صحيفة المثقف

السلطة في دائرة الإتهام

ثامر الحاج امينمنذ زمن ليس بالقريب والسلطة في دائرة اتهام الفلاسفة والمفكرين، فالفيلسوف اليوناني افلاطون الذي عاش قبل الميلاد قال فيها ان (أغلب الناس عند السلطة يصيرون أشرارا)، كما ان دراسات علمية عديدة أجمعت على ان السلطة مفسدة وهذا الاستنتاج قام على نظرية ان السلطة تعمل على تدمير أدمغة البشر بحيث تجعلهم لا يتورعون عن انتهاك حقوق الغير من أجل التشبث بها والاستمتاع بمزاياها، في حين هناك من له رأي آخر فيها، فالرئيس السابق لأوروغواي خوسيه موخيكا  دافع عنها بقوله (السلطة لا تغير الاشخاص، هي فقط تكشفهم على حقيقتهم)، وكل ما قيل فيها من آراء فإنها لا ترقى الى مستوى الجزم في استنتاجها، فتجارب عدد من الدول منها سنغافورة في ظل سلطة (لي كوان يو) وتجربة ماليزيا مع (مهاتير محمد) تكشف ان السلطة ليست مفسدة بل هي وسيلة لتطويرالبلدان ورفاهية شعوبها حيث نهض حكام هذه الدول بمستوى بلدانهم وجعلوها في مصاف الدول المتقدمة بعدما كانت تعاني من الفقر والجوع والأوبئة .

أسئلة كثيرة دارت في رأسي بعد ما انتهيت من قراءة كتاب (سجين في قصره)، وأبرزها: هل السلطة هي التي تفسد الرجال أم الرجال الأغبياء ان وضعوا فيها فانهم يفسدونها؟ وبعض الاجابة غير المباشرة على هذه الاسئلة وجدتها في ثنايا الكتاب المذكور، فكتاب (سجين في قصره) الذي قام بتأليفه الصحافي الامريكي ويل باردينوربر يكشف عن دور السلطة في فضح الاخلاق وقدرتها على تحويل الانسان من كائن وديع الى حيوان مفترس وان فقدانها يكشف عند البعض حالة الضعف التي كان يخفيها جبروت السلطة وادواتها الشرسة، فهذا الكتاب يتناول تفاصيل السنوات والايام الاخيرة التي قضاها "صدام حسين" سجينا في واحدة من قصوره القريبة من بغداد تحت حراسة الجنود الاثني عشر الذين اختارتهم امريكا بدقة واوكلت اليهم مهمة حراسته تحت رقابة مشددة بالكاميرات على سلوكهم اليومي مع الطلب منهم (تجنب التفاعل مع الزعيم المخلوع مع بذل قصارى جهدهم لإبقائه سليما وسعيدا خلال خضوعه للمحاكمة) وكان ايضا محظور عليهم كتابة مذكراتهم او حتى ذكر طبيعة مهمتهم في تواصلهم مع احبائهم في الوطن، لكن المؤلف استطاع بناء التسلسل الزمني لمادة كتابه بالاعتماد على ذكريات الجنود الذين عادوا الى وطنهم بعد انتهاء مهمتهم بتسليم صدام حسين الى الحكومة العراقية التي نفذّت به حكم الاعدام بعد ساعات قليلة من تسليمه، فالكتاب يستند في مادته على روايات هؤلاء الجنود الذين كانوا يحرسونه في قصره ويرافقونه الى مقر محاكمته ويكشفون للمؤلف عدد من المفاجئات عن حياة السجين الكهل ــ  الاسم الذي كانوا يطلقونه على صدام ــ كيف كان يقضي يومه، ماذا يأكل، أي السكائر أحب اليه، البرنامج اليومي لنشاطه، احاديثه اليومية معهم ــ تحت رقابة الكاميرات ــ ماذا كان ينوي فعله لو كُتب له العودة الى السلطة، اشتياقه للمرأة، وتفاصيل اخرى كثيرة تكشف عن سلوك مختلف لصدام حسين لم يألفه العراقي في شخصيته طوال الفترة الطويلة من حكمه، فصدام السجين غير صدام الرئيس فقد جاء في روايات الجنود انه مثل أي شخص اخر عادي يفرح ويحزن، وكان ودودا يخاطب حرسه بـ "صديقي" وعلى قدر عال من العاطفة حيث يذكر مسعفه (أليس) الذي كان مسؤولا عن صحته ومتابعتها يوميا انه عندما قرر الغياب لبعض الوقت والسفر الى امريكا لتفقد حالة أخيه الخطيرة وبدافع اخباره بالحقيقة نابعا من شعوره بالواجب باعتباره المسؤول عن حالة صدام الصحية شرح لصدام اسباب غيابه وقف صدام وعانقه ثم قال "سأكون أخاك"، فهل يمكن للعراقي ان يتخيل هذا السلوك وهذه المشاعر من رجل حكمه بالرعب والحديد والنار طيلة عقود من حكمه؟ اعتقد كل هذا يمكن ان يحدث عند فقدان السلطة، فالاذلال والشعور بالمهانة وضياع المجد كل هذا يولد هكذا حالة من الضعف او الصحوة عند من يفقد السلطة، الكتاب يكشف معلومات كثيرة لم تتداولها الصحافة والاعلام بشأن الفترة التي قضاها صدام حسين تحت حراسة الامريكان فهي تمثل صورة انسان آخرغير صورة النرجسية الطاغية والطموح الشرس والقساوة التي لا تعرف الشفقة تلك الصورة المرعبة التي تركها في أذهان العراقيين  ويمكن ايجاز الانطباعات التي جاءت في روايات الحراس عنه بالنقاط التالية :

* كان صدام حسين لطيفا مع حراسه الامريكان يشاركهم شرب الشاي ولعب الشطرنج ويتعامل معهم تعاملا أبوياً ويعتبرهم أولاده، وبالمقابل كانوا يسعدون بإرضائه وقليل الطلبات على نحو مثير للاستغراب والجميع كانوا يجلبون اشياء له لم يكن يطلبها .

* كان يفرح لأصوات اطلاقات النار البعيدة والانفجارات التي تهز المنطقة المحيطة بسجنه ويعتبرها دليلا على المخلصين له ويرى انهم سيحاولون في نهاية المطاف تحريره، كما انه لم يكن يشعر بأي قلق من انه سيعدم، كان يعتقد ان ما يجري له مجرد فترة ازعاج مؤقته وانه سيحكم العراق مجدداً  .

* لشدة حرص الامريكان على حياة صدام حسين فانه في ايام محاكمته كان يجري نقله بالمروحية بلاك هوك ذهابا وايابا بين المحكمة ومكان احتجازه في القصر، واذا كان هناك يوم او يومين فقط بين جلسات المحاكمة، كان الحراس الامريكيون يبقون صدام في سرداب اسفل قاعة المحاكمة لتجنب تعريضه لمخاطرة غير ضرورية .

* عندما تلقى قرار الحكم  بالإعدام وكنوع من الازدراء المغرور استخف صدام بالحكم بقوله  (لقدحُكم علي بالموت سابقا، ولم يحدث ذلك ابدا) يقول آدم روجرسون ــ احد حراسه ــ انه حتى عندما أصبح موته شبه مؤكد ظل صدام مقتنعا بأنه " سيخرج ويتزوج مجددا وان كل هذا سيُلقى خلف ظهره، كان واثقا مائة بالمائة .

* في ايامه الأخيرة طلب مشاهدة فيلم (الآم المسيح) وبعد مشاهدته له على جهاز الدي في دي المجهز به من ضمن ادوات الترفيه أسّر لحارسه جيف برايس بانه افضل فيلم شاهده في حياته .

* في اللحظات التي سبقت اقتياده الى منصة الاعدام واثناء جمعه لحاجياته الشخصية نادى صدام على هتش ــ اقرب الحراس له ــ وقدم له ساعته ريموند ويل غالية الثمن التي كان يفضل  ارتداءها في قاعة المحاكمة وعندما اعتذر الاخير عن قبول الهدية لأسباب تتعلق بالقواعد الصارمة التي تحكم سلوكه مع السجين قال له صدام (اريدك ان تأخذها .. انت صديق طيب) .

* طلباته الى حراسه كانت تنقل عبر مترجمه جوزيف وهو امريكي لبناني 53 عام والذي كان يشاركه تدخين السيجار والدردشة معه بحميمية ظاهرة وعن طريق المترجم كان صدام يسأل حراسه عن اصلهم (من يا عمام).

* مكان احتجازه يضم اثاثا بسيطة عبارة عن طاولة وكرسي ودراجة تدريب ثابتة للتمارين الصباحية يسميها حصانه الصغير ويقوم المسعف بقياس ضغطه بعد الجهد المعتدل وراديو قديم مسيطر على برامجه مع اوراق وكتب  في القانون .

* يذكر المسعف أليس انه عند  كل زيارة لصدام كان يجده دائما مرتديا احدى دشداشتيه (واحدة بيضاء والاخرى رمادية) وكان يغسلهما بيديه ويجففهما تحت شمس بغداد في منطقة استراحته كل يوم  .

 * كان يكتب القصائد ويهديها الى حراسه .

 في الأخير وفي ضوء تجارب الشعوب أجد ان الخلل لا يكمن في السلطة انما في الانسان الذي يمسك بها ويدير مؤسساتها  فمنه تستمد نجاحها وعليه يقع فشل ادارتها مع الثابت انه (عندما يصل الناس إلى السلطة، لا تتوقّعوا منهم أن يتصرّفوا بشكلٍ مختلفٍ تماماً عن سلوكهم من قبل، فالطيّبون لن يصبحوا طغاةً بين ليلةٍ وضحاها، كما أن الحمقى لن يتحوّلوا إلى حكماء، وإذا أردتم معرفة معدنهم الحقيقي راقبوا تصرّفاتهم بعيداً عن عدسات الكاميرا والأضواء).

 

ثامر الحاج امين

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم