صحيفة المثقف

مهدي الصافي: سياسة التخبط... والفكر والتخطيط العربي العشوائي

مهدي الصافييقال ان الالهام اساس الابداع الشعري او الادبي الاخلاقي، ونقول ان الفكر والفلسفة الانسانية، وعموم مجالات الثقافة والوعي بحاجة الى تلك الملكة او الحالة الفطرية الخاصة (التي تأتي بالطبع من الله عزوجل لمن يختص من عباده)، ومن هنا نتمنى على الناس ان لاتهمل او تمر مرور الكرام على مايكتبه الكتاب الصادقون مع الله عزوجل، ومع انفسهم والناس، اصحاب الفكر والغايات والاهداف الاخلاقية الانسانية النبيلة، استكمالا لمسيرة الابداع البشري الحضارية المستمرة....

الاستعمار كالمرض المزمن تبقى اثاره حية حتى بعد مغادرته المستعمرات، ولهذا تجده جاثم على صدر ضحاياه ولو من بعيد..

اتسمت السياسة الدولية بعد نهاية الحرب الباردة 1990 بالفوضى العارمة، واصبح عالم القطب الواحد منحدرا بقوة نحو الرأسمالية الامبريالية، شركات عملاقة عابرة للقارات والسيادات، تتحكم بالقرار الدولي، وبحركة الاقتصاد والتجارة والمال والاعمال، ثم جاءت حرب (اسقاط طالبان في افغانستان) الخليج الثالثة (حرب الخليج الاولى بين ايران والعراق، والثانية حرب تحرير الكويت 1991) لاسقاط نظام صدام2003، والصعود المتسارع للدول الناشئة، والقوة الاقتصادية الصينية العالمية، وماحصل من تحولات استراتيجية في نهضة بوتين لروسيا وعودتها كقوة قطبية مؤثرة..

غاب واختفى او اهمل دور الامم المتحدة ومجلس الامن الدولي بعد انطلاق مابات يعرف بالحرب الباردة الثانية، واصبحت بمثابة التابع الروتيني التقليدي للولايات المتحدة الامريكية، ونوعا ما لاوربا، وهذا جاء بعد ان توسع مفهوم الدفاع عن المصالح الامريكية لادارة البيت الابيض (عهد بوش الاب والابن)، بالانتقال بين المصطلحات وسياسة الحصار والاحتواء الى نظرية الحرب الاستباقية او الوقائية، وبداية طرح مشروع الشرق الاوسط الجديد، وما حدث بعدها من اندلاع ثورات الربيع العربي لاسقاط الانظمة الشمولية الفاسدة، انتقلت بعدها القوى العظمى الى ميدان الصدام الحضاري العلني (نظرية صدام الحضارات الامريكية)، وبدى الامر وكأنه صراع من اجل السيطرة والهيمنة على طرق ومنافذ التجارة الدولية الثلاث (البرية والبحرية والجوية)، ولعل مشروع الهيمنة الصينية الناعم (طريق الحرير)، الذي وضع موطئ قدم ثابتة نسبيا امتدت من باكستان الى ايران (وقد يمر بتركيا مستقبلا ثم اوربا)، وتسارع الاحداث والتدخلات في سوريا واليمن (والازمة الخليجية القطرية، ثم صفقة القرن الامريكية)، جاءت كارثة جائحة كورونا، وماتسببت به من حالة اغلاق شبه شاملة لحركة السفر وتنقل الافراد والتجارة والسياحة والاقتصاد الخ.

ظهرت الارهصات الجديدة لاعادة ترتيب التحالفات بين القوى العظمى والاقليمية في الشرق الاوسط، فتصاعدت مرة اخرى (عالم مابعد الحرب الباردة ليس ماقبله) عبارة عالم مابعد كورونا ليس ماقبله!

كل الازمات والصراعات والتوترات الدولية بين القوى العظمى انحصرت في المربع العراقي السوري الايراني التركي (اضافة الى اليمن، ودول الخليج المطبعة مع اسرائيل، والاردن)، لكن بعد خروج ايران من عنق الحصار الامريكي الدولي بعقد الاتفاق الاستراتيجي مع الصين، تحولت الانظار الى حلقات الوصل المهمة الاخرى العراق وسوريا (ولايمكن استبعاد ان محاولة الانقلاب الابيض الفاشلة داخل الاسرة الهاشمية الاخير في الاردن، وحادثة اغلاق قناة السويس من قبل الناقلة ايفرغيفن، هي ايضا محاولات لايجاد بدائل بحرية، او تحالفات جديدة)، مع ان زخم التدخلات الاقليمية والدولية لازال مسلط على العراق بشكل مباشر، ولهذا تقدمت مشاريع بديلة للارتباط مع الصين، بدأت باحالة ميناء الفاو للشركة الكورية المتلكئة، ومن ثم الاتجاه غربا عبر طرح مشروع التحالف الاستراتيجي الشامل مع مصر والاردن، دون ان تكون هناك دراسات استراتيجية محلية او مشتركة مسبقة بين هذه الدول، توضح جدوى هذا التحالف الغريب؟

نستنتج وباختصار شديد لكل مايحدث من اخفاقات وانتكاسات متكررة في منطقة الشرق الاوسط (تحديدا ايران والخليج)، بتسجيل عدة معطيات تحليلية نعتقد انها مهمة وغير مشخصة سابقا، ادت الى كل هذا التدهور والتخبط السياسي والاقتصادي والامني لدول المنطقة، وفيما يلي قسم منها:

اولا: غياب الانظمة الديمقراطية الحقيقية لبناء دولة المؤسسات

ثانيا: قلة الوعي الشعبي وحتى النخبوي احيانا في طرح مفهوم بناء دولة الامة والمجتمع الواحد

ثالثا: الفكر العشوائي في بناء الدولة والمجتمع (لانه مزيج من العادات والتقاليد والموروثات والانتماءات الاثنية والطائفية والقبلية)

رابعا: عدم وجود رؤية تنموية استراتيجية شاملة لتطوير الدولة ومؤسساتها وقطاعاتها المختلفة (مانراه دول نفطية غنية مع هذا تنتشر فيها العشوائيات والمخدرات والجرائم الاخرى، مع زيادة نسبة البطالة والفقر)

خامسا: هبوط المستوى التربوي والعلمي وحتى الثقافي للدول العربية وبقية دول المنطقة

سادسا: انتشار العنف والتشدد والتطرف الديني (السني والشيعي)

سابعا: الفساد المالي والاداري والاجتماعي

ثامنا: عدم وجود نضوج سياسي نخبوي لانتاج فكر سياسي غير مؤدلج، يأخذ على عاتقه بناء دولة ديمقراطية تنموية حديثة......الخ.

تاسعا: الاسلوب والاداء والتفكير السياسي الفردي او الاحادي، الذي لايريد ان يرى الوجه الاخر للحقيقة، معتبرا ان السياسة الموروثة هي اساس القواعد الحديثة في التعامل مع الاحداث والمتغيرات الدولية او الاقليمية وحتى المحلية (ولاية الفقيه في ايران، وولاية ال سعود في الحجاز، الخ.)

عاشرا: الاقصاء والتهميش والابعاد المتعمد للصفوة من المفكرين والنخب السياسية والثقافية الوطنية، مع انها اساس تقدم وازدهار واستقرار الدول والمجتمعات

الدول الرأسمالية الامبريالية لا يمكنها ان تصبر طويلا على الدول الفاشلة، بل تبحث دائما عن البديل المستقر نسبيا امامهم، وامام شعبه، ولديها امكاناتها وادواتها العملية الواسعة لتنفيذ تلك الارادات المعدة سلفا، الغريب في الامر انها تبحث عن حل ملف افغانستان (باعلان الانسحاب الامريكي قبل ايام من هناك بعد الاتفاق مع حكومة طالبان)، وكذلك في العودة الى الاتفاق النووي مع ايران، في حين لازالت تتفرج على الارض الملتهبة دون ان تطرح اية حلول مقبولة (ملف سوريا والعراق واليمن)، تاركة الوضع بين كماشة سياسة التخبط الدولية في المنطقة (بين امريكا واوربا من جهة، وروسيا والصين من جهة ثانية)، وبين انظمة الفكر السياسي السلبي العشوائي، مع انها كما يبدو في العراق على سبيل المثال تبحث عن غربلة شاملة للاحزاب والقوى الحاكمة في العراق، والاعتماد على ثلاث تيارات رئيسية تمثل الشيعة والعرب السنة والاكراد، حتى يمكن لها ان تضمن احكام القبضة والهيمنة على القرار الرسمي الحليف، وانتزاع البلد من يد ايران، ومن ثم الانتقال الى الملف السوري واليمني الخ ...

لا يمكن لشعوب هذه الدول ان تخرج من هذه الانفاق المظلمة، الا بالعودة الى جذور تلك الانهيارات، التي دفعتهم وحشرتهم في هذه الزوايا المعقدة (حتى بات البعض من حكام الخليج يعتقد ان التطبيع مع اسرائيل سيعطيهم قوة معنوية اقرب الى حالة التحالف الاستراتيجي النووي معها لمواجهة القنبلة الايرانية النووية المزعومة او الهلال الشيعي النووي)، لمعالجة الازمات الداخلية السياسية والاقتصادية، والبحث عن المشتركات الاقليمية والدولية الاستراتيجية المهمة، لمنطقة تعد مع قربها من الصين رائدة في مجال توفر الموارد الطبيعية (النفط والغاز والمعادن والارض الصالحة للزراعة)، بعيدا عن لغة واسلوب المحاور والتحالفات الاستفزازية غير المبررة، من اجل مد جسور التواصل بين دول المنطقة، ونشر ثقافة تبادل المصالح المتبادلة بينها، لتعزيز سبل افاق التعاون العربي الاقليمي التنموي المشترك....

بدلا من صناعة ثقافة الكراهية والعنف (والعيش داخل هاجس الحرب المحتملة) التي تعني تصاعد وتيرة التوتر وسباق التسلح، لتبقى هذه الدول عند حدود المشتركات التاريخية الحضارية، والروبط الجغرافية والعلاقات المصيرية بين شعوبها....

 

مهدي الصافي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم