صحيفة المثقف

محمد العباسي: عالم من الورق!!

محمد العباسيوصلني قبل أيام مقطع جميل لمتحدث يتكلم عن أهمية الأوراق في حياتنا منذ شهادة الميلاد حتى شهادة الوفاة.. مع أننا اليوم توغلنا في عالم التطبيقات الإلكترونية "اللاورقية" بشكل واسع وباتت أغلب معاملاتنا تتم عبر الهواتف الذكية والحواسيب وماكينات الصرف البنكية، وغيرها من أدوات.. ولكن رغماً عن كل ذلك تطلب منا بعض الجهات طبع نسخ ورقية من المعاملات والاحتفاظ بها في ملفاتنا الخاصة.

لن نلتفت كثيراً للمقارنة بين عادات الماضي والحاضر والمستقبل في هذا الشأن.. لكن لننظر معاً في دور الورق في مجمل مناحي حياتنا.. أو بدائل الورق التي هي في أشكالها واستخداماتها تمثل الورق بصورها الرقمية.. لكن متى بدأ الإنسان في صنع الورق؟

كلنا على دراية بما يؤديه الورق من خدمات في ميادين الكتابة والطباعة والصور ولف البضائع وحتى التجميل.. لكن قد لا يعرف إلا القليل منا حكاية تاريخ صناعة الورق وتطوراته.. إن فكرة استخدام مادة صالحة للرسم والكتابة قديمة العهد، وقد نقش الإنسان البدائي أشكالاً ورموزاً على الخشب أو في أحيان كثيرة على الحجر والنقش على جدران الكهوف والمغارات القديمة.. ثم بدأ الإنسان الكتابة على أوراق النخيل، وعلى اللحاء، ثم على الجلود والعظام وعلى صفحات من الخزف المطلي بالشمع الأصفر، ثم على صفائح من الرصاص أو تلك المصنوعة من معادن أخرى.. حتى فكر المصريون القدامى في استخدام لحاء نبات البردي (Papyrus) وهي كلمة اشتقت منها كلمة (Paper)  وانتشر استعمال البردي في مصر القديمة وأرض الرافدين والصين، ثم في اليونان وروما قبل آلاف السنين، وبقي ورق البردي طوال قرون عديدة الوسيلة الوحيدة للكتابة عند المصرين والرومان والإغريقيين.

وتشعبت استخدامات الورق عبر الحضارات حتى انتقلت صناعة الورق إلى العرب عندما وقع صناع صينيون في الأسر بسقوط "سمرقند" في يد العرب سنة 705م.. وقد أنشئت أول ورشة لصناعة الورق في "بغداد" خلال فترة وزارة "الفضل بن يحيى البرمكي" التركي الأصل، في عصر "هارون بن محمد" الذي حكم تحت لقب "الرشيد" على عادة الحكام العباسيين وحلفائهم، ولم تشع الكتابة على الورق إلا بعد زيادة عدد الذين يعرفون القراءة والكتابة، حيث كانت أعدادهم قليلة جداً، والأمّـية تكاد تكون عامّـة، إضافة إلى تعدّد لغات السكان المسلمين بسبب الحروب والهجرات الكثيرة، ودخلت صناعة الورق في الهند في القرن السابع تقريباً – وقد كان الهنود يحفظون النصوص ويتناقلونها شفهياً من جيل إلى جيل لذلك لم يتم انتشار أو تطور صناعة الورق هناك حتى القرن 12 (ويكيبيديا).

أما أوراق اليوم فيتم صناعتها من الخشب الخام، الذي يتكون من ألياف السليلوز أو الألياف النباتية، مثل: القطن، والقنب، والكتان وغيرها.. حيث يتم تحويل الخشب الخام إلى "لُب" وهو حساء مائي من ألياف السليلوز وخليط من الماء والمواد الكيميائية التي تستخدم خلال عملية فصل الألياف.. ويتم بشكل عام خلط اللب بشكل ميكانيكي باستخدام آلات الطحن، حيث يتمّ خلط رقائق الخشب مع اللب، بحيث يحتفظ اللب ببعض اللجنين وبالتالي يكون الورق رقيقاً وخفيفاً ومتماسكاً بحيث يتناسب مع ورق الجرائد مثلاً.. وهذه الطريقة هي الأكثر انتشاراً.. وقد يحتاج خليط اللب إلى تبييض لصنع ورقة أكثر بياضاً، حيث يتمّ ذلك من خلال إضافة مواد كيميائية خاصة بالتبييض.. عندما يُصبح اللب جاهزاً تبدأ الآلات الكبيرة والضخمة برش ورمي خليط اللب وتحريكه على شبكة متحركة كالغربال، وذلك لصنع طبقات من حصيرة أو سجادة اللب، ثمّ تمر حصيرة اللب بمجموعة من العمليات للتخلص من الماء وتجفيف اللب عبر تشغيل بكرات ساخنة وذلك حتّى يتمّ الضغط على الماء المتبقي وضغطها في لفة واحدة مستمرة ومتواصلة من الورق والتي قد يصل طولها إلى 10 أمتار.. وعند الحصول على الورق المطلوب، يمكن البدء بتلوينه أو وضع مواد كيميائية خاصة، وذلك لإعطاء الورق ملمس جميل وقوة إضافية أو لتصبح مقاومة للماء حسب الاستخدامات المطلوبة.. ومن ثم يتم تقطيع لفائف الورق إلى أحجام مختلفة، وتعبئتها وإرسالها إلى أمكان أخرى لمعالجات إضافية وتحويلها إلى جميع أنواع وأشكال الورق كما نراها ونستخدمها في حياتنا اليومية.

و للورق بشكل عام أهمية واستخدامات لم نعد نستغني عنها.. فلندخل هذه الدنيا تبدأ العملية بالزواج (زواج والدينا) عبر وثيقة الزواج الورقية.. وتلك ورقة تحفظ الحقوق والالتزامات والاتفاقات بين الزوجين حسب شريعة كل ملة.. ثم عند ولادتنا لهذين الأبوين يتم إصدار شهادة ميلاد ورقية تحفظ حقوق ونسب الأبناء لآبائهم وامهاتهم ونسبهم القانوني للعشيرة التي ينتمون إليها.  وشهادة الميلاد الورقية مهمة في كل مسارات حياة الأبناء لاحقاً بدأً من استخراج أوراق الثبوتية والجوازات والتسجيل في المدارس والحصول على الشهادات حتى التخرج من الجامعات.. كل هذه العمليات يتم تسجيلها وتوثيقها في سجلات ومطبوعات منسوخة على الأوراق.

ثم نجد أوراق النقود والطوابع والبطاقات الشخصية وكافة المطبوعات الورقية التي نتداولها بشكل يومي.. والجرائد والمجلات والكتب والقصص ودفاتر الدراسة وتلك القصاصات التي نكتب عليها أفكارنا وأشعارنا، بل وحتى الخرائط التي توضح لنا مسارات المدن والطرقات عند ترحالنا من مكان إلى مكان.. ومجمل تاريخنا وقوانيننا وأدياننا وشرائعنا كلها منسوخة على الأوراق.. وكافة الدراسات والبحوث وحتى مكونات علب الأدوية والأطعمة تكون على أوراق.. ونستخدم المحارم الورقية بكافة أحجامها وأشكالها للتنظيف.. ونلعب بورق اللعب.. بل ونستخدم الأوراق في الكثير من الصناعات التقليدية مثل المظلات الورقية والقبعات والمراوح اليدوية عند النساء والنوتات الموسيقية وللف السندويشات والشوارما وصناعة السجائر وغيرها الكثير من المشتقات الصناعية.. وأغلب المصنوعات يتم حفظها في علب مصنوعة من الورق المقوى كعلب كالعطور والأدوية والطعام، أو يتم تعبئتها في أكياس من الورق.. بل وحتى البيوت التقليدية في اليابان كان يتم تشييدها في القدم من الورق !!

كافة اللوحات الفنية تقريباً تكون مرسومة على لوحات ورقية، ومجمل المواد الدراسية وأدواتها ومنشوراتها وواجباتها الدراسية تستخدم وتعتمد على الورق.. وربما في حالات معينة يتم استخدام بدائل للورق ولكنها تأخذ ذات الأشكال والاستخدامات والفكرة.  ففي بعض الدول الآسيوية يحولون روث الفيلة إلى أوراق ويصنعون منها صفحات ولفائف ومنها ينتجون البطاقات ويصنعون المظلات الشمسية والمراوح اليدوية التقليدية التي يتهافت على اقتنائها السياح.

الحديث عن الورق واستخدامات الأوراق في كافة مناحي الحياة يطول ويتشعب.. حيثما نذهب نجد أمامنا من يطالبنا بالمستندات الورقية ويمدنا بنسخ ورقية.. فكل معاملاتنا الحكومية تتطلب منا تقديم أوراق وتختم بأختامها على أوراق وتحتفظ بسجلات من الأوراق.  وحتى متاحفنا تعج بنسخ من الكتب الدينية والرسومات واللوحات والصور والمطبوعات الورقية التي احتفظت بتاريخنا وإرثنا وشواهد على حضاراتنا الأولى.. ويا ويل من يضيّع بعض تلك الأوراق عبر الإهمال أو النسيان أو قد تصاب بالتلف بسبب عوامل الزمن أو الحريق.. فبعض الأوراق تكون أهميتها في حياتنا كأهمية الحياة نفسها مثل أوراق الثبوتية كافة والنقود الورقية والوثائق والسندات والشهادات الدراسية أو أمور تتعلق بالأحكام القضائية، بل وحتى شهادتي الميلاد والوفاة.

و يلخص الأستاذ "حسام الدين صالح" على موقع (القافلة) أهمية الورق في حياتنا بأنه لم يجد الإنسان طوال تاريخه المعروف، سنداً لإثبات إنسانيته مثل الورق، منذ أن كان مجازاً في جلد وحجر وصلصال، إلى أن أصبح حقيقة تستعصي على الزوال.. فقد ظل الورق يؤكد على جدارته بلقب الذاكرة الثانية للإنسان في مقابل مخاوف النسيان وأحلام الخلود.. فقد رافق الورق الإنسان والكتابة منذ عهد مبكر، وما زال يلوّن حياة مليارات البشر في العالم، يحفظ لهم تاريخهم، يشكل حاضرهم، ويؤثر على مستقبلهم.. فمثلما كان رفيقاً للكتابة كأرقى نشاط إنساني، فهو إلى الآن قرين للذهب والفضة كأغلى ممتلكات الناس.. لن يكذب من قال إن حياتنا ورق.. النقود من ورق، مستنداتنا وهوياتنا الثبوتية، أكوابنا، ألعابنا، وسائلنا التعليمية والتثقيفية، صناديقنا، مناديلنا، حوائطنا، زينتنا، ومئات الاختراعات البشرية التي لا تبدأ بورق الكرتون ولا تنتهي ببطاقات الأعمال أو كروت شحن الهواتف المحمولة.

 

د. محمد العباسي

أكاديمي بحريني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم