صحيفة المثقف

محمود محمد علي: الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي .. قراءة نقدية لكتاب د. محمد البهي (1)

محمود محمد علي1- تقديم: منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين، وبالذات في حقبتي الخمسينات والستينات، صعدت كثير من الأفكار والإيديولوجيات العلمانية والماركسية، حيث احتضنها عدد كبير من المتعلمين والمثقفين آنذاك، والذين وجدوا من  خلالها أنه بإمكانهم أن يخوضوا من خلالها صراعاً إيديولوجياً عنوانه الأنا والآخر، وقد كان الدكتور البهي واحدا من هؤلاء الذين دخلوا في مواجهة فكرية مستمرة مع تلك الإيديولوجيات  (1)، وهذه المواجهة أشبه ما يمكن تسميتها بالقنبلة الموقوتة.

ففي كتابه "الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي" الصادر عام 1957م، حيث اعتبره في مقدمة الطبعة الثامنة الصادرة عام 1975م، بأنه حسب قوله كتاب "مواجهة مباشرة لتيارات فكرية مستترة، وراء عناوين خادعة، وهي في جوهرها محاولات عنيفة لفصل المسلمين عن دينهم، ووضعهم في مجالات التبعية لغيرهم... ويواجه تيار الماركسية الإلحادية، المتخفي وراء اسم العدالة الاجتماعية، وبهذا دخل الكتاب في طرح لا يهدأ مع الدافعين لهذا التيار أو ذاك، خارج المجتمعات الإسلامية أو داخلها" (2).

ولشهرة الكتاب فقد تُرجم إلى اللغات الإنجليزية والتركية والإندونيسية والأردية. ويعد من أكثر مؤلفات البهي التي يرجع إليها الدارسون والباحثون في ميادين الفكر الإسلامي.

وبذلك يمكن قراءة أهداف الدكتور البهي في هدفين أساسيين، أو جعلهما في دافعين:

الدافع الأول:  نظري معرفي يقوم على أن الاستعمار الغربي له صلة وثيقة بالفكر الإسلامي منذ بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر، سواء في خلق أو معاونة ما يسند من اتجاه، أو في إثارة ما يقاومه من اتجاه آخر. وأن الفكر الإسلامي في الفترة التي بلغت قرناً كاملاً منذ النصف الثاني من القرن التاسع شعر إلى النصف الثاني من القرن العشرين، هو مرآة لهذين الاتجاهين؛ ففي النصف الثاني من القرن التاسع عشر ظهرت حركة السيد أحمد خان، وحركة ميرزا غلام أحمد كحركتين ممالئتين للاستعمار الغربي، يقابلهما حركة السيد جمال الدين الأفغاني، وحركة الشيخ محمد عبده كحركتين مقاومتين للاستعمار نفسه.

الدافع الثاني: عملي واقعي، يقوم علي الكشف عن طبيعة الصراع الإيديولوجي الذي كان حامياً ومتصاعداً في حقبتي الخمسينات والستينات من القرن الماضي. وقد تغيرت فيما بعد موازي واتجاهات وأبعاد هذا الصراع الإيديولوجي، فلم يعد الإسلام والفكر الإسلامي في قفص الاتهام كما كان الاعتقاد سائداً آنذاك، ولم تعد الشيوعية تمثل ذلك الزحف الأحمر المخيف، بعد انهيار قلعتها العظمى في الاتحاد السوفيتي، وتصدع الماركسية، وهي الإيديولوجية التي كانت الأكثر والأشد تحدياً وصداماً مع الإسلام والفكر الإسلامي، في تلك الفترة. كما لم يعد الإسلام والفكر الإسلامي في موقف الضعف أو الدفاع عن الذات، وذلك بعد أن تغيرت وتبدلت تلك السياقات والأرضيات الفكرية والثقافية حين شهد الفكر الإسلامي يقظة وانبعاثاً منذ حقبة ثمانينات القرن العشرين.

ولأكثر من سبب فقد جعل الدكتور البهي مضمون الكتاب وفحواه ومادته في الاستدلال  على الهدف الأول، أي علي الجانب النظري المعرفي، مستغلا كلّ فرصة للتعليق بالسلب  على أصحاب الدافع الثاني، بين نقد أو نقض.

من هنا، كانت مهمّة الدكتور البهي في مقدمة كتابه أن يعرّف القارئ بمقصوده بإشكاليّات الفكر الإسلامي الحديث وصلتة بالاستعمار الغربي"، وأن يبيّن أنّ الاستعمار الغربي له صلة وثيقة بالفكر الإسلامي منذ بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر، سواء في خلق أو معاونة ما يسند من اتجاه، أو في إثارة ما يقاومه من اتجاه آخر. وأن الفكر الإسلامي في الفترة التي بلغت قرناً كاملاً منذ النصف الثاني من القرن التاسع شعر إلى النصف الثاني من القرن العشرين، هو مرآة لهذين الاتجاهين. ففي النصف الثاني من القرن التاسع عشر ظهرت حركة السيد "أحمد خان"، وحركة "ميرزا غلام أحمد" كحركتين ممالئتين للاستعمار الغربي، يقابلهما حركة السيد جمال الدين الأفغاني، وحركة الشيخ محمد عبده كحركتين مقاومتين للاستعمار نفسه.

ويتضح لنا ذلك حين وجدنا الدكتور البهي يخصَّص أكبر فصل في كتابه «الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي» للحديث عن التجديد في الفكر الإسلامي، وحين يشرح رؤيته حول هذا الموضوع يرى أنه منذ القرن التاسع عشر نشأ في التفكير الإسلامي اتجاهان:

الأول: اتجاه يتناغم مع الاستعمار الغربي في تقريب الإسلام من المسيحية، أو في تبديله إلى توجه ديني يرضى عنه المستعمر.

الثاني: اتجاه يقاوم الاستعمار الغربي، ويرفض نهجه في تبديل التوجه الديني، ويدعو إلى احتفاظ المسلمين بإسلامهم كما يصوره القرآن والسنة، وإلى إعادة تماسك الجماعة الإسلامية، والسعي إلى استقلالها، وعدم انصهار المسلمين في غيرهم.

وبانتهاء القرن التاسع عشر تبلور هذان الاتجاهان، وعرفت أسسهما في العالم الإسلامي، وأصبح لكل منهما أتباع وأنصار.

ومع القرن العشرين استمرت هذه الثنائية في اتجاه التفكير الإسلامي، وعرف الاتجاه الأول -كما يقول الدكتور البهي - باسم التجديد، بينما عرف الاتجاه الثاني باسم الاتجاه الإصلاحي أو اتجاه تجديد المفاهيم الدينية.

ويعتقد الدكتور البهي أن حركة التجديد في الفكر الإسلامي التي ظهرت في الشرق الإسلامي منذ القرن العشرين تعتبر تقليداً للدراسات الإسلامية في تفكير المستشرقين الغربيين. ومن بعد الحرب العالمية الثانية تأثرت حركة التجديد في الفكر الإسلامي بالتفكير الوضعي والماركسي.

ثانيا: التعريف بالمؤلف:

جري تحول كبير في الفكر الإسلامي تجاه الاستشراق الغربي منذ عصر النهضة  العربية في القرن التاسع الميلادي، فمن الإصلاحية الإسلامية ذات النظرة المنفتحة علي العالم التي كانت إشكاليتها الرئيسية فكرة "التقدم"، إلى الإحيائية الإسلامية التي استبدلت مفهوم الهوية بمفهوم التقدم وغدت نظرتها متشككة تجاه الاستشراق والنقافة الغربية عموما (3).

وقد ظل الاستشراق الميدان الرئيسي الذي استهدفه الإحيائيون في نقدهم في سياق سعيهم إلي حماية الهوية الذاتية، مما اعتبروه " العدوان الثاني الغربي" ! فقد تميز الإسلاميون الإحيائيون بين الثلاثينيات والخمسينيات بعدائهم لثقافة الغرب وسياسته، حتي وصل المر عام 1944م، مع عمر فروخ، ومصطفي الخالدي في كتابهما " التبشير والاستعمار في البلاد العربية إلي الهجوم الشامل علي الاستشراق بربطه بالاستعمار، والنعي على مادية الغرب ووحشيته، واعتبار الاستشراق شاهداً علي عدوانية الغرب وعنصريته. وقد اتخذ من "لويس ماسينون" نموذجاً علي الارتباط المزعوم بين التبشير والاستشراق والاستعمار، وصبوا جام غضبهما على ماسينون، وقد ظنا أن عماد عبقريته في الدعوة إلى أن يحمل المسلمون على ترك دينهم . واتهم فروخ جوستاف فون جروينباوم بسوء الطوية، والتقليل من أهمية الإنجاز الثقافي الإسلامي (4).

شاع بعد ذلك الربط بين الاستشراق والاستعمار على نحو أكثر قطيعة مع الثقافة الغربية، وهذا ما يتجلى في خمسينات القرن الماضي عند الدكتور "محمد البهي"  في كتابه:" الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي"، الذي تلازم لديه نقد الاستشراق بنقد الفئة المتأثرة بالحداثة من العرب، على صلته بالاستعمار، فارتبط نقد الخارج (الاستشراق) بنقد الداخل ( الحداثيين العرب) . وما عادت أفكار الاستشراق لدي فروخ، والبهي، أفكاراً خارجية، فهي نشرت شرورها في داخل مجتمعاتنا،وتهاوي الطابع العلمي لنقد الإستشراق حتي وصل الأمر عند البهي إلى أنه لم يعد يفرق بين مستشرق وآخر، وإن كان كما سنري في ثنايا الكتاب قد صنفهم إلى فئات تبعاً لتحيزهم ضد المسلمين والإسلام، إذ إنه يضع في الفئة الأولي أسماء المعاصرين، وفي الفئة الثانية أسماء الخطرين منهم، وفي الثالثة أسماء بعض الكتب الخطرة  (5)... وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

.....................

الهوامش

1- زكي الميلاد: محمد البهى والفكر الإسلامي الحديث وصلتة بالاستعمار الغربي، مجلة الكلمة، منتدى الكلمة للدراسات والأبحاث، س 14 , ع54، 2007، ص 18.

2- المرجع نفسه، ص 19.

3- شمس الدين الكيلاني: الفكر الإسلامي ونقد الاستشراق: رشيد رضا، شكيب أرسلان، محمد كرد علي، محمد البهي، أنور الجندي،  مركز دراسات الوحدة العربية، المجلد الأول، 2018، ص 822.

4-  المرجع نفسه، ص 824.

5- المرجع نفسه، ص 825.

 

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم