صحيفة المثقف

خالد جودة أحمد: رحلة "المريد" إلى الإنسان

خالد جودة احمدمتعة حصدتها في المطالعة لعدة ساعات متواصلة في كتاب (المريد - في صحبة عبد الحليم عويس) للكاتب د. وليد كساب، وأعتقد أن القارئ يجد مثل هذه المتعة في كل مرة يطالع فيها الكتاب، ويمكن حينها تصنيفه باطمئنان في خانة (كتب النفس الواحد)

وإذا كان الحديث عن (الثيمة) أنها الموضوع الاساسى الذى يدور حوله النص الأدبي أو كما يذكر د. زكى محمد عبدالله: (الثيمة الفلسفة التى يريد الكاتب أن يقدمها إلي القارئ فالثيمة هى المفتاح الذى يوصل الشرارة الكهربية إلي محرك السيارة فيدور)، وبراعة الكاتب في استخدام الفن ﻹذابة (الثيمة) في المادة القصصية فيحتسيها القارئ هنيئا مرئيا وقد تمثلت روحة غذاء المعنى والقيمة مجسدة في تلك (الثيمة)، وثيمة هذا الكتاب الشيق تتجسد أنه مصباح الحكيم في البحث عن اﻹنسان. يتحدث المريد عن شيخه ص 48: (ها أنذا من بعدك أغدو في الطرقات والسبل .. / أفتش عن وجهك في كل الوجوه وأبحث عن ذاتي في ذاتك ... / أبحث .. عن إنسان)، وجعلها أيضًا كلمة النهاية، في نصه المؤثر برحيل المعلم: (... ساعات ولبي النداء .. رحل الشيخ، وترك المريد.. تركه.. يبحث .. عن إنسان)

والكتاب جاد وطريف أيضًا، يقطن موطنًا بين حدي السيرة الذاتية والغيرية والحكي بأسلوب قصصي ممتع،  ويذكرنا بسفر دكتورة بنت الشاطئ النفيس (علي الجسر – بين الحياة والموت)، حيث السيرة الذاتية ممزوجة بالسيرة الغيرية ومقتصرة علي حدودها، وهذا دال موضوعي علي الأثر الذي تركه المعلم في المريد، لذلك كان التوفيق في إصابة العنوان الرئيس (المريد – بصحبة عبدالحليم عويس) للمتن الحكائي جميعًا.

كانت قدرة الراوى الذاتي هنا في حشد التفاصيل المنوعة الموحية والممتعة والراقية في عشرات الموضوعات، لكن بكلمات دقيقة مختصرة، لدرجة أرى معها أن هذا السفر ملخصا موجزا يمكن بسطه في صفحات كثيرة أخرى لملامح من سيرة المعلم والمريد معا، وتقديم خصال نفسية لهما معا، وترجمة ذكية للعالم الجليل في سجل اجتماعى طريف، وفوائد يتعلمها القارئ -والأدب كما يرى برناردشو يجب ولا مفر له من أن يكون تعليميا- حول الجدية والاخلاص والاجتهاد والجهاد الفكرى الكبير، وقران العلم بالعمل وقطوف من فكر الراحل الكريم. نموذجًا: يقدم مثالا راقيًا حول سمة "الجدية" في حياة المعلم للمعتبر، يقول المريد ص 28 و 29 "بتصرف": (عشق الرجل للعمل ليس له نظير .. / هكذا كنا.. نصل الليل بالنهار بين صفحات الكتب والمراجع.. / يثير مني مواطن العجب في شخصية الدكتور عويس، أنه كان يطلب أن أوقظه بعد نصف ساعة أو ساعة علي الأكثر، وكثيرًا ما كنت أشفق عليه فأتركه حتي يستريح لعلمي أنه لم ينم، فيصحو مرتاعًا وكأنما لدغته حية، ثم يصيح قائلا: يا أخي الله يهديك، بقولك صحيني بعد نص ساعة تسيبني نايم ساعة بحالها. إن ساعة واحدة لا تكفيني لاستدعاء النوم نفسه، فكيف له أن ينام هذا الوقت الوجيز، فتقر به نفسه؟! / يستغل كل لحظة من حياته، إما بالقراءة أو بالكتابة، أو بالمراجعة، أو ما عدا ذلك من شئون الفكر). وفي موطن آخر من الكتاب الشهي ص 143، يصف كيف كان الراحل الكريم يكتب ويقرأ حتي في سرير المرض وفي المشافي: (فقد كان –رحمه الله- معنيًا بالقراءة والكتابة حتى الساعات الأخيرة من حياته)

فالكتاب يقدم ترجمة صادقة للعالم أستاذ التاريخ والحضارة د. عبدالحليم عويس، من خلال رفد المعلومات  في ثنايا الحكى الشائق، فعن موسوعية المعلم يتحدث المريد: (عجيب استيعابه للأحداث والوقائع التاريخية وإحاطته بجوانب عديدة من العلوم الإسلامية الأخرى كالفقه والتفسير والفلسفة ... إلخ. كان أسلوبه في الكلام شائقًا جذابًا).

ويقدم المريد في كتابه نوافذ مضيئة من كلمات نيرة عبر عتبات نصية يقدمها بين يدي كل قطعة سردية من الكتاب، ينتقيها بعناية، بحيث تنسجم مع المعطي الفكري لتلك الكتلة النصية من الكتاب، بل كان اختيار اللغة مقصودًا ليماثلها، ففي قصته الطريفه المعنونة (عريس رغم أنفي)  حيث يسعي المعلم بديكتاتوريته الشفوقة –كما جسد الحكي- لتزويج تلميذه دون ترحيب أو إرادة منه، وفي إصرار ومثابرة، انتقى لها الكاتب عتبة نصية بالعامية من كلام المعلم: (سيبك من المثل بتاع امشي في جنازة ولا تمشيش في جوازة.. أنا شخصيًا بمشي في الاثنين!)، أما عتبات الكتل النصية الأخرى فتجسد أثر المعلم في فكر المريد ورؤيته لدور التاريخ وفلسفته في رعاية المستقبل، منها:

* ص 34: (فهل رأيتم دينًا وحضارة علي هذا المستوي من تقدير الحياة والإنسان؟!)

* ص 93: (وكم في حضارتنا من صور رائعة يرتفع فيها المخلصون المتواضعون إلى درجة ملائكية مع علمهم وفضلهم ..)

* ص 15: (أما الذين يحاولون صنع الإنسان أو صنع حضارة، فلهم طريق آخر، كريم ونظيف. ع ع)

كما تمتع الكتاب بالظل الفكه والروح التواقة المرحة، وهي من الأمور المحبوبة للقراء، وشواهد الكتاب كثر في هذا الشأن، منها:

* في حديث الكاتب حول ما يبديه العريس في اللقاء الأول بخطيبته، وكيف يبدي: (تلطفًا، ويجتهد في إخفاء معايبه  فيبدو صحابيًا متسللا إلى زماننا) ص 80

* في حكيه عن موقفه من إصرار المعلم شراء المريد للهاتف الجوال، وكيف حسم الكاتب أمره أنه يتمثل مذهب الدكتور أحمد كمال أبوالمجد، الذي لا يقتني جوالًا، فلما سأله قال: (لا أحمله، فالشيطان ينصرف بالاستعاذة منه، أما هذا الجهاز فلن تجدي معه الاستعاذة ولا الأدعية المأثورة والمنثورة) ص 42، ثم أن مصنف الكتاب لاحقًا يقتني جوالًا، ونحن معه فقد أصبح ضرورة لا غني عنها، وإن كان يعامله بالمذهب الأثير، فيجب ألا يستعمل الجوال إلا في المختصر المفيد.

* ويقدم الكاتب -علي اختصار الكتاب- صورًا طريفة وراقية من العطاء والكرم الحاتمي للدكتور عويس، وكيف كان داره محلا للوافدين والطالبين للمعونة، وكيف كانت ولائمه العامرة والتي يستقدم لها الضيوف "يجلبهم من داخل القاهرة وخارجها فرحًا بما يصنع" بتعبير الكتاب ص 55، وكيف لا يحب الطعام باردأ وهو ما يعني عنده أنه دون درجة الغليان، وفي موطن آخر من الكتاب كيف كان يعيد الطبق الواحد لتسخينه عدة مرات. ولا يجدي الضيف توسلا أو اعتذارا، يصف الكاتب كيف كان: (كانت ديكتاتورية الرجل في إطعام الطعام لا توصف. ديكتاتورية ما أحلاها!) ص 57

وكان الكتاب في سمته من التكثيف والإيجاز كاشفًا لنظرات نفسية واجتماعية، ودقيقًا في التعبير عنها، مستعملا اللغة والمفردات التي توافق السياق، يقدم صورًا باذخة للزهد والبذل والعطاء والكرم ومحبة العلم والفكر، وتقدير النماذج الإنسانية رفيعة المستوي "الإنسان" المقصود، حتي يشعر القارئ بالفقد لغياب أمثالها في واقعنا المعاصر، نموذجًا في رثائه لزوجته الأولي وما لها من خصال: (فقد قال بأسي: "كانت –رحمها الله- أكرم مني على أهلي") ص 126. والعالم الفذ بحيرات منابعه من حياته الأسرية النابهة، فيحكي المريد كيف كان المعلم يقطع المسافات للإصلاح بين الزوجين وتبصير الزوجة والزوج بتقصيرهما، ويتواصل مع مريديه وزوجاتهم ويحث على تلقي شكواهم، ويمنحهم أرقام هواتفه: (ويري أن ذلك أفضل من شكوي المرأة لأهلها.. فكم من زيجة انفرط عقدها بسبب رعونة الأهل وتعنتهم) ص 97.

وتظل اللغة فارسًا في الحكي، حيث يلتهم القارئ وجبة المريد بملحها الرشيق من اللغة السهلة الدقيقة، ورعاية المفردات الموجزة الموحية،  بل بيان موقفا سياسيا كاملا في مفردة واحدة فقط (الثورة الحقيقية) وهذه الدقة البالغة  يدل على ذكاء في الكتابة ومنظومة قيم طيبة ترشد الكتابة وتهدى سبلها.

 

خالد جودة أحمد

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم