صحيفة المثقف

مجدي إبراهيم: الكتابةُ فنٌ وأخلاق

مجدي ابراهيمعجباً .. لأخلاق الكاتب وهو "الأديب" "الفنان"..!

منذ زمن بعيد قرأتُ لروائيِّ معروف قوله: "نحن لا نمتلك في وطننا شرف الكتابة التي تقوم على المتعة العقلية المحضة، أو ما يُسمى فناً من أجل الفن!". إذ ذاك رحتُ أسأل نفسي: لماذا يا ترى؟ فإذا الجواب يجيء بعد لحظة صمت وتأمل ليست طويلة؛ لأننا لسنا قادرين على تقدير الكلمة ..!

ولأننا في زمن يلهج بخطف كل شيء على وجه السرعـة: خطف الأكل، وخطف الرزق، وخطف العلم، وخطف الفكر، وخطف العاطفة والشعور، وخطف الكلمة يتفوَّه بها مَنْ يدرك لها معنى ومَنْ لا يُدرك. وثقافة الخطف في بلادنا - ويا للأسف!- هى السائدة. ولن تقوم الكتابة الحقة على المتعة الذاتية المحضة، وثقافتنا العريضة والمتخصّصة خطفاً على خطف وقشوراً على قشور.

كان تولستوي الكاتب الروسي يقول: "الفن أسلوب خاص في نقل تجربتنا الفردية والاجتماعية إلى الآخرين بما في ذلك إدراكاتنا وميولنا ومفاهيمنا وإرادتنا ومعتقداتنا". والذي قاله "تولستوي" في عبارته هذه، هو الذي يقالُ عن صدق الكلمة وتقديرها. مناطُ الصدق فيها يقع على قدرة الكاتب على التصوير واقتداره - بأسلوبه الخاص - على نقل هذه المشاعر والميول والمفاهيم كائنة ما كانت أنواعها وأصنافها، فهو عمل الأديب الفنان الذي يملك القدرة الخاصّة على وصف شعوره وتجاريبه ونقل محتويات نفسه وذخائر طواياه بما فيها من آمال وآلام أو قوة وضعف إلى الآخرين؛ فإنّ عمل الفنان إنما هو عمل نفسي معنوي في أول مقام؛ بل هو عمل تتوفر فيه المقدرة على إفادة الآخر إفادة جادة تأتي قصداً لا عبثاً، وعمداً لا صدفة أو اتفاقاً، وصدقاً صدوقاً لا كذباً ونفاقاً أو تملصاً من الحقائق والمفاهيم.

والكاتب الذي يقتدر على الوصف والتصوير، ويتمكن من تجسيد المعاني وتمثيل المدركات - ما يدرك منها وما عساه يكون في طريق الإدراك - حقيقٌ بأن يكون فناناً صادقاً في الحس وفي الشعور؛ لأنه الفنان الذي يصور مدركاته وخبراته ويجسد معتقداته وآراءه ويجمع أطراف ما تفرَّق من قضايا حول قضية محورية هى بلا شك قضيته الكبرى التي يمثل فيها - وبإجادة التعبير بعد إجادة التفكير - الدوافع الكامنة في أعمق أعماقه وأكمن مكامن خفاياه.

غير أن للفن أساليب مختلفة واتجاهات متباينة وصوراً في درجات الإدراك والتذوق متفاوتة، فيها ما هو أرقى من المثال، وفيها ما هو أدنى من طينة المادة وأخس من بلادة المحسوس. وللفن الجميل بعدان: بعدٌ ذاتي وبعدٌ موضوعي، وبين البعدين تداخل وترابط ليس بينهما انفصام. لكن البعد الموضوعي فيه أهم وأبقى وأوفر للخلود والبقاء، فيه السّمات الإنسانية العامة، وفيه الحرية المطلقة التي لا تتقيد بجنس من الأجناس ولا بدين من أديان القبائل والشعوب، ولا بصك صادر من سدنة الأرباب وكهنة الزوايا والمحاريب. وهو يعلو على السطحية والعنصرية وقيود الأعراف، ولكنه يبتذل أشدُّ ما يكون الابتذال إذا لم تقيّده عبقرية الفنان، وإذا لم يكبحه جانب النبوغ الذاتي فيه.

وعلى ذلك لا يكون الفن إلا إلهاماً من وحي هداية السماء لا من وعز الإسفاف والابتذال. فالروح الإنساني هى التي تحرك مبدعات الفن الجميل، وهى التي تنفعل بالجمال وتصور الجمال على أنه "حيوية الروح" بقوة حافزة ومتجددة، وبنشاط إنساني فعَّال وبناء.

في الكلمة الصادقة جمال، وفي المعنى الخالد جمال، وفي النفخة الإلهية جمال، وفي السعي الدائب والعمل المستمر جمال، وفي تحقيق الذات جمال، وفي الفن العظيم، والرمز الخالد، والفكر الأصيل، والعظمة الحقة، والنبوغ العملاق ... جمالٌ وأي جمال؛ إذْ تذوق الجمال في هذا كله إنما هو "إحساس" من المتذوق بجمال "القيمة" يستوحيه من المعرفة ويستخلصه من بواعث الإحساس، في نفسه، بجمال الأشياء.

فإذا استمد الفن الجميل وجوده من مصدر الروح الإنساني، كان سمة عليا مشتركة بين الأمم والشعوب لا تعرف التفرقة بين النزعات والعناصر وتعدد الأجناس؛ فلا يكون - من أجل ذلك - الفنان الذي يعتمد على موهبته وعبقريته ونبوغه مخالفاً قانون الهداية الإلهية بحال. ولا يزال موضع الإلهام عنده هو ذلك القانون الإلهي الذي ذوَّدَه بقدرات الخلق والإبداع وحفظ فيه النفخة الإلهية العالية أو (الزائدة) لروح المبدع، وروح الموهوب، وروح النابغة، وروح الفنان.

فمرُّد البعد الذاتي إلى طبيعة التصوير عند الفنان، ذلك الذي يمتلك أداة التعبير امتلاكاً يستطيع أن يصور به ما كان قد تصوَّره فكراً على أكمل ما يبلغه مستطاع الكمال الإنساني من تصوير، أو لا يمتلكها فيبطش ذات الشمال وذات اليمين.

فإذا نحن طبقنا ذلك كله على "الكتابة"؛ وهى نوع من الفنون في مراحل تطورها بتطور الإنسان في مشاعره وانفعالاته واهتماماته، سنجد هذا النوع من الفن يختلف باختلاف الفنان وثقافته، والبيئة التي تفرزه وتكوِّن - من ثمَّ - فرديته المستقلة وبصماته الخاصّة. ولنضرب لك مثالاً على هذه الجزئية لتدرك معنا أن الكاتب الفنان ابنٌ لبيئته وثقافته، بنوُّةً تجيء تأكيداً على استقلاله الفردي وخصوصية بصماته:

قارن - إنْ شئت - جيل العمالقة والقمم الشوامخ من طلائع النهضة العامة في مصر والشام، وتوقف قليلاً عند الكتاب "الشّوام": الدكتور يعقوب صرُّوف، وجرجي زيدان، وشبلي شميِّل، وفرح أفندي أنطون، وغيرهم من هذا الطراز الفني البديع .. فماذا أنت واجد في كتاباتهم، بالقياس إلى ما كنت قد قرأت لجيل الرواد في مصر، والمحافظين منهم على وجه الخصوص أمثال: محمد عبده، وتوفيق البكري، وعبد العزيز جاويش، ومصطفى لطفي المنفلوطي، والرافعي، ومحمد فريد وجدي؟

لربما لاحظت اختلاف المنزع الثوري واختلاف الاعتقاد، ولربما وجدت عقولاً تضيء، وأرواحاً تخبر، وقلوباً تكشف عن ساتر المحاجيب، وأفئدة ثائرة على وضع مقلوب. ولربما رأيت تحدّياً بيّناً للسيطرة الروحية وللنفوذ الديني الجامع لزعامة الدين والسياسة والعلم في بيئة تختلف عن البيئة التي نشأ فيها جيل الرواد (المحافظين منهم) في مصر؛ ولأجل هذا، ومن أجل هذا، نشأت المعارك الفكرية ونشبت، لاختلاف المنازع واختلاف البيئات، وراح ضحيتها أبطالٌ كانوا ينزفون على الأوراق دماً لا مداداً، ومنهم "فرح أفندي أنطون"، الذي يلوح أن الشيخ محمد عبده كان قد قضى عليه في ردوده العنيفة، وبإثارته العامة ضده، والتسبُّب في كساد مجلته "الجامعة"، حتى صار ميؤوس الأمل في حمل القلم، ومات - رحمه الله - وهو على الكفاف!

فإذا عَرَفْتَ ذلك بعد الاطلاع والمقارنة، أدركت أن الكاتب ابنٌ لبيئته وثقافته؛ بل ابنٌ كذلك لفنه ومزاجه، ولأخلاقه وأفكاره، تشعل قلمه الثورة الثائرة في أعمق أعماقه، والوهج المنبعث في عقله وفكره وضميره لكل ما يكتب ويُبيِن.

أعود على ما بدأته فأقول: مَنْ يتأمل "ثقافة الخطف" كيف سَادتْ وانتشرت في مجتمعاتنا العربية، الأمر الذي أضحت فيه الكتابة لا تقوم في وطننا العربي على المتعة الذاتية المحضة بمقدار ما هى لا تقدِّم إصلاحاً على المستوى الفكري من شأنه أن يجيء بالضرورة تغييراً في زمن الإصلاح، يتفق معي في الفكرة التي أنا بصددها وهى رجوع انتشار "ثقافة الخطف" إلى افتقار الكاتب العربي إلى عنصرين أساسيين من المفترض أن يتقوَّم بهما. الأول: البُعد الفني. والثاني البُعد الخُلقي. وكلاهما يرتد معنا إلى فكرة "الحرية".

فلا معنى للفن الجميل، ولا معنى للقيم الخُلقية الأصيلة بغير الأجواء الحرة التي تنبت فيها تلك القيم، ويتكئ عليها الكاتب في كل ما يفعل أو يقول.

فما يسمونه اليوم بـ "حرية الكاتب"، ليس هو حرية "الدَّش" ورص الألفاظ في غير ضابط يؤهلها لتأدية وظيفتها الفنية، ولكنما "حرية الكاتب" تعني "حرية الفنان" على أوسع وأدق ما يمتلك هذا الفنان من حريّة. ولك أن تتصور فناناً مهملاً في عمله .. ماذا يمكن أن يقدِّم من صورة جميلة أو عمل بديع؟ لا شيء!

حرية الكاتب إنما هى صدقه في أن يعبِّر عن مشاعره وأفكاره، وينقل كوامن نفسه ودوافعها بما هو موجود فيها من نوازع وأهواء، أو من حقائق تكوَّنت في كيانه وابتعثت في وجوده فصارت منه وإليه، تصدر عنه فينسبها الناسُ إليه، وإنْ كان تلقَّاها عن آخرين؛ لأنه كان مزجها بعصارة عقله وخميرة ذوقه وحصيلة أعصابه وخلاياه؛ فإذا فرّغها على الأوراق صارت شيئاً جديداً من "ذات إنسانية" جديدة؛ اختارت أن تكتب بتلك الحرية المقصودة "والعفوية"؛ واختارت أن تكون ذاتاً حرة للتعبير عن شعورها بما ترى وتفكر، وتملك من مقومات الشعور والتفكير ما من شأنه أن يؤهلها لابتعاث مكنونات خفاياها وتصوراتها من غير قيود في ملكة الطبع أو في ملكة الاستعداد؛ فلا تعبأ بما تقع عليه من آثار لدى الآخرين إلا أن يكون شيئاً يخدم نظام الفكر ويضيف إلى خبراتها جديداً تتحرَّاه وتتولاه.

وهى كذلك لا تكترث لردود الفعل عند أحد من القارئين؛ بل عقيدتها الأولى والأخيرة هى أن تخرج ما في  جعبتها من لواعج ذلك الوجود "اللحوح" الذي يصدق عليه الصدق عينه، وتتوخى ذلك الوضوح كله، وتتحرى البيان بقدر المستطاع، فإذا هى تصور مغاليق النفس أكمل وأعجب ما يكون التصوير أمام نفسها أولاً ثم أمام الآخرين.

ولنذكر هنا مقولة لأحد المتأملين في هذه الطبيعة الفنية؛ وأظنه - إذا لم تخني الذاكرة - الشاعر المرحوم "أمل دنقل"؛ حين قال:" إنما الكاتب قلبٌ يخبر، وعقلٌ يفكر، وقلمٌ يسيطر؛ فحيث لاشعور لا فكر، وحيث لا فكر فلا بيان وحيث لا بيان فلا أدب".

إنما الكاتب مفكر يستهدي قريحته ثم يستوقد ناره المبدعة من شغاف فؤاده وخفايا ضميره، فيكتب ويبين. والكاتب الأريب يحوي الشعور والفكر والبيان والأدب جميعاً؛ لأنه يصور بشعور الشاعر، ويكتب بطريقة المفكر، ويصوغ صياغات الأديب، ويتناول بحذق ومهارة "ثورة الروح" عند هؤلاء جميعاً، فلا مناص من كونه أديباً مُبيناً مفكراً؛ يُشعرُ ويُحسِن التعبير عن شعوره، ويفكر ويجيد نقل أفكاره، ويبين ويقتدر على الإبانة والإفصاح لا لشيء إلا لأنه الفنان والأديب. على أن الكتابة الجيدة إنما هى روح صادقة تكمن في بلاغة التعبير عن اتساع الصدر بكافة الآراء. ولستُ أعني ببلاغة التعبير تلك الزخرفة الفارغة والألفاظ الضخام من غير معنى تحمله أو مدلول تستوحيه فتبلغه وتؤدِّيه؛ ولكنني عنيتُ أن بلاغة التعبير هى "خَاصّة الكاتب"، ومفرداته، وأدواته الفنية التي تهيئه لأن يكون صادقاً يحيا مع الأحياء وتظل أنفاسه خالدة ما بقيت الحياة.

وكلمة "الصدق" التي تكرَّرت معنا عمداً عشرات المرات هى أساس "ثورة الروح" في ضمير الكاتب؛ إنْ لم تكن على الحقيقة هى وتره الخالد يعزف عليه -  كلما أراد - آيات النغم الجميل؛ فهى - بلا شك - تحتاج إلى "إعادة نظر" لا بل "إعادة تثقيف" لعقول كاتبيها، مع ضرورة التمييز عندنا بين الكتابة الأدبية، وكتابة البحوث الأكاديمية؛ فإن معظم هذه الدراسات التي يُطلق عليها أكاديمية تكتب بغير روح، وكأنها "أداء مهمة" ينفض صاحبها منها يده بمجرَّد كتابتها ليفوز بنياشين الاستحقاق، حتى ولو سَرَقَ ونهب وتعدَّي وفاز بغير حق، وهو لا يستحق غير مذلة الاحتقار.

أقول؛ إنّ القدماء كانوا قديماً يقولون إنّ "الرجل هو الأسلوب". وأسلوب الكتابة وحده شيءٌ كفيلُ الدلالة على التفرقة بين كاتب وكاتب؛ لأنه كذلك شيء كفيل للدلالة على حرية الكاتب من جهة، وعلى قيوده وأغلاله من جهة ثانية.

فأما قيوده وأغلاله؛ فانسياقه كما تُساق السائمة إلى حيث يشتهي الآخرون، يكتب فيما لا يريد في الوقت الذي لا يريد، وعليه أن يُسَوِّد صفحات كانت بيضاء وكفى، بغير تقدير التبعة المُلقاة على عاتقه. أما حريته؛ ففي أسلوبه الذي يخرج معبراً عن أعمق وأدق مشاعر كاتبه؛ فيكون ممثلاً بالفعل فجاج فكر، ونزعات نفس، وعناء قريحة؛ فلا يدع حسَّاً إلا ويصوِّره، ولا معنى إلا ويورده موارد الصدق الصُرَاح بأطايب التعبير، ولا تصوُّراً إلا ويتعامل معه بريشة الفنان وإبداعه الأصيل: الخاطرُ الذي يتوارد على ذهنه، يهرع إلى تحليله وتفسيره باقتدار مُمَرن وحذق بارع وجميل. والفكرة - إذا هى غابت أو اتضحت - يذهب بصددها متعقباً أصولها مذاهبه في البحث والفهم والتعليل.

والنظرية يرجع إلى مصادرها وتاريخ جذورها ليقوم بتأصيلها وتأويل ما فهم منها. والواقع ينظر إليه برؤية العقل والنظر وعين الفكر البصير وَرُوِيَّة التدبر والتحقيق، ولا يمر عليه حدث من الأحداث إلا ويمنحه اهتماماً ويعيشه فكراً وكتابة؛ ليكون في يوم من الأيام - بهذا كله - شاهداً أصيلاً على عصره في غير ادعاء.

كان "توفيق الحكيم" أديبنا الكبير يقول في كتابه الممتع "تحت شمس الفكر" واصفاً هذا الأسلوب:" الأسلوب هو مزاج الفنان وطبيعته ووسيلته الخاصة في إظهار مكنون فكره .. أو هو الشخص - كما قال "يوفون"- هذا صحيح إلى حد ما: إنّ الكاتب إذْ يخلو إلى نفسه وقلبه، ويترك التصنُّع والتقليد يستطيع أن يهتدي إلى أسلوبه؛ لكن لا تظن الطريق هيناً: ذلك الطريق الوعر الطويل بين الإنسان وقلبه؛ إنّ القلب البشري لأعمق من أن يستكشف قراره من أول نظرة؛ إن قلب الإنسان بئر سحيقة رسِّخت فيها تجارب جنسه وأمته آلاف السنين، طبقة فوق طبقة، فعليه إذن أن ينزل طبقات هذه البئر..!!" (تحت شمس الفكر؛ نشرة مكتبة الآداب: ص104).

حقاً .. "إنّ كنوز قلوبنا العميقة لا قاع لها "..

إذا أستطاع الكاتب أن يقع على "الكنز"، أغترف منه بغير حدود، وتلقى عن قلبه مصادر هدايته هو أولاً، وكان في الوقت عينه مصدراً لهداية غيره من قارئيه: هدايتهم إلى الحقيقة المجهولة المغيَّبة، وهدايتهم إلى إعادة اكتشاف ذواتهم إزاء تلك "الحقيقة"، وهدايتهم إلى قرارة الوعي بالأسلوب الذي يَقِفَهُم على هذه الحقيقة إذا انفتحت قلوبهم بمفاتح المعنى وأسرار الهداية بكل معنى مفتوح لا ينغلق أمام فقه القلوب.

ومن أجل ذلك؛ لم يكن شاعرنا المرحوم "أمل دُنقل" مخطئاً ولا بعيداً عن الحقيقة، ولكنه أصاب كبدها عن وعي وجدارة كما يصيب المُلهَم الحقائق في لحظات الصفاء، وذلك حين قال:"إنما الكاتب قلب يخبر"؛ لأن الاهتداء إلى كنوز القلوب هو اهتداء إلى بواطن الشعور الدافعة إلى الفكر الدفَّاقة لخيال الملهَمِين. إذا اهتدى الكاتب إلى قلبه وخَلّص شعوره من شوائب الرواسب السلبية، كانت هدايته وخلوصه إخباراً بالحقيقة في كل حال فيما لو صلح القلب وأمدَّ صاحبه بالصالح الطيب على كل حال.

ذلك هو "الكاتب الرجل" الذي تجتمع فيه صفات الرجال على تفرِّقها: معدنه غير معادن الآخرين؛ لأنه "صاحب رسالة" وليس موظفاً في ديوان. وصاحب الرسالة من طراز من البشر ممتاز لا تكرِّره الدنيا كما تكرِّر تلك النسخ الآدمية ألوفاً تعقبها ألوف. إنّما هو معنى خالص من غواشي التكلف والادعاء -  أو هكذا ينبغي أن يكون - يكتب؛ لأنه يريد أن يكتب في الوقت الذي يريده، ويكتب لأن حوافز الحياة في بواطنه وأعماقه هى هى حوافز الحياة جميعاً لديه: قلبُ يخبر، وعقلُ ينير، ووجدانُ مدفوع بعوامل الخبرة وبواعث التعبير والإحساس والتغيير. وإرادة هى إنْ صدقت على شيء؛ فحريٌ بها أن تصدق على "الكاتب المفكر" الذي لا يدع عناءه يمضي دون أن يصوِّره بقلمه وأسلوبه، لكأنما يسلب من ذاته ما كان شق على غيره سلبه وتصويره وتبيانه.

وكيانٌ هو يملأ الإنسانية جمعاء ويزيدها في مخزون القيم رفعةً من جلالة المعنى وهبة الخلود. ولم تُعْرف الإنسانية في رقيها وتقدّمها إلا بمثل هؤلاء الرجال الذين يحفظونها من عيفانة الخمود والجمود والنكران وييسرون لها سبل البقاء والدوام.

قال أديبنا الكبير "توفيق الحكيم" - طيَّبَ الله ثراه - في كتابه المذكور: "القوة الحقيقية للقلم هى أن يستطيع أن يقول ما يريد، وقتما يريد أن يقول! والرجولة الحقيقية هى أن يبذل المرء دمه وماله وراحته، وكل عزيز لديه، في سبيل شيء واحد "الكرامة". والكرامة الحقيقية هى أن يضع الإنسان نَفَسَهُ الأخير في كفة، وفكرته ورأيه في كفة، حتى إذا ما أرادت الظروف وَزْنَ ما في الكفتين، رجحت في الحال كفة رأيه وفكره ..!

وكل عظماء التاريخ كانوا كذلك ..!".

هذه القوة تؤهل القلم للسيادة والعظمة والبقاء فيكون مداده أشرف من دماء الشهداء في سبيل الله، وأبقى من كنوز الدنيا ولو اجتمعت في يد أكرم الكرماء. أقْسَم الله تعالى بالقلم ولم يقسم بالمال، ولو كانت آثاره ليست بذات قيمة علوية باقية لما كان قَسَمُ الله به في كتابه بذي نفع شريف. قوة القلم في هذا الشرف العظيم؛ فإن لم يكن حامله مؤهلاً لتلك الأمانة العليا فليبحث له عن شيء آخر يحمله غير أمانة الأقلام.

*    *    *

يفقد القلم قوته إذا وجدت القوة التي ترغمه على قول لا يريده.

ويفقد القلم قوته إذا فرضت عليه الظروف أن يقول ما لا يريده.

ويفقد القلم قوته إذا لم يمتلك القدرة على قول لا يريده.

ويفقد القلم قوته إذا أختار الوقت الذي يقول فيه ما لا يريده.

ويفقد القلم قوته إذا قال ما يريده في غير الوقت الذي يريده.

ويفقد القلم قوته إذا لم يقل ما يريده في الوقت الذي يريده.

*    *    *

تلك هى حرية القلم فلنبحث لها عن وجود في هذه البلاد. يكفينا أسفاً شجياً ولوعة مخامرة أننا نعيش فيها بين إطمار الفاقة والجهل والكذب والنفاق والتلفيق؛ فلا تغير أقلامنا شيئاً ولا تقوِّم معوجاً ولا تنصف مغبوناً ولا تظهر حقاً؛ بل تطمس الحقائق وتقهر الإنصاف وتكره العدل والحق وتزور الكرامة الحقيقية وتُعلي من كرامة المنافقين والأفاقين وتُكَرِّم المأجورين ومصاصي الدماء في غير رحمة بشرف يحمله صاحب القلم الشريف.

قُلْ لي بربِّك: أين هذه القيم كلها من واقعنا الفكري والثقافي؟!

إذا نحن عرفنا للحرية الفكرية معنى، وقيمة، وريادة؛ فقد يسوؤنا مثل هذا العَسَف الضال يستشري في حياتنا بالمطلق، لا نستثني منها حياة من الحيوات؛ فقلَّ أن تجد شعاعاً من تلك الحرية يقفز على الساحة مطالباً بحقه في العقيدة والرأي وكرامة التفكير واختيار اللفظ الذي يعبر به عن رأيه واعتقاده، ولا تجد في الوقت نفسه ظلمات تحاول أن تكتمه كلما ظهر أو حاول الظهور، لكن شعاع الضوء آخر الأمر مصيره إلى ظهور مهما طال احتباسه وراء حجب القهر والتسلط والعَسَف والتضليل.

فمن استبداد الفكرة عندنا ألا نجعل لنقيضها وجوداً، ولا نعترف بما يقابلها؛ لأننا في حياتنا الفكرية والثقافية لا نؤمن بوجود نقائض لأفكارنا ولا قوابل لآرائنا؛ ولأننا نتصور غافلين أننا وحدنا الذين نملك حق خلق الأفكار وابتكارها، وغيرنا هم فقط الذين يجيدون فنون الاستقبال! مع أن الفكر ما سُمىَ فكراً إلا لأنه يحتمل "الفكرة" ونقيضها، والرأي وما يضاده أو ما يقابله.

ولا بدّ ممّا ليس منه بدٌ: أن تتلاقح الأفكار المتناقضة والمتعارضة كيما تثمر وتنتج، وأن يكون الحوار بيننا شريفاً عفيفاً بناءً ذا غاية نبيلة، منزهاً عن لوثة الأغراض الخسيسة والأهواء الوبيئة لكي تتولد - بعد هذا كله - حياة فكرية منتجة وخصبة وثرية.

         

  بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم