صحيفة المثقف

زهير جمعة المالكي: موقع العراق من استراتيجيات الصراع الدولي (2-3)

5- الاستراتيجية الروسية في إدارة الصراع

روسيا دولة كبيرة ومجاورة لوسط أوروبا وشرقها، الأنها ليست أمة-جزيرة كما هو الحال بالنسبه للولايات المتحدة وبريطانيا، بل قارة مترامية الأطراف مع عدد قليل من الخصائص الجغرافية التي تحميها من الغزو يقول (شتراوس هوب) "في السياسة الخارجية الروسية، هناك عاملٌ أساسيٌّ مهيمنٌ وهو العامل الإستراتيجي، كانت أهدافه واحدة في أثناء الحقبتين القيصرية والشيوعية، وهي تجسيد حدود إستراتيجيةٍ معيّنة"، أي ان الحدود تقضي على الأخطار القادمة من العدو المطوِّق لروسيا. خلاصةُ القول، إنّ الجغرافيا الروسية الواسعة أدّت دورًا أهمّ في تشكيل تصوّرات القوة العظمى لدى صنّاع القرار الروس ودفعهم نحو التفكير بذلك، وربّما يظهر ذلك جليًّا في تصريح ألقاه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد عامين من تولّيه الحكم حينما قال: "نحن قوةٌ عالمية، ليس بسبب أنّنا نمتلك قوةً عسكريةً عُظمى وقوةً اقتصاديةً مُحتملة، ولكن نحن كذلك لأسبابٍ جغرافيةٍ، سوف نظلّ موجودين مادّيًّا في أوروبا، وآسيا، في الشمال والجنوب، كما لنا في كلّ مكانٍ بعض من الاهتمامات والمخاوف .

ترتكز السياسة الخارجية الى عدد من مدارس استراتيجية جيوبوليتيكية تحدد الدور الروسي في النظام العالمي واهم تلك المدارس:

1- المدرسة الأوراسية: يعتبر ابرز منظريها (بيتر نيكولايفتش سافيتسكي)، الذي وضع مصطلح "بؤرة التطور"، والتي يجب تتطابق شخصيتها الجغرافية مع الوسط أو المجال التاريخي- الإثني-الاقتصادي التي ترى فيه هذه الدولة مجالًا ينبغي أن يتطابق مع حدود الأرض التي تشغلها، واعتبر سافيتسكي أنّ روسيا- أوراسيا هي "بؤرة التطور" تلك، وألكسندر دي سفرسكي الذي يعود اليه الفضل له في صياغة نظرية جديدة في الجيوبوليتيكا تجعل من القوة الجوية محور اهتمامها الأولّ،وقد عبّر سفرسكي عن ذلك بمبدئه القائل:من يملك السيادة الجوية، يستطيع أن يسيطر على مناطق تداخل النفوذ الجوي.ومن يسيطر على مناطق تداخل النفوذ الجوي، يصبح بيده مصير العالم [39]. والمدرسة الاوراسية ترى أنّ لروسيا حضارة فريدة ذات مسارٍ خاص ومهمّة تاريخية خاصة أيضًا؛ وذلك لأجل إيجاد مركز قوةٍ وثقافةٍ مختلفتين، وهذا المركز لن يكون أوروبيًّا ولا آسيويًّا ولكن يتعامل مع الاثنين. وقد آمن الأورواسيون في المقابل، بالنهاية الحتمية للغرب، وأنّ ذلك سيكون وقتًا مناسبًا لروسيا؛ لتكون المثال العالمي الريادي .

2- المدرسة الأوراسية الجديدة: وقد مثّل الأستاذ ألكسندر بنارين أحد أكثر وجوهها المعاصرة شهرةً مقتنع بأنّ مستقبل روسيا يعتمد على رفض الحداثة الاستهلاكية التنافسية المثالية التي يراها مُعبّرة في أغلب الأحيان عن النموذج الأمريكي. إنّ إمكانية تأثير الفكرة الأوراسية في الفلسفة السياسية الرسمية الروسية إلى هذا الحدّ تتحدّث عن أهميّة فهم تاريخ النزعة الأوراسية، وكيف سمح هذا التاريخ للفكرة أن تصير إيديولوجيا موحدّةً ممكنةً للسياسة الخارجية الروسية مثلما يُحاجج بنارين. لكن، وبالرغم من شهرة أفكار ألكسندر بنارين بين الأوراسيين الجدد الروس إلّا أنّها لم تجد طريقًا إلى الكرملين مثلما وجدت أفكار ألكسندر دوغين آذانًا صاغيةً هناك، فقد وضع الرجل أُسُسًا جيوبوليتيكية صلبة ذات خلفياتٍ فلسفية عميقة لمفهوم الأوراسية الجديدة؛ لتكون بمثابة الأيديولوجيا السياسية الأكثر تأثيرًا في روسيا المعاصرة منذ مطلع القرن الحادي والعشرين. في سنة 1991،نشر دوغين مقالًا بعنوان: "حرب القارات، وصف فيه ذلك الصراع الجيوبوليتيكي القائم آنذاك بين نمطين مختلفيْن من القوى العالمية: القوى البرية أو "روما الخالدة" التي ترتكز على مبادئ عديدة، مثل: الدولة المستقلة، والجماعة المحليّة، والمثالية، وتفوّق الخير المشترك. في المقابل توجد حضارات البحر، أو "قرطاجة الخالدة" التي ترتكز على مبادئ مختلفةٍ، مثل: النزعة الفردية، والنزعة المادية، إضافة إلى ميزة التجارة. وبحسب تصوّر دوغين، فإنّ "قرطاجة الخالدة" كانت قد تجسّدت تاريخيًّا في أثينا الديمقراطية، والإمبراطورية الألمانية والبريطانية كذلك، أمّا اليوم، فهي مُمثّلةٌ بالولايات المتحدة، في حين تجسّدت "روما الخالدة" في روسيا. وبالنسبة له، فإنّ الصراع بين هذه النمطيْن من القوى سوف يظلُّ قائمًا إلى أن يتمكّن أحد الطرفين من تدمير الآخر كليًّا، ولا يمكن لأيّ نمطٍ من النظم السياسية أو أيّ مقدارٍ هائلٍ من التجارة البينية بين الطرفين أن يتمكّن من إيقاف هذا الصراع. لذلك، فمن الأفضل أن تُسارع روسيا (الخيِّرة) إلى هزيمة أمريكا (الشريرة) مثلما يقول، كما ينبغي أن تأخذ الثورة المحافظة مكانتها في التاريخية الجديدة.

3- مدرسة المؤسّساتية الدولية وتتمثل بالتفكير الغورباتشوفي الجديد الذي يحثُّ على مسألة التعاون الدولي، ويتطلّبُ قيمًا ديمقراطية. فبحسب هؤلاء، يكفي أن تصير روسيا مشاركًا نشطًا في المنظمات السياسية والاقتصادية الدولية، وعليها أيضًا أن تتفاعل مع الغرب، وأن تتابع مبدأ "الأمن المتبادل" (Mutual Security). بعد نهاية الحرب الباردة والتحوّلات التي طالت النظام الدولي أيّد كلٌّ من الرئيس الأسبق بوريس يلتسين ووزير الخارجية الروسي أندري كوزيريف تلك الرؤية الداعية إلى تبنّي النزعة المؤسّساتية الدولية، وادّعى كلٌّ منهما أنّ روسيا سوف تتعاون مع الغرب، مرتكزةً على مبادئ الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والسوق الحرّة. إلّا أنّه وبحلول سنة 1994، تمّ إنهاء النزعة المؤسّساتية الدولية في روسيا، مع تعرّض كوزيريف للنبذ، باعتباره أبرز مروّجي الإيديولوجيا الغربية

4- مدرسة الليبرالية الجديدة: وهي امتداد للمدرسة المؤسّساتية، ولاسيّما في مسألة التقارب السياسي والتعاون الاقتصادي المكثّف مع الغرب، فبعد نهاية الحرب الباردة وانتصار الليبرالية الغربية، صارت الأفكار الليبرالية طرحًا شائعًا بين الكثير من المثقفين والسياسيين الروس الذين رأوا في تحوّل روسيا نحو الغرب مصلحةً للدولة ورفاهيةً لشعبها. وهذه أفكارٌ مرتبطةٌ أيضًا بسياسيين روس، أمثال يغور غيدار.

5- المدرسة الاوراسية الشيوعيه: يُمثّلُ هذه المدرسةَ الجيوبوليتيكيةَ الفكريةَ تيّارٌ اسمه: السوفيتيون الجدد أو الأوراسيون الشيوعيون وهم أصحاب رؤيةٍ شيوعية لروسيا في إطار الاتّحاد السوفيتي. تدعو هذه المدرسة إلى عودة الاتّحاد السوفيتي، فروسيا لن تحظ مجدّدًا بالاحترام الدولي ما لم تستعد مجد الاتّحاد السوفيتي وحدوده السياسية. ويُعدّ الأستاذ غينادي زيوغانوف.

6- المدرسة الاوراسية القارية: وهي قريبة من اليمين الروسي الجديد، وطروحات ألكسندر دوغين الأوراسية الجديدة، ولعلّ أكثر منظّريه بروزًا الأستاذ يورديس فون لوهاوزين الذي تميّز بتفكيره العابر للقارات، على حدّ وصف ألكسندر دوغين له. ولوهاوزين هو جنرال نمساوي ذو هوى أوراسي طبعًا، يلتزم النظرة العلميّة الصارمة، ويتميّز بتحليلاته الجيوبوليتيكية الصرفة، وله منطق يشبه منطق الوطنيين- البولشفيك و"اليمينيين الجدد"، كما أنّه ذو فكر قاري، ومن أتباع كارل هاوسهوفر. كتب لوهاوزين كتابًا بعنوان: "رجولة امتلاك السلطة، التفكير عبر القارات"، يُبرزُ فيه اهتمامه بمسألة السلطة السياسية ورجالاتها الذين يجب أن يتحلّوا بتفكيرٍ بعيد المدى: "عبر آلاف السنين، وعبر القارات"، بدلًا من التفكير من خلال المقولات الآنيّة المحليّة. ويقترح لوهاوزين المعادلة الآتية للسلطة: العظمة= القوة×مكان المتوضع. إذ يقول: "وبما أنّ العَظَمة هي القوة مضروبةً بمكان التموضع، فإنّ التموضع الجغرافي المناسب يُمَكّنُ من التطوير الكامل للقوى الداخلية". لذلك، فإنّ السلطة السياسية العقلانية وما إلى ذلك ترتبط ارتباطًا مباشرًا بالمدى المكاني. ويَفصِل لوهاوزين مصير أوروبا عن مصير الغرب، معتبرًا أوروبا تكوّنًا قاريًّا وقع لفترةٍ محدودةٍ تحت سيطرة التالاسوكراتيا، ولكن أوروبا في حاجة إلى الحد الأدنى المكاني (الموقع الجغرافي) من أجل تحريرها السياسي. ويمكن تحقيق هذا الحدّ الأدنى فقط عبر توحيد ألمانيا، والعمليات التكاملية في أوروبا الوسطى، وإقامة الوحدة الترابية لبروسيا، ثمّ تشكيل الدول الأوروبية مستقبلًا في حلفٍ مستقلٍ موّحدٍ لا علاقة له بالأطلسية .

7- مدرسة سبادة الدولة: وتدعو الى دولة قوية، مرتكزة على ديمقراطيةٍ غربية الطراز، وقومية روسية جديدة، وهويّة فريدة. ويرى هؤلاء روسيا باعتبارها حضارةً متميّزةً، لها طريقها الخاصّ في توحيد أوروبا وآسيا، وإرساء أوراسيا، وزيادة التأثير الجيوبوليتيكي. كما يرون أنّ قيم الثقافة الروسية والمصالح الروسية والسياسة الروسية غير متوافقة مع الغرب. إنّ هدف روسيا هو متابعة طريقها الثقافي الخاص من خلال تطوير تقاليد وطنية خاصة، ومن خلال التعاون بين قوميات أوراسيا. ويؤيّد الديمقراطيون الدولاتيون تنمية الاقتصاد الروسي في إطار اقتصاد السوق، ويأخذون بعين الاعتبار مسألة التعاون مع الغرب ومؤسّساته الدولية. وبدلًا من أن تصير روسيا صاحبة عواطف جيوبوليتيكية، فإنّهم يحثّون روسيا على أن تتّجه لموازنة الولايات المتحدة ومنافسيها. لذلك، فهم يتصوّرون القوة الجيوبوليتيكية الروسية والهيمنة الأوراسية في التعاون مع الخارج القريب، أو التأثير فيه، إضافة إلى كلٍّ من الغرب وآسيا؛ لأجل زيادة قدراتها الجيوبوليتيكية. من ابرز اساتذتها (فلاديمير أوزتانكوف) رئيس مركز الدراسات الإستراتيجية العسكرية التابع لهيئة الأركان العامة الروسية .

8- مدرسة الواقعية الجديدة: ندعو هذه المدرسة الى تطوير جملةٍ من المفاهيم والأفكار المتنوّعة؛ للتفريق بين أنماطٍ مختلفةٍ من الأنظمة، كنظام القطب الواحد، ونظام القطبين، والنظام متعدّد الأقطاب من جهة، وبين التهديدات الأمنية من جهة أخرى. على سبيل المثال، ومن أساتذة هذه المدرسة (ألكسي بوكاتوروف) الذي يدعو الى النظر في النظام الدولي لما بعد الحرب الباردة على أنّه نظام "أحادي تعدّدي القطب الذي يكون فيه مركز القطبية عبارة عن مجموعةٍ من الدول المسؤولة (من بينها روسيا) بدلًا من دولة واحدة فقط (أي الولايات المتحدة). ونظر بوكاتوروف إلى روسيا باعتبارها عضوًا في مجموعة، وحاجج بدعم مكانتها داخل المركز العالمي، كما أنّه رفض فكرة وجود دولة قطبية أحادية في العالم.

يعد وصول فلاديمير بوتن الى رأس السلطة في روسيا عام 2000 انتقاله نوعية وحالة من التحول في البناء الاستراتيجي الروسي على مستوى الفعل والاداء الخارجي، فمن هذا التأريخ بدأت روسيا بالظهور من جديد على الساحة الدولية. فقد اتجه الرئيس بوتين نحو تبني مبدا النهوض بروسيا على الصعيد السياسي وتنظيم الحياة السياسية، وانتشالها من حالة الفوضى والصراع نحو الصعود والريادة على المستوى الدولي. كما تبنى نهجا براغماتي يستند الى المصالح بدرجة عالية من المرونة بعيدا عن الرؤية الأيديولوجية الضيقة، والتي تهدف الى استعادة المكانة كدولة عظمى، مما شكل اساسا للمسعى الروسي لتعزيز النفوذ في العالم [40] وذلك لمجموعة من الاهداف:

1- العوامل الجيواستراتيجية المتمثلة في اتجاه روسيا إلى تعزيز تواجدها في البحر الأسود والبحر المتوسط بعد ضم شبه جزيرة القرم لروسيا عام 2014 .وهو ماتضمنته العقيدة العسكرية البحرية الجديدة التي صدق عليها الرئيس بوتين في 26 يوليو 2015،حيث نصت الوثيقة على ضمان وجود عسكري بحري دائم لروسيا في البحر المتوسط، وتعزيز الموقع الاستراتيجي لروسيا في البحر الأسود ردا على تحركات الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي في البحر الأسود على خلفية الأزمة الأوكرانية [41].

2- إلحاح التهديد الذي يمثله تصاعد الإرهاب في المنطقة والذي طال روسيا وفضائها السوفيتي السابق.

3- إن الأمن القومي الروسي بأبعاده الاقتصادية مرتبط ارتباطا وثيقا بالمنطقة نظرا لحيوية دور دول المنطقة، خاصة المملكة العربية السعودية، في إطارمنظمة أوبك في تحديد أسعارالنفط.

4- التغيرفي ميزان القوى الدولي مع تصاعد القدرات الروسية والتراجع النسبي في الاداء الامريكي. فالنظام الدولي قد تغيربالفعل باتجاه التعددية، وعودة روسيا كقوة فاعلة أصبح واقعا نتيجة النمو المضطرد في قدراتها الشاملة على مدى العقد ونصف الماضيين.

تعتبر الاستراتيجية الروسية ان الحفاظ وضمان علاقاتها المهمة مع عدد من الأطراف الإقليمية، وتكوين تحالفات جديدة من ضرورات امنها القومي[42]. في عام 2000 قام الرئيس بوتين بتوقيع عقيدة الأمن الوطني لروسيا ثمّ الوثيقة اللاحقة التي أقرّها الرئيس في 20 حزيران من العام نفسه والمتعلقة بالعقيدة الخارجيّة الروسيّة [43]. وبدأت روسيا تسعى لاستعادة مجد الإتحاد السوفياتي الضائع محاولة تحقيق توازن بين المعارضة التدريجيّة الليّنة إزاء التوسّع الظاهر لحلف شمال الأطلسي في مناطق نفوذها السابقة، وبين المحافظة على علاقتها الحسنة بالولايات المتّحدة وكل من ألمانيا وفرنسا.و قد توافقت في تلك الفترة سياسة بوتين الهادفة إلى تحديث الجيش وخفض نفقاته عبر التخلّص من الأسلحة النووية المكلفة ومن الصواريخ البالستيّة [44]، مع توجّهات الإدارة الأميركية لتجريد روسيا من قوّتها النووية التي تعتبر خطرا من المنظور الأميركي، سواء بقيت في خدمة الروس أم انتقلت إلى أيدي منظّمات إرهابية ودول أخرى نتيجة لتدهور الوضع الاقتصادي وحاجة روسيا المّاسة إلى المال.

من وجهة نظر الثوابت الجيوبوليتيكية، تتمتع إيران دون شك بالأولوية لأنها تستجيب لجميع المعايير الأوراسية؛ فهي دولة قارية كبرى ترتبط ارتباطاً شديداً بآسيا الصغرى، وهي معادية لأميركا، وتقليدية، وتركّز في الوقت نفسه على الاتّجاه السياسي الاجتماعي. وعلى الأرض، تحتل إيران ذلك الموقع الذي يجعل من محور موسكو ­ طهران قادراً على أن يحلّ عدداً ضخماً من المشاكل، إذ بإدخال إيران قطباً جنوبياً، يمكن لروسيا أن تحقّق على الفور الهدف الإستراتيجي الذي ما انفكّت تسعى إليه (بطرق خاطئة) منذ بضع مئات من السنين وهو الخروج إلى المياه الدافئة، ولذلك فإنّ روسيا تسعى دائماً إلى توثيق علاقاتها بإيران على الصّعد كافّة وصولاً إلى الهدف المنشود، وهو الوصول الاستراتيجي إلى الشواطئ الإيرانيّة والقواعد الحربيّة ­ البحريّة بالدرجة الأولى. وبذلك يكون محور موسكو ­ طهران قد اخترق "الأناكوندا" دفعة واحدة في أضعف نقاطها [45]، وفتح لروسيا آفاقاً لا حدود لها بغية الحصول على جسور جديدة لبلوغ المياه الدافئة وبالتالي إختراق مناطق النفوذ الأميركية القائمة على تخومها.

يقول الكاتب وسيم خليل قلعجية: "هذا التواصل الجغرافي الذي تتمتع به الجمهورية الإسلامية الإيرانية في منطقة الشرق الأوسط يفرض على روسيا الاتحادية تحقيق تواصل جيوبوليتيكي مع إيران، حيث تحاول موسكو الاستفادة من الموقع الإيراني في لعبة الصراع مع واشنطن، كون السياسة الإيرانية هي في موقع النقيض مع السياسة الأمريكية وطهران لا تزال على خلاف وعداء مع واشنطن. من هنا، فإن موسكو تعمل على استغلال الموقع الإيراني في إطار الصراع مع واشنطن ضمن خطة تتضمن اعترافاً عملياً بضعف موقع روسيا الاتحادية النسبي في منطقة الشرق الوسط مقارنة مع موقف الولايات المتحدة الأميركية. بالتالي، فإن روسيا الاتحادية لا تنظر إلى إيران كخصم بل كشريك وحليف استراتيجي سيساعدها على تحدي القوة الأمريكية من خلال توسيع نوفذ روسيا الاتحادية الإقليمي والدولي، وتهدف هذه الاستراتيجية أساساً إلى إيجاد عالم متعدد الأقطاب، حيث تحاول كل من روسيا الاتحادية والجمهورية الإسلامية الإيرانية إضعاف القوة والتواجد الأميركية في الشرق الأوسط ومن خلاله إضعاف حلف الشمال الأطلسي وتكوين حلف سياسي ـ عسكري مضاد يكون موازياً للهيمنة الأميركية في الرق الأوسط تشكل سورية نقطة ارتكازه"[46].

6- الاستراتيجية الصينية في إدارة الصراع

تعد السياسة الخارجية المرآ ة التي تعكس آراء الدولة وتوجهاتها نحو المواقف المختلفة في الساحة الدولية، لكن لهذه السياسة مجموعة من المحددات التي تشكلها وتعمل على صياغتها في اتجاه معين يخدم مصلحة الدولة بشكل عام، كما ان هذه السياسة تتعدد جهات تشكيلها. وتتأثر السياسة الخارجية للدولة بعدة محددات اهمها القيادة السياسية وجماعات المصالح والاحزاب السياسية والرأي العام [47]. وقد بدأت الاستراتيجية الصينية في استقراء الواقع الدولي وتحولها من دولة إقليمية الى دولة ذات فاعلية دولية وعالمية تتنافس مع القوى الكبرى على الهيمنة العالمية، لاسيما بعد ان ضمنت شروط تفوقها وهيمنتها في محيطها الإقليمي في شرق آسيا وجنوب شرق آسيا، حيث أثبتت الصين قوتها السياسية والاقتصادية في ظل الازمات الاقتصادية الدولية التي تعرضت لها معظم التكتلات الاقتصادية الإقليمية والعالمية بما فيها منطقة شرق وجنوب شرق آسيا باستثناء الصين نتيجة لقوتها الاقتصادية وتنميتها المتواصلة وهي ميزة استطاعت من خلالها تقديم المساعدات المالية لمعظم بلدان شرق وجنوب شرق آسيا بل كانت مستعدة لتقديم المساعدات المالية لكثير من دول أوربا التي تعرضت للأزمة المالية والاقتصادية العالمية .

ان عملية اتخاذ القرار تعني مجموعة القواعد والاساليب التي يستعملها المشاركون في هيكل اتخاذ القرار لتفضيل اختيار معين او اختيارات معينة لحل مشكلة ما [48] . وقد تطورت مؤسسات صنع القرار في الصين، مع تعاقب مختلف القيادات، ففي عهد ماو كانت معظم قرارات السياسة الخارجية كان القرارات النهائية تتصف بالمركزية الشديدة. ولكن بعد وفاة (ماوتسي تونغ) حدث تغيير في السياسات الصينية لتصبح تتجه الى المؤسساتية ولم تعد تعتمد بشكل كبير على الصفة الفردية لأحد القادة. ومن أحد محاور التغير في الصين إتاحة فرصة أكبر للدور الذي تلعبه هيئات الإدارة الحكومية المتناظرة والمختصة بقضايا السياسة الرئيسية، والمعروفة باسم "المجموعات القيادية الصغيرة"، كما قامت بكين فى أواخر عام 2000 بتأسيس "مجموعة قيادية جديدة للأمن القومي".  كما تشكل هذه الهيئات الصورة العامة للنظام السياسي، وأيضاً فإنه من شأنها تقييد السلطة التي يستقل بها فرد أو حزب.[49] تتسم الثقافة الاستراتيجية الصينية بعدد من السمات العامة:

1- الاعتقاد بأن الصين تتمتع بتميز ثقافي وسياسي .

2- تأكيد الوحدة والسيادة داخليا .

3- ضرورة تجنب الحرب والقتال المباشر .

عملت الصين أيضاً على تنويع مصادر التحليلات السياسية التي تصل إليها من داخل الحكومة أو من خارجها. فعلى سبيل المثال فإن القسم الجديد للتخطيط المتطور لسياسة وزارة الخارجية يلعب الآن دوراً بارزاً كأحد مصادر الفكر السياسي الداخلية، ومن ناحية أخرى فقد بدأت الحكومة فى تعيين متخصصين من خارج الحكومة للاستعانة بهم كمستشارين للقضايا الفنية مثل تلك التي تتعلق بعدم انتشار الأسلحة المحظورة والدفاع الصاروخي. هذا ويشارك عدد كبير من الدارسين والمحللين السياسيين الصينيين بصورة منتظمة فى مجموعات الدراسة الداخلية وكتابة التقريرات، إلى جانب تصميم بعض المختصرات السياسية، حيث يقوم هؤلاء الدارسون والمحللون السياسيون بكثير من الدراسات والزيارات للخارج للالتقاء بنظائرهم من الخبراء الدوليين بالإضافة إلى أنهم يلفتون أنظار الزعماء الصينيين إلى الاتجاهات الدولية السائدة ويطرحونها عليهم فى قالب من الخيارات السياسية.    وهناك أيضاً عامل آخر كانت له بصمة واضحة فى تطوير عملية صنع القرار فى السياسة الخارجية للصين وهو توسيع رقعة المناقشة العامة لتشمل الشئون العالمية. فلم يكن هناك أية مناقشات مفتوحة تتناول المشكلات الحساسة مثل حظر الأسلحة أو الدفاع الصاروخي فى خلال العشر سنوات الماضية، ولكن فى الوقت الراهن يستطيع النقاد أن يتناولوا كل تلك القضايا بالدراسة فى آرائهم ولقاءاتهم التليفزيونية إلى جانب مؤلفاتهم بفرض تفعيل وهيكلة الدبلوماسية الصينية. وفى الوقت نفسه فقد بدأت فئة من الصينيين تضم مسئولي الإعلام والمتحدثين الرسميين للحزب الشيوعى والصحف اليومية الشعبية تجرى مباحثات باستخدام أسلوب المائدة المستديرة بالاستعانة بالإدارة الصريحة للمحللين الجدد حتى إن بعض الصحف وخاصة "الهوانكى شيباو" (أوقات عالمية) و"النانفانج زومو" (نهاية الأسبوع الجنوبي) قد نشرت بعض الآراء المطالبة بإيجاد بدائل لسياسة الحزب الرسمي مثل تلك التي تتعلق بكوريا الشمالية[50].

وبحسب النظرة السياسية الصينية فأنه لا يمكن لأي طريق تنموي أن يكون على حساب المصالح الوطنية الكبرى، وخاصة المصالح الجوهرية، والتي تتلخص في:[51]

1- استقرار دولة الصين نظامها وحكمها السياسي، أي قيادة الحزب الشيوعي الصيني والنظام الاشتراكي والاشتراكية ذات الخصائص الصينية .

2- سيادة الصين وسلامة أراضيها والوحدة الوطنية من خلال ضمان الوحدة الجغرافية والإقليمية للصين الكبيرة والممتدة فوق مساحات شاسعة والمتعددة عرقيا ودينيا واقتصاديا، وذلك يتطلب وضع الجهد الكافي لمنع التدخلات الخارجية في شؤونها الداخلية خاصة فيما يتعلق بالأقليات في التبت وتركستان الصينية، ومن اجل ذلك فتحت الصين قنوات اتصال مباشرة وغير مباشرة مع العديد من دول العالم لتحديث جيشها وقواتها المسلحة لاسيما في . ضوء الإستراتيجية الصينية بتقليل عدد الجنود وزيادة فاعلية العامل التقني البشري.

3- توفير ضمانة أساسية لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة للصين ولاتحتمل هذه المصالح أي انتهاك بالنسبة لمفهوم "الأمن القومي الصيني" فقد بقي حبيس قناعة راسخة تقتصر على "حماية الحدود" أو ما يُطلق عليه نظرية "سور الصين العظيم"، وهو كناية عن التقوقع داخل الحدود والانكفاء عن لعب أي دور حيوي خارج هذه الأسوار[52]. لكن مع التطورات الأخيرة يبدو أن الصين شرعت بتوسيع رؤيتها لمفهوم الأمن القومي آخذة بالاعتبار النمو المتسارع لاقتصادها، واتساع رقعة المصالح الصينية في الخارج، وبروز "أمن الطاقة" كأحد أهم مرتكزات الأمن القومي الذي يضمن استمرار عجلة الاقتصاد الصيني بالدوران. [53]

 

زهير جمعة المالكي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم