صحيفة المثقف

ميثم الجنابي: فلسطين أرض الميعاد العربي

ميثم الجنابيلقد كانت فلسطين وما تزال وسوف تبقى قطب الإثارة والحرب، ما لم يجر استعادتها من آخر هجمات الشعوب الغريبة عليها. ومن ثم دمجها النهائي في ميعاد المستقبل العربي. وهي نتيجة تتراكم في كمية ونوعية الصراع الذي خاضه العرب على امتداد قرون عديدة من الزمن وحتى اليوم.

وهي الحالة التي تكشف عن طبيعة الخلل السياسي الثقافي والقومي الذي اصاب العرب وما يزال، ألا وهو فقدان البؤرة الموحِّدة لوجودهم السياسي. فقد كان العالم العربي الجغرافي الحديث، كما كان قبل آلاف السنين هو محل وميدان الصراع بين ما ندعوه الآن بالشرق والغرب. أما في الواقع فإنه صراع بين كينونة تاريخية ثقافية بلورها الإسلام وحققها في عالم الخلافة واستمرارها الحالي. ومن ثم تحتوي في ذاتها على معالم المواجهة مع القارة الأوربية النصرانية. وهي حالة متنوعة متغيرة لكنها تتسم بثبات عميق. وهي آخذت بالتقلص بعد أن بلغت ذروتها في انحسار "الغرب الأوربي" بالعالم الانجلوسكسوني الأمريكي واليهودي الصهيوني. ومن ثم يمكن الجزم بتثلم هذه المكونات مع مرور الزمن وتقلص قوتها. وهذه ليست فرضية سياسية، بل يقين تاريخي. وهو احتمال أقرب إلى الواقع. وسرعته متوقفة على نوعية الصعود العربي الجديد، الذي يعاني من ارهاصات هائلة، ومسار مؤلم ومعقد، لكنه يرمي بالضرورة عن جسده كل حراشف الماضي ونخبه المتهرئة.

لقد اندثرت وتلاشت الدولة العربية التقليدية من القيام بهذه المهمة. ولم يبق إلا القليل منها لكي يطفح على سطح المستنقعات، ومن ثم تنقرض وتتلاشى شأن كل ما لا صلة له وعلاقة صميمية بالتاريخ الحقيقي، أي تاريخ الحرية والتكامل القومي العربي. وهو امر جلي الآن على مثال دويلات الخليج والسعودية. فهو القاع الاخير للاثنية العربية المتفسخة. وليس مصادفة أنْ نرى ونسمع ونعثر فيها وعندها على كل ما هو هزيل بذاته، ومنعدم القيمة، ومثير للتقزز والغثيان. فقد كان خطاب ممثل آل سعود في الأمم المتحدة بصدد الصراع العنيف الدائر بين قطعان الاحتلال وأبطال المقاومة، يتسم بهدوء الجبناء والسفلة، وانفعال الخونة في الدفاع عمن يلوط بهم في كل حال ومقال!فهو يدعو للكف عن "قصف الأحياء المدنية لإسرائيل"، بينما رد عليه ممثل بوليفيا، بأنَّ الفلسطينيون وبني إسرائيل ليسوا في مقام واحد. الفلسطيني متعرض للاحتلال ونهب أراضيه وقتل اناسه وسجنهم، وأنَّ غزة هي سجن كبير. بينما رعية هذه الممالك والإمارات يتنافسون في الكشف عن عوراتهم في وضح النهار. احدهم يقول لماذا ينبغي لنا أنْ نتضامن مع اهل فلسطين، وآخر يتهم بمختلف الاتهامات الغبية والسخيفة والرذيلة.

لقد جعلوا من اهل فلسطين عدوهم الأكبر، كما جعلوا من حزب الله عدوهم اللدود، وهو الذي رفع رؤوسهم وأعطى لهم قيمة بمعايير الحق والإنسانية والعزة والشهامة والبطولة والبسالة والفروسية والفتوة والسؤدد، أي كل ما يختزن في ذاكرتنا على أنها صفات العربي. الأمر الذي يجعل من هؤلاء البشر جرذان العرب. غير أنَّ الجرذان أفضل وأنبل وأشدّ حيوية. إنهم مسخ البقايا المتآكلة من اعراب البادية وقبائل السطو واللهو. 

إنَّ اهل فلسطين ليسوا بحاجة إلى تفاهة هذه الأنواع المنقرضة. ولا يسرّهم ولا يزيدهم خيراً ولا فضل. بينما السؤال الحقيقي هنا هو متى قدمت هذه التفاهات شيئاً لفلسطين؟ وكيف يمكن لفاقد الشيء أنْ يعطيه؟ إنَّ فلسطين في حالة صراع تاريخي هو الأخير في مسار الكينونة العربية من اجل تكاملها. ومن ثم هي تتمثل وتمتلك وتتكامل في كل تلك الصفات العملية النبيلة من الشجاعة والاستعداد للتضحية والعمل بمعايير الحق والحقيقة. ومن ثم متى كان لهذه البقايا المنقرضة أنْ تقوم بذلك. إنَّ فلسطين بحاجة إلى من هو قادر على بذل الروح. ومن اين للخونة والجبناء القيام بذلك؟ وكيف يمكن أن يحارب من هو خائن بطبعه؟! بل كيف يمكن للمرء أنْ يكون خائناً؟! وكيف لإنسان أنْ يخون أهله وقومه وتاريخه وأرضه وأسلافه وذكرياتهم ووجودهم وكل ما اعطى ويعطي لوجوده معنى؟ فإذا كان كل إناء بما فيه ينضح، فإنَّ معادن هذه البقايا هي لا شيئ. وإنه إذا كان على قدر الكرام تأتي المكارم، فإنَّ ما فيهم هو قيح ورذيلة.

إنَّ حقيقة العرب في المشرق والمغرب واليمن ومصر والنوبة. وهذه من فضائح التاريخ المريب. ولا يمكن للمرء والشعب أنْ يكون عربياً بالفعل ما لم يجعل من فلسطين بوصلته الفعلية. هنا محك الحقيقة والصدق والإيمان والإخلاص. إن الحالة التاريخية الحالية لفلسطين هي محل الابتلاء والاختبار  والخيار التاريخي للانسان العربي.

إنَّ فلسطين هي بوصلة الإنسان العربي الحق، والقدس كعبة حريته. إذ ينسب الى صلاح الدين الايوبي قوله بأنَّ القدس هي بالنسبة له لا شيئ وكل شيئ. وقبله اجاب ابو ذر الغفاري عندما قالوا له هلا لو تذهب وتعيش في مكان مقدس كالقدس، فاجابهم: لا يقدّس المرء غير عمله.

إننا لا نقاتل من اجل حجارة القدس. فهي في أيدي اشبال فلسطين وصبيانه وصباياه. ولا نقاتل من اجل تراب فلسطين لأنه أديم الأرض. نحن نقاتل فيها ومن اجلها لأنها نحن. ففي أرواحنا ننتمي إلى قدس التاريخ، وبدمائنا إلى تاريخ فلسطين، وبقلوبنا إلى كليهما. وكل ذلك بالنسبة لنا هو محك الإخلاص للحق والحقيقة.

ففي كل اولئك المقاتلين على خط النار لمحة خاطفة مما قاله ابو فراس: "أَراكَ عَصِيَّ الدَمعِ شيمَتُكَ الصَبرُ". وهم يدركون الحقيقة التي صورها في قوله

وَما هَذِهِ الأَيّامُ إِلّا صَحائِفٌ

لِأَحرُفِها مِن كَفِّ كاتِبِها بَشرُ

انهم يكتبون تاريخ وجودهم بوصفه تاريخ المستقبل. انهم يقدمون كل ما فيهم متمثلين ما قاله ابو فراس

وَلا راحَ يُطغيني بِأَثوابِهِ الغِنى

وَلا باتَ يَثنيني عَنِ الكَرَمِ الفَقرُ

وَما حاجَتي بِالمالِ أَبغي وُفورَهُ

إِذا لَم أَفِر عِرضي فَلا وَفَرَ الوَفرُ

وكما قدم في ملحمته عن إشكالية الحياة والموت نموذجا للروح البطولي والفروسية المتسامية، يقوم رجال ونساء المقاومة الحالية به الآن. انهم كالبدر في ليلة ظلماء، وليس كأعراب البداوة وخطاب الدولة العربية السقيمة الداعية للهدوء في ملاذ الجبن العفن!

هُوَ المَوتُ فَأختَر ما عَلا لَكَ ذِكرُهُ

فَلَم يَمُتِ الإِنسانُ ما حَيِيَ الذِكرُ

سَيَذكُرُني قَومي إِذا جَدَّ جِدُّهُم

وَفي اللَيلَةِ الظَلماءِ يُفتَقَدُ البَدرُ

لقد قدم لنا صورة آخاذة هي الأجمل مما في الشعر والروح الشعري العربي آنذاك عندما قال:

وَإِن مُتُّ فَالإِنسانُ لابُدَّ مَيِّتٌ

وَإِن طالَتِ الأَيّامُ وَانفَسَحَ العُمرُ

وَنَحنُ أُناسٌ لا تَوَسُّطَ عِندَنا

لَنا الصَدرُ دونَ العالَمينَ أَوِ القَبرُ

تَهونُ عَلَينا في المَعالي نُفوسُنا

وَمَن خَطَبَ الحَسناءَ لَم يُغلِها المَهرُ

أَعَزُّ بَني الدُنيا وَأَعلى ذَوي العُلا

وَأَكرَمُ مَن فَوقَ التُرابِ وَلا فَخرُ

 

ما هو الشيء الذي يمكن اضافته هنا؟ لا شيئ! إنَّ الباقي هو العمل فقط، والاستعداد للقتال والتضحية باسم الحق والحقيقة. فهي صفات الإنسان الحق، والمثقف الحق. فهي المرجعية التي تعطى للحياة معنى بوصفها لحظة في أبد الحرية. بل هي الحياة نفسها. 

 

ا. د. ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم