صحيفة المثقف

قراءة في رواية: الأم

السعيد بوشلالقتأليف مكسيم غوركي Maxim Gorky

النسخة التي بين يدي طبعة 1990. عن دار الأنيس موفم للنشر – الجزائر. تتكون من 458 صفحة من الحجم المتوسط.

- «الكتب الممنوعة تنطق بالحقيقة».

- « ساعدني. أعطني نوعاً مِن الكُتُب لا يعرف أيّ إنسان طعم الراحة بعد أن يقرأها. يجب أن نضع قنفذاً تحت كُلّ جمجمة، قُنفُذاً يُحسن الوخز». ص176. 

- «عظيم أيتها (الأم)، ليتكِ تعلمين كم هو مُدهِش هذا.. إنه بكُلِّ بساطة شيءٌ رائع..» - الأم ص90.

- «وإنه لرائع أن تمشي أُمٌ وابنها جنباً لِجنب..» - الأم ص445.

يقول مكسيم غوركي نفسه «قلب الأم زهرة لا تذبل.»

إنّ هذا قليلٌ مِن كثير مما يمكنني الخروج به مِن انطباعاتٍ بعد قرأتي لهذه الرواية الرائعة «الأم».

في رسالة كتبها فرانز كافكا في 1902 إلى صديق الطفولة وزميل الدِّراسة الناقد والمؤرخ التشيكي أوسكار بولّاك (1883 - 1915)، يتسأل عمّ يجعل كِتابًا ما جديرًا بالقِراءة، يُجِيب كافكا بِعِبارة تحولت إلى أيقونة حول موضوع اختيار القراءة، تقول: «أعتقد أنه يجب علينا فقط قراءة الكُتب التي تُدمينا، بل وتغرس خناجرها فينا، وإذا كان الكِتاب الذي نقرؤه لا يوقظنا من غفلتنا، فلِمِ نقرؤُه أساسًا؟ الكُتب التي تُحزننا بعمق مثل وفاة شخص نُحِبُّه أكثر مِن أنفُسِنا، مثل أن نُنفى بعيدًا في غابة بِمنأى عن الآخرين، كأنه الانتحار. يجب أن يكون الكِتاب هو الفأس التي تكسر جمودنا، هذا هو اعتقادي.».

- يلزمني كتابٌ واحد من هذه الكُتُب الممنوعة، كِتابٌ لاذِع جِداً.. ص172.

إنّ هذا الكِتاب ينهال على أرواحنا كالحظ العاثر، فيضغط علينا ويؤثر فينا بِعُمق، مثل مطرقة تكسر الجليد المُتجمد فينا..

- ليت لي الألفاظ التي أستطيع أن أُعبر بها عمّا في قلبي لـ (الأم).

- أحداث الرواية:

الرواية تتكون من قسمين:

1 - في القسم الأول؛ تبدأ الرواية بوصف الحالة المزرية التي كان يعيشُها العُمال في روسيا القيصرية قبل الثورة البلشُفية، حياة كريهة وكئيبة: (إنها الحياة، كالماء العكر تنساب رتيبة بطيئة، سنة بعد سنة، وكل يوم يمر، يمر وهو يحمل نفس العادات القديمة اللازبة، في التفكير والعمل، وما من أحد يستشعر رغبةً للتغيير فيها..) ص05. (كانوا وقد تعودوا أن تسحقهم قوة ثابتة لا تتغيّر، لا يتوقعون أي تحسن في حياتهم، بل يعتقدون أن كل تغير قد يطرأ على هذه الحياة، لن يكون إلاّ وسيلة تجعل نيرهم أشد وطأة..) ص06. ويتخذ مكسيم غوركي من تلك البداية أرضيةً لتوصيف حياة (ميخائيل فلاسوف) والد بطل الرواية (بافل فلاسوف)، ومدخلاً لتشريح الواقع المعيشي الذي كانت تعيشه أسرته، وتأثير ذلك فيه، وفي نضجه وتحوله الفكري والعقدي. فقد كان والده رجلاً لا يُعاشر، مات بعد أن بلغ (بافل) ستة عشرة سنة، واستراحت من عنفه زوجته الأم الطيبة (بيلاجيا نيلوفنا) البطل الحقيقي للرواية؛ التي يرتكز عليها السّرد. لم تبكه زوجته كثيراً ولم يسفح عليه (بافل) دمعة واحدة.

لا شيء يتردد في تلك الضاحية البائسة سوى صافرة المعمل، يبدأ النّهار بهذا الصّوت الكئيب، وينتهي به، يخرج العُمال من المعمل إلى الحانة، يملؤوا بطونهم بالفودكا ليعودوا آخر المساء إلى بيوتهم فيستفرغوا في زوجاتهم ضرباً وعُنفاً.

في هذا الجو العائلي والاجتماعي العنيف والكئيب نشأ (بافل فلاسوف)، لكن برعاية أمٍّ حنون رغم شظف العيش. وفي يوم أحدٍ، وبعد وفاة أبيه بخمسة عشر يوماً، عاد (بافل فلاسوف) إلى المنزل ثملاً، (وتناهى إليه صوت أمه: - كيف ستتمكن من إعالتي، إذا ما بدأت تُدمن الشراب؟ فأغمض عينيه وأجاب: - إن الجميع يشربون. وتأوهت (بيلاجيا) وهي تعلم أن الرِّجال لا يجدون مكاناً آخر سوى الحانة، ينشدون فيها المُتعة، ومع ذلك فقد أجابته: - أما أنت فيجب ألّاَ تشرب؛ لقد شرب أبوك كثيراً بالنيابة عنك؛ وعذبني كثيراً، وباستطاعتك أنت أن تُرفق بأمك.) ص11. وأصغى (بافل) إلى كلمات أمه الحزينة الوادعة، وتذكر كيف عاشت أمه في الصَّمتِ، والنِّسيان، يُعذبها الانتظار الممزق، انتظار الصفعات، فقد كان لا يمكث في البيت إلاّ قليلاً تجنباً للقاء أبيه.. وبتأثر بدأ التحول في حياة (بافل)، وأخذت الحياة في منزل آل فلاسوف الصغير تتابع سيرها أكثر هدوءاً وسلاماً من ذي قبل، ومختلفة بعض الشيء عمّا هي عليه في المنازل الأخرى.

كان (بافل) يشتغل باندفاع دون تغيب عن العمل، وكان كثير الصَّمت، عيناه تعبر عن عدم رضاه، نظرته أكثر صرامة، وكان يبدو كمن ملأه غيظ أخرس. كان رفاقه من قبل يأتون إليه، أما الآن فقد انقطعوا عن زيارته، لأنهم لا يجدونه أبداً في البيت. وكانت أمه تلحظ بكثيرٍ من الغبطة أنه لا يُقلد أترابه في المعمل، ولكن إحساساً بخطرٍ مجهولٍ كان يجتاح قلبها. عندما كانت تلمس عناده وتهربه من الانتظام في تيار الحياة العامة. ولاحظت أنه أخذ يحمل كُتُباً ويقرأها في الخفاء ثُم يُخبئها في مكانِ ما.

كانت الأم (بيلاجيا) تعرف أنه يذهب إلى المدينة، ويتردد على المسرح، ولكن أحداً لم يعد من المدينة ليُخبرها أنه رآه. كان يُخيل إليها أن ابنها يغدو على مَرِّ الأيام أقلّ ثرثرة، ويستعمل ألفاظاً جديدة لا تفهمها، واختفت من لغته التعابير الفجّة القاسية، وتغيّر في سلوكه، فأصبح مظهره أكثر بساطة ورقّة، ومشيته أشدّ اطمئناناً وتحرراً، وأصبح يُساعدها في أشغال البيت، ويُخفف عنها عبء مشاغلها، ولم يكن في الضّاحية كلها من يتصرف مثل هذا التّصرُف.

كان عدد الكُتُب عند (بافل) يزداد باطراد، وأصبح يُخاطب الأم بحُبٍّ واحترامٍ وتبجيلٍ وتعظيمٍ، لكنها استشعرت القلق عليه عندما يُفاجئها متردداً: لا تقلقي يا أُماه فسأعود مُتأخراً. من خلال هذه الكلمات كانت الأم تستشعر أنه ينطوي على شيء قوي وجاد. وكان القلق يُداخلها فتُفكر(إن الآخرين يعيشون كرجال، أما هو فيحيا كراهب، إنه مُسرف في الجدية والاتزان وهذا ما لا يتلاءم وسنه.) ص15. سنتان ومشاعر الخوف والقلق تنمو بلا انقطاع.. وأدركتْ الأم أن ابنها قد وهب نفسه إلى الأبد لأمرٍ غامض رهيب ليعرف الحقيقة.

كانت الغرفة الصّغيرة في بيت آل فلاسوف مقراً لاجتماعات (بافل) ورفاقه في أمسية كل سبت، يتناقشون ويتجادلون على مرأى من الأم (بيلاجيا) التي كانت تقدم لهم الشّاي وتنصت إلى أحاديثهم، إلى أن صدمتها كلمة (اشتراكيون) التي لم يستوعبها عقلها. (كانت الأيام تنزلق يوماً بعد يومٍ كحبات السّبحة، وانجمعت أسابيع وأشهرٍاً، وفي كل سبت، كان رفاق (بافل) يجتمعون في منزله. وكان كل اجتماع من اجتماعاتهم كدرجةٍ في سُلّم ٍ طويل. هين المُرتقى، يُفضي إلى البعيد البعيد، دون أن يدري أحدٌ إلى أين؛ سُلّمٌ يرفع ببطء أولئك الذين يتسلقونه.) ص37. وأخذت وجوهٌ جديدة تظهر في تلك الاجتماعات، حتى ضاقت بهم غرفة آل فلاسوف الصغيرة. (كانت حياتهم تزداد حركة وحرارة، وكانوا ينتقلون بِسُرعة مِن كِتَابٍ إلى آخر، كما ينتقل النّحل مِن زهرةٍ إلى زهرة.) ص45. (ولفت البيت الصّغير في طرف الضّاحية انتباه النّاس، فراحت الأبصار المرتابة تخترق جدرانه، وأخذت تحوم فوقه أجنحة الشّائعات من كلِّ لونٍ، وكان النّاس يُحاولون أن يكتشفوا السِّرّ الغامض الّذي يُخفيه.) ص46. وانتشر الحديث في الضّاحية عن الاشتراكيين الّذين ينثرون في كلِّ مكانٍ وريقاتٍ مكتوبة بالحبر الأزرق تفضح بعنفٍ ما يدور في المعمل، وتتحدث عن الإضرابات العمالية، وتهيب بالعمال إلى الاتحاد والنضال من أجل مصالحهم. كانت الأم تعرف أن هذا كلّه مِن صُنع ابنها، وترى النّاس يتألبون حوله، فتختلط مخاوفها على مستقبله بزهوها في أن تكون أُمّاً لمثله. ويُعتقل الابن (بافل فلاسوف) ورفاقه، ويُزجُ بهم في السِّجن بِتُهمة توزيع منشوراتٍ محظورة وتحريضية على الأمن العام، ويتحول الدّور إلى الأم الصّغيرة (بيلاجيا) ويتحول بيتها الصّغير إلى مركز لجمع وتوزيع المنشورات، وتتمكن مِن إدخال تلك المنشورات إلى داخل المعمل بواسطة العربة التي تجرها لبيع المأكولات للعمال. (أندريه) يخرج مِن السِّجن ويقيم  في بيت الأم الصّغير (بيلاجيا)، ويعاملها كأم له، وتتمكن الأم مِن زيارة ابنها (بافل) في السِّجن، وبعد مدة يغادر (بافل) السِّجن، ويقترب يوم أول ماي/أيار، ويُقرر (بافل) حمل  العلم الأحمر، علم الثّورة، رغم عدم رِضا (ساندرين) و(الأم) و(أندريه). يحل أول ماي/أيار، ويقود (بافل فلاسوف) مظاهرات العمال الكادحين حاملاً راية الحُرية العلم الأحمر، ويتم اعتقاله ورفاقه، ويظهر دور الأم (بيلاجيا) وهي تحمل ما بقي من السّارية والعلم الأحمر الممزق. وهنا يمكن التساؤل: ألهذا أطلق (مكسيم غوركي) على روايته هذه اسم (الأم)؟ وتتجلى رمزية اسم (الأم) فالأم هي: الحرية، الأرض، الوطن، الشّرف، التّضحية...

2 - وفي القسم الثاني من الرِّواية وبعد اعتقال ابنها (بافل) ورفاقه، تقف الأم (بيلاجيا) وحيدة حائرة وعيناها مسمرتان على اللاشيء، وملأ صدرها كالسحابة القاتمة، تبلد مغموم ضيّق عليها أنفاسها، وظلت على هذه الحال، إلى أن أخذتها غفوة، فغرقتْ في سباتٍ عميق كأنما قد لفها إعصار، ورأتْ في المنام ابنها (بافل) وهو ينشدّ: - أيُّها المعذبون في الأرض هُبُّوا.. كان هو يُغني فيطغى صوته على كلِّ ضجيج، وكانت هي تسير في أثره، فزلّتْ بِها القدم فجأةً، وهوت إلى حُفرةٍ لا قرار لها، وكانت هذه الهوة تعوي كلما اقتربت منها. وأفاقتْ مِن حُلمها تُزلزلها رجفة، كأن يداً ثقيلة غليظة قد أطبقت على قلبها فعصرته في لعبة قاسية. وجاء الرفيق (نيقولا إيفانوفيتش) ليأخذها للإقامة عنده في المدينة كما اتفق مع ابنها (بافل). كانت حياةٌ أخرى قد بدأت للأم، وعهداً مليئاً بالأحزان. (لاحظت بيلاجيا أن نيقولا كان يسير حتى في منزله الرّغيد بحذرٍ وشرود، كأنّه غريبٌ عن كلِّ ما يُحيط به، وكان وهو يُركز نظارتيه بأنامل يده اليمنى الدقيقة، يُدني وجهه من الأشياء التي يراها، ويرنو إليها بطرف عينه، ثم يُجمد بصره، في استنطاقٍ أخرس، على ما كان يثُير اهتمامه منها.) ص226.

وفي حوارها مع (صوفيا) أخت (نيقولا إيفانوفيتش)، كانت الأم (بيلاجيا) تتسأل عمّا سبب لها الحيرة: (آه... إنّه ذلك النّهار، أول أيار، الذي سبب لي الاضطراب... فأنا أشعر أني لست على ما يُرام، كما كنت أسلك طريقين مختلفين في آنٍ واحد: تارةً يُخيل إليّ أني أدرك كلّ شيء، وتارةً أخرى أجد نفسي فجأةً كأني أغرق في الضّباب.) ص232. وقال (نيقولا) لأخته: (سيكون هناك مهمة جديدة تنتظركِ يا صوفيا؛ فأنتِ تعلمين أننا قررنا إصدار صحيفة خاصة بالرِّيف، ولكننا فقدنا بسبب الاعتقالات الأخيرة، الصِّلة المُباشرة، وليس بمقدور أحد سوى بيلاجيا أن يعثر لنا على الشّخص الذي سيتولى مهمّة التغلغل في الريف. وعليكِ أنتِ يا صوفيا أن تُرافقيها..) ص233. (وبعد أربعة أيام وقفت كل مِن الأم وصوفيا أمام نيقولا وهُما ترتديان أسمال امرأتين فقيرتين مِن سُكانِ المدن... وخرجت المرأتان في صمت إلى شوارع المدينة، ومنها إلى الحقول... وراحتْ صوفيا تتحدث بمرح عن نشاطها الثّوري، وكأنها تروي نزوات طفولتها، لقد عاشتْ بأسماء مختلفة وأوراق مزورة، وكثيراً ما تنكرتْ كي تفلتْ من الجواسيس، كما نقلتْ قناطير مِن الكُتُبِ غير المشروعة مِن مدينة لأخرى، ونظمتْ هرب كثيرٍ مِن الرِّفاق مِن المنفى، واجتازتْ بهم الحدود ورافقتهم إلى مدن أجنبية.) ص241. حلت المرأتان في المكان المحدد بلوغه لإيصال الكُتُب والمنشورات، وهناك أشار الرفيق (ريبين) لرفاقه إلى الأم، لقد انتزعوا مِنها ابنها مِن بين الصُّفوف، فأخذت أمه مكانه.. وأما (صوفيا) فقد ألّهبتْ نار الثَّورة في الرَّيف، فراحت تتحدث عن معركة الشُّعُوب في العالم من أجل حق الحياة، وسيأتي اليوم الذي يرفع فيه الكادحون رؤوسهم.

واستمرت الأم بيلاجيا في نقل وتوزيع الكُتُب والصحف والمناشير الممنوعة، وأخذت نظرتها إلى الكنيسة تتغير تماماً. فقد (كانت ترى الخيرات موفورة على الأرض، وترى الشّعب مع ذلك يعيش في العوز والحرمان. إنّه نصف جائع إلى جانب ثرواتٍ هائلة لا يُمكن حصرها. وفي المدن تقوم معابد تعجُّ بالذهبِ والفضّة، ويحار ماذا يفعل بهذه الكنوز، في حين يحتشد البؤساء في ساحات هذه المعابد وهم يرتجفون، وينتظرون أن تدس في أكفهم الممدودة سحاتيت الإحسان. وكانت قد رأت من قبل هذا المشهد، رأت الكنائس وحلل الكهنة الموشاة بالذّهب، وأكواخ المعدمين، وأسمالهم المُخزية، ولكن ذلك كان يبدو لها أمراً طبيعياً، أما الآن فإنّها تجد هذا الوضع شيئاً مهيناً لا يُطاق، ولا يرتضيه الفقراء الذين يُحِبُّون الكنيسة، أكثر مما يُحِبُّها الأغنياء، ويرونها ضرورية لهم أكثر مِن أولئك... لقد استخدموا حتّى الله لكي يخدعونا.) ص277، 278. وكانت الأم تعود من رحلاتها هذه سعيدة متأثرة بما رأتْ وسمعتْ خلال الطّريق، ويبعثُ فيها الشّجاعة وحُسن الرِّضى، شعورها بأنها قد قامتْ بِعملها على خير وجه، وكانت تقول لنيقولا: (جميل أن يُسافر المرء إلى كل مكان، وأن يرى كثيراً من الأشياء. إنه بذلك يدرك كنه الحياة، لقد عُزِل الشّعب ونُحي جانباً، فأقعى مهاناً، ولكنه لم يتقبل ذلك مختاراً، فهو يسائل نفسه، لِمَ يُرِاد لي أن أظل معزولاً؟ لِمَ أجوع والخير دافق؟ لِمَ أنا بهيمٌ جاهل؟ في حين تنتشر المعرفة في كلّ مكان؟ .. لقد بدأ الشّعب يثور شيئاً فشيئاً على الحياة التي يحياها؛ إنه يشعر أن الجور سيخنقه إذا لم يأخذ هو بنفسه قضيته بين يديه..) ص279.

وتتوالى أحداث الرّواية في تصاعد درامي بفرار (نيقولا فيسوشيكوف) من السِّجن، وموت (إيغور) في المستشفى، والصدام مع البوليس في تشييع جنازته.. وتزور الأم (بيلاجيا) ابنها (بافل) في السجن وتطمئن عليه وعلى رفاقه. وتكلف الأم مرة أخرى بنقل المنشورات إلى الرِّيف. وفي طريقها إلى الرِّيف كانت الأم تتلقف كلمات الحوذي وهو يلسع بسوطه ظهر الحصان كأنها في حلم، (كانت ذاكرتها تستعرض أمامها سلسلة الأحداث الطّويلة التي عاشتها في سنواتها الأخيرة. لقد كانت الحياة مِن قبل تبدو لها خارجية نائية، لا يدري أحدٌ مَن صنعها، ولماذا صنعها؟ أما الآن، فإن كثيراً مِن الأشياء تتكون تحت سمعها وبصرها، وبِمؤازرتها؛ وكان هذا يوقظ فيها إحساساً مُشوشاً يمتزج فيه الشّك بشعور الرِّضى عن الذّات، والحيرة بالحزن الهادئ.) ص325. بعد الظهر بلغت (بيلاجيا) قرية كبيرة تُدعى (Nikolskiè) وهي مُنهكة القوى ترتعش مِن البرد، وفجأةً (أبصرت الرفيق (ريبين) يقتاده حارسان؛ ويداه مكبلتان وراء ظهره.. وتولاها الذّهول فلم تحول بصرها عن (ريبين)؛ وكان هو يتكلم؛ وكانت هي تسمع صوته، ولكن كلماته كانت تُحلق بلا صدى في فراغ قلبها المظلم المرتعد. وعادت إلى نفسها... وتوقف الحارسان أمام الجمع الذي كان يتضخم بلا انقطاع وهو محتفظٌ بِصمته، وارتفع فجأةً صوت (ريبين) الممتلئ: - أيُّها المسيحيون: سمعتم بتلك الأوراق التي رويت فيها الحقيقة عن حياتنا كفلاحين؟ إنّهُمْ مِن أجل هذه الأوراق يضطهدونني لأنني أنا الذي وزعتها على الشّعب... أيُّها الفلاحون: ثِقُوا بِما تقوله هذه الأوراق، فقد يقتلونني بسببها. لقد ضربوني وعذبوني... وسأتحمل كل شيء لأن الحقيقة قد سُطِّرت في هذه الأوراق، والحقيقة يجب أن تكون أغلى لنا مِن الخُبز!... أيُّها الفلاحون: ألَا ترون كيف تعيشون؟ ألَا تعرفون أنهم يسرقونكم، ويخدعونكم ويمتصون دمائكم؟ إن كلّ شيء يتوقف عليكم؛ فأنتم القوة الرئيسية على الأرض، ومع ذلك ما هي الحقوق التي تملكونها؟ إنّ حقكم الوحيد الّذي تملكونه هو أن تنفلقوا مِن الجوع!... أيُّها الفلاحون. فتشوا عن تلك الأوراق واقرؤوها، لا تصدقوا السلطات والكهنة حين يقولون لكم إن أولئك الذين يحملون لنا الحقيقة ليسوا سوى كفرة عصاة، إن الحقيقة تتسرب إلى العالَم كله خفية، وتبحث عن أعشاش لها في ضمير الشّعب. إنها بالنسبة للسلطات كالسِّكِين، كالنّار، إنهم لا يتقبلونها لأنها ستذبحهم وتحرقهم. إن الحقيقة بالنسبة لكم خير صديق، ولكنها بالنسبة لهم عدوٌ أشِر... وهي من أجل ذلك تتخفى.) مِن ص328 إلى ص332 بتصرف.

نجحت الأم في رحلتها إلى تلك القرية، (كان يَسُرُّ الأم أن تحقق رغبتها في النهاية، أنْ تُحدث النّاس عن الحقيقة بنفسها. يستطيع الشّعب أن يسير مع أصدقاء كهؤلاء، أصدقاء لا يُلقون السِّلاح مُكتفين بمكاسب ضئيلة، ولا يتوقفون عن الكفاح قبل أن يدحروا الخداعين، والأشرار، والطّماعين جميعاً..) ص353. وعادت الأم إلى المدينة.. فتح (نيقولا) لها الباب، وفوجئ بأن الحقيبة كانت فارغة تماماً، فقد وزعت الأم كل ما كان فيها من صحيفة في الرِّيف. (وتحدث نيقولا طويلاً عن رفاقه الذين كانوا يعيشون في المنفى، وعن أولئك الذين فروا منه، واستأنفوا عملهم تحت أسماء مستعارة... قصص الأبطال المتواضعين، المتجردين عن كل نفعٍ، والذين يكرسون قواهم كلها للعمل العظيم، لإصلاح العالم. وكانت ظلال ناعمة ودودة تكتنف الأم، فتملأ قلبها عطفاً حاراً على هؤلاء المجهولين الذين كان خيالها يختزلهم جميعاً في كائنٍ واحد عملاق، لا تنفد قدرته ولا تغيض شجاعته. كان هذا الكائن يُرود الأرض ببطء، ولكن بهمة لا تعرف الكلل، فينتزع منها بيديه الممتلئتين عفن الدجل الذي راكمته العصور، ويكشف لأعين النّاس الحقيقة البسيطة المُتألقة، حقيقة الحياة.) ص371.

تتواصل السردية بتدبير الرفاق خطة لهروب (بافل) مِن السِّجن، تخبره أمه بذلك أثناء زيارتها له في السِّجن، لكنه يرفض الهروب؛ يُسلمها ورقة مكتوب عليها: (لن نهرب أيُّها الرِّفاق فنحن لا نستطيع ذلك، ولا يستطيعه أحدٌ مِنا، لأننا أن نفعل نفقد احترامنا لأنفسنا...) ص384. وتقام محاكمة (بافل) ورفاقه، وجاء الدور على (بافل) فكانت كلماته على صلابتها مشعة ومحرقة. موجهاً خطابه لهيئة المحكمة الصورية المزيفة، مُرافِعاً بصوت واضح وهادئ: (- نحن ثائرون، وسنظل كذلك ما دام البعض يأمرون والآخرون يعملون. نحن نكافح ضد مجتمع أمرتم بأن تحموا مصالحه، مجتمع نحن خصومه الألداء وخصومكم، ولن يحل بيننا الوئام إلاّ حين ننتصر. وسننتصر نحن العمال.. وأنتم في الحقيقة، أنتم جميعاً أيُّها الأسياد. عبيد أكثر مِنا. إن عقولكم هي المستعبدة، أما نحن فلسنا عبيداً إلاّ بأجسادنا. إنكم لا تستطيعون أن تتحرروا من نير الأغراض والتقاليد التي تقتلكم معنوياً، أما نحن فلا شيء يمنعنا من أن نكون أحراراً في ذواتنا. والسُّموم التي تنفثونها فينا هي أقل خطراً من الدواء الشّافي الذي تهرقونه في وجداننا دونما إرادة منكم، وهذا الوجدان يكبر وينمو بلا انقطاع، ويزداد دوما تأججاً.. إنكم لا تجدون شخصاً واحداً يستطيع أن يُناضل إيديولوجياً باسم سلطتكم، فلقد استنفدتم حججكم كلها، هذه الحجج القميئة بأن تحميكم من هجوم العدالة التاريخية، كما أنكم لا تستطيعون أن تأتوا بجديدٍ في نطاق الفكر، إنكم أُبتُليم بالعقم فكرياً، أما أفكارنا نحن، فإنها تنمو وتتأجج وتزداد إشراقاً، وتكتسح جماهير الشّعب، وتنظمهم في نضالهم مِن أجل الحرية.. ومِن المستحيل عليكم أن توقفوا عملية تجدد الحياة إلاّ بالقسوة والخداع..) ص415، 416. أما الأم فلم يكن ما قاله ابنها جديداً عليها، فقلد كانت تعرف أفكاره، ولكنها كانت لأول مرة تحس قوة إيمانه الجارفة. وكان هدوء (بافل) يصعقها، وخطابه يتكثف في صدرها، في حزمة مشعة من يقين مضئ..

قررت المحكمة نفي (بافل) ورفاقه إلى سيبيريا، كان القرار منتظراً من الجميع إما النفي أو الإعدام.. وأومأت الأم إلى ابنها ورفاقه وكان بودها أن تنتحب، ولكنها كانت تخجل من دموعها. ولم يزدها هذا القرار الظالم إلاّ يقيناً وإيماناً بمواصلة ما بدأه ابنها ورفاقه.

وأخيراً تختتم الرواية بضبط واعتقال الأم (بيلاجيا نيلوفنا) وهي تحمل وتوزع خطاب مرافعة ابنها في المحاكمة. وكانت تردد إنكم لن تخنقوا الحقيقة في أعماق بحار من الدّم...

 - نقاط على هامش الرواية:

- بدأ مكسيم غوركي في كتابة رواية (الأم) في يوليو 1906 وأتمها في ديسمبر من نفس السّنة في إيطاليا، وتُرجمتْ إلى عدة لغات. ولم ينفك المؤلف يعدل روايته إلى أن استقرت على شكله النهائي في سنة 1922.

- لقد كانت نية مكسيم غوركي أن يجعل من هذه الرواية أداة تجنيد، وذلك ما حمله على الإسراع في تأليفها وإذا بلينين يُخاطبه قائلاً: (لقد أحسنت صُنعاً إذ عجلت به. إنه كتاب مفيد علماً أن العديد من العُمال انظموا في الحركة الثورية وهُم بلا وعي حقيقي. والآن إنهم سيقرؤون (الأم) مِن تلقاء أنفسهم وتحصل لهم فائدة جمة ممِن ذلك.. إن الكتاب هذا لجدّ مواةٍ لوقته.) وبعد مرور أكثر من قرن على تأليف هذه الرواية نقول وإنه لا يزال كذلك.

- رواية (الأم)؛ فيها وصف لتطور العلاقات الطّبقية، وتطور تفكير شخصياتها وخاصة شخصية الأم (بيلاجيا نيلوفنا) التي تحولت من امرأة خانعة مستسلمة لزوج عنيف لا يكاد يمر يوم إلاّ وهي تتعرض للضرب والاحتقار والإهانة،  فتتحول تدريجيا بعد وفاة زوجها، واعتناق ابنها (بافل فلاسوف) للنضال العمالي والعمل الحزبي الشيوعي، وترتقي في سلم السرد إلى امرأة  مناضلة على استعداد للعمل والتضحية في سبيل القضية ضد الظلم واللاعدالة في حكم روسيا القيصرية.

- يمكن تصنيف رواية (الأم) لـ مكسيم غوركي على أنها رواية دعائية للعمل الحزبي الشيوعي ولهذا استحسنها لينين وأشاد بها وبكاتبها.

- مَنْ يقرأ مرافعة بول فلاسوف في المحكمة في متن رواية (الأم) من ص414 وإلى ص417. سوف يتأكد مِن أن إعجاب الزعيم فلاديمير لينين برواية الأم وثناؤه على كاتبها مكسيم غوركي؛ كان مرده إلى تلك المرافعة.

- تأتي نهاية الرواية على درجة عالية من القوة والتضحية. فهي حتى وإن كانت تنتهي بإدانة بول وأندريه واعتقال الأم؛ لكنها لا تعبر عن إخفاق أو سلبية، ولا تقلل في شيء من حتمية انتصار ما يحمله أولئك الأشخاص من قيم العدالة والإنسانية. فلقد كان أولئك في الواقع يعلمون أن مصيرهم المعتقل أو المنفى. وعلى خلاف ما قد يظنه بعض القراء من أن نهايتها كانت سلبية ومحبطة، فعلى العكس تماماً لقد كانت خاتمة الرواية ايجابية ومتفائلة.

- اقتباسات من رواية: «الأم» لـ مكسيم غوركي Maxim Gorky 

- أنا لست بِحاجة لأن أعرف كيف كان النّاس يعيشون مِن قبل، ولكنني بِحاجة إلى أن أعرف كيف ينبغي أن يعيشوا اليوم. ص 32

- إن أولئك الذين يقولون بأنّه ينبغي لنا أن نعرف كُلّ شيء هم المصيبون. إن نور العقل يجب أن يهدينا، وإذا كُنّا نود أن نمد بالنور أولئك الذين يغرقون في الظلمات، فيجب أن يكون باستطاعتنا الرّد بشرفٍ وأمانةٍ على كلّ الأسئلة، يجب علينا أن نعرف الحقيقة كُلّها، والبهتان كُلّه. ص 33

- عندما تحين ساعة المعركة، لا يبقى هناك من وقتٍ لتنظيف الأظافر. ص 33

- رفّ، كفراشة ليل عمياء مهيضة الجناح. ص 36

- أهناك فوق سطح الأرض اُمرؤٌ لمْ يُذلّ؟ لقد اُذِقْتُ الهوان حتّى لمْ يعُد الهوان يثير حنقي. ص 55

- إن دُموع الأمهات لا تنضب فعندهن منها ما يكفي... وإذا كانت لك أمٌّ فهي تعرف ذلك جيدًا. ص 62

- إنهم يُعذبون الرُّوح، وهذا العذابُ أشد إيذاءً وألمًا حين تقترفه أيديهم القذرة. ص 64

- يجب أن يُجدد الإنسان. إذا كان جَرِبًا فَقُدهُ إلى الحَمّام، أغسله وألبسه ثيابًا نظيفة، فإنه سيشفى... ولكن كيف ننظف الإنسان من الدّاخل؟ هذه هي المشكلة. ص 68

- إنهم يخدعوننا حتّى في الله؟. ص 68

- عندما تتحدثون عن الله تعالى، يجب أن تكونوا أكثر حذرًا. ص 69

- لم أكن أتحدث عن الله الطيب الرحيم الذي تؤمنون به، بل عن الله الذي يُهددنا به الكهنة، كما لو كانوا يُهددوننا بعصى، عن إله يُراد باسمه أن يخضع العالم كله للإرادة القاسية، إرادة البعض... لقد زيفوا لنا حتى الله. ص 69

- ليس العقل مرتكز كلّ شيء، بل القلب، فالعقل منطقة في الإنسان، لا ينبت فيها شيء آخر.. أبداً. ص 70

- إن المكان المُقدّس يجب أن لا يظل فارغاً، وأن نفسنا نقطة حساسة، إنها المكان الذي يسكنه الله. فإن يهجرها يشق فيها جُرحًا، وعلينا أن نكتشف إيماناً جديداً، أن نُبدع إلهًا يكون صديقًا للنّاس. ص 70

- إن الله هو في القلب ، وفي العقل، وليس في الكنيسة. الكنيسة هي قبر الله. ص 71

- عندما يتحرر الشّعب يُقرر نفسه ماذا يحسن به أن يفعل. إنهم يحشون رأسه بأشياء لا يُريدها، وهذا يكفي ليختبر نفسه. فلرُبّما كان يود أن يرفض كلّ شيء، الحياة كلّها، والعلوم كلّها، ولرُبّما رأى أن كلّ شيء موجه ضده، كإلاه الكنيسة مثلاً، وليس لكم أنتم إلاّ أن تضعوا بين يديه الكُتُب كلها، وسيجيب هو بنفسه جيداً. ص 71

- إن النّاس ليسوا معصوبي العيون كلهم، بل هناك من يعصب عينيه بنفسه. ص 72

- نحن أول من يعمل، وآخر من يعيش. ص 77

- لا تُعلن الإضراب، فالشعب مُتعطش إلى الرِّبح ولكنه جبان.. إننا لا نستطيع أن نُزيح مزبلة كهذه بمذراةٍ واحدة. ص 82

- إنك تتكلم جيدًا، هذا صحيح، ولكنك لا تمس القلب، والشرارة يجب أن تُلقى في أعماق القلب. إنك لن تُقنع النّاس بالمنطقِ، فالحذاء لطيفٌ جدًا ولكنه شديدُ الضّيق على أقدامهم. ص 82

- إن النّاس لا يُصدقون الكلام المُجرد العاري، بل يجب أن تتألم ليُصدقوك، وأن تغمس كلماتك بالدّم. ص 82

- بعضهم ينهمك في حلب الشّعب، في حين يُمسك الآخرون بِقُرونه. ص 86

- إنّه لجدوى لكم أن تقبضوا على اللصوص، لا أن تُطاردوا الشُّرفاء. ص 94

- لقد أفلت منِّي كُلّ شيء وباتت نفسي مُغلقة كمنزلٍ مهجور. إنّها عمياء صماء.  ص 110

- إنّك لا تُصبح قسيسًا بمجرد التّطلع للأيقونات. ص 116

- عندما يكون المرء شاباً يسهل عليه كُلّ شيء... ولكنه يغدو كلما تقدم في السِّن، غنياً بالأحزانِ، فقيراً بالقوى، وبالعقل... ثم لا يعود يملك شيئاً. ص 118

- الضربة تظل أقل إيلاماً حين يتلقاها المرء من عصاه. ص 131

- الوجه مرآة النفس. ص 137

- الحياة ليست حصاناً، ولا يمكن حملها على الجري بالسياط. ص 137

- يجب أن نُسلح الرأس أولاً... ثم نسلح الأيدي بعد ذلك. ص 138

- إن الهباب يتكدس في القلب إذا كانت إذا كانت جذوته لا تشتعل بصفاء. ص 138

- يا إلهي. ما أكثر البشر في هذه الدُّنيا... ومع ذلك فكلهم يشكو على طريقته. فأين إذن أولئك الذين يعرفون الغبطة؟. ص 139

- كصيادٍ اقتنص صُدفةً طائراً جميلاً. ص 146

- أيُّها الرِّفاق، إن تغيير النظام الرّاهن عمل عظيم، ولكن؛ يجب أن أشتري حذاءً جديداً لكي يتحقق هذا العمل السريع. ص 149

- إن أكثر النّاس مزاحاً هم أشدهم عذاباً. ص 151

- إن النِّساء يحببن البكاء، فهن يبكين من الفرح كما يبكين من الحزن. ص 158

- إننا مرغمون على كره الإنسان لكي نستعجل اليوم الذي نستطيع فيه أن نقدره دونما تحفظ. يجب أن ندمر مَن يعرقل سير الحياة، مَن يبيع الآخرين بالمال ليضمن لنفسه الراحة والأمجاد. ص 163

- عندما تسير في الطّليعة يجب أن تقاوم حتى نفسك، يجب أن تعرف كيف تضحي بكل شيء، أن تضحي بكل قلبك، وليس بالأمر العسير أن يكرس المرء حياته لقضيته، أن يموت مِن أجلها. إبذل ما استطعت البذل، ضحِّ بما هو أغلى مِن الحياة، يتنامى بقوة أعز ما هو فيك، تتنامى حقيقتك. ص 164

- هذه هي الحياة. أرأيت كيف أن النّاس مهيؤون ليقف بعضهم في وجه البعض الآخر؟ وسواء كان ذلك باختيارهم أو على كره منهم ، فإنهم مجبرون على أن يضربوا. ومَنْ؟ رجلاً مغتصب الحقوق مثلهم، وأشد شقاءً منهم لأنه حيوان. إنّ رجال البوليس والدّرك والجواسيس هُم جميعاً أعداء لنا، ومع ذلك فهُم بشرٌ مثلنا. إنهم يُرهقون لدرجة ينضحون معها دماً وعرقاً، ولا يُعاملون كبشر. وهكذا يُستعدى النّاس بعضهم على بعض وتُسمل أعينهم بالغباوة والخوف، وتُوثق أيديهم وأرجلهم، ويُضطهدون ويُستغلون، ويُسحقون، ويُضرب بعضهم بيد البعض الآخر. لقد مُسِخوا بنادق ومطارق وبلاطاً. ثُمّ قيل: هذه هي الدّولة!. ص 169

- إنّ الحياة نفسها لا تمزح أبداً؛ والكلب في الوقار الحقير ليس كالكلب في الحظيرة... ولكل سربٍ مِن الكِلاب طريقته في النُّباح. ص 175

- إنّ الفلاح والسّيد يختلفان في طبيعتهما، فعندما يأكُل الأول كفافه لا ينام الثاني ليله مِن التُّخمة. مما لا شكّ فيه أنّ في كُلِّ طبقة فئةٌ سافلة. ص 175

- لقد انغرزت المهانة في قلبي كسكين.. مِن أجل ذلك.. يرتعشُ قلبي. ص 176

- ساعدني. اعطني نوعاً مِن الكُتُبِ لا يعرف أيّ إنسان طعم الراحة بعد أن يقرأها. يجب أن نضع قنفذاً تحت كُلّ جمجمة، قُنفُذاً يُحسن الوخز. ص 176

- لِنُدَاوِ الموت بالموت.. ومعنى ذلك أنّه يجب أن نموت ليُبعث العالَم، أن تموت الألوف لتحيا الملايين في الأرض كُلّها. وإنّه ليسيرٌ أن يموت النّاس، إذا كانوا سيبعثُون، إذا كانوا سينتفِضون مِن قبورِهم. ص 176

- إنّ الفلاح لا يهمه أن يعرف مِن أين جاءت الأرض، بل يهمه أن يعرف كيف توزعت؛ وكيف انتزعها الكبار مِن تحت أقدام الشّعب؛ وسواء كانت هذه الأرض تدور أو لا تدور، فلا أهمية لذلك؛ لأنك تستطيع أن تُعلقها بحبل، أما المُهِم فهو أن تُعطي ما يُؤكل، أن تُغذي البشر الذين يعيشون عليها. ص 178

- يكفي أن تنفخ مِزمار ليرقص على صوته أولئك الذين لا تنغرس أرجلهم في الأرضِ، فنحن لا نحس الأرض تحت أقدامنا، ويجب أن لا نحسها، لأننا نحن المهيؤون لدفعها إلى الحركة، سنهزها مرةً واحدة فينقلع النّاس منها، ثم نهزها ثانية فينقلون منها أيضاً. ص 182

- يجب أن يسير المرء مع الحقيقة حتى ولو كان على حافة قبره. ص 192

- أيها الرِّفاق، يُقال أن الأرض تحمل على ظهرها كل أنواع الشُّعُوب؛ ولكني أنا لا أصدق ذلك، فليس على ظهر الأرض سوى شعبين، سوى عرقين لا انسجام بينهما أبداً، هما: الأغنياء والفقراء. ص 193

- كان الحشد كطائرٍ أسود ينشر جناحيه واسعين ويقف متربصاً متأهباً للارتفاع والتحليق، وكان بول هو منقر ذلك الطائر. ص 201

- شربت؛ ولكن الماء لم يُطفئ غلتها، فهي لا تستطيع أن تُخمِد في صدرها تلك الجذوة المتأججة التي تذيبها، جذوة القلق والشُّعور بالمهانة. ص 215

- إنّ أبناءنا هم قُضاتنا، وسيُحاكموننا بعدل، لأننا تخلينا عنهم في هذا الطّريق. ص 216

- وعيناها مسمرتان على اللاشيء. ص 217

- سأمشي دون مللٍ صيفاً وشتاءً إلى أن أُلاقي حتفي كحاجٍ في طريقه إلى كعبته. ص 222

- إن أبناءنا الذين يحتلون في قلوبنا المقام الأعلى يُضحون بحريتهم وحياتهم، إنهم يقضون نحبهم دون أن يتحسروا على أنفسهم فهل أتوانى أنا كأم. 222

- وزفرت الأم... ودندن سائق العربة وهو يلسع بالأعنة ظهر الجواد: هيا... تقدم. ص 224

- إن الحقول خاوية كنفسها. ص 225

- لا أدري أين هو مكان رأسي، ولا أكاد أعرف نفسي، لقد كان عليَّ في الماضي أن أدور طويلاً حول النّاس، لأقول لهم شيئاً ما دون مواربة... أما الآن.. فإني أفتح صدري في الحال، وأبوح دفعة واحدة بأشياء لم أفكر بها من قبل. ص 231

- لا يمكن لامرأة إلاّ أن تفهم الموسيقى لا سيما إذا كانت معذبة. ص 236

- إننا نحن أبناء الشّعب، نحس كل شيء؛ لكننا نعاني صعوبة في التعبير عن إحساسنا. إننا نخجل لأننا ندرك، ولكننا لا نستطيع أن نبوح بذلك؛ وكثيراً ما نثور بسبب هذا الضّيق، ضد أفكارنا. إن الحياة نفسها تصفعنا وتثخننا جراحاً مِن كل جانب، ونحن نود أن ننعم بالرّاحة، ولكن أفكارنا تُحرِّمها علينا. ص 237

- يُخيل إلي إني أعرف الحياة كثيراً، وعندما اطلع عليها عن قرب، ليس في كتاب ولا في انطباعاتي الخاصة عنها، بل حين تنتصب هي نفسها أمامي. ص 240

- إنّ السّادة والفلاحين مثل القطران والماء لا يتمازجون. ص 255

- إن في الحياة لحظات طيبة نود ألا تؤمن بقذارة الإنسان وجنونه؛  لحظات، تأخذك فيها الشّفقة على النّاس جميعاً، غنيهم وفقيرهم. إن الغني أيضاً يضل الطّريق؛ إن أحدهما يُعميه الجوع، والآخر يُعميه الذّهب. فيا أيها النّاس، يا أيها الأخوة، احنوا الرؤوس قليلاً، وفكروا، ولا يُخيفنكم أن تُفكروا. ص 264

- الطيبة، قوة عظيمة. ص 267

- في بعض الأحيان يُحدثكِ أحد النّاس، يُحدثكِ فلا تفهمينه، إلى أن يتفوه بكلمة ما لا تدرين ما هي، كلمة بسيطة، ومع ذلك، لا شيء سوى هذه الكلمة يوضح لك فجأة كل شيء. ص 270

- إن المرء ليعيش الحياة عندما يرجو شيئاً فيها خيّراً، أما إذا تلاشى هذا الرجاء، فأي معنى يبقى للحياة بعد؟. ص 276

- الشّبع من الحياة يجر وراءه ضرورة الموت. ص 287

- إنّ حياة الرّجل الطّيب أليمة، وموته يسير.. فكيف ستراني أموت!. ص 296

- يبدو لي أننا نتسرع كثيراً حين نقول عن إنسان ما، أنه مات. لقد ماتت شفتاه، ولكن كلماته ما برحت حيّة، وستظل إلى الأبد، حيّة في قلوب الأحياء. ص 298

- إن القليل القليل من السّعادة كافٍ لكل إنسان، ولكن ليس هناك من يتمنى هذا القليل. وإذا كانت السّعادة كبيرة، فإنها تصبح رخيصة. ص 302

- ليس لي أن أختبئ مِن وجه حقيقتي، فحقيقتي تعيش فيّ . ص 331

- فتشوا عن الحقيقة، واحرصوا عليها، وثِقوا بمن يحمل إليكم الكلم الطيب، ولا تضنوا بقواكم من أجل الدِّفاع عن الحقيقة. ص 340

- اعملوا من أجل الحُرّية، فستهبكم الحُرّية الخُبز والحقيقة. ص 340

- حاسة شمٍّ جيدة، وهذا ما يميز أنوف النّاس الشُّرفاء، لأن هذه الأنوف في الحقيقة، لا تهيم في الشوارع طويلاً، وعلى غير هُدى. ص 348

- عليك أن تعرف، أنت نفسك، قيمتك لا بالنسبة إلى أعدائك ، بل بالنسبة إلى أصدقائك. ص 356

- يجب أن يعرف المرء كلّ شيء، أن يعرف كيف يخاف، وأن يعرف كيف يكون شُجاعاً. ص 357

- هناك حالات يفهم فيها الأمي أكثر من المتعلم، لا سيما إذا كان هذا المتعلم يأكل جيداً. ص 357

- إن قيمة الرّجُل هي عمله الشخصي. ص 362

- ذلك الألم الحاقد، ألم الذئبة، ألم الأم التي تبكي أولادها الرّاحلين. ص 363

- إن المرء ليغدو رغماً عنه ضارياً، في هذه الحياة الضارية. ص 365

- خِصاماً طيباً خيرٌ من سِلمٍ رديء. ص 370

- هذه هي الحياة، نضحك في النهار خمس مرات ونبكي مثلها. ص 378

- إن الحياة العائلية تضائل فعالية الرّجُل الثوري، تضائلها باستمرار: الأطفال، وفقدان الموارد، وضرورة العمل الدائب لكسب العيش، في حين أنه لا بد للثوري من أن يُنمي فعاليته بلا انقطاع، وفي كل اتجاه، وهذا يتطلب وقتاً. ومن الواجب أن يكونوا دائماً في الطّليعة، لأنهم هم الكادحين الذين اختارتهم قوة التاريخ لتهديم العالَم الهرم، وبناء الحياة الجديدة، فإذا ما ظلوا في المؤخرة، وإذا ما استسلموا للنّصَبِ، أو لإغراء مغنم صغير قريب، كان ذلك وبالاً، بل كاد أن يكون خيانة. ليس هناك من نستطيع أن نسير معه بنفس الخُطى، دون أن يُفسد علينا إيماننا، ومن واجبنا ألا ننسى أبداً أن مهمتنا ليست في تحقيق مغانم صغيرة، ولكنها فقط في تحقيق نصر كامل. ص 389

- إن القلوب الفتية هي دائماً أكثر قُرباً إلى الحقيقة. ص 407

- إنك إذا أهنتني فصفعتك، وكنت أنت الذي ستحاكمني مِن أجل ذلك، فإنني سأكون أنا المُخطئ بلا شك، ولكن البادئ من هو؟ إنه أنت. ص 408

- المجتمع الذي يعتبر الإنسان أداة لإثرائه هو مجتمع لا إنساني. ص 415

- إذا اضطر لأن يذهب إلى لقاء الموت، فسيُلاقيه بنفس البساطة ، وعندما يأتيه الموت، سيسوي نظارتيه ويقول له: «رائع»..  ثُمّ يموت!. ص 434

- وإنه لرائع أن تمشي أُمٌّ وابنها جنباً لِجنبٍ. ص 445

- العقل لا يُغرق بالدّم. ص 456

***

قراءة: السعيد بوشلالق

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم