صحيفة المثقف

محمود محمد علي: وداعاً الدكتور عثمان القاضي أيقونة النقد الأدبي

محمود محمد عليفجعت العربية وتراثها العريق بوفاة علم من أعلام النقد الأدبي بجامعة أسيوط الزاهرة بجمهورية مصر العربية، وذلك بعد حياة حافلة متسمة بغزارة النتاج الأدبي، ولائحة طويلة مـن الإسهامات التخصصية في النقد الأدبي، حيث رحل عن عالمنا ظهر يوم الخميس (22 أبريل 2021 م)، الأديب الكبير، واللغوي القدير، والعالم المفكر، والناقد، وأحد أعمدة التحقيق اللغوي، والأدبي، وصاحب التصانيف العديدة المفيدة، والأعمال السديدة الفريدة، الأستاذ الدكتور عثمان عبد الرحمن عثمان منصور (الشهرة عثمان القاضي) وهو في أوج ازدهاره الفكري وقمة عطائه، بعد أن أثري حياتنا الأدبية والثقافية والنضالية بإسهامات لا تنسي، غادر ساحة الثقافة، والأدب، واللغة، وهي أحوج ما تكون إلي أمثاله، في عصر أصبحت لغة القرآن " اللغة العربية الفصحي مهددة حصونها من الداخل والخارج،  وقد رحل عـن عمر يناهز (82 ) عامًا قضاها بين التعليم الجامعي، والنقد الأدبي، والبحث العلمي، والثراء المعرفي.

ويعد عثمان القاضي من الشخصيات التي ارتبط اسمها بجامعة أسيوط، أديباً، وناقداً، وباحثاً، ومؤرخا، وله الكثير من الرسائل والكتب والمقالات القيمة في النقد الأدبي، ويعد الراحل الأديب في مقدمة النقاد المصريين الذين جمعوا بين النقد والإبداع، وأرسي قيما أخلاقية في الابداع والنقد والسلوك الثقافي العام . شغله كثيرا هذا البعد الإنساني الذي لم يفرط فيه أبدا، بالرغم من تعرية القبح وإدانة الفجاجة . ومن ثم تجاوز الواقع والتجاوز معا، وتعدد التفارق في الرغبة إلي معانقة الروح والجمال .. فأنتج ثراء هائلا في الأدب والنقد والتحقيق والتأليف والحياة . ضفر الواقع والرمز في ضفيرة مجدولة بإتقان الصنعة وحذق المهارة، ووشي النقد الأدبي القديم والحديث بقيم روحية وأخلاقية ولغوية حددت عطاءه وكرست ريادته.

وهذا إن دل علي شئ فإنما يدل علي جهده الذاتي في سبيل التحصيل، وصقل المواهب، والتزود بزاد الفكر والأدب واللغة، غاص في أعماق المصادر فاستخرج اللآلئ، وتسلق الشامقات فجني خير ثمارها، وبني ثقافته علي أساس متين من العلم، والأدب الرفيع، شاهدته يرحمه الله علي كبر سنه، يدافع عما يؤمن به أشد الدفاع، ويذب عن حمي هويتنا الإسلامية العربية أشد ما يكون الذب والذود، متسلحاً بسلاح الدين والثقافة الإسلامية، المستمدة من مصادرها الإسلامية الشامخة وهو الكتاب والسنة، والحضارة الإسلامية العريقة .

علاوة علي أنه كان للمرحوم وبتوفيق الله مواقف مشرفة في الدفاع عن هذا التراث الثمين، والكنز الغالي . وصدق الله العظيم:" إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"، ولا شك أن حفظ القرآن الكريم يستلزم حفظ اللعة التي بها نزل وهي اللغة العربية.

اهتم عثمان القاضي باللغة الغربية، ورأي أن انكسار اللغة – عدم الاهتمام بها – انكسار للأمة، وانهدام لها . لأن التماسك اللغوي، تصالب للأمة .. فاللغة عنده لها عبقريتها المتفردة، وحزنه شديد كلما رأي انحرافا في اللغة يسئ إليها، زخرفة كانت أو تشكيلا هلامياً يغرم بالتورم اللفظي، ومن ثم حرص علي أن تكون لغته صافية نقية ساحرة، خالية من الغموض، بعيدة عن التقعر، مفارقة للحذلقة والزخرفة والترصيع، صادقة في التعبير، صحيحة في التراكيب.

إن اللغة العربية تمثل تراثا حتميا عند عثمان القاضي، ومن ثم رأي أن الأدب الجدير بالبقاء هو الأدب المصوغ بتلك اللغة، لأنها الأقدر علي البقاء والجمال معاً، ولذلك نجد عثمان القاضي في كل أحاديثه وكتاباته ومحاضراته يتحدث عن اللغة العربية كحامل للتراث وكوعاء لحضارات تمتزج وتستوعب، وكأداة تعبيرية تضفي علي العمل الجمال والجلال معاً، فاللغة العربية في نظره هي التي تشكل الفكر – فكرنا- وليس لنا لغة إلا تلك اللغة التي ورثناها، قابلة للتطور من جيل إلي جيل، ولكنها تظل اللغة العربية الفصحي بعبقريتها المتفردة وسليقتها الفذة.

وكم كانت الخسارة كبيرة، ينتابني حزن عميق .. وتنتابني غصة كلما تذكرت أن عثمان القاضي ليس بيننا .. لم أشاهده في حياتي عابسا .. أو شاكيا .. ولم أسمعه مرة يتحدث عن الناس إلا بالخير .. وبقدر معرفته العظيمة، إلا أنه أقل الناس حديثا .. ودود ومتواضع لدرجة أنك تسأل نفسك وأنت في حضرته .. هل حقا أنا أجالس مع عثمان القاضي العملاق.

إلتقيته بلجنة العلاقات الثقافية قبل وفاته بأيام بكلية الآداب، فكان كما هو، حتي وهو يتألم، بشوشاً ضحوكا، وفياً، ولأنه شامخ في حياته، كان شامخا كذلك حتي وهو يفارق، وتفيض روحه لبارئها في الفضاء، لا علي أسرة المستشفيات .

وأفتخر أنني هنا أكتب عنه فهو معلم  وعملاق، ولا أنسي أنني عندما كنت أسطر مقالة لي كل يوم أرسلها له عبر الواتس، وحين كان يقرأ حروفي المتواضعة يفاجئني باتصال أبوي، يجعلني أشعر بالتقصير أمام ما أجده في شخصيته الخلوقة.

ولد الأستاذ الدكتور عثمان القاضي  في الخامس عشر من شهر نوفمبر لعام 1940م، بأسيوط، وكان من الجيل الذي قد أتم حفظ القرآن الكريم قبل إتمام المرحلة الابتدائية، ثم التحق بالأزهر الشريف، وحصل على الشهادة الابتدائية الأزهرية (وهى الإعدادية حاليا) وكان ترتيبه الأول على محافظة أسيوط والثالث على الجمهورية، ثم حصل (متفوقا) على الثانوية الأزهرية المعادلة سنة 1963م، وبعدها أيضا حصل على درجة الليسانس في اللغة العربية والعلوم الإسلامية من كلية دار العلوم - جامعة القاهرة بتقدير عام جيد جدا (في السنوات الأربع) مع مرتبة الشرف عام 1967م؛ وهنا  كًلف بشغل وظيفة معيد فى كلية الآداب بسوهاج – جامعة أسيوط عام1977م، ثم حصل علي الماجستير عام1983م وعين مدرسا مساعدا، وحصل بعد ذلك أيضا حصل على درجة الدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى عام 1987م وعين مدرسا، وترقى إلى درجة أستاذ مساعد عام 2000م، ثم ترقى إلى درجة أستاذ عام 2005، وكان يشغل قبل وفاته وظيفة أستاذ متفرغ فى كلية الآداب بأسيوط - جامعة أسيوط.

خلف الدكتور عثمان القاضي وراءه إرثا معرفيا ونقديا وتاريخيا سيظل مصدر فخر واعتزاز ومدرسة للأجيال القادمة منها علي سبيل المثال لا الحصر : السيرة النبوية لابن هشام " مصدراً أدبياً"، والشعر في مروج الذهب للمسعودي "توثيق ودراسة"، وثلاثة بحوث في الأدب العربي، وموقف العقاد من قضية الشكل في الشعر الحديث، والمقال عند زكى مبارك، وتعليقة على قصيدة النفس المنسوبة إلى الشيخ الرئيس أبى على بن سينا – تحقيق وتقديم، والاتجاه القصصي عند الرافعي، وكتاب لواعج الغرام لعبد المعين بن أحمد (ت 1040هـ) - تحقيق وتقديم، والشعر في كتاب المحبر لمحمد بن حبيب (ت245هـ) – جمع وتحقيق وتقديم، واتجاهات معاصرة فى دراسة مشكل النوع الأدبي، وإبداع المنفلوطي بين الموضوع والمترجم، وتأثير عيون الأخبار فى العقد الفريد.. وهلم جرا.

ولم يكن أستاذنا عثمان القاضي مجرد أديب وناقد وكاتب لوذعي، بل كان عاملا ناشطا في وظائفه  الممنوحة، ومشاركا حيا في النشاطات الثقافية، وكان دائما يدعو إلي  تكوين الشخصية الأدبية النقدية، وقد تأثر عثمان القاضي بعدة علماء أجلاء من المعاصرين، منهم عباس محمود العقاد، وزكي مبارك، وطه حسين، ولقد حدثني ذات مرة فقال :" أنا أرفض ما لا أفهم ! وفي سخرية أضاف : من غير المعقول أن أستعين بمترجم يترجم لي ذلك الأدب الغامض إلي نفس لغته التي كتب بها".

أقسي ما في الحياة أن يودع الإنسان عزيزا عليه، وداعا ليس بعده لقاء، ولكن تلك هي إرادة الله وسنته في خلقه، ويتعين علينا أن نرضي بقضائه عز وجل .. وعزاءنا أن أديبنا الكبير الراحل – يرحمه الله – سيظل يعيش في قلوبنا وعقولنا طوال حياتنا، بل أطول كثير في حياتنا، فإبداعاته الأدبية والنقدية ستظل خالدة عبر الزمن تضيئ مكتباتنا العربية، وتثري أفكار أجيال المستقبل، لأنها حقا أعمال رفيعة قيمة جديرة بالعظمة والخلود، ولا أظن أن أحدا يمكنه أن ينسي بسهولة قمم كاتبنا مثل موقف العقاد من قضية الشكل فى الشعر الحديث، والمقال عند زكى مبارك، والاتجاه القصصي عند الرافعي المقررة علي أبناءنا الطلاب وهذه مجرد أمثلة فقط.

وأدب الراحل الجليل من النوع الواقعي القيمي الهادف، فقد كان صاحب قلم عف شريف، وصاحب رسالة كبري مقدسة، يحرص من خلالها علي إعلاء قيم الحق والعدل، وتأكيد المفاهيم الإنسانية والدينية، وبث روح  الفن والجمال، وكل ذلك دون أن يحيد يوما عن أسلوبه الرضين الفصيح الذي أعز به لغتنا العربية، ودون أن يجنح  إلي العبث واللامعقول أو الابهام  والغموض، لإدراكه الصادق أنه لا فائدة ترجي من أدب غير مفهوم للقارئ وربما للكاتب أيضا علي حد سواء، وبالتالي فلا حياة له.

ها هو أستاذنا عثمان القاضي يرحل بعد أن أوجع قلوبنا بموته المفاجئ، تاركا في نفوسنا ألم الفقد، ومرارة الحزن والشعور القاهر بالخسارة،  رحمك الله يا أستاذنا .. رحمك الله يا شيخنا .. رحمك الله أيها الأخ الكبير .. رحمك الله وغفر لك .. وجعل جنات الفردوس نزلك ومسكنك .. لقد ضربتهم لنا مثلا في الإخلاص في العمل والتفاني فيه ابتغاء مرضات الله .. أحاديثك ونقاشاتك ومحاضراتك  يا أستاذنا سيبقي صداها في أذن الزمان، وقلبه شاهدا علي الدعوة إلي الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وبالتي هي أحسن .. ستبقي أعمالك وأعمال المخلصين من أمثالك شاهدة – إن شاء الله – تجدون ثوابها وأجرها من الكريم الرحمن، وسيجدها القراء في كل زمان بلسماً لجراح أرواحهم، لأنها كتبت باء الإخلاص، وسطرت بأفلام الصدق، هكذا نحسبكم، ولا نزكي علي الله أحداً، ويشهد لكم إرثكم الميمون.

إن القلم ليختنق، ولا مفر من التماس العزاء والتركيز فيما نعتقده من أن ابداع أديبنا الكبير سيظل حيا وخالدا يمتع الملايين من قرائه المعجبين.. إنه الموهبة والصفاء والقلب الحسن، والمودة والوفاء، والساحة، وقد شاء الله أن يحرمنا منها، وأن يعوضه عن حياتنا خيرا منها في رحابه الظليل.. رحل عنا عثمان القاضي وانطفأت شمعة حارب الظلام لعشرات السنين، وليس لنا الآن إلا الدعاء بأن يرحمه الله رحمة واسعة، وأن يجمعه مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا .. أسأل الله أن يعيننا علي الوفاء له، وداعا عثمان القاضي..

وفي النهاية فإن الكلمات لا تستطيع أن توفي هذا الأستاذ الأديب حقه، صحيح أن هذه الكلمات جاءت متأخرة فكثير ممن يطلقون علي أنفسهم لقب أساتذة لا يعرفون قدر هذا الأستاذ الأديب، فتحية طيبة للدكتور عثمان القاضي الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفكر المبدع الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

رحم الله الدكتور عثمان القاضي، الذي صدق فيه قول الشاعر: رحلتَ بجسمِكَ لكنْ ستبقى.. شديدَ الحضورِ بكلِّ البهاءِ.. وتبقى ابتسامةَ وجهٍ صَبوحٍ.. وصوتًا لحُرٍّ عديمَ الفناءِ.. وتبقى حروفُكَ نورًا ونارًا.. بوهْجِ الشّموسِ بغيرِ انطفاءِ.. فنمْ يا صديقي قريرًا فخورًا .. بما قد لقيتَ مِنَ الاحتفاء.. وداعًا مفيدُ وليتً المنايا.. تخَطتْكَ حتى يُحَمَّ قضائي.. فلو مِتُّ قبلكَ كنتُ سأزهو.. لأنّ المفيدَ يقولُ رثائي.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم