صحيفة المثقف

نقائض التصوف

مجدي ابراهيم(نقائض التصوف): (1)

تعرض التصوف لهجوم ناقد من قبل البعض بغير منهج يقوم على الموضوعية وكشف جوانب الإيجاب والسلب، ولم يتسو النقد على أسس علمية تضع التقييم في مقدمة أولوياتها. ولكن بدا نقضاً في غير ما مبرر علمي يتسند عليه. 

على أن النقد لا يعني الهدم والتقويض بمقدار ما يعني البناء والتقويم. والأصلُ في النقد (critics) فلسفيّاً، وبالتالي منهجيّاً، هو قبل كل شيء: اعتراف الناقد بمحدوديّة تفكيره. والقول بحصول هذا التفكير ضمن أطر تقيد عملياته وتخضع عملية التفكير ذاتها لمراجعات صارمة، بمعنى خلخة اليقينيات الثابتة وإعادة بنائها المعرفي بمقدار إعادة النظر فيها مراجعة وتصحيحاً. وعليه؛ فمن يفهم من النقد معنى الهدم يتجرّد عن العلم وتغيب عنه الموضوعية؛ وبخاصة إذا كان المنقود "حالة" فوق عطايا الإدراك المحدود. فماذا عساك قائلاً إزاء من يتصوّر: " أن الصوفية في خبراتهم التي توصلوا إليها وكشوفاتهم التي غمرتهم فيها حالاتهم الروحية لم يتزودوا بأية بينة توضح طبيعة (الاتحاد) الذي حققوه، ولم يتوصلوا إلى معرفة الله ولا العالم، ولا أي شيء، كل ما حصلوا عليه أو غنموه هو (انفعال) بطّال أو عطلان، لا ينتهى إلى شئ سوى أنه حالة من حالات العقل والشعور، ولا شيء آخر؟ أو أن الصوفية تضع في مقدمة مبادئها محق الشخصية الفردية والقضاء عليها؛ وأن العشق الإلهي يعني أن نتجاوز عواطفنا وننفعل بعاطفة غامضة الاتجاه، تنتهى دائماً إلى استغراق في عبادة الذات، وأن الله (سبحانه وتعالى) مجرد عاطفة غامضة. والتوجه إليه توجه هُلامي! وأن التصوف بهذا المعنى المثالي يسعى إلى غرس مشاعر الكراهية للحياة والناس (راجع: إحسان الملائكة مقدمة كتاب (جلال الدين الرومي صائغ النفوس)، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى 2015م؛ ص 17 -19).

ماذا عساك صانعاً أمام من يصوّر هذا أو مثله؟ وهو هدم ليس هو بالنقد، يتخذ من النقد وسيلة هجوم وتبرئ واستعلاء ولا يتخذ منه وسيلة تقييم أو تقويم؛ فهو يخرج عن إطار العلم ويدخل في أهواء لا يقرها العلم بحال، ونحن لا ندرى كيف يكون هذا كله ومبادئ التصوف قائمة بالتقرير على الدعوة إلى التسامح واحترام جميع معتقدات البشر، ورفض التحيز العرقي، والتحرر من التزمت الديني والتعصب الأعمى.

ثم يحذرنا أحدهم ويشدّد في تحذيره: من الانسياق وراء العبارات البرَّاقة التي ينقلها مؤلف الكتاب عن مشاهير الصوفية، ويأتي تحذيره هذا في إطار قناعاته التي يريد أن يَفْرضها علينا صَاغرين. عنده أن ليس ثمة داع يدعو للإسهاب في القول بأن التصوف ما كان، ولن يكون أبداً، على ما يعتقد، هو طريق الخلاص من وضعنا المتردي .. فهو طريق - في نظره - استسلامي يشجع على استكانة المشاعر وانهيار القوى في وقت نحن فيه بأمس الحاجة للروح الوثابة والمشاعر الثائرة والفكر النير والحلول التي تخلصنا من مشاكل التخلف التي نَرْزَح تحت وطأتها صباح مساء (د. عدنان عباس علي في مقدمة ترجمته لكتاب تور آندريه: التصوف الإسلامي، منشورات الجمل، ألمانيا، الطبعة الأولى، سنة 2003م، ص 5).

ومن الغريب أن هذه الصفات الأخيرة التي ومضت في عقل مترجم الكتاب والتي يَرُصَّها لفظاً ميتاً بغير معنى هى في الأصل من العمل الحي للتصوف ومن فاعليته الكبرى؛ فالروح الوثابة، الحرة، الطليقة، والمشاعر الثائرة والفكر النير هى في الواقع صفات الصوفي الحقيقي الذي لا يعرف للخمول ولا للاستكانة طريقاً، بل هِجِّيره العمل، وديدنه الجهاد في سبيل مطلوبه، فلا يهدأ الصوفي أبداً إلا أن ينال ما يريد. لكن الفرق بينه وبين غيره من أصحاب الإرادات أن مراده غير مرادات الذين غرقوا في الواقع الوحل المتردي، فانهارت قواهم على التصدي له فلم يَتَقدَّمُوا في إصلاحه ولا حتى ترقيعه قيد أنملة؛ بل كلما رقعوه تمزق منهم، ولا يَزَال مع التمزق حتى مَزَّقَ؛ بشراهتهم عليهم؛ نفوسهم وقلوبهم حسرة على الضعف والتردي والشره المادي اللعين.

 وتلك لا شك رؤية -  فضلاً عن كونها طامسة للحقيقة متعالية عليها - تكشف من الوهلة الأولى عن ظلمة الوعي وضيقه وتحجُّره في العقول التي تتخذ مواقف مُعَادية للتصوف بل مُعَادية لنفسها؛ لأنها تأتي ضد نفسها: ضد وجودها الروحي بمقدار ما تجيء ضد حقيقتها الأصلية التي يمُسَّها التصوف ويشتغل عليها، ويكشفها لصاحبها - إذا أرَادَ - في جلاء ووضوح وطمأنينة ويقين.

إنما الوعي الصوفي ليَتَجَوْهَر عندنا في تلك الذائقة الروحية الفريدة، وإنه ليتحدد في مثل هذا الإدراك الذوقي الكشفي لغةً وتعبيراً وإشارةً؛ ذلك الإدراك الذي يؤهل صاحبه للاتصال بالله تعالى اتصالاً يقوم فيه الوعي بالتوحيد عاملاً وفاعلاً؛ لتتحقق أسمى آيات التذوق للفكرة الإلهية؛ يعيشها حياة ويوظف سلوكه وفق ما يَفْقَه منها على منهج يَسْتَنَّهُ ويترقى به على الدوام؛ مَادَاَمَ تَرَقْيهُ إليها مشروطاً بصفاء البصيرة والإلهام وبالنقاء الروحي (Spiritll purification).

هذه الملاحظة مع بساطتها وتواضعها قد تكشف بالقطع عن أصالة الوعي الصوفي؛ وهو وعي عالي وليس بالعادي، وعن تفرُّده، وعن امتلائه بفيض المعنى وغزارة الوجدان، وعن خصوصيته الشاملة المحيطة، وعن تمايزه واختلافه عن منهجية النظر المجرَّد المحدود أو العقل المسطح الذي لا يَتَحَرَّر عن مقولاته بل يظل يَتَعَبَّدْ في محرابها صباح مساء. إنمَّا الوعي الصوفي هنا لهو وعيُنا بالحقيقة الأصلية؛ أعني وعينا بالوجود الإنساني على صفته الجوهرية الباقية الدائمة: حقيقته الجوهرية.

ثم بالصدفة العارضة لا القصد المباشر وقع بصري على صفحات من كتاب مجهول (عبد الله شريط: الفكر الأخلاقي عند ابن خلدون؛ ص 524 – 525). كتب صاحبه تحت عنوان جهودنا اليوم للتخلص من أضرار التصوف؛ ولسوف نورد عبارات الكاتب بلفظها ونصها؛ لأنها تعبّر في الغالب عن وجهات نظر عدائية ضد التصوف:" إنّ عقول مجتمعاتنا اليوم ومنذ عصر ابن خلدون، تزخر بهذا الفكر الخرافي الذي كان نتيجة مباشرة للفكر الصوفي، والذي أدى بها إلى الاستسلام عن مقاومة كل ما يعترضها في طريق التقدّم، لأنها تعتمد على "البركة" في أن تقوم مقامها بهذه المقاومة. وأدبنا اليوم في المشرق والمغرب - هكذا يقول المؤلف - يحاول أن يعالج مساوئ هذا الإرث المسموم في عقول الشعب فلا يشق طريقه إلا بصعوبة، ورجال الدين أنفسهم أو بعضهم على الأصح هالهم ما أصبحت عليه شعوبهم من عودة إلى الفكر الجاهلي الصميم، كأن لم يمر عليهم الإسلام إلا مروراً من خارج، ولم يلامس أرواحهم بأشعته التحريرية فأهملوا كل الآثار الدينية والأحاديث المنتحلة التي كان يعتمد عليها المتصوفة وفي مقدّمتهم الغزالي لتبرير حركة التصوف، وراحوا في مقابل ذلك لأوّل مرة منذ العصر العباسي، يحاولون بعث الفكر الاعتزالي المعتمد على العقل والمناوئ للفكر الغيبي الذي كان أساساً للفكر الصوفي والفكر الخرافي المشئوم، أو يتبني بعضهم الآخر الفكر السلفي أو فكر ابن تيمية كالحركة الوهابية في الحجاز أو الحركات الإصلاحيّة في مصر والشام والجزائر ممّن تمكنوا من الاستضاءة بأضواء الفكر العلمي الحديث، وقارنوا بين ما تتخبط فيه شعوبهم من شلل عام وما تزخر به الشعوب المتقدّمة من حيويَّة وحركة وإنتاج. وهذا بالإضافة إلى ما آل إليه الفكر الصوفي على يد أغلب حركاته وطرقه من خيانات سياسية وتعاون مع العدو ضد مصالح شعوبهم، باستثناء بعض الحركات القليلة كزاوية محيي الدين والد الأمير عبد القادر في الجزائر، أو الحركة السنوسيَّة في ليبيا، وبعض الشخصيات القليلة الأخرى في مصر وسوريا، وهى حركات أو شخصيات بلغت من الندرة، بالنسبة للحركات الأخرى، ما جعلها فعلاً استثناءات تؤيد القاعدة العامة".

تلك هى نقائض التصوف فيما جرت به كلمات هذا الكاتب على العسف والتهور والغرور، والخلو من الموضوعيّة والحياديّة في البحث وتحميل التصوف مسئولية تخلف المسلمين، ثم إنكار حقائق التاريخ؛ وأوْلها فيما يبدو؛ خلطه الشنيع في المنهج بين التصوف وعلم الكلام، فهو إذا كان يريد بعث الفكر الاعتزالي القائم على العقل، فإن التصوف محور آخر قد يُكمّل لدى العقول العارفة بدوره محور العقل؛ فالعقل والروح جانبان لا يتضادان بمقدار ما هما لا يتناقضان بل يتكاملان، وقد ينفصل عنه ويراه البعض شيئاً آخر لا يقوم على العقل بمقدار ما يقوم على التجربة الذوقيّة، فالجدل والبرهان وعقم الإدراك قوانين لا محل لها في التصوف، والخلط بين منهج المتكلمين الجدلي الخطابي ومنهج التصوف الذوقي الوجداني خلطاً عشوائياً بغير الدخول في تفاصيل معرفيّة يكشف عن قلة عناية الكاتب بما لديه من بضاعة علمية خالية الوفاض سواء في التصوف أو في علم الكلام.

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم