صحيفة المثقف

مصدق الحبيب: منظرو الاقتصاد (22): جون هكس

مصدق الحبيب(1904 – 1989) Sr. John R. Hicks

هو الاقتصادي البريطاني الحامل للقب "السيد" الشهير الممنوح له رسميا من قبل الملكة البريطانية إليزابيث. والذي يعني نيله مرتبة الفرسان الانكليز كشرف وتكريم ملكي، عادة ما يُمنح هذا اللقب لشخصيات لامعة مختارة.  يعتبر جون هكس واحدا من اهم اقتصاديي القرن العشرين والذي يدين له طلبة الاقتصاد في كل مكان بما وضعه من اسس ومبادئ اصبحت جزءا لايتجزء من المنهج التقليدي في تدريس الاقتصاد عبر جامعات العالم. في مقالة نشرها موقع تاريخ الفكر الاقتصادي، وُصِفَ هكس بأنه "اقتصادي الاقتصاديين" وانه "الاقتصادي المثال" الذي درس وهضم واستخدم كل المدارس الاقتصادية لكنه لم ينحاز الى او يعرض عن أياً منها، بل اختط لنفسه طريقه الخاص المتفرد مستخدما اغلب الثمار التي اعطتها تلك المدارس والاتجاهات.

ولد جون في ووروك Warwick الانگليزية عام 1904 لعائلة متوسطة الحال حيث كان والده يعمل صحفيا في احدى الصحف المحلية. أنهى دراسته الابتدائية والثانوية في مدينته، ودخل كلية كلفتن في برستل عام 1917 وتخرج بتفوق في فرع الرياضيات عام 1922 مما أهله لنيل منحة دراسية لاكمال دراسته العليا في كلية باليول Balliol الشهيرة الغالية في أوكسفرد، والتي قال عنها بعدئذ انه لم يكن بالامكان ان يتحمل تكاليفها الباهضة لولا منحته الدراسية التي غطت اجور الدراسة ومتطلباتها اضافة الى نفقات اقامته.

لم يجد نفسه راغبا في اوكسفرد لمواصلة دراسة الرياضيات لانه كان مولعا بالادب والتاريخ والفلسفة في البداية رغم انه رسى على دراسة الاقتصاد في نهاية المطاف.

2654 جون هكسبعد تخرجه من أوكسفرد، تمكن في عام 1926 من الالتحاق بمدرسة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية LSE  كمحاضرفي مادة اقتصاد العمل. يقول هكس ان تدريسه بدأ وصفيا تاريخيا وتدرج شيئا فشيئا الى ان اصبح كميا تحليليا بعد ان اكتشف ان لشهادة الرياضيات التي حصل عليها في دراسته الاولية فائدة عظيمة في التطبيقات الاقتصادية، خلافا لما تصور من انه قد بذر طاقته ووقته حين تخصص فيما لاجدوى له غير تدريس الرياضيات. كما صرح في معرض سرد سيرته التي طلبتها لجنة جائزة نوبل ان ذلك الزمن كان ملائما لتزاوج الرياضيات مع الاقتصاد، خاصة وان قسم الاقتصاد في مدرسة لندن كان بقيادة اقتصادي متنور قدير اسمه الدكتور لاينل روبنز الذي طور مناهج القسم وجنّد له كادرا تدريسيا كفوءا ضم ألمع اقتصاديي ذلك الوقت في لندن مثل عالم الرياضيات آر جي دي ألن الذي شاركه البحث في دراستين عن نظرية القيمة نشرتا عام 1934، وكذلك نكلس كالدور وآبا لرنر وريچرد سيرز وأرسولا وب التي احبها وتزوجها عام 1935 ، فدام زواجهما خمسا واربعين عاما، ولم يفصلهما الا وفاته عام 1989.

من مدرسة لندن، انتقل للتدريس في كيمبرج للسنوات 1935-1938 حيث تمكن من اكمال كتابه الاساسي "القيمة ورأس المال" الذي بدأ به في مدرسة لندن كمشروع يضع فيه عصارة افكاره عن مجمل النظريات والمفاهيم الاقتصادية التي عرفها. تم نشر هذا الكتاب عام 1939 حيث اصبح الكتاب الجامعي النموذجي في تدريس النظرية الاقتصادية بالمنهج النيوكلاسيكي، والذي لفضله يعود اغلب مانعرفه اليوم في الاقتصاد.

في عام 1938 انتقل الى جامعة مانچستر للتدريس والبحث لغاية 1946، وفيها حاز على درجة الاستاذية في الاقتصاد وركز جهوده على البحث في اقتصاد الرفاه. في عام 1942 اصبح زميلا في الاكاديمية البريطانية، وفي عام 1946 عاد الى اوكسفرد، أولا كباحث متفرغ لغاية 1952، ثم كاستاذ لغاية 1965، وهو العام الذي اصبح فيه زميلا باحثا في  All Souls College ولغاية 1971. خلال تلك المدة انتخب عضوا في اكاديميات دولية عديدة، منها الاكاديمية الايطالية عام 1952، والامريكية عام 1958. كما اصبح مستشارا في لجان اقتصادية عليا خارج بريطانيا منها لجنة الاقتصاد الوطني في نايجيريا ولجنة الاقتصاد الوطني في جاميكا. كما حاز على جوائز وشهادات فخرية عديدة. وفي عام 1972 حاز على جائزة نوبل في الاقتصاد مشاركة مع الاقتصادي الامريكي كينيث أررو. وفي مبادرة رائعة قام باهداء جائزة نوبل الى مكتبة مدرسة لندن، تكريما واعترافا بفضل المدرسة وقسم الاقتصاد فيها على رعايته في أول عمله الاكاديمي.

من خلال تدريسه في اقتصاد العمل، تحتم عليه البحث في هذا المجال، الامر الذي تمخض عن صدور كتابه الاول "نظرية الاجور" في عام 1932. في هذا الكتاب عرض هكس تفسيره لنظرية الانتاجية الحدية، فصاغ ولأول مرة مفهوم مرونة الاستبدال Elasticity of substitution  التي عرّفها بانها مرونة النسبة  بين مدخلين في دالة انتاج سلعة ما، وذلك بقدر تعلق الامر بالتغيير الحاصل في انتاجهما الحدي. ومن هذا المدخل اعطى هكس تفسيرا معارضا لطروحات ماركس، مفاده هو ان التقدم التكنولوجي الذي قد يعوض عن العمل البشري سوف لايغير من مساهمة العمل في الدخل القومي. أصبح هذا الكتاب المصدر الاول المعتمد في اقتصاد العمل لعدة عقود، واصبحت المفاهيم الاساسية التي وردت فيه جزءً مهما في النظرية الاقتصادية الجزئية والتي ماتزال معتمدة الى اليوم في مناهج تدريس الاقتصاد وكتبها المدرسية.

من خلال مقالتيه مع زميله المختص بالاقتصاد الرياضي روي جورج دگلس ألن   R.G.D. Allen المنشورتين عام 1934 والمذكورتين اعلاه، عرفنا معادلة سلتسكي Slutsky Equation  لاثبات مفهوم تأثيري الدخل والاستبدال Income and substitution effects، كما عرفنا طريقة اشتقاق منحنى الطلب من خلال استخدام منحنيات السواء وخط الميزانية المالية. وكذلك معيار توازن المستهلك ممثلا بمعادلة التساوي بين نسبة المنافع الحدية مع نسبة الاسعار النسبية. اضافة الى مفهوم الـ  MRS  الذي يشير الى المعدل الحدي للاستبدال     Marginal Rate of Substitution فيما بين سلعتين قد يختارهما المستهلك. وكل تلك الادوات التحليلية ماتزال حاسمة في فهم النظرية الاقتصادية.

في عام 1935 قدم لنا هكس مفهوم التنويع الحدسي Conjectural Variation في مقالته عن ظاهرة احتكار السوق من قبل المنتجين. يتلخص هذا المفهوم بالاعتقاد الذي يحصل عند بعض المؤسسات التجارية حول ردود الفعل المتوقعة من قبل المؤسسات المنافسة في سوق احتكار القلة  Oligopoly عندما يتم تنويع الناتج او تغيير السعر. وفي عام 1937 جاء بمفهوم ألـ "آي أس – أل أم"  IS-LM   في مقالته المعنونة "كينز والكلاسيكيون" التي اتفق اغلب مؤرخي تاريخ الفكر الاقتصادي على انها تمثل النقلة النوعية الى الاتجاه "النيوكينزي"  Neo-Keynesian  الذي كان هكس رائدا فيه، والذي بقي مهيمنا فكريا على دراسة الاقتصاد الى يومنا هذا.  ولكن  بالرغم من هذه القيادة الفكرية فقد تعرض المنهج النيوكينزي الى انتقادات محدودة انبثقت خلال السبعينات من القرن الماضي عندما ارتفعت معدلات البطالة بمصاحبة زيادة معدلات التضخم، وهي الحالة الواقعية التي خالفت ما راهنت عليه النظرية الكينزية. لكن هكس في معرض رده على تلك الانتقادات انبرى للاعتراف بأن الكينزية لم تأخذ بالاعتبار عوامل مهمة كان من الواجب اعتبارها، كعوامل الشك والريبة والظروف غير المتوقعة وغير الاكيدة والمجازفات في السوق.  قام هكس بتنقيح وتوسيع الطريقة التحليلية التي تعتمد نموذج الـ IS-LM   في كتابه الاثير "القيمة ورأس المال" المنشور عام 1939 والذي تضمن مفاهيم اقتصادية اخرى اصبحت اساسية فيما بعد في المنهج الاقتصادي.   من هذه المفاهيم المبتكرة او المنقحة:

- "فخ السيولة" Liquidity Trap

- تأثير الدخل والاستبدال  Income and Substitution Effects

- منحنى طلب هكس التعويضي Hicksian Compensated Demand Curve

- معيار الكفاءة الهكسية Hicksian Efficiency Criterion 

-  التوازن الموقت  Temporary Equilibrium 

- الاستاتيات (السكونيات) المقارنة Comparative Statics

يمثل نموذج IS-LM   شرحا تكنيكيا گرافيكيا لفكرة كينز عن امكانية حصول التوازن الاقتصادي العام بدون توفر الاستخدام الكامل للموارد الاقتصادية. في هذا النموذج صور هكس التوازن الاقتصادي من خلال التفاعل بين عاملين اساسيين هما الانفاق الكلي الذي يشمل الاستهلاك والاستثمار الخاص والانفاق الحكومي وصافي التجارة الخارجية. وهذا العامل يعكس سوق السلع والخدمات متمثلا بمنحنى  IS ذي الميل السالب بسبب العلاقة العكسية بين الناتج او الدخل القومي وسعر الفائدة. أما العامل الثاني فيشمل النقود وسعر الفائدة أي السوق المالية متمثلة بمنحنى LM ذي الميل الموجب الذي يعكس العلاقة الطردية بين الدخل القومي وسعر الفائدة. كانت تلك مساهمة جوهرية كبيرة لفهم مايحدث في الاقتصاد الكلي والتي اصبحت النموذج القياسي في تدريس نظرية الاقتصاد الكلي الى هذا اليوم.

أما مفهوم فخ السيولة فيشير الى ما يحدث اثناء الركود الاقتصادي عندما يفضل المدخرون حفظ اموالهم في الحسابات قصيرة الاجل رغم هبوط سعر الفائدة وتوفر امكانية الحصول على فوائد اكبر اذا ما تم ادخار الاموال في حسابات طويلة الاجل. يحدث ذلك بسبب الحيطة والحذر من ان الركود سيطول ويتفاقم.

تأثير الدخل والاستبدال في خيار المستهلك كان ومايزال من الموضوعات التي ينبغي على طالب الاقتصاد ان يفهمها جيدا، والفهم الجيد تيسر بفضل شرح ورسوم وحساب هكس.  فبموجب قانون الطلب، تتغير الكمية المطلوبة من سلعة ما عكسيا مع تغير السعر. إلا ان هذا التغيير في الكمية يحدث ضمنيا بتأثيرين متشابكين: تأثير استبدال كمية بكمية اخرى بسبب تغير قيمتها الحدية لدى المستهلك،  وتأثير الدخل المتمثل بتغير القوة الشرائية.  لنفترض ان سعر سلعة ما قد ازداد. هذه الزيادة ستجعل المستهلك يشعر اوتوماتيكيا بأن السعر الجديد يفوق قيمة السلعة الحدية لديه، ولهذا فانه سيعالج الامر تلقائيا بتقليل الكمية التي يشتريها لانه لايريد ان يدفع اكثر مما يجب على سلعة سعرها اصبح اكثر من قيمتها الحدية. والعكس صحيح ايضا في حالة انخفاض السعر سيفكر المستهلك بشراء كمية اكبر بسبب نزول السعر عن القيمة الحدية للسلعة مما يشكل فرصة لتعظيم الفائدة الكلية المستحصلة بسبب السعر المنخفض. وهذا هو ماسمي بتأثير الاستبدال الهكسي Hicksian Substitution Effect.  أما التأثير الثاني فهو تأثير الدخل الذي يتلخص بأن المستهلك سيشعر ان بامكانه ان يشتري كمية اكثر من السابق بسبب انخفاض السعر الذي أدى هذه المرة الى ارتفاع قوته الشرائية أو دخله الحقيقي Real income لان مالديه من نقود تمكنه الان من شراء كمية اكبر وكأن دخله قد ازداد. وهذان التأثيران يتظافران ليحققا التغير في الكمية عندما يتغير السعر. هكس قام اذاً بتشريح تغير الكمية بسبب تغير السعر فقسمها الى مرحلتين احدهما تحدث بتأثير استبدال كمية بكمية اخرى، وثانيهما تحدث بتأثير الدخل المنعكس بتغير القوة الشرائية.

كان هكس قد استفاد في هذا التفكيك لتأثير السعر على الكمية من معادلة سلتسكي Slutsky Equation )نسبة الى الاقتصادي الروسي يوجين سلتسكي الذي سنأتي على ذكره لاحقا(. وذلك عندما اكتشف هكس وروي ألن كتابات سلتسكي التي لم تكن معروفة آنذاك للناطقين بالانگليزية.  ومعادلة سلتسكي تفصح ببساطة عن ان التأثير الكلي لتغيرات السعر على الكمية يساوي تأثير الاستبدال مضافا اليه تأثير الدخل.

X1I ΔX1s + ΔX1 =Δ

ولكي يثبت هكس ذلك گرافيكيا ورياضيا كان عليه ان يضيف خط ميزانية  Budget line آخر افتراضي  يشير الى الزيادة في الدخل الحقيقي التي نشأت عن انخفاض السعر. على ان هذا الخط سيحمل نقطة التوازن الجديدة التي تشير الى حصول المستهلك على نفس كمية الاشباع التي كان يحصل عليها قبل التغيير، والتي ستسهم هندسيا في التقسيم بين التأثيرين. لقد ترتب على ذلك ابتكار منحنى طلب جديد سمي بـ منحنى طلب هكس التعويضي الذي يختلف عن منحنى الطلب التقليدي المعروف بالمنحنى المارشالي، نسبة لاشتقاقه من قبل الفريد مارشال.

من ضمن اشتغالاته في حقل اقتصاد الرفاه جاءت مساهمته المهمة في المقال الموسوم "أساسيات اقتصاد الرفاه" المنشور عام 1939. كان قد ابتكر اختبارا او معيارا للمفاضلة بين مردودات اجراء او قرار سياسي معين. فما سمي بـ معيار الكفاءة الهكسية يهدف الى تقييم السياسات الاقتصادية في حالة تعارض نتائجها بين المستفيدين والمتضررين منها بحيث ان قرار اتخاذ السياسة او التخلي عنها سيتحدد في نهاية المطاف باعتبار الصالح العام.  أما مفهوم التوازن الموقت فلم يكن جديدا، فقد بُحث من قبل مارشال وفالراس وباريتو، لكن هكس قام بتنقيحه واعادة صياغته بما يجعله يسيرا وقابلا للتطبيق الكمي.  وبنفس الطريقة فقد ثوّر هكس منهج السكونيات المقارنة في دراسة الاقتصاد والذي اصبح اليوم المنهج العام في كل مكان. انه الاداة التحليلية لوصف ما يجري من تغيير في عامل اقتصادي ما وتتبع هذا التغيير وملاحظة اثره على العوامل الاخرى والظروف المحيطة. وبدلا من ان تكون هذه الملاحظة وصفية فقط ، فان من الاكثر مصداقية ان نراها بصريا عبر الرسوم ورياضيا عبر معادلاتها. وكل طالب اقتصاد يعرف اليوم تقسيم العوامل الى مستقلة  Exogenous  تتغير بموجب ظروف خارج النموذج المدروس وعوامل معتمدة   Endogenous  تتغير داخليا بموجب تغير العامل المستقل.

 

ا. د. مصدق الحبيب

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم