صحيفة المثقف

ثلاجةُ الموتى من جديد

عبد الفتاح المطلبي(أعيد نشر هذه القصة القصيرة  المنشورة سابقا تزامنا مع تفجيرات ساحة الطيران).


كنتُ أفكرُ بالسمكةِ التي تلقفُها الصنّارة فتعودُ أختُها للصنارةِ ذاتها وبالطعمِ ذاته لتلقفـَها، ثم أختهما الثالثة، وهكذا يفاخرُ الصيادُ بمهارتهِ ويتشبث بمكانهِ من النهر، تساءلت، لِمَ يحصل ذلك؟ لا ذاكرةَ للأسماك إذن!

الذاكرةُ عادتْ بي إلى حيث كان القلبُ طفلاً غريرا والموت كهلاً أدرداً، يومَها قالَ المعلمُ: من منكم يستطيع أن يعرف أحجيتي؟ أنصتنا جميعاً، قال: طويلٌ..طويلٌ لانعرف من أين يبدأ وإلى أين ينتهي!!، سكت الجميع، بعضُهم فكر أنه حبل طويل وبعضهم فكر أنهُ درب طويل، قال المعلمُ: هو متحركٌ لا يسكن قلِقٌ لا يستقر ماضٍ قدماً يعلو تارةً وأخرى ينخفض، يلتوي وينعطف بشدة أحياناً يكونُ ناعماً في بعض التواءاته كالحرير وغالبا يكونُ خشناً كالمِحكّ

قال المُعلم: ها..؟

سكت الجميعُ فواصلَ المعلمُ وصفـَهُ بصبرٍ : يمضي بين الناسِ لا يراهُ أحدٌ، ينسابُ انسياباً، لا يشعرُ به الغافلون حتى يأخذهم بغتةً أخذاً وبيلاً!!!

سأل المعلمُ التلاميذَ: ها؟ هل عرفتم؟

راحتْ عينا المعلمِ تجوسان خلالَ صفّ المقاعدِ الخشبيةِ ثم أشارَ إليَ قائلاً: ماذا تقول ياولدي؟ قلت: أستاذ إنه ثعبانٌ..ثعبانٌ طويلٌ، ضحك الأولادُ فخجِلتُ لكنّ المعلمُ ردّ اعتباري قائلاً أحسنتَ، لكنه ليسَ ثعباناً. تطلع إلينا بحزن قائلاً: الزمن أيها الأولاد!!

وهكذا تغير الزمنُ فمن سِقاء جدّي الذي كان يبيع الماء في هاجرة الصيف لمن به لهفةٌ إلى مصنع الثلج الذي عمل به أبي شغيلاً شادا الحزام على بطنه حتى اشتراه ثم مات، إلى صالة الخزنِ المبرد التي اشتريتها بعد بيع مصنع الثلج إبان رواج لحوم الناس أوه عفوكم أقصد لحوم الضان ودجاج العقول أرجو عفوكم ثانيةً قصدت دجاج الحقول المذبوح بيد إسلامية خالصة، الزمن يتغير، يتلوى، لعن الله انفلونزا الطيورالآسيوية وجنون البقر الأمريكي وانفلونزا الخنازيرالأوربية، لم يعد بعد ذلك من لحوم ولا دجاج، الصالة المبردة سليلة سِقاء الماء ومصنع الثلج صارت خاوية على عروشها وكدنا نُغلـّقُ من خلفها الأبواب لولا الزمن وانعطافاته، تذكرتُ إذ قلتُ : أنّه ثعبان أيها المعلم، تعرّى من حراشفه وبان صلَفهُ إذ راح الموت يسير في الطرقات عاريًا دون خجلٍ بل أكثرَعريا مما خلقه الله، لماذا يمر الناس في الطرقات التي يرتادها الموت الوقح فلا يعودون إلا أشلاءً بالأمس مات خمسون بسيارة مفخخة واليوم مزق حزام ناسف ما تيسرَ لهُ على مقربة من مكان الموت الأول، الأسماك لا ذاكرة لها، هل صار الناسُ أسماكاً، كادت أعداد الموتى تضاهي أعداد الأحياء ولولا إصرار الناس على التناسل لزحف الموتى على الأحياء، أليس عجيبا أن يجد الناس في بلدنا خلوةً للتناسل أيغمضون أذهانهم عندما يفعلون، لا بدّ لعدد الأحياء أن يزيد قليلا على عدد الأموات إذ كيف تهتدي الجثامينُ إلى قبورها وهي ممزقة، إذن يتناسلون لضمان دفن موتاهم، هتف بداخلي هاتفٌ أن لا تخدع نفسك أهكذا تُحسبُ الأمور؟ الأموات أكثر بكثير، مليونان من الجثث دفاعا عن البوابة الشرقية ومليونان في المقابر الجماعية ومليونٌ في عملية صيد الديك الرومي وعشرُ سنوات عجاف من قتل الباعةِ والحمالين في الأسواق والعمال على الأرصفة لا يكاد يخلو أسبوعٌ من فوج أرواحٍ يُيَممُ شطرَ السماء والسماء تبتلع المرسلين إليها بصمتٍ مهيب أما الذين ما زالوا على قيد الأرض فهم لا يعلمون أأحياءٌ هم أم أموات؟ وقد اتفقوا على أن يبقوا كذلك فهم لم يشعروا بفرق.

الأحياء أو أشباههم يرتادون الطرقات كأسماك في بركة آسنة أوكسجين مائها يتبخر كلما حمئت عين الشمس يقيم الموت سرادقه على الطرقات، أينما سارت، لم تعد ثلاجة الطب العدلي تستوعب كل هذه الأعداد، فأنواع الموت تعددت وما زالت طرق الموت المبتكرة حديثا تصل تباعا، ازدحم الموت على الأرصفة، واختنقت ثلاجة الموتى في المشافي فغصّت وتجشأت ثم تقيأت، لم يكن أمام السلطات الصحية إلا ثلاجات (حفظ الدجاج ولحم البقر) التي أفل مجدها بفعل جنون البقر الأمريكي وانفلونزا الدجاج الآسيوي وإنفلونزا الخنازير الأوروبية، عروض مغرية قُدمت لنا من السُلطات التي تود إخفاء موتاها خجلاً من عجزها عن تنظيف شوارعها من الدماء التي تربك سواد اسفلت الشوارع وهكذا دلفنا إلى اقتصاد السوق بجدارة وتحت رعاية أممية مباركة، بزغ فجر الثلاجات من جديد، العمل يسير بوتائرَ عالية، الموت صناعة شائعة هذه الأيام، ما أن تحط أقدام أمريكا في بلد حتى تمرعُ  حقول الموت فيه كيفَ لا وهي تبيع سلاح الحرب على مواطنيها  مع الخضار في دكاكين الشارع، كلما ارتفعت لها راية رفع الموت رايات، بورصة الموت لا تغلق أبوابها، هناك من يستثمر المال في إنتاج مزيدٍ من الجثث، ديدان دولية تشم رائحة جثث هذا البلد المعفر بلون البترول الأسود، مفخخات وأحزمة ناسفة وميليشيات مسلحة وفرق موت كفوءة وخبراء عملوا في الهندوراس ودول اللاتين، الهواء يقتل فهو ملوث بدخان ملايين محركات الديزل من أجل أن نتابع أحداث أفلام يوم الحساب الأمريكي وحريم السلطان التركي، ولنمت بعد ذلك كيفما نموت بسموم العوادم أو شظايا المفخخات، الأنهار مليئة بالجثث، لدينا حقول شاسعة من الألغام زرعها أسلافنا حماة البوابة لنأكل ثمارها أفواج من العاهات (زرعوا فأكلنا)،أولاد العقربة يزرعون العبوات الناسفة في الحدائق والدروب والحصاد وفير طال الخراب مساكن الأحياء وصارت المقابرعَماراً وواصلت ثلاجات الأموات عملها بنجاح، لا يساور الجثث وأصحابها أدنى قلق حتى لو تقطعت إرباً تحفظ الجثث طازجةً لا تصلها يد الخراب أبدا وليس عجيبا أن تحصل الجثث على رعاية خاصة في بلادنا الحرة، حصلنا على دعم الدول المتقدمة وصندوق النقد، يمكننا تزويد العالم بما يحتاج من أعضاء طازجة، ولأول مرة في التاريخ أمكننا تجميع الجثث من مخلفات المذابح الشرعية المستندة إلى فتاوى راسخة ومن بقايا مجهولي الهوية الذين لا يطالب بهم أحد وبقايا ذوي الأحزمة الناسفة المنفجرين على الناس، رؤوس، أطراف، شقة صدر، أكباد كُلى، كل شيء متوفر إلا القلوب والأدمغة فهي تالفة لا تصلح لترميم الجثث، نلفها بالسلوفان المستورد المُعطر وهو آخر صيحات السوق، ابتكرنا قسما للملفات وإنتاج الأقراص المدمجة للذكرى، تحوي كل ما يتعلق بالضحية، صورة قبل التفجير وأخرى بعده، شهادات الوفيات الرسمية الضرورية لذوي الضحية من إجل استلام تعويضات الحكومة وبطاقة مجانية لمن يتعامل معنا تؤيد أنه من ذوي الضحايا مؤيدة بالختم الرسمي، يبرزها المستفيد وقت الحاجة في الدوائر الرسمية وحواجز الطرق الخارجية، كل شيء مرتب ومنظم حسب شهادات دولية، وهكذا بزغ فجر الثلاجات من جديد وبدأ عصر جليدي آخر، لكنه لن يقضي على ديناصورات هذه الأيام التي اتخذت احتياطاتها مستفيدةً من تجارب أسلافها الأغبياء، وها هي حرائقها مستمرة كلما خمدت أشعلتها بتفجيرات جديدة وفي الغابة الخضراء تشتعل الحرائق، حيث تسكن هذه الزواحف وتتنقل بسيارات فارهة ومصفحة على أحدث طراز هي متطلبات حصانة ضد جليد ثلاجات الموتى الذين يتساقطون في جحيمها تباعاً.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم