صحيفة المثقف

عبد الجبار الرفاعي: الإلهيات البيضاء.. الدين أنسنة وتمعـين

علي رسول الربيعيليس المقام بحثا أكاديميا، ولا تدقيقا معرفيا، ولا تحقيقا علميا، ولا توثيقا تاريخيا عن المدارات الكثيرة في مقالة حول عبد الجبار الرفاعي، وهو صاحب مقالة فعلا، لكننا في مورد الاشارة وبالأمارة الى محور القضية، قضيته: "الدين والتمعين".

اينما وليت وجهك قارئا نصوصا رفاعية، فثمة سؤال كبير تجد تفكير الرفاعي يدور حوله، وهو السؤال المحوري : ماذا يعني ان نفكر في الإسلام راهنا؟ انه السؤال الذي يوجه رؤيته، والإستراتيجية التي تحدد مسار تطبيق منهجيته. التفكير في الإسلام راهنا عنده يعني العودة الى البدء بالمعنى الهيدغري، العودة الى البدايات العظيمة، والذي يعرفها مفكرنا هي أن "يغور في الأعماق، مستلهمة المضامين الروحية الغنية في النص، ومستوحية دلالاته الرمزية ورؤيته القيمية، مثلما فعل العرفاء والفلاسفة الاشراقيون"، العودة للبدايات الخارقة للعصور، والخالقة للاصول.

 التفكير في الإسلام اليوم من ما يعني في دلالته – أن ينبجس من أعماق الاسلام نزعة انسانية ايمانية تطابق روح العصر، ويتسع نطاقها ليشمل البشر كل البشر بما هم بشر، عابر لكل محدداتهم الإجتماعية التاريخية. إنها نزعة تتجلى بها القيم الروحية والأخلاقية . ومن هنا نجده يكتب نصا تمعينيا بأمتياز عن تجربة ذات تطوف في فضاء مذهب العشق عند جلال الدين الرومي، الذي يعده – الرفاعي، يفتح الروح على تمعين الوجود بوصال المطلق، واللافت هو ان تمتزج روح الرفاعي بفيض مولانا جلال الدين الرومي فتصير روحه موارة.

السؤال ماذا يعني الإسلام اليوم؟ يعني عند الرفاعي أن الإسلام يُفهم أولا بوصفه "يمر باوضاع تمعينية دائما في مسار التجربة التاريخية ولأثر المتلقين بإختلاف ظرفياتهم، مما يدفع الى أهمية الإعتراف بتاريخية ونسبية النتاج الفكري للعقل الإسلامي، ومن هنا الأختلاف عنده مع كل قراءة أستنساخية، قارة على تفسير واحد، ونمط تاريخي ثابت. فالإسلام اليوم، كما تفصح عنه نصوص الرفاعي، زحزحة للمعنى في ثبوت المبنى، لا تتعين حدوده بالتمسك بمقولات الكلام القديم ولا مدارسه المعروفة، ولا حتى مناهج الفقه عندما يكشف عن ما يسميه: "البنية العميقة والمضمرات والقبليات والمسبقات والمسلمات والمرجعيات الأعتقادية، الثاوية والمستترة في الذهنية الفقهية عند الأستنباط". وأصوله القائمة على آليات النظام المعرفي وعموم المقولات الأخرى الناشئة والمحكومة بحدودها التاريخية ومنها التعددية.

  التفكير في الإسلام عند الرفاعي ياتي أيضا من موقع رؤية أنسية ايمانية مغايرة للقائم، مفارقة للحاصل، لا متساوقة مع السائد وللماضي عائد، تتجاوز طبقات الموروث وإستعادته صراطيا، اذ يرى في هذا انه قد "تحول التدين الى اعصار عاصف يجتاح الحياة، ويحطم كافة المكاسب التمدينية والحضارية والمعرفية للبشرية" فيبحث عن معرفة مطابقة لروح العصر ومتطلبات الانسان المعاصر. يقول الرفاعي: "ان تشكيل معرفة دينية موائمة للعصر يتوقف على إعادة بناء لاهوت جديد، أو فلسفة دينية تحدد لنا مكانة الانسان في العالم، ونمط الصلة بينه وبين الله، وحقيقة الدين، وحدوده، ومجالات التدين، وطبيعة الظاهرة الدينية".

إن من يتفحص نص الرفاعي يجده مهتما بنقد العقل الدوغمائي / الأرثوذكسي / اليقيني / الوثوقي / الواحدي، من أجل أعلاء أهمية التعددية، وتعدد التـاويلات، وحق صراع التفسيرات – على رأي ريكور، لتعدد فهوم حقيقة الدين. إن تفكره في / وبحثه عن تأسيس أرضية فكرية للتعددية هو الذي جعله يهتم بفلسفة التاويل بوصف العملية التأويلية تسهم في تقويض واحدية المعنى واحتكار الحقيقة، إنها تخليص للفكر من سلطة التفسير الواحدي والمطابقة التامة بين اللفظ والمعنى، إنها سبيل لإنفتاح العقل وتوسيع حدود الفهم، وتجبرنا على الإعتراف بالنسبية وإننا محكومين بالصيرورمة التاريخية.

بوصف التاويل، في طيات أقواله وتصرحات مقالاته، عملية معرفية، منهجية تسهم في تقويض واحدية المعنى واحتكار الحقيقة، إنها تخليص للفكر من سلطة التفسير الواحدي والمطابقة التامة بين اللفظ والمعنى. إنه يعده سبيلا لإنفتاح العقل وتوسيع حدود الفهم وتجدده. إن أحد أبعاد غاية قوله، لا كل الأبعاد في نصه متعدد الأبعاد، أن لا يوجد من بين البشر مهما علا شأنهم في مسالك التدين من له القدرة أو يدعيها: معرفية بُرهانية صارت، أو بيانية كانت، أو عرفانية دارت، أن يؤكد بما لايدع للشك والريب مجالا أن تصوره عن الدين هو جوهر ذلك الدين المطابق لحقيقته الربانية المطلقة.

  ما يشغل وعي الرفاعي هو تحديث فهم الدين في زمن الحداثة، وفي مجريات قراءت نصوصه وتأويلها لتبرز في ذهن قارئه عديد السـؤال لتعدد المقال. الرفاعي كثير المقال وكثيفه في مايفكر فيه، والتفكير معه – أي الرفاعي – ســهميا،كما ينصحنا الطالبي بوصف السهمية منهجا – الأنطلاق من نصه كأساس للتفكير وقاعدة تضبط البنية المعرفية للتفكير، واتجاه مسـار سهم التفكر معه، تستثير أسئلة متجددة في فكر الرفاعي، مثلا: ماذا تعني الحداثة في سياق فهم الدين؟ ماذا تعني العقلانية الدينية بوصف العقلانية مقوم أساس للحداثة؟ ماهو نمط العلاقة بين مذهب العشق الموار في قلب الرفاعي والعقلانية الحداثية في صلتها بالدين اليوم؟

يرى الرفاعي في التعددية نقدا للذهنية السلفية التي تزعم بالعودة لإسلام "أصيل"، " نقي"، لا يتأثر بالواقع والزمان والمكان والتاريخ، عابر للعصور. السلفية في حقيقتها تسجنه، تسيجه، تحبس داله بمدلول عصر بعينه، مما يفقد "الإسلام" إسلامها قدرته على أن يفيض بمعنى على تعدد الإجتماع وتاريخه، وأختلاف حاجات الوجدان في كل عصر. وعن هذا يقول الرفاعي: "ان التفسير الحرفي المغلق يفترض وجود فهم واحد للنص، هو الفهم الذي قالت به الجماعة الأولى من السلف، ولا يحتمل النص أي تأويل أو تفسير يخرج عن ذلك الفهم، ويعلن رؤية مغايرة له، ذلك أن مواقف وفهم السلف هي وحدها تمثل المشروعية المقدسة لدى من يتبنى هذا التفسير".

إن من يقرا نص الرفاعي يجده يعطي للدين وظيفة انتاج المعنى، ويشدد على أن الدين يفيض على الذات معنى تفتقر إليه، ليتحد الذاتي / الرمزي، ودور تنوير المنير، اضاءة المظلم من حياة الانسان، وكشف الجمال في الوجود؛ فالدين يملأ روح الانسان بالقيم الرفيعة السامية التي تدفعه الى مواصلة الحياة بكل مشاغلها وعلاقاتها وأبعادها، أي أنه يقدم له معنى لحياته ووجوده؛ كذلك يقدم له جهازي تفسير وتأويل؛ كما يخترق مجال الخيال، فيشكله ويعيد تكوينه، بوصف حياة الانسان مشبعة بالرموز، الدين يستلهم دلالات الرموز في الوجود فيستقي منه المتدين سلسلة لا تنضب من المعاني لوجوده ووجود العالم، ويجد عن سؤال الانطولوجيا جوابا لماذا كان الوجود أصلا.

يؤيد الرفاعي الرأي، أن التدين حالة أنثروبولوجية، تروي لدى الانسان توقا روحيا، لأنه يرى الإنسانَ كائنا دينيا بالفطرة، وهذا ما تؤكده دراسات علم النفس والاجتماع والتاريخ البشري؛ فالدين يضفي المعنى على ما لا معنى له، المهمة المحورية للدين انتاج المعنى أي تمعـين الحياة. وعلى الرغم من أن الدين يحمل بين طياته هذه الأبعاد المعنوية والجمالية التي تحفز على مواصلة الحياة بالأمل، الا أن من يوظفه أيديولوجيا يحوله الى مجرد عربة في قطار السياسي، فغُـلبت الجوارح على الجوانح، واصبح وقودا في الصراع، ومناسبة لبعث الكراهيات وأعادة انتاجها بين الناس.

  لتفادي مخاطر الوقوع في براثن تسنين العقيدة على الطريقة القادرية وللافلات من هذا المصير، دعى الرفاعي الى النقد والتفكير للانتقال الى عصر جديد، باثارة: أسئلة منسية، أسئلة جريئة، أسئلة كبرى؛ فالتفكير ينبغي أن يكون تساؤليا للوصول الى ماهو ممنوع التفكير فيه. ومن هنا دعوته الى النقد، تعني الحاجة الى مثقف نقدي منهمك بتفسير العالم، ويتغلب على سجون الايديولوجيات بالتحرر من الأحادية، والجرأة على الاحتجاج على الواقع لنقد الموروث وتقديم مفاهيم ورؤى جديدة على كل الاصعدة.

يتحدث الرفاعي بلغة التنوير الكانطي فيقول: ان الحرية ليست رخصة بل هي مسؤولية، إذا كنت لا تستطيع الأمساك بزمام تلك المسؤولية فسيأخذها أحد ما بالنيابة عنك .. عندها تبدأ عبوديتك، المهمة التنويرية التي نلمسها عنده لا تتطابق ضرورة مع مفهوم التنوير الغربي وتجلياته في تجربته التاريخية، ولا في طريقة تناوله الظاهرة الدينية، ولكن بالتأكيد تجده يستلهم النسغ الحي من منجز التنوير في بعده الأنساني، ومن هذا تأتي دلالة نقده للذهنية التي تتقبل الطاعة بدون تمحيص عقلي، فيرى من المهام المطروحة على "التنوير الإسلامي" اليوم هي تغيير هذه العقليه، وتهذيب هذه النفوس التي تعودت الطاعة. وايضا نقده الصارم والقوي للمحاولات التي تسعى الي استعباد الاخر، وجعل الدين اداه لجرائمنها الكبرى. ولإنقاذ العالَم الغارق في فوضى التقاتل باسم الدين يدعو الرفاعي إلى إحياء النزعة الإنسانية التي هي أساس الدين، عن طريق إحياء التجارب الإيمانية الشفافة، والتي يمثلها روحيا العرفاء أحسن تمثيل.

إن ما يلفت النظر في فكر الرفاعي، من جملة اللافت، هو أهتمامه بقضية غياب مبحث الأخلاق في الفكر الإسلامي، الأخلاق هنا لا من منظور العادات والتقاليد والأعراف التي تُـتبنى في المجتمعات التقليدية على النواهي والأوامر، ولكن، طبقا لرؤيته، الأخلاق بالمعنى الذي يحكم به العقل العملي "الأخلاقي"، والذي يبحث في الشأن الإنساني المشترك، إنطلاقا مما يميزه أصلا وفطرة كإنسان. يرى الرفاعي ان الأخلاق كعلم مستقل تأخر ظهوره عند المسلمين كثيرا، ولم يبدأ إلا في القرن الرابع للهجرة مع مسكويه، لكن لم يشهد تأسيسا حقيقيا وجهودا متواصلة، حتى في هذا العصر، لقد ظل هذا العلم مهملا، على الرغم من حاجة المجتمعات المعاصرة الغارقة في فوضى المعتقدات، إلى جهود واجتهادات تمد الأنسان بالقيم الاخلاقية والمعنوية للتخفيف من حدة آلامه.

  ينظر الرفاعي الى النقد بوصفه عملية تفكير تعتمد بشكل اساسي على المراجعة والتقويم، وهو علامة التفكير بحرية، وأن النقد هو جوهر الفلسفة والفكر الحديث والمعاصر .. من أعمق الآراء التي يطرحها الرفاعي هو إعتباره ان ليس هناك فكر منفصل عن النقد، وانما الفكر روحه النقد، فالعملية النقدية غير مستقلة عن الفكر. بالإضافة الى موقفه أو تصوره لمهمة المثقف أو دوره ووظيفته. انه يعني بــ "المثقف النقدي، الذي ينشغل بتفسير العالم، … ويتحرر من رؤية العالم بمنظور أحادي … مهمته المحورية هيً التنوير".

  وها هو الدكتور / المفكر الرفاعي يقوم بممارسة ما يضعه نظرا. والحقيقة أن هذه القوة الخلاقة لمفاهيم النزعة الإنسانية الايمانية الأخلاقية، والنقد العقلاني في فكره فتحت الباب أمامه ووضعته في أعلي مراتب المثال العلمي والأخلاقي.

 

د. علي رسول الربيعي

 باحث وأكاديمي عراقي، حاصل دكتوراه في الفلسفة، كينكَز كولج / جامعة إبيردين، بريطانيا. باحث في جامعة إبيردين، وجامعة كوينز ميري. مختص في الفلسفة والفكر السياسي المعاصر. له كتابات عديدة منشورة في الصحف والمجلات العربية. شارك في مؤتمرات وندوات فكرية وفلسفية في عدة بلدان.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم