آراء

قاسم حسين صالح: مشروع علمي لمكافحة الفساد والوقاية منه

مقدم الى السلطات الثلاث مع التقدير

الحلقة الأولى: اسباب شيوع الفساد بعد التغيير.. تحليل سيكوبولتك

تنويه: يتضمن هذا الملف تشخيص الأسباب التي اوصلت العراق الى ان يكون من بين الدول الأكثر فسادا في العالم بعد التغيير كشرط علمي في المعالجة ، وتوثيقا لحجم الفساد وأبعاده في العراق من مصادر موثوقة، وتلخيص موجز لتجربة سنغافورة في مكافحة الفساد وتجربة ماليزيا في التنمية الاقتصادية.. وصولا الى تقديم مشروع علمي يمكّن متخذ القرار من تحديد طريقة تعامل ناجحة مع ظاهرة خطيرة ومعقدة.. منطلقين من حقيقة ان محاربة الفساد تحتاج إلى"النضال الطويل والمكلف والمؤلم من أجل النجاح"، وفق ما يرى برتراند دو سبيفيل صاحب كتاب"OVERCOMING CORRUPTION" الذي يعدّ مرجعا أساسيا في مجال محاربة الفساد، وتوكيده بأن مكافحته تتطلب استراتيجية وطنية ذات أهداف واضحة وقابلة للتحقيق.

ان اشرس المعارك التي تواجه العراق الآن هي معركته مع الفساد، وهي مخيفة! بدليل ان رئيس الوزراء الأسبق السيد نوري المالكي اعترف علنا بأنه لا يستطيع مكافحة الفساد لأنه لو كشف ملفاته لأنقلب عاليها سافلها. وحين تلاه رئيس الوزراء الدكتور حيدر العبادي وعد بأصرار بانه سيضرب الفساد بيد من حديد (حتى لو يقتلوني) ثم اعترف بأنه غير قادر، لأن الفاسدين يمتلكون القوة والمال وانهم مافيا. وحاول السيد مصطفى الكاظمي كسابقيه، فيما حصلت في زمانه سرقة القرن.. ما يعني ان محاربة الفساد تحتاج الى متخذ قرار حازم وذكي واستثنائي يعتمد مشروعا علميا ، وهذا ما يتمناه العراقيون للسيد محمد شياع السوداني.

اسباب شيوع الفساد في العراق

لا يمكن معالجة أية ظاهرة دون معرفة أسبابها ، وتعد أستطلاعات الرأي أحد اهم أساليب البحث العلمي في تشخيص اسباب أية ظاهرة.ولهذا توجهنا عبر وسائل الاتصال الجماهيري والبريد الآلكتروني عن اسباب شيوع الفساد في العراق ، فحددتها بالآتي:

* غياب الرقابة المالية

* عدم تطبيق القانون

* عدم استقلال القضاء

* المحاصصة

* ازدواجية الفرد العراقي

* الفقراء بوصفهم مسؤولون عن اطالة مدة بقائه

* الوضع السياسي المنهار والفوضى الامنية

* عدم وجود موقف حازم للمرجعية الدينية.

وتضمنت الاجابات تعليقات ساخرة واخرى عامة من اكاديميين ومثقفين نوجزها بالاتي:

* الجميع فاسدون لا استثني احدا. وعلى رأي مظفرالنواب، استثني ابن عّم كونفوشيوس وابن خال الجاحظ وابن عمة ابن منظور وابن خالة الإسكندر الكبير صاحب البواسير السبعة ووارث عمامة الحجاج بن يوسف احد كلاب ثقيف فقد كان المسكين يحلم اثناء الأزمة.

* الجميع مسؤولون عن شيوع الفساد بمن فيهم الفقراء والضعفاء.. فحين يشيع الفساد تنتشر ما يسمى ثقافة الفساد.. فيسمى الفاسد ذكيا والامين مسكين ما يعرف مصلحته.

* صعب التحديد.. كلهم فاسدون وفاسقون بلا استثناء.

* للكاتب وليم كولدنغ رواية تسمى (الذباب).. ملخصها وصول مجموعة من الاطفال الى جزيرة غير مأهولة، وبغياب سلطة الكبار (القانون) والدين يتحولون بالتدريج الى قتلة.

* الشعب هو الذي يشجع على الفساد.. فلو امتنعنا عن الرضوخ الى كل مرتشي وفضحنا الاعيب البعض منهم وساهم كل فرد بأصلاح نفسه ونصح من حوله لما استشرى هذا المرض .

* الشعب الذي ينتخب الفاسدين والانتهازيين والمحتالين والناهبين والخونة لا يعتبر ضحية بل شريكا في الجريمة. (جورج اوريل) .

وكنا اجرينا دراستين علميتين في (25 حزيران 2016) وفي(29/6/2020 )، عن اسباب فشل العملية السياسية في العراق.. حددت اهمها بالآتي:

* تعصب اوعدم نضج سياسي او مرض نفسي مصاب به العقل السياسي العراقي،

* عدم او ضعف الشعور بالانتماء الى العراق من قبل المسؤولين الذين يحملون جنسيات اجنبية ،

*اشخاص يأتمرون بتعليمات دول قوية (امريكا وبريطانيا) واخرى اقليمية،

* قضية اشخاص اضطهدهم النظام الدكتاتوري ويرون ان من حقهم الاستفراد بالسلطة والثروة،

* لعبة اقوياء استضعفوا واستغبوا الشعب.

وعزت نتائج الدراستين اسباب الفشل الى فريقين : الشعب لأنه مجتمعِ متفكك يرغب بالفوضى وطرق العيش العشوائية والتسلق على أكتاف الضعفاء، والأنجرار للميول الدينية والمذهبية والعنصرية الكاذبة، ولفكر بدوي عشائري تسلطي طائفي بثقافة اجتماعية هابطة جائت بفاشلين وافرزت طبقة سياسية هابطة، والسياسيين.. لخلل في تكوينهم المهني والاجتماعي والنفسي، فلا هم سياسيون يفقهون المبادىء ولاهم مهنيون يفهمون كيف تدار الدولة.

تحليل سيكوبولتك

تعود بدايات الفساد الى عام (1980) في المؤسسة العسكرية تحديدا" بين ضباط وميسوري حال من المجندين بدفع رشا و(هدايا) الى آمريهم للحفاظ على حياتهم او الحصول على اجازة يمارسون فيها اعمالا" تدرّ عليهم رزقا" أوفر من رواتبهم، و"شراء" قادة عسكريين بمنحهم اوسمة شجاعة بمكافئات مالية ضخمة واراضي، خلقت منهم فئة ثرية جدا" ولدّت لدى الضباط الآخرين الشعور بالحيف فأخذوا (حقهم) من الدولة بالرشوة والاختلاس، نجم عنها (تطبيع نفسي) مهد لقبول هذه الظاهرة.

وجاء الحصار الذي اضطر اساتذة جامعة ان يعملوا (سواق اجرة) ويفتح مدرسون (بسطيات.. جنبر)لبيع السجائر، فدخل الفساد المؤسسات التربوية المسؤولة عن صنع الأخلاق ليلوث الضمائر الفتية ويهيؤها لمرحلة القبول حين تصبح شابة، لينتقل (التطبيع) الذي مارس عملية (ترويض الضمير) لثماني سنوات، الى حالة (القبول) المبرر نفسيا.. لثلاث عشرة سنة.

في العام (2003) أطاح التغيير بالنظام ولم يطح بالفساد، بل توزع المحرومون على صنفين: سياسيون استلموا السلطة واستولوا على ممتلكات اشخاص ودولة، و(حواسم) نهبوا وفرهدوا ونطوا من الحضيض الى (القمّة).. بنوا العمارات في بغداد واشتروا الشقق الفاخرة في عواصم عربية.ولأنهم لم يحاسبوا، فقد ظهرت فئة من الناس اطلقوا على انفسهم (النوادم) لأن ضميرهم الذي عدّ النهب حراما" في لحظته، تبين لهم فيما بعد انهم اضاعوا الفرصة فصاروا من النادمين!. ويعني هذا سيكولوجيا، تعطّل الضمير الاخلاقي لدى الذين كانوا مترددين في حوادث النهب والفرهود، وزيادة مساحة قبول الفساد المالي اجتماعيا".

وبتعرض العراق لأخطار داخلية وخارجية ظهر عامل نفسي جديد ضاغط هو ( قلق المستقبل) اشاع الظاهرة اكثر في زمن البرلمانين الأول والثاني، وتحكّم بالغالبية المطلقة من المسؤولين فعدّوا وجودهم بالسلطة(فرصة)عليهم ان يستغلوها بما يؤمّن لهم ولأسرهم مستقبلا" ماديا" مضمونا".وبممارستهم له صار فعل الفساد( شطاره) وتوقف الضمير عن التأنيب بعدّ الفساد حراما".

وبتعمق المحاصصة والطائفية السياسية شاعت (سيكولوجيا الاحتماء) التي تعني ان ابن الطائفة يحميه حزبه الطائفي، دفعت بعدد من هذه الطائفة وتلك الى سرقة المال العام في اتفاق ضمني: (اسكت وأنا اسكت) منحهم الشعور بالأمن النفسي.وصار الفساد بحجم أكبر لم يشهده تاريخ العراق والمنطقة، و"الفضل" في ذلك يعود لأمريكان وأجانب جرّئوا عراقيين على "هبرات" كبيرة.. وأمّنوا لهم الحماية.

وحقيقة أخرى شخصها بريمر مبكرا في كتابه (سنتي في العراق)، انه وجد ان الشيعة يطالبون بحقوق الشيعة، والسنّة يطالبون بحقوق السنّة، والكورد يطالبون بحقوق الكورد.. ولا احد يطالب بحقوق العراقيين .وسبب ذلك في التحليل السيكولوجي ان من استلم السلطة بعد 2003 تحكمت فيهم (سيكولوجيا المظلومية) نجم عنها أمران: الأستفراد بالسلطة والثروة الذي تصاعد في (تموز- آب 2022) بين التيار الصدري والأطار التنسيقي ، وخلق أزمات ادت الى توالي خيبات في خراب سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي واخلاقي أصاب العراق بالشلل والفشل.. لتثبت الأحداث اننا لا نمتلك رجال دولة بل اشخاصا اعتبروا العراق غنيمة لهم فتقاسموه فيما بينهم بفساد مشرعن ثم تنازعوا على القسمة بعدعشرين سنة من الشراكة!

وبسكوت الحكومات السابقة عن محاسبة الفاسدين، وتبادل التهم بين معممين سياسيين بشكل خاص ومدّعين بالزهد والنزاهة.. افتقد الناس انموذج القدوة وصار الموظف البسيط يردّ على ضميره: (اذا كان قدوتي يرتكب هذا الفعل.. فأنا لست بأحسن منه.واذا كان حراما.. فلأضرب ضربتي.. ثم اذهب الى الحج واستغفر ربي.. والله غفور رحيم!).

ان تفاعل هذه الآليات على مدى (42) سنة أفرز نتيجة سيكولوجية هي أن الناس حين تضطر الى قبول أو غض الطرف عن سلوك كانوا يرفضونه، ويجدون أنفسهم غير قادرين على تغييره، انتشر بين غالبيتهم مخّرجينه بتبريرات واسقاطات تعطّل تأنيب الضميرعلى هذا الفعل، نصوغه بنظرية تشكل اضافة عراقية لعلم النفس والاجتماع العالمي، خلاصتها:

(اذا زاد عدد الأفراد الذين يمارسون تصرّفا يعدّ خزيا، وغضّ الآخرون الطرف عن أدانته اجتماعيا أو وجدوا له تبريرا، وتساهل القانون في محاسبة مرتكبيه.. تحول الى ظاهرة، ولم يعدّ خزيا كما كان).

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

في المثقف اليوم