صحيفة المثقف

مهدي الصافي: الاستثمار في الازمات النفسية العامة.. البيئة السياسية والاجتماعية المضطربة

مهدي الصافيتعد الحرب الباردة هي من اكثر الحروب التأريخية الحديثة المؤسسة لفلسفة او فكرة صناعة الازمات النفسية العامة (اي التي تتعدى مديات التأثير فيها حدود امة او شعب او دولة واحدة..الخ.) ...

وقد كان نظام البعث البائد في العراق يعتمد على تلك الاليات الخبيثة (البحث عن مفاهيم وصيغ وتهم سياسية عامة مؤثرة في العقل الجمعي، مؤامرة-خيانة-تخابر وعمالة-جاسوسية-اعداء الوطن-الطابور الخامس، الخ.)، استخدمت لضرب بقية الاحزاب والشخصيات السياسية الوطنية، وهو من اكثر الانظمة العربية انفرادا بتلك الظاهرة، ثم تجاوزت تلك الاساليب الحدود الطبيعية في التنافس السياسي غير المشروع قطعا على سدة الحكم، لتصبح سياسة ونهج شمولي عام، تحولت بالتدريج الى سلسلة متواصلة من الملاحقات والمتابعات الامنية للمواطنين (بما فيهم العمال والفلاحين والكسبة)، بعد ان بدأت تعطي هذه القبضة الحديدة (الدموية لهذا النظام الدكتاتوري) نتائج كبيرة في السيطرة والهيمنة على الشعب، فهناك دائما ما يقال ان الطبقة السياسية الحاكمة في اي دولة ترى ان الشعوب هي المنافس الشرس او العقبة الرئيسية امامها، التي لابد من تجاوزها بغية الوصول للحكم (سواء كان ذلك بالخداع والقوة او عبر صناديق الاقتراع، ولهذا تجد ان امتيازاتهم لاتمس في حال فوز هذا او ذاك بالحكم)، ولازال يتذكر الشعب جيدا الحصار الداخلي المفروض من قبل الدولة (غير الحصار الاقتصادي الدولي المفروض على العراق بعد 1990)، حيث تلاعب نظام الاحمق صدام بقوت الشعب وبالحصة التموينية (برنامج النفط مقابل الغذاء والدواء)، وجعلها وسيلة لمحاربة وتجويع كل من يشك بولاءه له....

ان مسألة التعامل النفسي او التلاعب بمشاعر وعواطف الناس ليست حديثة، انما هي موروث بشري تأريخي، بل يعد من العوامل السياسية والاجتماعية الرئيسية للحكم (او الحروب والهجرات والغزوات او العبادات وممارسة الطقوس الخ) في الحضارات القديمة، وكذلك في بناء الدول او الانظمة الحديثة، لكنها تبقى ضمن دائرة التفاوت النسبي بين الانظمة والشعوب، ففي اوربا او حتى امريكا على سبيل المثال تختلف الاجندات المعنوية النفسية المطروحة امام الشعوب هناك، تبعا لنسبة الوعي الاجتماعي العام والحاجات او الضرورات المالية والاقتصادية التنموية المطلوبة، التي تعتمد عليها دولهم اعتمادا كليا، لبناء مايسمى دولة الرفاهية، اذ ليس من اهتمامات هذه الشعوب المشاكل او التعقيدات او الازمات الاجتماعية الدينية او الاثنية او التاريخية (انما هي تتخوف من هجرة هذه المشاكل واقتحامها للقيم العلمانية هناك من قبل الهجرات الاسيوية والافريقية المستمرة)، بينما تختلف على سبيل المثال دول الشرق الاوسط او الادنى، فشعوب هذه الدول الاقل وعيا، والحديثة العهد بالديمقراطية اوبناء دولة المؤسسات البدائية، لازالت غائبة عن الركب الحضاري، وهي متراجعة الى مراحل ومستويات الانحطاط الثقافي والاجتماعي وحتى السياسي، الغائبة او المتبخرة عندها الروح الوطنية امام الانتماء الطائفي او القبلي او حتى الاثني، بعض طبقات هذه المجتمعات غارقة في الجهل والتخلف الديني (الاديان والمذاهب الشعبية) والاجتماعي، وتنزع رغباتها الى اعادة صياغة الاساليب القديمة في الحكم (الطموح بعودة الخلافة الاسلامية، مبايعة الزعماء والقيادات الدينية السياسية، وشيوخ العشائر وامراء السياسة والحرب، الخ.)، اي صناعة دولة القطيع!

من هذه العوامل التي تساهم بسحق عقول الطبقات الفقيرة، والاجيال المتعاقبة، السلطة الابوية العامة المزيفة، او تلك الموجهة نفسيا وعاطفيا للاستحواذ على عقول اتباعها، تارة بأسم العادات والتقاليد الموروثة، وتارة اخرى بأسم الدين او الطائفة ومفهوم الهوية، وليست الابوة الوطنية الثورية الحقيقية المجردة، التي يمكنها ان تضع الاسس الصحيحة لبناء الدولة العصرية الناجحة..منها مايلي:

اولا: الانتماء والهوية:

لايمكن الفصل بين الانتماء الاجتماعي (الاثني او القبلي او الديني والطائفي الخ.) وبين الهوية الوطنية العامة الجامعة، والا تصبح هذه الانتماءات هي الهويات الاساسية في تركيبة المجتمع، التي يمكنها ان تنعكس سلبا على شكل وطبيعة نظام الحكم (كتجربة المحاصصة في لبنان، والعراق وبقية الدول العربية)، مما يؤدي بالنهاية الى الفوضى والتقسيم، وفشل عملية بناء الدولة اوالمحافظة على وحدتها

ثانيا: الفكر والاحزاب او الحركات السياسية التنموية الوطنية:

تتنافس وتدوراحزاب الديمقراطيات المتقدمة في العالم في الجولات الانتخابية العامة حول محور الاقتصاد، وتقليل نسبة البطالة والفقر، وسبل توفير بيئة الازدهار، بينما تتنازع وتتناحر وفي احيان اخرى تتقاتل مايسمى بالاحزاب والحركات السياسية في بلداننا فيما بينها، دينيا وطائفيا واثنيا، ولا تجد او يلمس اتباعهم او الشعوب في ادبياتها اية برامج سياسية تنموية حقيقة لادارة الدولة، البعض من هؤلاء الحمقى يذهبون ابعد من ذلك، بتحميل الشعوب واتباعهم انفسم مسؤولية الفشل والفقر والانهيار، عبر الترويج لمفهوم نزول البلاء، وغضب الخالق عزوجل عليهم لانهم مسلمين غير صالحين (ارتكبوا الكبائر من الاثام)، وكأن بقية دول العالم المتطور مدن ملائكية فاضلة...الخ.

ثالثا: الانتماء القبلي-العشائري السياسي:

لا يمكن ان تبنى دول الامة بوجود هذا التداخل الاجتماعي السياسي السيء، الذي رسخته الطبقات السياسية الانتهازية في العراق (ولبنان، ويراد له ان يطبق في سوريا واليمن وليبيا وبقية الدول المنهارة)، حيث تم تقسيم النظام السياسي وفق مبدأ المحاصصة بين المكونات، ثم تدرج الى داخل كل مكون، بتوحيد المحافظات بدائرة انتخابية واحدة، مما دفع المواطنين الى التقوقع والانكماش والتراجع امام التكتلات العشائرية الكبيرة، والنتيجة لا ابن العشيرة يمكنه ان يشكل مع مرشحي العشائر الاخرى كتلة وطنية لبناء دولة المؤسسات، ولا تمكن من جلب الخير لمدينته او ابناء عشيرته، لان الدولة او الوطن جسد واحد، اذا مرض او فسد او انهار عضوا فيه، تأثر الجميع بنتائجه الوخيمة...

رابعا: الاسلام السياسي:

فشل حكم الاخوان في مصر، والاسلاميين الشيعة والسنة في العراق، وحتى انحراف مسار الديمقراطية والحكم الاسلامي الايراني (الذي اصبح اكثر تشددا ودكتاتورية لشعب يحب التواصل والانفتاح الحضاري المدني العالمي)، وانكشفت اكاذيب وادعات الاسلاميين المهيمنين على عواطف ومشاعر المسلمين بطريقة نفاقيةباتت مكشوفة (كما حصل في رد المرشد الهضيبي على حالة التكفير والتشدد في كتاب دعاة لا قضاة سبعينيات القرن الماضي، وهي تكتيك متبع للتقية والادعاء بالمراجعة، الا ان المتابع يرى انها عادت اكثر تطرفا في فترة الحكم بعد اسقاط حسني مبارك)، قد تكون لهذه الاحزاب او الحركات الاسلامية مبادئ وافكار اخلاقية دينية اصلاحية صادقة، الا انها تصطدم وتمر بعقبات كثيرة اثناء التجربة السياسية والواقع الاجتماعي المتنوع، اول هذه العثرات هي النزعة الشخصية لافرادها وقياداتها في مايتعلق بحب الوجاهة والتسلط والاموال (وحتى الجنس)، هؤلاء يشعرون انهم لايختلفون عن الخلفاء او الامراء والحكام، يحق لهم التمتع بالحياة على طريقتهم الخاصة (الزهد والتواضع امام العوام، وماخلف الابواب والجلباب الرفاهية وتأمين مستقبل الاولاد والاحفاد الخ.)، هذا لايعني ان جميع من انخرط بالاسلام السياسي هم على هذه الشاكلة، انما هناك فعلا من يؤمن بأن الاسلام السياسي لابد له ان يتواصل علميا ومنطقيا مع روح الحضارة المدنية الانسانية الحالية،

وان يتم الفصل بين الدين والدولة، وليس بين الدين والشعب والاخلاقيات الاجتماعية والدينية المعتدلة، اي ان الدين له المساحات الشرعية والاخلاقية الكاملة المحترمة داخل الدولة والمجتمع، ولكن ليس له سلطة دستورية او قانونية لاحكام القبضة الشرعية على الشارع، او اتباع اساليب التأثير النفسي الديني –السياسي، وهناك ايضا مفكرين اسلامين يدعون الى مراجعة المذاهب الاسلامية وكتب الحديث والفقه والتفسير...

خامسا: الثقافة والاعلام:

هذه هي ماكنة وادوات التأثير النفسي العام في المجتمع، فهي تمتلك القدرة الكاملة على حرف مسارات الوعي او تعديلها، تبعا للفسلفة والفكر والموروث والانجازات الادبية او الابداعية، اي عندما يكون النتاج الثقافي مغيبا او خجولا وحذرا لاكثر من اربعة عقود، ثم يأتي بعد عام 2003 او بعد ثورات الربيع العربي ليطرح رؤيته الخاصة لملأ الفراغ الهائل، بين الامس واليوم، ولايجد من يتحفز للاستماع او التواصل من ابناء المجتمع، بل يرى استمرار لحالة الانغلاق والعقم الفكري والثقافي السائد (حتى يرى تراجعا وهبوطا في مستوى المواضيع المطروحة في الدراسات الثقافية وبحوث اطروحات الماجستير والدكتوراة المتعلقة بها)، لايشكل ذلك حالة استثنائية او وقتية او مبعث على الصدمة بالنسبة لهم، ولايعتبر ظاهرة خاصة تتعلق بشعب او دولة دون اخرى، لان البيئات الاجتماعية والسياسية المضطربة اينما كانت تنتج نفس الكارثة او اشد منها، لان اساس منظومة القيم قد هدت وتحطمت من القواعد، فالحاجة الملحة للاصلاح في مثل تلك الظروف لاتكون بالترقيع والترمي الفوقي او الضمني، انما باحداث الطفرة او النقلة النوعية في الثقافة والوعي السياسي والاجتماعي الحضاري، وبأعادة صياغة المفاهيم الصحيحة، وبدفع العوامل النفسية المعنوية الايجابية الى المقدمة، والعمل على كشف الحقائق المزيفة المستترة خلف العناوين الاجتماعية والدينية المسيسة...

اما فيما يتعلق بالاعلام فهذا بيت الداء، بعد انتشار الفضائيات والاعلام الالكتروني، اصبح لكل طائفة او جماعة او حزب او تيار قناة او موقع الكتروني خاص بهم، فتداخلت السياسة بالدين بالتجارة والاجندات الداخلية والخارجية، وكأنها امواج هائجة متلاطمة يمينا وشمالا، ورياح عاتية تأخذ الناس الى المجهول، لا اخلاق ولا مهنية ولا اهداف واضحة للكثير منها، غاطسة في المنافع والمصالح والتجهيل والاستثمار الرخيص لمعاناة الابرياء ضحايا الفساد والفشل والعنف....

سادسا: الاسرة والتربية والتعليم:

البيت والمدرسة اما ان تكون مشروع للتربية والتنمية الاخلاقية والعلمية البشرية السليمة، او عملية تخريب وتدمير منظم لشخصية الفرد منذ نعومة اظفاره (بقصد او دونه)، ففي بلادنا لازالت نظرة الاسرة (التربوية العامة في البيت او المدرسة) المتسلطة على الاطفال هي معيار وميزان القناعة والقبول لطرق التربية، تشتد وتزداد عنفا كلما اعتقد الاباء ان الطرق اللينة نسبيا لم تنفع مع اولادهم، اذ لايمتنع هؤلاء عن هذه الاساليب والطرق البدائية في التعامل معهم، الا اذا شاهد ولاحظ زيادة في مستوى الرعب والخوف الظاهر في عيون الاطفال او التلاميذ،

هذا فضلا عن الاسقاطات والتفريغ النفسي الشخصي المريض فوق رؤوس هؤلاء الضحايا، هذه الظروف التربوية السيئة مدعومة احيانا من السلطة العليا في الدولة للانظمة الشمولية او الفاسدة، وكذلك من الزعامات العشائرية والقبلية او الدينية، التي تطرب الى مصطلحات وعبارات الطاعة والتأدب والتواضع المهين، وبيان حالة الاذلال امامهم (او امام كبار القوم ورجال الدين والمسؤولين)، ولعلك تستغرب اسثقال الناس في بلادنا من اضافة او لفظ عبارة استاذ او سيد لاي انسان في المخاطبة (، بينما تسمعها بكثرة يوميا في بلاد الغرب)، لانها تذكرهم بثقافة الاستعلاء والتفاوت الطبقي في المجتمع...

لهذا نرى ان هذه المجتمعات لايمكنها ان تنهض او تواجه مؤامرات الاستثمار الاجتماعي والديني المتناقض في السياسة، وتبتعد عن حدود دائرة الاستسلام، وتمتنع عن الخضوع للازمات النفسية المتواصلة المصطنعة من قبل قوى السلطة والحكم الرسمي او الاجتماعي والديني،

الا بالتحرر والانعتاق من قيود التراث القبلي او العشائري او الديني الشعبي، والتفكير ببناء نموذج عصري للدولة الديمقراطية، البعيدة عن اساليب الاقصاء والتهميش والعنف او التوحش، القريبة او المتداخلة مع العلم والمعرفة والمنطق العقلي الواقعي، تنظر الى تجارب الشعوب والدول المتقدمة اقليما او النامية والناشئة على انها داخل دائرة التنافس المشروع لهم في اللحاق بهم، وبقطار الحضارة الالكترونية الفضائية الفائق السرعة...

لن يخرج خيار الشعوب الفاشلة والمجتمعات والدول المضطربة عن انتاج دولة بدائية تجلب الفساد والفوضى والازمات النفسية والمرض والمعاناة والتوحش الخ....

اما خيار الامم والشعوب الحرة يظهر جليا في الاسس المعتمدة في بناء دول متقدمة انسانيا واخلاقيا وعلميا وحضاريا، تتسابق مع بقية القوى العظمى بشرف

 

مهدي الصافي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم