صحيفة المثقف

سامي عبد العال: لماذا المرأة عَوْرَة..؟!

سامي عبد العالالعوْرة كلمةٌ عربيةٌ قُّح، منحوتةٌ بنبرةٍ أخلاقيةٍ لا تخلو من حُكم فوقيٍّ متعالٍ. تتداعى وراءها معاني: العيب، العَوَار، النقص، التَّشوُه، الخلّل، السوأة، العار.. وأخيراً تكشف بتداولها ما ليس أخلاقياً. ولكن إذا جاءت هكذا دلالة، فينبغي أن نتساءل: لماذا العورة تلتصق بالفضيحة نسوياً بوجهٍ خاصٍ؟! هل كل ما يتعلق بالمرأة عارٌ حصرياً؟! بالطبع ثمة خطاب ديني (متشدد ومعتدل جنباً إلى جنب) يعتبرها "كوكتيل فضائح" لا فضيحة واحدة. وقد لا يقول الناس ذلك صراحة، لكن اللغة المتداولة تلف وتدور حول هكذا معانٍ. والأنكى أنْ يظل المتكلم مجهولاً ومتحفزاً على ألسنة الناس العاديين. لأنَّ (الفاعل الجمعي) في الثقافة يطلق الاتهامات بقوة التداول متراجعاً إلى الوراء جاعلاً من الخطاب سيد الموقف.

 فإذا ظهرت المرأة كانت عورةً، وإذا فكرت بحرية كانت عورةً، وإذا تأملّت لن يخرج من عقلها إلاَّ عورةٌ، وإذا عبرت عن رأيها جاءت كلماتها عورةً!! وليس هؤلاء الواصفون المفترضون متفردين في المسألة كأنها حالات شخصية. ثمة آراء حتى من المثقفين والتربويين والمؤسسات والقوانين تؤكد المعاني السابقة. وهذا يثبت أن الفضيحة الأنثوية أكثر من مساحة انكشافٍ لا يجب أنْ يطّلع عليه أحد. إنَّها نمط تفكير (لدى مجتمعاتنا البشرية) يمسخُ عقلَّ المرأة إلى غريزةٍ، إلى صورة ذهنية تهدم أيَّة عقلانية ولا سيما لو كانت العقلانية الموثوق بها ذكوريةً في المجال العام، فالذكور هم الذين يحددون ما هو المنكر وما هي العورة من الأساس!!

 وبالتالي لو أردنا مُناخاً عقلانياً يرد الاعتبار لإنسانية الإنسان، ينبغي معرفة: كيف تتشكل الفضائح كوعي جمعي؟! المرأة -كمقولة وكخيال- تخترق هذا الوعي، تتركه مهترئاً حتى لدي موضوعاته الصورية والميتافيزيقية. لأنَّ حدودها (أي المرأة كفضاء معنى) لا يجب أن تمثل مجموعة غرائز حسية تلتصق بها في مجتمعاتنا. فلقد اتسع هذا الوضع لدرجة أنَّ صورَ المرأة في ثقافة التحريم تغلِّف الأحاسيس والأفكار والأفعال بأساليب خادعةٍ وموقعة للذكور في حبائلها. فيظن الإنسانُ أنَّها مادة قابلة للتغيير والقمع والتدجين مادامت محددةً في إطارٍ. حتى باستطاعتها التبخُر لغوياً خلال الخطابات الجارية إلى درجة الاعتقاد الساري دون نقاش. ولاسيما أنه بذكورية المجتمعات البشرية، تتكثف الأفكار الحسيةُ خلال موضوعات تصبح المرأةُ أولَّ ضحاياها دونما اعتناءٍ بحقيقتها الإنسانية. لأن ما ينتمي إلى الذكور يندفع في اتجاه المرأة كضحية حتمية لما يمارس المجتمع ويبرر شروره بين الأفراد. ولتبرئة الذكور لابد من ضحية مرتين، مرة بالفعل ومرة بالاتهام طويل الأمد عبر اللغة.

 إذن لدينا عدة مراحل للفضيحة الأنثوية توضح أساليب تكوينها جمعياً.

أولاً: انتشارُ الصور الغرائزية للمرأة، أنماطها، دلالتها، تحولاتها، أخيلتها، أطرها الحسية. وهذه النقطة في الثقافة الاسلامية تتعلق بموضوعات بيئية وبظروف تاريخية بالأساس. كما لا ينظر للمرأة إلاَّ كأنثى للرجل، كوعاءٍ للوطء، كموضوعٍ جنسيٍّ خالٍّ من إنسانيتهِا. وهي في الغالب أصل الخطايا والشرور. ولنلاحظ أن الذكر يحاول أسقاط صورة ما يفعل على الأنثى بشكل مقلوب، فإذا كان يتلصص النظرات إلى العورة كما يقول تجاه الأنثى، فإنه يدافع عن نفسه باعتبارها الأساس (هي مصدر الإغواء). والفكرة هنا ترتد إلى التصورات الدينية الشائعة بكون المرأة هي التي أغوت آدم وانزلته من الجنة.

ثانياً: تصفية المضمون الحسي للأنثى استعارياً عبر فكرة ثابتةٍ (أي أنها الخطيئة). إذ تعتبر خطاباتُّنا المتداولةُ أنَّ المرأةَ فكرة محقرةً إلى درجة الإذراء. فرغم كونها "زوجة الرجل وحبيبته ومصدر إلهامه"، لكنها مصدر شقائه ونكده الدائم ورغبته المتناقضة بين الحب والكراهية. وهنا العلاقة يشوبها الازدواج: المتعة واللعنة، التبجيل والتحقير في الوقت نفسه. والمرأة يعتبرها العربي نصفه الحلو أمام الآخرين، لكنه يعتبرها بالمثل طريقه المُر إلى الجحيم. 

ثالثاً: تعميمُ الفكرة إلى طابعٍ فضائحي مرعبٍ اجتماعياً. وذلك بسيادة المُناخ اللاهوتي والسلفي في التواصل والعلاقات الإنسانية. فالخطابُ الديني ليس له مادةٌ دسمةٌ إلاَّ عورات المرأة. أظافرها، شعرها، طولها، عرضها، زواجها، صيامها، حيضها، عواطفها، أحلامها، خيالها، مصيرها، شيطانها، موتها، عذابها. ونسي أنَّها طاقات رمزية تتوحد بطبيعة الحياة في كل الديانات والإبداعات الأدبية والأفكار والتصورات حول العالم والحياة واللغة. وليست الديانات التوحيدية بما تكون في تراثها الثقافي بأقل مما سبقها.

رابعاً: تداول التحريم بشكل هوسي خوفاً من (أو على) موضوعه الأصلي (النساء) وذلك موجود في طبيعة العلاقات الإنسانية. حيث تمثل النصوصُ والكتابات الدينية واقعاً بديلاً مثل الأيديولوجيات الوهابية والإخوانية والداعشية. يبدو ذلك واضحاً تجاه رؤية النساء حتى لذواتهن. فهن يأخذن بأسباب التحريم الاجتماعي حاملاً ضمنياً التحريمات الدينية في كل تفاصيل حياتهن. حتى عواطفها، ومشاعرها تتقلب وتتغير بفتاوي، وتخرج بأخرى، وتقنن بفتاوي غيرها... إلى مالا نهاية.

خامساً: اعتبار التحريم شكلاً نهائياً للمرأة دون اختلافٍ عن الأصل (المرأة إنسان). أي: فرض التحريم نمطاً ممسوخاً ومكشوفاً من المرأة على كلِّ أنثي. امرأة خانعة ومطيعة وترسف في تعاليم الإرادة الذكورية باسم الدين. أكبر ما فعلّه الرجل أنَّه رسم صورةً للمرأة حلّت مكان طبيعتها كنوع من اغتصاب وجودي لحقيقتها. وذلك في الأساس مدفوع باعتبارها عورةً محل استهجان وتغطية وحجب، بكلمات واضحة يجب أن تُغطى، وأن تعدل من كيانها فكراً وحياةً، وأنْ تولد من جديد كيفما يريد الذكور. فلابد من خلقها في حدود صورة على مقاس المجتمعات وانسحب ذلك على مفاهيم العمل والمشاركة السياسية والأعمال العلمية وحتى الاجتماعية.

سادساً: تفترض العورةُ وجود الذكور ضمناً، فهي وصم اخلاقي للمرأة لأن هناك ذكوراً قد رأوا العورات، ثم هم أنفسهم من استنكروها كفعل مع أنهم الطرف الثاني في الوصف. ولكن تمَّ تبرئتهم اجتماعياً بينما تركت بصمات الفاعل على كيان المرأة. والمدهش أنَّ المجتمع ينحاز من خلال العورة الأنثوية إلى كل ذكر ولو كان تافها.

 وبهذا تصبح المرأةُ عورةً مضاعفةً باستعمال الخطابات المؤدلجة دينياً وطرائق التفكير وسلطة المجتمع. وإذا نهى الدين عن الاقتراب منهن، كان الناس أكثر تشدداً وغلظة أو وقاحة واستباحة لوجودهن. يتجلى ذلك عند متداولي اللغة والنصوص المقدسة ومثقفي الغوغاء ولاعقي أنامل السلطة وفقهاء الأنظمة السياسية الحريصين على إقصائها. مع أنَّ النساء أقربُ إلينا نحن الرجال إنسانياً وطبيعياً وبإمكاننا معرفتهن لأننا نعرف أنفسنا (النساء شقائق الرجال). هذا قبل الدوران الثقافي المتعدد للفضيحة حتى حلت كدينٍ مختلفٍ عن الدين الإسلامي أو المسيحي أو اليهودي. وأيُّ قدحٍ في معرفتنا الإنسانية بهن يفترضُ قدحاً في أنفسنا بالتوازي.

الفضيحةُ موقف أخلاقيٌّ يدعو إلى التصديق الغوغائي مع انعدام أية رؤية نقدية أو فاحصة لموضوع الوصف. إذن العورة هي خطاب لحالة عمياء blind caseمن الاعتقاد الشائع Common sense. لا يلجأ إليها صاحبُها إلاَّ مع فقدان المنطق والقدرة على التمييز والثقة في الآخرين. والعورة تفترض وجود رأي الجمع، الخوف من الآخرين، الجهل المقلوب علماً. وتنشأ كالنيران في الهشيم محاطة بمحرمات اجتماعية وثقافية فوق مستوى الشبهات. ولأن شأن المرأة تكتنفه أسرارٌ متراكمةٌ حتى عن نفسها، فلن تكون في العلن إلاّ فضيحة وكارثة. الخوفُ من الأسرار تعادله حتماً إمكانيةُ الافتضاح:" اللي يخاف من العفريت يطلع له" كما يقال في الأمثال الشعبية. هكذا نقول وراء الكوارث الاجتماعية" فتش عن المرأة". ولا أدري ما علاقة المرأة بالكارثة إذا كان المجتمعُ متخلفاً؟

جانبٌ كهذا بحق النساء قد يتجاوز كافة هوامش الحرية لدينا. إذ يلاصق المجتمع العربي المرأة أينما ذهبت، تتابعها عيون لا تكف عن الترقب. دائما نفترض أنَّ سلوكَّها حليةٌ ماكرةٌ لمغافلة الآخرين. سلفاً هي قيد الاتهام بحكم قانون ثقافي لا تملكه حول نفسها وسلوكها. ويجري عليها دون دفاعٍ ولا استئناف. وبالتالي فأيُّ امرأة تمشي جمعاً لا فرداً مع المفارقة المطلوبة: فاقد الشيء هو من سُيعطيه. أي أن المرأة فرداً ومع ذلك تغذي النظام الجمعي بما يحقق وجوده ومراقبته الدائمتين لها ليلاً ونهاراً، حياةً وموتاً. فالثقة التي سحبت من المرأة يجب أن تحققها بالولاء لعيون تنتظر منها كل سقوط في المحظور.

من هنا فالثقة تجاه النساء ناقصة ومثقوبة عقلاً وسلوكاً وجسداً ورمزاً. وستُحاط بكم المحاذير الخطرة القادرة على ملاحقتها حتى جوف خدرها. أشار الفقهاء أنَّها أكبر فتنة في طريق الاسلام والمسلمين، معتبرين إياها دابة إبليس إلى آدم في كل عصر من العصور. وأي فتنة ستسببها لهي أخطر أنواع الفتن على الأمة. يحدثُ هذا كما لو كانت كائناً قاصراً، وأن رأسها مجرد علبة كرتونيةٌ فارغةٌ بلا عقلٍّ!!

موضعُ العورة في الحياة اليومية موضعٌ حسيٍّ يُساء فهمه. ويمثل وصفاً أخلاقياً خارج اللياقة إذا كشف عما يشين لدى مستخدميه. لأنَّ المرجعية الاسلامية لوصفه تفترض منظومة قيميةً تأخذ بالنهي البات عما يبدو كذلك. كما أن انطباق الحكم العام على حالات جزئية أمر فيه كلام. وتباعاً يمكن أنْ تطال هذه المنظومةُ القيمية كيان الفكر الحر بطريقة جسد النساء. فيتم اعتبار كل فكر حر سلوكاً فضائحياً طالما يخالفها وبخاصة حين تعبر المرأة عن رأيها أو مواقفها في الحياة. الفضيحةُ هاهنا ليست محط غريزة وشهوة لكنها تكشف جسداً اجتماعياً أو سياسياً للنظر الناقد. والعقل كفاعليةٍ يظهر مواضعَ العفن والتخلف في المجتمع. ولهذا يسعي أصحابُ " المرأة عورة " إلى اعتبار العقل كذلك على نحو عام!!

لكن السؤال المنطقي: كيف لعقلٍّ لا يعد شيئاً ملموساً أنْ يصبح عورةً؟! عندئذ لا محيص عن اعتبار العقل قدرةً غير مألوفةٍ على التفكير الحر. وهذه ليست متوافرة لدى غالبية الناس. فإذا فكر إنسانٌ بتلك الطريقة ستناله كلُّ الأوصاف المشينة التي تلصق بالفضائح. لأنَّه لا يبدي ما يجعله طيعاً بالنسبة لغيره من أصحاب السلطة السائدة أو المروضين تحت لجامها العام. فالعقل ليس مادةً حتى يخضع لنسق صارمٍ من الأوصاف الحسية. وإذا كانت الأخلاقُ تؤثر عليه، فلأن الواجب الاخلاقي يلزمنا بحكم كليته الإنسانية كما يرى كانط. وبالتالي يتعامل العقل مع الأشياء كوظيفة معرفية وحسب. إنَّه يستنتج، يحلل، يربط، يستنبط، يبتكر علاقات، يكتشف أسباب، يؤول، يكمل ما هو ناقص ومفقود.

فهل يتدين العقلُ سواء أكان أنثوياً أم ذكورياً كي يرتدي نقاباً كحال الجسد؟ بالطبع لا. وحين تمثل العورةُ كشفاً لجسد المرأة، فالقضية أن الجسد الأنثوي- خصيصاً- نسق من الحظر الجمعي حفاظاً على المجتمعات والعلاقات بين الناس. فالجسد لا يتجلى عموماً إلاَّ بوجود ما يحرمه إجمالاً ولا يجدي معه العقل. ولهذا كان الفقهاء الذين يتكلمون عنه طوال الوقت مشاركين في كشفه من حيث لا يفقهون. لأنَّ العورات تفترض جسداً ظاهراً وعيناً ترمق عن كثبٍ. فلماذا يتدخل الفقهاء كطرف ثالث مؤكدين ذلك العُري؟! مع أن الجسد قد يُفهم في حدود دلالاته الرمزية أمام الآخرين. فيصبح جميعه تأويلاً استعارياً خارج اليومي والحركي لمزيد من الفهم وإدارة رغبات الأفراد وصراعها عبر الحياة المشتركة.

 ويظهر هذا المعنى العميق من قول القرآن: "إذا بُشِر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم". فهذا النص المؤسس يحمل ويشجب نصاً ثقافياً يخص السياق المتحدث عنه، كتابة شاطبة على كتابة بطريقة التحبير فوق حروف قديمة تخص الأنثى. فالوجه هو مرآة الإنسان الفعلية ضمن المجتمع الذي يمارس عاداته وتقاليده تجاهها. ولذلك يعد الوجه لوحة العادات والتقاليد في بيئة قاحلةٍ تأد الأنوثة من الجذور. الوجه كمعنى رمزي هو مرسوم وبرتوكول اجتماعي عميق في الحفريات الدينية. فقديماً منذ بدايات الإنسان، عندما قتل قايين (قابيل) أخاه هابيل، قال له الربُ كما جاء في سفر التكوين:" لماذا سقطَ وجهُك".

هذا السقوط نتيجة اغتيال أخيه روحاً وجسداً، فلم يعد له وجه يقابل به الله والحياة. وهذا الوجه نفسه يلونه السواد الكئيب نتيجة تبشير صاحبه بالأنثى الآتية من صلبه. إذن الوجه البشري تعلُوه الفضيحة لمجرد ميلاد الأنثى دون مقدمات إلاَّ أن تكون الثقافة هي الحاكمة لوجود الذكور ووعيهم. إذ يفضل العربي البدوي السواد على رؤيتها الإنسانية كجزء منه. ورغم ذلك قد يعاقر غوايتَّها كنوعٍ من العهر الخارجي والانخراط في علاقات سرية. وأنَّه يصاب بالتشوه، والعار إذا كانت الأنثى في عقر داره. إذن القضايا واحدةُ تلتقي لدي العار في كيان امرأة سواء معها أو ضدها. إنَّ سقوطَ الوجهِ بواقعة القتل يعادلُ سواده بقتل من نوع آخر. فتتبع الفضائح (العورات) لا يختلفُ كثيراً عن القتل العمد. فالعورة نوع من القتل لكل امرأة توصم بها ولو في الخفاء.

 إنّه يجب النظر إلى المرأة كإنسان بالمقام الأول، لها الكيان نفسه، ولها الطاقات نفسها، ولها العقل والإرادة نفسهما. لأنَّ بعض الكلمات كالعورة تنفي إنسانيتنا عندما ننفي إنسانية الآخر الذي هو نحن. وليس وصف المرأة بكونها جزءاً من الرجل (حواء وآدم) إلاَّ معنى وجودياً يستمر بقدرتنا على الحياة الحرة. كما أنَّ الكلمات المُشينة اخلاقياً لا تنتقص من موضوعها بقدر تظهر خطاباً موروثاً يجردنا جميعاً (ذكوراً وإناثاً) من العقل لا من الملابس فقط.

 

سامي عبد العال

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم