صحيفة المثقف

الوردة والدب القطبي

نزار سرطاويقرأت في أحد المواقع المختصة بترجمة الشعر العالمي ترجمةً لقصيدة الشاعر الأميركي روبرت فروست The Rose Family. وقد نقل المترجم العنوان إلى العربية هكذا: "عائلة الوردة". لم تساورني الشكوك حول العنوان إلى أن قرأت الترجمة. وكانت كالتالي:

الوردة هي وردةْ

وطالما كانت وردة 

لكن النظرية تُفضي، الآن 

إلى أن التفاحةَ وردةْ

وأن الدبَّ القطبي وردة

والخوخةَ، كما يبدو، كذلك.

وحدهُ الرب يدرك ماذا ستكون الوردة.  

أنتَ بالطبعِ، وردةٌ

لكنك أعتدتَ دومًا،

أن تكونَ وردة!

في قراءتي الأولى للترجمة توقفت عند "الدب القطبي". وتساءلت: كيف يكون الدب القطبي وردة. هذا أمر يثير الاستغراب. فلا يمكن أن يكون للدب مكان ها هنا، سواءٌ أكان قطبيًا أم لم يكن... إلّا أن تكون بين الورود والدببة علاقة لا أعرفها. بحثت في غوغل عن قصيدة روبرت فروست، وحين وجدتها راحت عيناي تُنقّبان عن الدب القطبيّ الذي أقحمه المترجم في نَصّ قصيدة عن الوردة رغمًا عنه.  وكانت المفاجأة أن الكلمة التي عنت بالنسبة له "الدب القطبي" كانت "pear" أي الكمثرى، أو ألأجاص. لكن يبدو أن ألأمر اختلط عليه، فقرأها كأنها "bear" أي دب. ولا أعلم كيف بدا له أيضًا أنه دب قطبي.

عجيب أمر المترجمين – وبالأحرى، السواد الأعظم منهمّ! يخوض الواحد منهم في الترجمة بصورة اعتباطية دون تدقيق أو تمحيص. لا أقول هذا الكلام تعليقًا على الدب القطبي المسكين فقط، بل على بعض  المفردات أو التعابير التي لم يوفق المترجم في اختيارها في قصيدة بسيطة سلسة يبلغ عدد مفرداتها 54 كلمة لا أكثر. مثلًا قوله إن "النظرية تفضي إلى..." (the theory goes) فيه شيء من الشذوذ. فالنظرية تنص على شيء لا تفضي إليه. أما قوله "وحدهُ الرب يدرك ماذا ستكون الوردة" ففيه أكثر من خلل. فلا يجوز أن ننسب الإدراك إلى الله. إذ أن الإدراك هو معرفة تأتي في العادة بعد الجهل بأمر ما. والمسألة لا تتعلق فقط بالذات الإلهية وما يليق بها أو ما لا يليق، بل بالنص الأصلي بالإنكليزية أيضًا، حيث استعمل فروست كلمة "knows"، أي "يعلم"، وليس "يدرك". أما الجزء الآخر من العبارة "ماذا ستكون الوردة". والذي جاء على لسان فروست: "الله وحده يعلم ماذا سيثبت أنه وردة في المرة القادمة" أوشيء من هذا القبيل.

كما أن المترجم جعل المخاطب ذكرًا، مع أن الأنثى أولى أن تُدعى وردة. فقام بتحريك تاء المخاطب بالفتحة عوضًا عن الكسرة في الفعل اعتدت، وبتحريكه بالفتحة عوضًا عن الياء في الفعل "تكون"، وكان الأولى أن يقول: "لكنكِ أعتدتِ دومًا/ أن تكوني وردة!".

والحقيقة أن كلمة "اعتدت" لا تصلح لهذا السياق. فالشاعر يقول: لكنكِ كنتِ وردةً على الدوام. فالمسألة مجازًا هي مسألة كينونة وليس عادة يعتادها الشخص المقصود، ذكرًا كان أو أنثى.

لكن ما حكاية روبرت فروست مع الوردة؟ وما علاقة التفاحة والكمثرى والخوخة (أو البرقوقة) بالوردة؟ هذا ما كان ينبغي على المترجم أن يتساءل عنه، وأن يحاول الإجابة عليه.

عبارة "الوردة وردة" التي افتتح بها فروست نصه استعارها من قصيدة مطولة بعنوان "العائلة المقدسة" (The Sacred Family) للشاعرة االأميركية المعاصرة له، "غيرترود ستاين" ( 1874- 1946) وكانت ستاين قد كتبتها قبل أن يكتب فروست قصيدته ربما بما يقرب من عشر سنوات. وكان نص أحد سطورها: "روز وردة وردة وردة" (Rose is a rose is a rose is a rose). وكلمة "Rose" الأولى هي اسم. ونحن في العربية نستخدم هذا الاسم بصورة مباشرة "روز" بلا ترجمة، كما نستخدم اسم "ودة"، تمامًا كما نستخدم اسم "زهرة".  أما الثلاث الأخرى التي وردت في قصيدة ستاين، فكل منها تعني "وردة". من جانب آخر فإن هناك في علم النبات ما يسمي بعائلة أو فصيلة الورد "rosaceae". وهذه الفصيلة تضم نحو 4828 من الأجناس المُزهرة. ومن بينها التفاح والكمثرى واالوز والمشمش والكرز والفراولة وسواها. ومثل هذه المعلومة غير مألوفة لمعظم العامة. ويبدو أن فروست اطلع عليها وفوجىء بأن اسم الوردة يطلق على عدد لا يحصى من النباتات. ولعل علماء النبات يضيفون المزيد من النباتات إلى هذه العائلة. وربما شعر فروست بشيء من عدم الرضا لما اعتبره خلطًا بين ما ألفنا أن ندعوه وردة، ونهديه لمن نحب وننادي باسمه على من نحب. وكأن ذلك ينطوي على غبن بحق الوردة وبحق من ندعوها باسم الوردة. فكتب قصيدة "عائلة الورد" أو "فصيلة الورد".

من ناحيتي قمت بترجمة القصيدة واخترت لها عنوان "فصيلة الورد" حتى لا يلتبس المقصود على القارىء. وقد راق لي أن أترجمها شعرًا على الخبب (فعلن فعلن) مما جعلني أبتعد يصورة طفيفة عن الدقة في الترجمة في موضعين أوثلاث. ويمكن مطالعة ترجمتي مع الأصل الإنكليزي في صحيفة المثقف على الرابط التالي:

https://www.almothaqaf.com/b/c3/953523

ما أود أن أقوله هو أن الترجمة ليست عملية اعتباطية مبنية على التخمين. بل هي مهارة تتطلب معرفةً واسعة بلغتين وثقافتين مختلفتين، واطّلاعًا كافيًا على العلم أو الاختصاص الذي ينتمي إليه النص. كما تقتضي من المترجم أن يكون واسع الحيلة، بمعنى أن يعرف كيف يحصل على المعلومة وما يتصل بها من تفاصيل باللجوء إلى المراجع والقواميس المتاحة، ولا يسمح للدببة القطبية أو سواها أن تتسلسل إلى وروده فتدوسها وتقضي عليها.

 

نزار سرطاوي

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم