صحيفة المثقف

وصية بيجوفيتش للرئيس التركي طيب رجب أردوغان

علجية عيش(هذا هو زعيم الشعب البوشناقي الذي حارب الأصولية ودعا إلى التسامح والتعايش بين الأديان والأعراق)

حياة الرجال العظماء مليئة بالأحداث والمعارك كما هي مليئة بالأفكار والإبداعات، ومن هؤلاء الرجال البوسني علي عزت بيجوفيتش الذي وصفه النقاد بالفيلسوف المحارب، ووصفه آخرون بالعالم الحكيم، ولا ينفصل بيجوفيتش عن الشخصيات الكارزماتية التي اتسمت بالروح القيادية من اجل تحقيق الإزدواجية الإنسانية، فقد عرف عنه بالرجل المتواضع، لم يكن كباقي الرؤساء والملوك يسكن قصرا شامخا ويحيط به الخدم والحشم، بل كان يسكن شقة متواضعة بسراييفو، قبل وفاته ترك بيجوفيتش للرئيس التركي طيب رجب أردوغان وصية خاطبه فيها قائلا: "هنا أرض الفاتحين، دافعوا عن البوسنة وحافظوا عليها، هذه الأراضي أمانة في أعناقكم" وهاهي البوسنة والهرسك اليوم تعيش اسوأ ظروفها إذ تحولت كما يقول متتبعون إلى مصيدة للحالمين باللجوء إلى أوروبا

بيجوفيتش ناشط سياسي بوسني وفيلسوف إسلامي، وشخصية عبقرية تتصف بكل صفات "الكاريزما " من مواليد 1925 بمنطقة شاباتس بالمملكة اليوغوسلافية، تميزت طفولته بحياة تدين كونه ينحدر من أسرة مسلمة، تعلم تلاوة القرآن وحفظه وهو في سن الخامسة، وفي سن الخامسة عشر بدأت تظهر على ملامحه النزعة الشكية، قرأ لكثيثر من الفلاسفة ماركس، كانت وهيغل وغيرهم واهتدى في النهاية إلى الدين، ووجد في الإسلام الدين الصحيح، فتح بيجوفيتش عيناه على الصراعات في وقت كانت الحرب العالمية الثانية في ذروتها، فكان ورفاقه قد بادروا بتأسيس "جمعية الشبان المسلمين" لكنها لم يكتب لها أن تعتمد قانونيا بسبب الظروف التي كانت تعيشها بلاده، حيث واجه ورفاقه الإعتقالات وكانت تلك بداية رحلة علي مع السجن، فقد حكم عليه بالسجن لمدة 03 سنوات، بعد خروجه من السجن، التحق بكلية الحقوق وهو في العشرين من عمره،و اسس له حياة تميزت بالتسامح والتجاوز على الإساءات، لكنه تعرض للإعتقالات من جديد بسبب مواقفه وأفكاره، كان بيجوفيتش تواقاً للحرية، حيث أسس حزب العمل الديمقراطي في 26 مايو 1990، وبه دخل الإنتخابات فكان هو من اختاره المجلس رئيسا لجمهورية البوسنة والهرسك لعشر سنوات، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتيّ تفككت دولة يوغوسلافيا إلى عدد من الدول، منها صربيا وكرواتيا والبُوسنة والهرسك (المُسلمة)، لم يكن يتوقع أن تدخل بلاده في الحرب مع صربيا عندما أرادت ضمّ البوسنة والهرسك لأراضيها، وخاض الحرب إلى أن تم التوقيع على معاهدة الولايات المتحدة الأمريكيَّة المُسمَّاة بـ: اتفاقية "دايتون" للسلام، والتي نجحت في تقسيم البوسنة والهرسك إداريًّا، لكن بيجوفيتش وافق عليها واستسلم للواقع لينقذ أهله ومواطنيه من الدمار.

لم يكن علي عزت بيجوفيتش مجرد مناضل يبحث عن الحرية، أو سياسي يؤدي دوره الوطني، بل كان مبدعا ومفكرا يغوص في الأعماق، ومثقفا مسلحا بألوان الثقافة العصرية، ويعتمد فكر بيجوفيتش على مسلمات يراها هو حتمية في معرفة الآخر والتواصل معه ومعرفة مكوناته، إذ يؤمن بـ: "الإزدواجية الإنسانية " ويقصد بها وجود عالَمَيْنِ يعيشهما الإنسان هما: (الروح والمادة) ما جعله يولي اهتمامه بفكرة الإنفصال أي انفصال الروح وعن الجسد أو الخروج منه، ومن خلال هذه الإزدواجية ( المادة والروح ) يرى بيجوفيتش مفهومي الحضارة والثقافة والتقدم على أساس من الاختلاف والتباين، فالثقافة عنده هي مجموع العوامل التي تربط الإنسان باروح فتغذيها وتنميها لتجعلها دومًا روحًا لإنسان، وتستمرُّ هكذا خلال الزمن في نضال مستمرٍّ، والحضارة عنده هي مجموع العوامل التي تربط الإنسان بأصله الماديّ، وهي التغيير المستمرّ للعالَم، أما التقدُّم هو التحسين المستمر في الجانب الحضاريّ فقط، دون التحسين في الجانب الرُّوحيّ الثقافيّ، فهو يضفي على التقدم صفات الشر لدرجة السخرية، كما جاء في كتابه "التقدُّم ضدّ الإنسان" تساءل فيه إن كان التقدم قد أدخل السعادة على البشرية أم زاده تعاسة وشقاءً؟ بفعل إجرامه وأخلاقه السيئة، من هذا المنطلق اهتم بيجوفيتش بالمشكلات الرئيسة في عالَم اليوم هذه المشكلات التي تعصف اليوم بالشعوب وتهدد العالَم كله، حيث شخّصها في الصراع الأيدولوجيّ المسيطر على العالم، يقول بيجوفيتش: إن العالم اليوم يكاد أن يتحول إلى كتلة من صراعات فكرية شرسة تحارب بعضها البعض، فهو يتميز بصدام إيدولوجي تورط فيه الجميع، والدليل حالة الاستقطاب الشديدة التي تُمارَسُ على الدول والشعوب من قِبَل إيدولوجيَّات جعلت من العنف والقمع والغذاء سلاحا لاستقطابها، ولتكوين جبهات داعمة ومؤيدة لها.

كانت الكتابة الهاجس الذي يلاحقه في يقظته وفي منامه، فقرر دخول عالم التأليف، فجل الذين درسوا كتابات بيجوفيتش يجمعون على أن فكره يرتكز على تشخيص القضايا الإنسانية من منظور علم الإجتماع الديني لاسيما كتابه "الإسلام بين الشرق والغرب" وهو كتاب يشبه الموسوعة، فقد خاطب به قادة الفكر هناك، وكان فيه عالما وفيلسوفا وأديباً وفناناً مسلماً تمثّل كلّ ما أنجزته الحضارة الغربية، أما كتاب "هروبي إلى الحرية" الذي كتبه في السجن، عندما اعتقله الشيوعيون عام 1949 بسبب نشاطه السياسي، ولانتمائه إلى جمعية الشبان المسلمين، وحكموا عليه بالسجن مدة خمس سنوات، قال فيه عن نفسه : "عقلي يفكر على الدوام، ولكن قلبي مطمئن بالإيمان"، في إجابته على سؤال: كيف ينبغي أن يحيا الإنسان في عالم متقدم متخلف في آن واحد ؟، ولذا يرى بيجوفيتش أن الدين هو الضوء الذي ينير درب الإنسان، في صراعه مع الطبيعة ومع الآخر، وهو الذي يجب ان يركن إليه العقل البشري لأنه وحده القادر على حل المشكلات التي يعيشها العالم اليوم، ما دفعه إلى دراسة الأديان الثلاثة ( اليهوديَّة، المسيحيَّة والإسلام)، فالدين اليهوديّ كما يرى هو انصب على الجانب الماديّ من الإنسان، فكانت تعاليمه وفلسفته مُنحازةً للمادة وحدها، وانصب الدين المسيحي على الجانب الرُّوحيّ فقط، أما الإسلام فقد جمع بين المادة والروح أي أنه جمع بين الاثنَيْنِ في مُركَّب واحد وحقق الإزدواجية الإنسانية، فكان النظام الأكمل في العالم، نظام يشمل ازدواجيَّة الإنسان ويكون دين الحضارة والثقافة معًا، لأنه يجمع بين الفكرة والفعل، وبين الثقافة والحضارة، دين يُوحِّد الحياة الاجتماعيَّة الماديَّة مع الرُّوحيَّة.

في عام 2000 قرر بيجوفيتش اعتزال السياسة ليكرس ما تبفى من حياته في البحث والتنقيب في أمهات كتب الفلاسفة بالتحليل والنقد يبحث ويقارن في المسائل الحضارية للإنسان، وظل يكتب منطلقا من رؤيته وفهمه لعالمية رسالة الإسلام وتعاليمه، حيث دعا في أطروحاته ونظرياته إلى التسامح والتعايش بين مختلف الأديان والأعراق، إلى حين توفي في 19 أكتوبر 2003 بعدما سقط أسير المرض (القلب)، فيما يكشف البعض ان وفاة بيجوفيتش كانت بسبب تعرضه لضغوطات دولية لمواقفه الدينية المحافظة، وقد دفن بمقبرة شهداء الحرب، وضحايا الإبادة الجماعية من شعب البوسنة، تاركا وراءه عدة مؤلفات، أشهرها كتابه"الإسلام بين الشرق والغرب"، الذي كان له دويّ هائل في الأوساط الفكرية والثقافية، من مواقفه أنه يقف ضد "الأصولية" وكان يرفض أن يتهمه أحد بها، معتبرا أن الاتهام تغطية على التطهير العرقي والإبادة الجماعية ضد الشعوب المسلمة، كانت تجمعه مع الأتراك ورئيسهم طيب رجل أردوغان علاقة صداقة قوية وصفا بالتاريخية، قبل وفاته ترك بيجوفيتش للرئيس التركي طيب رجب أردوغان وصية خاطبه فيها قائلا: "هنا أرض الفاتحين، دافعوا عن البوسنة وحافظوا عليها، هذه الأراضي أمانة في أعناقكم".

واعترافاً بجهوده الإسلاميّة وتقديراً لمواقفه الفكرية، حظي بيجوفيتش بالعديد من الجوائز العالمية منها جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام، في مذكراته قال بيجوفيتش: "إنما أنا رئيس انتخبه الشعب"، وقد عرضت مسيرته النضالية والفكرية في فيلم وثائقي بعدما وصفوه بالفيلسوف المحارب، وقد وصفه المفكر المصري الراحل عبد الوهاب المسيري وهو كاتب مقدمت كتابه الإسلام بين الشرق والغرب، بأنه "المجاهد المجتهد الوحيد في العالم الآن"، وقال المسيري: "إن بيجوفيتش كان مفكرا ورئيس دولة، يحلل الحضارة الغربية ويبيّن النموذج المعرفي المادي العدمي الكامن في علومها وفي نموذجها المهيمن، ثم يتصدى لها ويقاوم محاولتها إبادة شعبه"، كما وصفه بعض النقاد بالفيلسوف المحارب، ووصفه آخرون بالعالم الحكيم، ووصفته الجماهير البوسنية بزعيم الشعب البوشناقي.

 

علجية عيش

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم