صحيفة المثقف

في انتظار دايسكي

انمار رحمة اللهتحدث القاضي مخاطباً المُتهم:

- يطلق عليك أهل الحارة لقب "العم دامبي".. هذا صحيح؟!

نظر المتهم إلى القاضي مجيباً مع ابتسامة عريضة ملأت وجهه:

- نعم نعم سيدي القاضي.. أنا هو العم دامبي

تفرقت في القاعة أصواتُ همهمات وضحكات، وحين أنتبه القاضي ضرب ثلاث مرات بشاكوشه على المنضدة، ثم عاد الصمت ليخيم على القاعة من جديد.. سأل القاضي:

- ما علاقة لقبك بالشكوى المرفوعة ضدك؟!

انزل المتهم رأسه الكبير مطرقاً، فبانت رقبته البيضاء عند حكّها بأظفار كفه الأيمن، اقترب أمام المنصة حين طلب منه القاضي لكي تتسنى رؤيته قائلاً:

- هذه التسمية أطلقها عليّ أهل الحارة منذ زمن بعيد. فقد كنتُ أحبُّ الفلك، وأتحدث بالنجوم والنيازك وأخبارها في كلِّ مجلس. وكنتُ أقول دائماً أن في الفضاء سكّاناً سيأتون لغزونا كما يُذاع وأقرأ في المجلات. لهذا كنتُ دائماً أصعد لسطح منزلنا وأراقب، كما يفعل (العم دامبي) في مسلسل (مغامرات الفضاء). خصوصاً بعد أن أهدى لي ذات يوم أبي في آخر مرة كان معنا منظاراً، قال لي أن المنظار غنيمة اغتنمها من العدو في معركة.. كانت تلك آخر مرة جلس فيها معي.. ثم رحل ولم أره بعدها...

 قاطعه القاضي قائلاً:

- المنظار ذاته الذي كنتَ تدعي في التحقيق أنك شاهدت به ما يُسمى.. أين الأوراق..؟ نعم.. "اليوفو" أو الأطباق الطائرة..؟!!

ابتسم العم دامبي ثم هتف:

- نعم ..نعم سيدي القاضي.. رأيت في مرات كثيرة أطباق اليوفو الطائرة، الغزاة القادمين من الفضاء.. ورأيت أيضاً (دايسكي) البطل الذي حارب الغزاة.. لم أره بوضوح لكنني لمحتُ(جريندايزر) مركبته الكبيرة.. لقد كانت تطوف في السماء بسرعة شديدة.

عاد القاضي إلى سؤال المتهم بعد أن أشار عليه بالهدوء والقليل من الحماسة :

- نعم.. أكمل ولكن لا ترفع صوتك.. أين تعيش ومع من؟ وماهي علاقتك بأهل الحارة؟ هل لديك أعداء؟

هزّ العم دامبي رأسه يميناً وشمالاً، ثم رفع طرفي متنه إلى أعلى وأنزلهما قائلاً:

- لم تربطني بأهل الحارة علاقة قوية، فبعد رحيل أبي وأمي عشتُ في المنزل وحيداً. لم أتزوج لأنني قد ذاع عني في المنطقة أنني غريب الأطوار، وحتى مشاريع الزواج التي كنتُ أنوي عليها فشلت، فآخر مرة هربت آخر خطيبة لي وأهلها من منزلي،  بعد أن رأوا المنظار في الصالة، ثم سألوني فشرحتُ لهم أن هذا المنظار يساعدني في مراقبة الصحون الطائرة، تلك التي يدعونها "يوفو" في مسلسل مغامرات الفضاء، وحكيت لهم القصة كاملة..

قاطعه القاضي بسؤال:

- هذا يعني أنك لم تتزوج أو فشلت كلُّ مشاريع ارتباطك بسبب ادعاءاتك ذاتها؟

فغر المتهم فاه ثم خرجت من فمه الكلمات متقطعة:

- نعم جناب القاضي.. هذا هو السبب كما يبدو.. كنتُ أحلم أن يرزقني الله بفتاة قوية مثل (هيكارو) ابنة العم دامبي في المسلسل، وولد ذكي مثل (جورو) ولده، لكي يساعدوا دايسكي في حال عودته إلى الأرض. ولكن لم يحدث النصيب، فكلُّ مشروع زواج أنوي عليه يفشل، الجميع اعتذروا عن تزويج بناتهم لي...

قاطع القاضي المتهم قائلاً:

- لا عليك الآن.. اكمل حديثك واخبرني بهدوء عن مشاهداتك وقصتك الشهيرة

 أخذ العم دامبي شهيقاً كبيراً ثم تحدث:

- لقد كنتُ مغرماً بمسلسل مغامرات الفضاء كما أخبرتك ياجناب القاضي.. أحبُ تلك العائلة المكوّنة من الدكتور(آمون) الرجل الذي أنشأ مركزاً للأبحاث الفضائية، و(كوجي) و(هيكارو) و(ماريا) الأبطال الذين كانوا يعملون معه على مواجهة الغزو، والعم (دامبي) المزارع المغرم بالأطباق الطائرة وابنه (جورو) الصغير.. والبطل دايكسي.. دايسكي الذي أنتصر على قوات فيجا المتحالفة الشريرة، بعد أن تعاون معه جميع من ذكرت في حلقات المسلسل، ثم غادر الأرض هو وأخته (ماريا) صوب نجم (فليد) موطنه الأصلي. اعتبرتهم أهلي وعائلتي ولم أكترث لحديث أهل الحارة وسخريتهم.. صراحة أنا لم أرتح لغياب دايسكي الطويل، فقد كنتُ أظن أن قوات فيجا ستأتي من جديد إلى الأرض وقد أتوا.. الغزاة الطامعون سيسهل عليهم غزو الأرض فهي بلا البطل دايكسي.. صحيح أن وزير العلوم (زوريل) والقائد (غاندال) والزعيم (فيجا الكبير) الشخصيات الشريرة في المسلسل قد ماتوا جميعاً ولم يعد لهم أثر، ولكن من يدري..؟! لعل أتباعهم وأحفادهم سيأتون إلى غزونا ونحن لاهين..

- لهذا كنتُ تراقب منتظراً عودة دايسكي من الفضاء..؟ ( قال القاضي)

- نعم نعم سيدي.. كنتُ أراقب ليل نهار، وقد لمحت مركبة دايسكي كما قلت لك، لقد كانت قريبة جداً، وظني إن لم يخب فهو يأتي لكي يلقي نظرة ويرحل.. كنتُ أراقب في أوقات الفراغ بالطبع بعد أن انهي عملي في الدائرة..

سأل القاضي:

- ماهي وظيفتك؟

أجاب المتهم :

- كانت وظيفتي معلماً في مدرسة ابتدائية، لكن قرار الدائرة التي أعمل فيها أشار بنقلي إلى المخازن، فصرت أعمل فيها كاتباً بعد أن منعوني من تعليم الأطفال

- ألم تعرف لماذا نقلوك؟ هل كانت عقوبة على فعل ما ارتكبته؟

تأفف العم دامبي قائلاً بعد أن طالع الأرض طويلاً:

- مسؤول المدرسة أبلغني بهذا ونقلوني. لأنني كنتُ أحكي للتلاميذ عن عودة دايسكي من الفضاء في الصف، وكنت أحذرهم من جواسيس قوات نجم فيجا المتحالفة، أولئك الجواسيس المتخفين في أجسام بشرية ويعيشون معنا. هذا الأمر دفع ببعضهم إلى كتابة وشاية عنّي. وأنا أظنّ أن أولئك الذين كتبوا عني كانوا أيضاً من جواسيس قوات فيجا، لهذا أنا أطالب بحضور أصدقائي الأطفال إلى هنا وأطلبهم للشهادة...

اضطربت قاعة المحكمة بأصوات الجالسين، ما بين ضاحك وساخر، فلم يرق الوضع للقاضي الذي صار يضرب المنضدة بقوة وهو يهتف:

- هدوووووء.. هدووووووء.. لن أسمح بالكلام لأي أحد.. وأنت..؟ تحدّث معي بعقل ولا تضيّع وقتي ووقت المحكمة.. الشكوى منك أنك كنت تحاول تسميم عقول الأطفال في الحارة لاحقاً، فبعد أن نقلوك للمخازن كما يبدو، صرت تجمعهم للحديث عن هذه الأشياء التي تدّعي أنك رأيتها، فماذا يعني أنك كنتَ تدعوهم إلى منزلك وكنتَ تغدق عليهم بالهدايا؟!.

طلب المتهم قدح ماء فأحضروا له القدح بعد أن سمح القاضي، ثم بدا صدر المتهم يتحرك بسرعة نتيجة الشهيق، مجيباً القاضي بصوت ضعيف عن سؤاله:

- يا جناب القاضي.. أنا لم أفعل شيئاً لأولئك الأطفال لقد كانوا أصدقائي.. صحيح أن الأمر لم يرق لأهل الحارة فكيف يصادق الطفل رجلاً عمره شارف على الخمسين، لكنني حين كنت أحكي للناس عن قدوم الأطباق الطائرة واليوفو، وأن أتباع قوات نجم فيجا المتحالفة عادت إلى الأرض فيجب علينا التجهز لهم، كانوا يسخرون مني فلم أجد غير الأطفال مصدقاً بي، في الحارة والشارع والمدرسة وفي كل مكان، حين كنت أحكي لهم القصة وأحذرهم كانوا ينصتون لي ويصدّقون بي.. والهدايا التي كنت أجلبها لهم حين كانوا يزوروني في منزلي، كنت أمنحها لهم كمكافآت، بعد أن يأخذ كل واحد دوره في المراقبة عبر المنظار فوق سطح منزلي..

نظر القاضي إلى الأوراق أمامه قائلاً:

- هل تعرف أن أهل الحارة قد جمعوا تواقيع على الشكوى العامة ضدك؟.. وعلى رأس الموقعين والذي تكفّل بهذا هو رجل سياسي مُرشح عن حارتكم والحارات الأخرى.. هل يعرفك أو تعرفه بشكل شخصي؟

تأفف العم دامبي قائلاً بضعف باد على صوته:

- لا.. لا يعرفني ولا أعرفه.. لكن تحذيراتي وصلت له فجنّ جنونه...

قاطع القاضي المتهمَ مستفسراً:

- أيّ تحذيرات تعني ؟!

عاد العم دامبي إلى حديثه بحماسة مرهقة:

- كنتُ أقول لأهل الحارة أن قوات فيجا المتحالفة ربما هبطت على الأرض، وربما تتنكر بأجسام بشر مثلنا كما شاهدت في حلقات المسلسل قديماً.. وكنتُ أحذر الأطفال في المدرسة والحارة من أولئك الذين يبتكرون المشاكل والاحتراب بين الناس، وعلى وجه الخصوص تلك الوجوه التي كانت تخرج على الناس في الإعلام، حيث يتعاركون يتراشقون بالشتائم، فهم ليسوا إلا طابوراً سرياً يحقق رغبات قوات فيجا في الأرض. لهذا لم يرق كلامي لهذا الرجل وحاربني...

 قاطعه القاضي متسائلاً:

- هل نقل كلامك للسيد المرشح أحد أبنائه الذين كانوا يستمعون لك؟

أجاب العم دامبي:

-لا ياسيدي.. من نقل كلامي له الناس فهو بلا أطفال أصلاً. فقد ظل عقيماً مع كثرة زيجاته المتعاقبة.. الناس كما سمعت أنهم من تناقلوا أمر الشكوى ضدي، ورفعوها له لكي يتكفل بالأمر حماية للحارة والأطفال منّي.. لقد أخبرتهم بالحقيقة لكنهم كانوا يظنون أنني أراوغ للخلاص من التهمة عبر الاختلاق وتزييف الإفادة وادعاء الجنون.. وأنا متأكد من هذا.. رأيت جراندايزر أكثر من مرة عبر منظاري.. كان يلقي نظرة على الأرض من الفضاء الخارجي ليطمئن عليها بين الحين والحين.. فربما عرف أن جواسيس قوات فيجا المتحالفة قد عادوا، لهذا أنا خائف على مستقبل هذه الأرض.. خائف على مستقبل أطفالنا..

علت أصوات متفرقة في القاعة، وكانت تشيد بعمل السياسي مُرشح الحارة، وتلقي بالتهم على العم دامبي الذي كان ينظر إلى الأرض متعباً.. راقب القاضي هتافات بعض الحاضرين أنصار السياسي، وصار يضرب بالشاكوش حتى هدأت القاعة مع بقايا أصوات.. رفع القاضي يده طالباً من العم دامبي أن يتوقف عن الكلام ويستريح. ثم بعد نظرة طويلة على الأوراق التي أمامه، وهدوء ساد جوّ القاعة، قرر القاضي إخلاء سبيله وطلب منه العودة إلى منزله لكي يرتاح.. علت في قاعة المحكمة همهمة من جديد، لتتحول بعدها إلى ضجة وهتافات ضد الحكم، وأخرى تطالب بمحاكمة العم دامبي في مكان أكثر عدالة، ولم ينتبه أحد منهم إلى صوت شاكوش القاضي الذي كان يضرب الطاولة بعنف.. حين عاد العم دامبي إلى منزله كان متعباً يسحب خطواته بصعوبة، صعد السلّم وكان يرتاح بين عتبة وعتبة، واضعاً كفه على صدره ويسعل بصعوبة.. دلف إلى غرفته ثم أخرج صورة والده الراحل ومنظاره الصغير. وضعهما على صدره ثم أستلقى على سريره من دون أن يخلع ملابسه ونام..

بعد أيام على وفاة العم دامبي على سريره، أعلنت الوكالة العالمية للأبحاث في الفضاء، أنها رصدت عبر منظارها الفلكي مركبةً كبيرة غامضة، كانت تطوف حول الأرض بسرعة شديدة..

 

أنمار رحمة الله

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم