صحيفة المثقف

جمال العتّابي: كنت بعثياً (3): التحرر من ثقل الماضي، لا تسعفه النوايا الحسنة

جمال العتابيلا بد من إستدراك التجريد الذي يذهب اليه كاتب السيرة في رؤيته للأحداث، في إستمرارها وصراعها، لنضيف، ان حيز الصراعات بين القوى الاجتماعية والسياسية، لا يقع حكماً وبشكل حتمي في المنطق التقليدي السطحي،إنما هناك جملة من المصالح الكبرى والصغرى التي تختبئ أو تحتجب وراء الستار على الأغلب.

وردت في هوامش المذكرات إشارات عديدة لدور السفارة البريطانية في أحداث العراق ما بعد تموز 58، إعتمدها الدكتور طارق العقيلي في دراسته (بريطانيا ولعبة السلطة في العراق)، المطبوعة في عمّان 2019، أكّد بعضاً منها الشيخ راضي، وشكك في البعض الآخر، أو نفاها، فهو يؤكد إرتباط القيادي طالب شبيب مع الغرب، إذ كشف شبيب بعد سنين طويلة دون خجل عن إرتباطه بجهات إستخبارية أمريكية، عندما طرح نفسه كمعارض لحكم صدام حسين، (ص200)، كما يشير الى علاقة عبد الستار عبد اللطيف الوطيدة مع تاجر عراقي مشتبه به، لم يكن بعثياً ولا قومياً، يدعى موفق الخضيري، الموصوف لنا بأنه أحد المقربين من السفارة البريطانية ببغداد، والمترددين عليها، وله علاقات  واسعة وعميقة مع السفارة البريطانية، ان الأمانة التاريخية تقتضي تقصياً أعمق، في إشكالية لا تتعلق بأشخاص قياديين في الحزب، إنما في كيانه السياسي على العموم، إذ يذكر: قد لا أبرئ البكر، وحردان، وعبد الكريم الشيخلي من علاقتهم بالسفارة البريطانية ببغداد، وإرتباطهم بها، لاسيما ان الشيخلي كانت له علاقة مع الغرب منذ أن أصبح ملحقاً عسكرياً في السفارة العراقية في بيروت عام 1963، وتجلّى إرتباط هؤلاء يوم نجاح إنقلاب تموز 68، وعلى الرغم من خصومته الشديدة مع حازم جواد، لكنه يشهد للتاريخ، انه كان وطنياً نزيهاً، لم يدنّس تاريخه السياسي بهذا (الوحل الآسن)، إلا ان طموحه الكبير قتله، وقتلنا معه.

كل هذا الكلام عن الإرتباطات بالمخابرات الأجنبية، يقال بحسابات مفتوحة، ثمة دائماً أفق خفي، يقف وراء البدايات الأولى، وإمعاناً في هذه الإشكالية، التي تعود بنا إلى مراجعة المنطلقات الفكرية التي مهدت السبيل لتشكيل الأحزاب والحركات القومية، والبحث في تاريخ مؤسسيها، وعلاقة ذلك بالهوية والإنتماء الوطني، لا بد من إعطاء الفرص لكل اؤلئك الذين اطلعوا على الحقيقة، لكي يكتشفوا بأنفسهم وبوعي ذاتي، المأزق الذي  إنقادوا إليه، علّهم يعيدوا النظر بمواقف الماضي الخاطئة، فالمراجعة لاتعني الهزيمة. وأعني تحديداً ان تاريخاً تكتنفه الشبهات بالعمالة، أو الإرتباط بجهات أجنبية، لم يمر عابراً في حياة العراقيين، إذ إمتد إلى عقود لاحقة من الزمن، ليتحول إلى تاريخ وجع عراقي بإمتياز، خلال حقبة الديكتاتورية، وما تلاها من تبعات فجائعية. تتحمل تلك القوى مسؤولية مباشرة في وقوعها.

ومن المفيد مراجعة كتاب العقيلي بشأن الوثائق البريطانية التي تتعلق بدور موفق الخضيري للإعتراف بدولة الكويت، بعد إنقلاب شباط63، وبهذا الصدد، يقول الشيخ راضي: لقد إنطلت علينا اللعبة الكبرى، التي لم ندركها في حل المسألة الكويتية على وفق رغبة طالب شبيب، وتبريراته المتساوقة مع حماسة العسكريين الذين تسابقوا معه في الذهاب الى الكويت، ولقاء (أشقاء العروبة) ، شيوخ وأمراء الكويت، كما يصفهم محسن بسخرية، وبموجب الاتفاق (الصفقة)، قدمت الكويت قرضاً للعراق مقداره 30 مليون دينار ،، مع مليوني دينار تبرعات (لشهداء 8  شباط). والملفت للنظر ان جمال عبد الناصر في لقاء مع علي صالح السعدي، حذره من وليم ليكلاند الملحق العسكري في السفارة الامريكية ببغداد، وأسماه خبير الإنقلابات، ولم يفهم السعدي في وقتها معنى التحذير، ولم يكن يعلم بعلاقة ليكلاند ببعض البعثيين المدنيين والعسكريين. وعليه فان الأخير اتصل بمدير الأمن العام جميل صبري البياتي مبدياً إستعداد حكومته بتزويد العراق بالسلاح، مقابل إطلاع الامريكان على تفاصيل منظومة الدبابة الروسية الحديثةT54.

بيد ان الحقيقة التي تسربت الينا، يضيف الشيخ، ان عماش كان على صلة وثيقة بليكلاند، وله إتصالات دورية معه بعلم وموافقة العسكريين البعثيين، لكنه يستدرك في الوقت ذاته، ليقول: لكي لا أدخل في دائرة التخوين ورمي الآخرين بالعمالة للأجنبي، لا بد لي، حسب المعلومات التي حصلنا عليها لاحقاً بعد إنقلاب 18 تشرين 63، أن أفكك  تشابك الأدوار، لأدوات من داخل المجلس الوطني لقيادة الثورة،، وسارت في طريق العمالة للغرب، سجلها خصومنا والتاريخ شبهات ضدنا، وضد الحزب في كل الأحوال، اللافت للنظر ان هذه الارتباطات، وعلاقات عماش بعميل الCIA, كانت تتم دون علم القيادة القطرية، وكما يبدو من سير الاحداث، التي يرويها الشيخ راضي، ان علي صالح السعدي، وهو أعلى مسؤول في القيادة، ينطبق عليه المثل العراقي (نايم ورجله بالشمس)، ولم يستفق هو ومجموعته (الفكيكي، ابو طالب، حمدي عبد المجيد، محسن) الا بعد نفيهم الى مدريد، اثر الانقلاب الداخلي في المؤتمر الخامس.

تشير الوقائع والأحداث ان بريطانيا لم تترك العراق، ولم يكن غريباً ان يتصدر العراق موقعاً أمامياً في إقتصاد ودبلوماسية الامبراطورية البريطانية، ويصبح محطّ أطماع المصالح الإمبريالية الأخرى. وإعتماداً على ماأورده العقيلي من وثائق، وأيده الشيخ راضي، فالمرجح ان انقلاب 8 شباط كان تدبيراً بدعم بريطاني، لا أمريكي حسب ماهو شائع.

إذ تمددَ دور السفارة البريطانية، في حياة الحزب الداخلية، وتدخلت في الصراعات القائمة بين اجنحته المختلفة، وكان لها دور في عملية نفي السعدي وجماعته، فإستطاع (روبي) الموظف فيها، تسهيل مهمة الطائرة العسكرية العراقية في نقل المنفيين الى القاعدة البريطانية في قبرص، ثم الإنطلاق برحلتها الى مدريد (العقيلي، هامش، ص284)، ويصف راضي هذا النفي : لقد نفذوا إرادة عفلق تحت حراب بنادقهم، بفضل القوى الخارجية التي قدّمت لهم الخبرة الأمنية والإستخبارية، ومن قوى إقليمية يتقدمها عبد الناصر، وأنصاره في العراق، فقد إختطفوا الحزب منذ ذلك التاريخ، وسيتحول البعث على أيديهم إلى حزب العشيرة والقرية،

ولعل المفارقة ان هذه الظاهرة استطاعت أن تجرّد وجود الأشياء، والناس والأفعال من تاريخها، وان تصنع زمناً بلا تاريخ، وهنا يكمن سر إنهيارها السريع، وهروبها المريع، اللذين كشفا عن حقيقة إندثارها الخاطف وبقاياها الخربة في كل مكان.

لعل أحد الأ سباب الأكثر جوهرية في ضعف الإنتماء للأيدلوجيا، يقوم على ضعف وجفاف الإجتهاد النظري، بدايات الإنتماء لمحسن الشيخ راضي، قائمة على الحماس وحلم الشباب بدولة وحدة قومية، شعارات هلامية، إنشائية، وفكرة جذابة بعيدة عن الواقع، كانت تفتقر الى الكثير من أدوات الجدل الفكري والسياسي بمعناه الفلسفي الواسع، وعلى مسافة بعيدة من تلك الأدوات، كان متأثراً بعفلق، ويراه شخصاً صوفياً متواضعاً، ومن شدة تأثره القوي فيه، كان يحسبه قديساً ورعاً، ثم تمضي السنوات ليتحول عفلق بعد تشرين63 مثلاً للنفاق السياسي، يقول عنه: ان عقدة إنحراف البعث وتمزيقه في العراق جاء على يد عفلق، وأنصاره، لذلك بدأ توجهنا نحو آفاق بعيدة جداً للتخلص من أبوية عفلق، وإنتزاع شرعيته المصطنعة، وهدم صوفيته المخادعة، ولعنتُ القدر واليوم الذي صرت فيه عفلقياً.

في الإطار العام يمكننا تقييم النتيجة التي انتهت اليها تجربة الشيخ راضي السياسية، التي سجّلت كوثيقة شفاهية، تنقصها الوثيقة والدليل، معتمداً على ذاكرته، لذا جاءت الروايات، متناقضة مع مذكرات البعض من القادة البعثيين، ومتناقضة في سردياته كذلك، وربما تكون هذه الملاحظة إحدى المآخذ على السيرة، إن حقيقة الإنتماء أوسع من أن يمثله تيار، أوحزب، أو مفهوم واحد، واذا كان من الضروري تصحيح بعض الروايات، أو التأكد من صوابها ودقتها، فهناك من رفاق الشيخ، مازالوا أحياءً، وبذاكرة يقظة، كان بالأمكان عرض المخطوطة عليهم قبل النشر، في بعض المفاصل التاريخية. وأمامه فرصة أكبر للبوح بما هو مضمر، ومهم.

حاول محسن الشيخ راضي ان يتحرر من ثقل الماضي، وصراعاته المدمرة، لكن النتيجة الكارثية التي أصابت البلد، الى حد هذه اللحظة من المسؤول عنها؟ من يرمم النفوس، ومن يعوّض الأرواح؟ من يزيح الأحزان التي رافقتنا؟ منذ عهد الإنقلابات والصراعات؟ ليس من شأن هذه القراءة أن تجيب على هذه الأسئلة، وهي تتمتع بقدر كبير من الأهمية، لكن لاشيء يجري تجاهله،  ولاشيء خالياً من المعنى،

ان اعترافك الأخير ياشيخ الراضي مرير ودامٍ، لكن مازالت تسكنك الكراهية لعبد الكريم قاسم، بشخصه، ونظامه، رغم حضورك المشهد التراجيدي لمقتله، وفكرة (البعث) لم تغادر عقلك، بدليل انك ابتعدت عن مناقشة  المعضلات الفكرية والسياسية داخل التنظيم، ولم تقدم الحلول والبدائل في معالجتها، وإكتفيت بالقول (أعترف بأني قد أسأت بحق العراق والشعب العراقي، ولعل نوايانا الحسنة لا ينفع معها الإعتذار، لأننا أدخلنا العراق في دوامات الفوضى والضياع، وأهدرنا مستقبل أجيال من شبابه، وأطلب العفو من كل مواطن عراقي يعتقد بأنني كنت وراء اضطهاده أو سجنه، أو حتى إساءة صدرت عني بحقه.)

بهذه اللغة يختتم الشيخ الجزء الأول من مذكراته، انها العزلة التي تتمدد بجسدها الموحش في نص لا تجد العبارة فيه سبيلاً للإفلات، بل يأخذك النص نحو النزف، وبلاغة المرارة، لقد آن للصمت أن يتفكك وينهار، وأن تتكشف أبعاد اللعبة، وخفاياها. ومحسن الشيخ راضي لم يفعل المستحيل ليخترق سكونه، في خضم الألم الذي يعيشه، من أجل أن يتوازن، أو يخفف من عبء الكابوس وفداحته، لقد تركوا العراقيين وحيدين أمام هذا الكابوس، وأمام هذه المحنة الكبرى.

أشعر ان الشيخ راضي، لم يقل كل ما عنده، لم يكن كافياً لكي يصرخ، لكي يصيح، لكي يعبّر عن الذهول، انه ينعى نفسه، وهكذا كان الصمت يتضمن الكثير من الصراخ، الذي لا تكاد تسمعه عند نفسك. فما زال الجرح يُرتَقْ عورات الوطن المذبوح، بسيف من أهله وبنيه. هب لي من كلماتك ما يعيد لي أبن أمي (سامي)، لأشمّ عطر قبره المجهول. لكنني أحييك، وأشد على يديك، لأنك قلت الحقيقة، ولو متأخرة، لكنك أفضل آلاف المرات من رفاقك الذين غادروا الحياة بعد أن أصابهم الخرس التام، كأنك تريد أن توقظ الحجر الصلد من سبات!

ليس من العدالة ان يكتفي الإنسان بالصراخ، إذاً متى سيأتي الإحتجاج والحساب؟ ، تلك هي مأساة الإنسان الصادق، وكيف يكون أميناً في التعبير عن نفسه أمام معضلة من هذا القبيل.؟؟ لا يكفي أن نوقد الأسى، والبلاد في (غيابة الجبّ)، وغولها يزرع الخراب والجوع.

 

جمال العتّابي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم