صحيفة المثقف

نوال الدليمي: حين.. يختزل رمضان بمائدة إفطار

من مظاهر عصرنا الحالي هو السرعة الفائقة للتغيير في كل شيء ولاسيما السلوك الانساني ليلبي متطلبات العصر ومظاهره وحاجاته المتعددة بسبب تقدم وسائل الاتصال والتواصل والاندماج في عصر التكنولوجيا والمعلوماتية التي تشكل ظاهره وثقافة وسياسه العولمة لكل مظاهرها وما انتجته من ثقافه الاستهلاك الاعلام والدعاية والتسويق الحر، التي جذبت جميع الشعوب والثقافات وتبنتها بشكل وباخر على الرغم من سعي هذه الشعوب للتمسك بثقافتها الخاصة وهويتها القومية والدينية والثقافية والتصدي لتياراتها ومظاهرها السلبية على سلوك أبنائها. ونجد اليوم سعي الانسان المحموم للكسب والثراء والاشباع وطلب الحاجات المادية ظنا منه انه يواكب العصر ويعيش مظاهرة بانسجام وان ما يقوم به يجلب السعادة والاطمئنان والراحة.

 لاسيما ان عالمنا العربي والاسلامي لم يكن بعيدا عنها وتطبيقا لها بل انه يعد من أكثر العوالم انسجاما مع العولمة واستجابة لها مطبقا حذافيرها مستهلكا منتجاتها المادية والثقافية محاولا التكيف معها ساعيا الى دمج ثقافته الدينية الإسلامية من طقوس وعادات وممارسات وشعائر وانشطه مختلفة مع مظاهرها.

واكثر ما تبرز هذه المظاهر في شهر رمضان شهر الصيام وما يعنه من قيمة تعبديه لله وما يتضمنه من منظومه أخلاقية وقيمية ومعرفية تنعكس على الفرد والمجتمع في ممارساتها الإسلامية وهي الغاية والهدف الاسمى الذي حدده الدين الاسلامي من الصيام والعبادة في هذا الشهر الفضيل وهو ركن الدين الاسلامي الخامس وما ينطوي عليه من الفوائد الصحية والنفسية والدينية والاجتماعية والأخلاقية على الفرد والمجتمع و تعبير عن آيات الصيام وسلوكياته الروحية والعملية، ولذا سمي هذا الشهر بشهر الصيام والقيام والعبادات والطاعات وترك ملذات الدنيا والتوجيه الى عبادة الله الخالصة ولجم الغرائز والشهوات او التسامي بها.

ومنذ سنوات عدة تحول شهر رمضان من شهر الصيام الى شهر الطعام ..استجابة لمتطلبات ثقافة العولمة واصبح مهرجاننا كبيا للتسوق وبشراهة قوية للشراء لاتقاوم، وحصول حالة من الطوارئ الاستهلاكية لدى كثير من الاسر والبلدان العربية والإسلامية عبر تكدس البضائع والسلع في المحال التجارية والأسواق باستنفار الجهود لتوفير الكم الهائل من سلع الطعام وتزاحم الناس في الأسواق للتبضع مما يستوجب الانفاق الكبير من الدخل المادي للسرة وارتفاع الأسعار والغلاء لبعض المواد الغذائية لاسيما المرتبطة بثقافة وعادات اجتماعية " رمضانية " مما يستنزف الموارد المالية للاسرة والمجتمع . وبذا يتحول شهر الصيام الى شهر الطعام وشهر الاسراف والاستهلاك.

ونجد امام هذه الظاهرة الاستهلاكية ان المسلم بتصرفه هذا يقع في تناقض سلوكي كبير، أي بين السلوك التعبدي الخالص للصيام والسلوك الاستهلاكي المسرف للطعام

بين اتباع أصول الصوم وسنته واحكامه وفوائده وبين سعيه لإشباع الرغبات والحاجات وتفتحها للأكل والشرب بأصنافه كافة، ويحصل هذا في جميع دولنا الإسلامية، وبدل تحقيق فوائد الصيام الروحية للفرد الصائم، ازدهرت صناعة الطعام والتسابق لتقديم افضل الاطباق والوجبات ولاسيما المرتبطة بالفلكلور الاجتماعي الشعبي والثقافة الخاصة وهويتها المحلية والتي وجدت في وسائل الاتصال الحديثة المتقدمة فرصتها في نشر وتبادل ثقافة الطعام والاستهلاك ونقل العادات والانماط الغذائية بعضها لبعض واختيار الأفضل من الاطباق المعدة لإفطار الصائم، دون توفر فرصة لراحة الجسم والتجديد والاكتفاء بالوجبات البسيطة

المتباعدة اوالشبع القليل، تمثلا بسنه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حين كان يفطر على بضع حبات التمر مع قليل من الماء او اللبن ليعطي القيمة الحقيقية لفائدة الصيام الصحية وغيرها من الفوائد .

وهكذا استهدفت العولمة بثقافتها الاستهلاكية القائمة على الربح والمنافسة اشاعه القيم المادية و اضعاف القيم الروحية والإيمانية و تحطيم معاني الشهر الكريم وافراغ محتواه من العبادة والاحسان وقيام الليل وقراءه القران والاعتكاف وصلاه التراويح والصدقات وصلت الرحم وغيرها من اعمال تتجسد في هذا الشهر وغيرها من اعمال وغيرها من الممارسات المغرية والجذابة التي تقدمها قنوات التلفزيون والفضائيات تعبر عن غير المعنى الحقيقي لشهر رمضان والتهيئة النفسية للصيام واستقبال المسلسلات والبرامج المختلفة التي تأخذ وقت الصائم طول الليل

ان شهر رمضان يمثل ثقافه الروح لا ثقافه الجسد واللذة والمتعة والاستمتاع و يمثل ايضا ثقافه الاهتمام بالأخر والاندماج والاحساس به لا ثقافه الفردانية و العزلة والوحدة والأنانية لان رمضان يأتي فيحيى في نفوس المسلمين فكره التواصل وصله الرحم وقيام التجمعات الأسرية والعائلية وتبادل الزيارات والقيام بالعبادات الجماعية وزياره الاقارب والاطمئنان عليهم في هذا الشهر ومساعدة الفقير والمحتاج. 

بالإضافة الى قيمة الاجتماع العائلي على مائده الافطار و تخليص الانسان من الانعزال عن الأسرة والمجتمع والتمسك بالنظام الاجتماعي القائم على حب افراد العائلة بعضهم لبعض وسعيهم لما رضى رب العالمين في تحقيق اهداف الحياه الاجتماعية والإنسانية

ان عمليه اثقال الجسم بالطعام تعد من العادات السيئة التي يرفضها الاسلام حيث قال تعالى "كلوا واشربوا ولا تسرفوا" وتحقيق الحكمة والفائدة الصحية من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " صوموا تصحوا " وما لهذا الحديث من قيمه تربوية صحية واحكام وفوائد لان الغاية من الصوم هو العبادة والتقوى والزهد وتنمية قيمه الصبر وكبح او تأجيل اشباع الرغبات وضبط وتدريب الدوافع الأساسية لاسيما دافع دوافع الجوع والعطش والجنس وفق الشروط والسلامة الصحية من خلال منظومه القيم الرمضانية التي يتم ممارستها في هذا الشهر وتركيز الاهتمام للطقوس والممارسات الدينية التي تعمل على التجديد الروحي والنفسي وترويض الجسد ومنحه الراحة من عادات الاكل المتعددة .

ان الثقافة الاستهلاكية تمثل جمله من المعايير والسلوكيات والاهداف التي ترفع من قيمه النفعية والفردانية والأنانية واشاعة الاستهلاك والنزعة المادية الغرائزية المجردة من اي قيمه او محتوى انساني انها ثقافه العولمة ثقافه الجسد واللذة والمتعة والاشباع وقتل الروح والوجدان وتسحر المشاعر وتبلدها الامن رغباتها واضعاف النظام الاخلاقي والقيمي الانساني لسلوك الانسان، وهكذا تسهم اليات العولمة ومحتواها واهدافها الى غرس ثقافه في ذهن وعي الناس وقيمهم لا تقوم على صله بينها وبين النظام الاجتماعي والثقافي الذي ينتمون اليه بعد ان يتشرب الناس من خلال الضغط اليومي عبر الضخ اليومي بوسائل الاعلام الفضائيات و قنوات التلفزيون وما يوفره الزخم التقاني الكثير الذي يشهده ميدان التواصل وهو يستفيد في الوقت نفسه من اليات العولمة الاقتصادية ومن النتائج الكثيرة التي تحققها على صعيد توحيد وتحطيم الحدود وجعل العلم ينتمي ويتبنى منظومة ثقافية واحدة فضلا في جعل شهر رمضان الى مناسبه للترويج الكثيف والحاد لمختلف السلع وتسهم في ذلك بقوه وسائل الاعلام ولاسيما التلفزيون اضعاف المشاعر الدينية او استغلالها كوسيله من وسائل توسيع السوق والترويج اكثر لسلع بعيدا عن الدين ويجري المزج بين الدين والجنس في البرامج التلفزيونية على النحو الذي يبدو منفرا للغاية من شرائح واسعه من المجتمع، وتحويل شهر رمضان من ممارسات ايمانيه تعبديه الى ممارسه استهلاكيه ترفيهيه وافراغ من محتواه الروحي والقيمي والا يماني وهي ثقافه معادلتها بسيطة هي (سرعه زائد سهوله) وينطبق ذلك على وجبات الاكل والفنون والموسيقى والغناء والمظهر والملبس والآداب العامة وكل ما يتعلق بأنماط الحياه العصرية .

وبما ان الصورة أصبحت اليوم العنصر المهم في ثقافة العصر والوسيلة الاكثر اهميه وهي المفتاح السحري لنظام التعاقد الجديد، نظام وعي الانسان بالعالم وأنها المادة الثقافية الاساس التي يجري تسويقها على اوسع نطاق اجتماعي ذات التأثير الفعال في مستقبل هذا الانسان. فهي الوسيلة الفعالة لدى الشركات الفضائية والإعلامية التي تقدمها العولمة وتعمل على نشرها في البلاد العربية والإسلامية التي يسيطر عليها تجار المال والربح بدون ضوابط أخلاقية وهم اداه العولمة الفعالة وقادة نواياها السيئة من خلال حملات الدعاية والترويج لبضاعتهم التي تتنافى مع حرمته وافراغه من طقوسه الإيمانية والتعبدية التي تتعارض مضامينها مع المضامين الأخلاقية والقيمية لهذا الشهر الفضيل فيستغلوا أيام هذا الشهر الفضيل لتحقيق أغراضهم المادية والترويج للتمتع با لشهوات والتسلية من خلال البرامج والمسلسلات، وذلك بالهاء الصائم وصرف ذهنه عن ما كلف به من عباده، في حين ان شهر رمضان يمثل شهر شهر العبادة والتأمل ومراجعه النفس والذات والابتعاد عن ضجيج الاعلام المستهدف وتجنب حملات الدعاية والاعلام والمسلسلات والبرامج البعيدة الحرمة وقدسيه ومضمون الشهر الفضيل ونشر ثقافه الانحلال الخلقي والمجون عبره عرض الافلام والمسلسلات دون اي ضوابط و تحمل او تحمل مسؤوليه مدعين ان ذلك يقع ضمن حصول الانسان على حريته وسعادته التي يرغب فيها او يختارها وسائل وطرق جذابه مبهره للصائم في حين يقول الرسول عليه الصلاة والسلام " ما ملأ ابن ادم وعاء شر من بطنه يحسب ابن ادم لقيمات يقمن صلبه فان كان لا محاله ثلث  لطعامه وثلث لشرابه وثلثا لنفسه.

 

ا. د. نوال ابراهيم الدليمي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم