتبة يتأثر بِمَن هو فوقه مرتبة، يقول أفلوطين: (..أمّا الروح فكأنّما هو للنّفس مثالها من حيث إنّه هو صورتها، وهو الأصل الذي يُضفي على النّفس صورتها أيضًا، مثلما أنَّ صانع التمثال ينطوي في ذاته على كلّ ما يحققه في التمثال. أمّا الشيء الذي يمدّ الروح به النفس فإنّه إلى الحقّ قريب؛ أمّا ما يتلقّاه البدن، فليس إلّا محاكاة ورسمًا.

 لماذا يجب أن تتجاوز النَّفس إلى ما فوقها إذاً، ولا نفترضها على أنّها هي الأول؟ نقول أوّلاً إنّ الروح أمر يختلف عن النَّفس وهو أفضل منها؛ وإنّما الأفضل هو الأوّل طبعاً)11.

 إنَّ كلَّ طور من أطوار وما ينتج عنه من فيوضات هو في حقيقته تحرّك وابتعاد عن الواحد الحق واقتراب من الكثرة، فالواحد الحق هو الجوهر والمركز، وحوله تسير باقي الموجودات، ومن فيوضات نوره تُستَمَدّ الأنوار، وهو منبع الفيض لجميع الموجودات في عالَمَي المَعقول والمَحسوس، والروح هو أوّل الدوائر قربًا إلى الواحد وهو يَستمدّ ضياءه مِنْ مَنبع فيوضات الواحد ومن أنواره المُشعّة، وأمّا الدائرة التي تَلي الروح فهي دائرة النفس وهيَ منيرة غير مضيئة تستمد نورها من الواح عن طريق العقل. والدائرة الأخيرة هي الدائرة المظلمة بحكم طبيعتها الماديّة ولا ترتبط بالعقل إلا من خلال النفس.

 جَمَعَ أفلوطين في طرحهِ الفلسفيّ هذا العقلانية الأرسطوية والمثالية الأفلاطونية وَقدَّم فِكرًا هوَ بحق مِن أصعب الأفكار الفلسفيّة، بَل هو عصارة وخلاصة التّمازج بين المدارس الفكرية في الشرق والغرب، وهو ثَمَرة جهودٍ من الترحال والصبر ليكون بين أيدينا فكرًا فلسفيًا يمتلك من العمق والوضوح والتماسك ما يجعله مدرسة فلسفية متألقة.

 لَقَد كانَ لفكر أفلوطين بُعدٌ رحانيٌّ متجذر قلّما نجده في أمثاله من الفلاسفة والمفكرين، فقد كان يصف حال أهل الحب الإلهي وأهلَ الوَجد والجَذب ويبين حقيقة الارتباط مع الواحد الحق وصفًا بليغًا وعميقًا في محتواه، فهو يقول:

 (إن أهل الوجد والجذب يلمُّون إلماماً بأنَّ لديهم أعظم ممّا يطيقون، وإن كانوا لا يعلمون ما هو، فإنّهم، ممّا يجذبهم من جاذب وما ينطقون به من قول، يتلقُّون إحساساً ما بالشّيئ الذي يدفعهم، وهم -وهو- آنذاك غير هذا الشيئ..)12، بَل أنَّ أفلوطين يَصِفُ ما هو أبلغ من ذلك وأعلى مرتبة، فَهو يبين مرتبة الفناء في الذات الإلهيّة، ويشرح طريق الارتباط والأخذ بمراتب التدرج من أجل بلوغ مقام القرب من الواحد، يقول:

 (..وهذا حال أولى بالنَّفس أن تكون عليه، فتمسي متجرِّدة من المثال إن كان شأنها ألّا ينزل فيها حائل يحول بينها وبين أن تحفل وتشعّ بالحقيقة الأولى. وإن بات الأمر كذلك وَجَبَ خَلْع كلّ ما كان في الخارج, وتُوجَّه الوجه إلى الباطن توجّهاً تامّاً خوفاً من المَيْل إلى ما قام في الخارج. بل ينبغي لك أن تَجْهَل الأشياء كلَّها, في حال علاقتها بنا أوَّلاً، ثُمَّ من بعد في مثُلها، وأن تَجهَل أنَّك أنت في مشاهدته قائم. حتى إذا اتَّحدت به وكأنّك أتممت ما له عليك من واجبات قَفَلتَ راجعاً تُخبرُ غيرك، إن استطعت، كيف كان الإتحاد هناك..)13.

 هذا هو الواحد الحق عندما يصفه أفلوطين: (.. أما هو فليس على ما تكون هذه الأمور. بل إنه شيء آخر، أشرف من أن تقول فيه أنه "الحق"، لا بل إنّه أفضل وأعظم من أن تدركه أقوالنا، لأنه هو ذاته أكرم من العقل ومن الروح ومن الأحساس، مادام هو الذي أمدّنا بهذه الأمور، وهو ليس قط منها..)14.

 

د. أكرم جلال

.........................

 المراجع

1- تاسوعات أفلوطين، ص 453.

2- تاسوعات أفلوطين، ص 453.

3- تاسوعات أفلوطين، ص 459.

4- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 54 - الصفحة 169.

5- تاسوعات أفلوطين، ص 430.

6- تاسوعات أفلوطين، ص 475.

 7- تاسوعات أفلوطين، ص 434.

8- تاسوعات أفلوطين، ص 321.

 9- تاسوعات أفلوطين، ص 453.

10 تاسوعات أفلوطين، ص 457.

11- تاسوعات أفلوطين، ص 497.

 12- تاسوعات أفلوطين، ص 452.

13- تاسوعات أفلوطين، ص 696.

14- تاسوعات أفلوطين، ص 452.

 

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم