صحيفة المثقف

عصمت نصّار: الفلسفة في مصر بين الحضور والغياب.. على هامش قراءة القراءة (3)

عصمت نصارلم يكن مجلس حسن العطار الفلسفي مجرّد منتدى للخطابة أو المناقشات الأدبية أو المسامرات الثقافية؛ بل كان أقرب إلى المؤسسات والمجامع المعنية بالتخطيط والمتابعة لأهم مشروع حضاري عُرف في مصر في العصر الحديث، ويرجع ذلك لعدّة أسباب:-

أولها: جمعه بين نخب الطبقة الوسطى من شبيبة المستنيرين الذين يمثلون الرأي العام، الواعي الجامع في معارفه بين تراث الأمة وعلوم الأغيار من جهة، ومتطلبات الواقع المصري المعيش لوقوفه على أسس ومقومات التطور والنهضة من جهة ثانية، والمنتمي في ولاءاته إلى مصر دون غيرها، والمتفاني في عمله من أجل رفعتها والزود عنها من جهة ثالثة، والمحافظ على مشخصاته الدينية والعقديّة من جهة رابعة.

وثانيها: حرصه على وحدة وتآلف المجتمع المصري بكل أطيافه وأعراقه وطبقاته الاجتماعية، وقد تأكد ذلك في تعريفه للوطنية بأنها تتجلى في العمل من أجل مصلحة مصر؛ الأمر الذي حال بين ظهور أي فتن مليّة أو طائفية أو انقسامات قبليّة أو صراعات طبقيّة.

وثالثها: إعلاءهُ من قدر القيم والمبادئ الخلقيّة، وجعلها شرطاً للتعايش والتربية والسياسة والفن، وهي مستمدة في جملتها من الجِبلّة العقديّة، والنبيل من الفضائل والعادات والتقاليد التراثية.

ورابعها: تفضيله الإصلاح الهادئ والتغيير المتأني عن أسلوب التثوير والهياج والعنف والتغير الراديكالي؛ ولا سيما في قضايا مجابهة الفساد، وكذا في تجنبه الصدام بين السلطات القائمة مثل (الباب العالي، الوالي العثماني، أصحاب السلطة المخالفة في التوجه والرأي، جمهرة العوام الرافضة والمناهضة).

وخامسها: تمكنه من فن التواصل والجدل والنقد البنّاء وتعدّد أساليبه في عرض القضايا. وقد تجلى ذلك في الحلقات التي كان يعقدها رواد هذه المدرسة مع النخب والعوام، وكذا في تحريرهم صحافة الرأي التي كانت تمتاز بالأمانة والصدق في نقل الخبر، والنصح والتوجيه في عرض القضايا والمشكلات وحلولها. وقد تبلور ذلك في حديثهم عمّا يدور من أحداث وواقعات وعوائد وافدة وأفكار مستحدثة وظواهر طارئة وقرارات مُجحفة وآراء غريبة وأوهام جاهلة، وذلك كله يهدف إلى حماية الرأي العام من تزييف وعيه وتشتيت آرائه وتهديد أمنه واستقراره.

وسادسها: جمعه بين الإصرار على بلوغ المقصد عن طريق أيسر الطرق العملية؛ الأمر الذي قَضى تماماً على الهوّة الكامنة بين التخطيط والتنفيذ، ويرجع ذلك في حقيقة الأمر إلى عدم وجود أدنى خلاف بين المنظرين والمنفذين. وقد أعرَبتْ عن ذلك سياساتهم في إدارة شئون التعليم والتنمية البشرية، والإصلاح الاجتماعي، ووحدة نهوج الوزارات المتتابعة في إدارة شئون البلاد؛ فجميعهم من تيار إصلاحي واحد.

وسابعها: تنسيقه وتعاونه مع الجماعات والاتجاهات النهضويّة في مختلف الثقافات العربية، ويشهد بذلك التوافق التام في المقاصد والغايات بينه وبين ناصيف اليازجي (ت1871م)، ورفاعة الطهطاوي (ت1873م)، وبطرس البستاني (ت1883م)، وعبدالقادر الجزائري (ت1883م)، وأحمد فارس الشدياق (ت1884م)، وخيرُ الدين التونسي (ت1890م)، وسعيد الشرتوني (ت1912م)؛ وغيرهم من قادة الفكر العربي آنذاك؛ الأمر الذي مكّنهم جميعاً من مجابهة ما نطلق عليه الغزو الفكري والحملات التغريبية، ومؤامرات الاستشراق السياسي التي عمدت إلى طمس الهُّويِّة القومية العربية، وتبديل مشخصاتها الثقافية والعقديّة.

وثامنها: نقده الأساليب العتيقة في التحصيل والتدريب والتعلم وتحديث مناهج الدراسة بالقدر الذي يتيح للرأي العام الناشئ تفهم مقاصد حركة التحديث ومرامي نهوج التجديد في مختلف نواحي البيئة المحيطة؛ الأمر الذي مكّن هذه المدرسة من كثرة تلاميذها وتتابع مؤيديها جيلاً بعد جيل وطور بعد آخر، ويبدو ذلك بوضوح في تواصل المفكرين من حسن العطار: مروراً بمحمد عبده وانتهائاً بذكي نجيب محمود؛ فجميعهم قد تأثر بمن سبقه من قادة الرأي التنويريين؛ فعلى الرغم من تباين طرائقهم ومسالكهم، فيجمع بينهم وضوح المقصد وتربط بينهم وحدة الغاية وأصالة المنهج.

وأعتقد أن هذه الخصال الثمانية أكثر ما يميز مدرسة حسن العطار ومشروعها النهضوي عن غيرها في هذه الحقبة (النصف الثاني من القرن التاسع عشر). واذا ما انتقلنا من طور تأسيس الخطاب الفلسفي والمشروع الحضاري إلى طور ممارسة التفلسف وانتشاره وتطبيق المشروع النهضوي وتحديث آلياته وتجديد مناهجه؛ فسوف نجد جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده يحتلان موقع الصدارة والريادة في هذه الحقبة، وهي الفترة الممتدة من الربع الأخير من القرن التاسع عشر إلى الربع الأول من القرن العشرين. وهي تلك الحُقبة التي كانت شاغلة بالحركات السياسية والتحولات الاجتماعية، واندفاع الرأي العام القائد بمحاكاة الثقافة الأوروبية، وتزايد حركة الاستشراق العقدي والسياسي، ويقظة الشعوب العربية ومجّها للخلافة العثمانية، وظهور الجمعيات السياسية في ثيابٍ اجتماعية وفلسفية، وتسلل العوائد الغربية إلى ثقافة الطبقة الأرستقراطية المصرية، ودفاع الطبقة البرجوازية المصرية عن حقها في الوجود على المسرح السياسي والاجتماعي المصري، وارتفاع صوت شبيبتها للمطالبة بالاستقلال عن أي شكل من أشكال التبعيّة للأتراك أو للخواجات الأوروبيين، وتطور صحافة الرأي واحتلال الأفكار المنطقيّة والنظريات الفلسفية بقدر غير قليل من كم الصحف المصرية والعربية؛ ولا سيما بعد ظهور المحافل الماسونية والدوريات الصهيونية والكتابات الشيوعية والمقالات العلمية والجماعات الإلحادية، ذلك فضلاً عن عشرات الكتب التي تناولت تاريخ الأديان وأقوال الفلاسفة القدماء والمحدثين في المشرق والمغرب؛ ناهيك عن تزايد الشروح المنطقية والمذكرات الأخلاقية والدعوة الصريحة لإدراج الدراسات الفلسفيّة ضمن المناهج التعليمية في الأزهر ودار العلوم، والمدارس الثانوية، والجامعة الأهلية.

وإذا ما رجعنا إلى صحافة الرأي المصرية التي ازدهرت في هذه الحقبة؛ فسوف نقف على مدى إسهامها في نشر المعارف الفلسفية ونذكر منها (المقتطف- الهلال- الجامعة - المنار- الأهرام - المجمع العلمي العربي - المقتبس- البيان- البلاغ- اللطائف- الحياة- الدستور- المؤيد- الآداب- المستقبل- الزهور- السفور- السياسة الأسبوعية - العصور- المجلة الجديدة- المعرفة - مجلتي).

ولا غرو في أن جميع هذه المجلات قد نفخت روح التفلسف في أقلام الساسة والأدباء والمصلحين وأساليبهم ونهوجهم، وبعثت فنون النقد والجدل والمطارحات الفكرية في الثقافة العربيّة؛ ذلك فضلاً عن المناظرات التي انتهجت المنهج الفلسفي في الجدل حول أصالة الحضارة الإسلامية وادعاءات غلاة المستشرقين والساسة الأوروبيين تجاه القرآن وأحاديث النبي، وطبيعة العقلية العربية، وموقف الإسلام من العلم والمدنية. ونذكر منها محاضرة "الدين الإسلامي والعلم" للمستشرق الفرنسي "أرنست رينان" (ت1892م) التي ألقاها بالسوربون يوم 29/3/1883م، تلك التي أضحت من أكبر المحاورات بعد ردِّ عشرات الباحثين على ما جاء فيها، وعلى رأسهم جمال الدين الأفغاني (ت1897م) في صحيفة لوديبا الجزائرية (التي تصدر باللغة الفرنسية) يوم 18/5/1883م.

ثم ردّ مسيو مسمر رئيس الإرسالية المصرية بفرنسا آنذاك في نفس العام، وقد نشره المهندس الجيولوجي "على يوسف" - وهو أحد أعضاء البعثة المصرية الذين حضروا كلمة رينان-  وذلك في مجلة الآداب عام 1917م، ورد محمد عبده على بعض ما جاء في المحاضرة على صفحات مجلة المنار 1903م .

وتجدرُ بنا الإشارة إلى المساجلة التي دارت بين قاسم أمين والدوق داركور حول كتاب الأخير (مصر والمصريون) عام 1894م، تلك المساجلة التي ردَّ فيها على مطاعن "داركور" وافتراءاته حيال طبائع المصريين وخصالهم ومعاملاتهم الاجتماعية، وأحوالهم السياسية ومعتقداتهم الدينية. ثم رد الشيخ علي يوسف (ت1913م)، ومصطفى الغلاييني (ت1944م)، وأحمد لطفي السيد (ت1963م)، وغيرهم على صفحات اللواء والمؤيد والجريدة لنقد ما جاء في كتاب "مصر الحديثة" للورد كرومر من طعن وكذب عن الإسلام.

تلك المناقشات والمحاورات والنقدات العقلية الشاغرة من القدح والشتم والتحقير من الرأي المخالف، والشاغلة بالحجج المنطقيّة والوقائع التاريخيّة والأسانيد العلميّة، هي التي مهّدت الطريق أمام شبيبة المثقفين للعمل من أجل التدريب على الأساليب الفلسفيّة في البحث والدرس والمحاججة؛ الأمر الذي دفع قادة الرأي من تلاميذ "محمد عبده" إلى التخطيط لإدراج المعارف الفلسفية ضمن البرامج الدراسية في مراحل التعليم المختلفة.

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم: د. عصمت نصَّار

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم