صحيفة المثقف

محمود محمد علي: عبد الرحمن الشرقاوي.. أديب الفلاحين والغلابة.. رواية الأرض (نموذجا) (2)

محمود محمد عليتعد رواية الأرض للشرقاوي من الروايات البارزة في تاريخ الروايات العربية . وقد ساهمت في شهرتها عوامل عديدة، من أهمها طرافة الموضوع وجدته، فالرواية خرجت عن المواضيع التاريخية القديمة، وارتبطت بهمووم الطبقات الفقيرة، فصورت صراع الفلاحين ضد طبقة الإقطاع في مصر في بداية الثلاثينات، في وقت دقيق كانت فيه البلاد تعاني من آثار الأزمة الاقتصادية العالمية، وتعيش بداية حزب سياسي جديد سخر نفسه لخدمة النظام الملكي ودعائمه، من داخل البلاد أو من خارجها، وإن سمى نفسه " حزب الشعب "  (13) .

وربما ما يميز هذا العمل أيضا، واقعيته وتصوره للإنسان المصرى، فبحسب ما يقول الدكتور كمال القاضى، فى كتابه "نصوص موازية"، رواية الأرض تتشابه من حيث واقعيتها مع ما كتبه نجيب محفوظ عن الحارة، الاثنان يرمزان إلى الوطن وينقلان صورة حية لارتباط الإنسان المصرى بمواطنه الذى يمثل جزءا أصيلا من تكوينه وتراثه، فالأرض عند عبد الرحمن الشرقاوى تعادل بالنسبة للفلاح الحياة وفقدانها هو الموت أو النفى (14).

وتتمحور رواية الأرض للأديب الكبير عبدالرحمن الشرقاوى منذ بدايتها حول ثلاث شخصيات رئيسية وهم «عبدالهادى ومحمد أبو سويلم ووصيفة»، وعدة شخصيات ثانوية هم «محمد أفندي، وخضرة، وعلواني، والشيخ يوسف، والشيخ الشناوي، والعمدة ودياب، وشيخ البلد، ومحمود بك، والمأمور، والناظر حسونة، إضافة إلى الشيخ شعبان الذى يظهر فى الثلث الأخير من الرواية والذى يغيب بعد أن يؤدى الدور الذى وجد لأجله فى الرواية لدفع الأحداث فى منطقة معينة رغم عدم تمهيد المؤلف لظهوره من البداية والذى جاء مباغتًا، وكذا الشاويش عبدالله، وصول البندر، وعم كساب سائق العربية الحنطور (7).

وخلال صفحات الرواية نتعرض لأكثر من صورة من صور للفلاح، فهو المجاهد لأجل نصرة بلاده والفاعل فى الحياة السياسية فى ثورة ١٩١٩ وهو المناضل ضد الاحتلال الإنجليزي، وهو المدافع عن أرضه حتى آخر قطرة دم فى وريده، فهو محمد أبو سويلم الذى حارب فى صفوف الجيش وهو لا يعرف من يحارب ولماذا يحاربهم، وإنما لبى نداء الوطن والواجب دون أن يسأل عن أسباب، وهو عبدالهادى الذى سارع لإنقاذ جاموسة شعبان رغم الحرب الضروس التى دارت بينهما، وهو من تصدى للحكومة التى حرمت الأرض من المياه، وهو محمد أفندى الذى دفع ماله عن طيب خاطر لحل أزمة المياه دون أن يُعلم أحدًا من أهل القرية (15)؛ ومن ثم يكون للأرض صداها، يرن في أرجاء الوجود،... دعوة للإنسان الفعال أن يحبها فيعشقها فيلتصق بها ويذوب فيها عشقاً وفعلاً. وللأرض "منطقها" كذلك... فهي لن تخضه إلا لمن افتداها بعرقه وجهده وحياته وقلبه.. وقسا عليها حرثاً وبذراً، وزراعة سقاية... صوت الأرض وصداها.. يسمعها الإنسان... ولكنه قد لا يدرك ما وراءهما من رموز وإيحاء.. فيعجز عن إدراك السبيل إلى "عشق الأرض"..

وهنا يؤكد الأستاذ أحمد عبد المعطي حجازي بأنه حين ننظر فى أعمال عبدالرحمن الشرقاوى نجد أن الفلاح المصرى هو الشخصية التى تؤدى دور البطولة فى معظم هذه الأعمال. فالفلاح هو الأب المصرى الذى ندد بالسياسة الأمريكية، وكشف عن وجهها القبيح فى قصيدته «من أب مصرى إلى الرئيس الأمريكي». والفلاح هو محمد أبو سويلم بطل «الأرض» الذى ثار هو ومعه الفلاحون المصريون ضد المحتلين الإنجليز وضد ملاك الأراضى المصريين الكبار الذين أرادوا بالاتفاق مع السلطة المستبدة الحاكمة أن يحرموا الفلاحين الفقراء من حقهم فى مياه النيل. والفلاح أحمد عرابى هو أول مصرى يتصدى للطغاة الأجانب المستبدين الذين ظلوا يتوارثون مصر من القرن السادس قبل الميلاد إلى بدايات القرن الماضى، ويطالب بتطهير الجيش من الشركس والترك والأكراد رافعا شعاره «مصر للمصريين» وبحكومة ديموقراطية يحكم بها المصريون أنفسهم بأنفسهم  (16).

ولأن الشرقاوي، في الأصل مفكر مصرى، ريفى النشأة، أصيل النزعة فإنه يكتب من خلال هذا، مندفعا نحو هدف ربما يبدو غامضاً لبعض هؤلاء الذين حاولوا احتواء أدب الشرقاوى، وفي اعتقادهم أنهم بهذه الطريقة يقومون للشرقاوى كروائى وكاتب تقدمى، ونظرا لأنه أكثر تقدمية وثورية منهم، فإنه يسبقهم، ولهذا عندما يلتمسون في أدبه بتفاهم يعجزون، وأحياناً يضيقون كما فعلوا في رواية الفلاح التي تخطت اللحظة، واندفعت نحو الأفق الأرحب، بحيث نستطيع القول أن (الفلاح9 التي كتبت في عام 1965 ونشرت في عام 1968، كانت ارهاصة الروائي بما سوف يحدث في مايو 1971، والمحاولة الجريئة التي يمكن أن تخدم الأدب هي مقارنة ما حدث عام 1965، وما نشرته الصحف خلال هذا العام حول حادث، ثم مقارنة ذلك بما جاء في رواية الفلاح، ذلك أن دارسا مثل الدكتور عبد المحسن طه بدر، في كتابه (الروائي والأرض) حاول أن يعقد مقارنة بين ما حدث في كمشيش وما سجله الشرقاوى في رواية الفلاح وخلال هذه المقارنة التي يعقدها الدكتور بدر يندهش من خلط الحقائق واضطرابها عند الشرقاوى، بل ويأخذ علي الشرقاوى رؤيته للحقائق التي يعتقد الدكتور بدر، وفقا لما كان سائدا أيامها أنها صحيح، بينما كانت رواية الفلاح المنشورة عام 1968 هي الأصدق والأقرب إلي التصور وأنها – أبدا – لم تخلط بين الحقائق والأكاذيب، وأن كاتبها الروائى ارتفع فوق الحقيقة المصنوعة ووصل إلي الحقيقة الخفية، والتى ظهرت فيما بعد ؛ بل وصل بالدكتور بدر مقارنة الحقيقة الخفية، والتى ظهرت فيما بعد،بل وصل بالدكتور بدر مقارنة رواية الفلاح بمقال للأستاذ لطفى الخولى عن حادث كمشيش، وكأن المطلوب من الروائي أن يكتب تحليى عقائديا في رواية يلتزم بمبادئ سياسية معينة! وهذا يدلل علي خطا تطبيق النظرية السياسية علي تفسير الأدب، ولهذا يعتقد بعض الباحثين بأن أدب الشرقاوي يحتاج إلى إعادة دراسة (17).

كذلك نستشف من رواية الأرض شخصية الشرقاوي ابن الريف، الذي عاش في القرية في صباه وانغرست قدمه في طين البركة وقناة الرى، وركب الساقية والنورج، وجرى خلف المعزة، واندس بين الفلاحين، يستمع معهم إلي موال أدهم الشرقاوى، واهتز حسده الصغير وهو يستيقظ فزعا علي صوت عواء الذئب، وطلق نارى يتردد صداه حتى يصطدم بحائط المسجد الكبير، فإذا جاء الصباح كانت أهم مشكلة تواجه القرية كلها هي مشكلة الرى، وهى المشكلة الأزلية التى جاءت مع النيل، هذا التناقض الغريب حتي الشفق أيام ( التحاريق) . وهذا النيل الممتد الواسع المتفرغ مثل شجرة الجميز الرابضة بالقرب من الجسر، يقابله آلاف المساجرات حول نوبة الرى، .. وتصبح المشكلة العامة في القرية من يروى قبل من ؟ .. كما تصبح المشكلة العامة في القرية عدد أيام النوبة (نوبة الرى) هل هيفي الكفر سبعة أيام؟ والأمر في حاجة إلي جدول اللغوغريتمات كى نحقق الدعالة، فإن الترعة تمتلئ من 500 فدان أو تزيد والفدان يحتاج إلى ثلاث ساعات، أو أربع وتدخل حسبة برما، التى لا بد أن تظلم أحدا، هناك بالتأكيد في كل نوبة رى ظالم ومظلوم، يال القسوة .. والنيل الجارى، الخالد يشق قلب الوادى، يندفع في الرياح والترع، والقنوات ولكن بأمر الحكومة يتوقف ! النيل مشاع، عام، مثل الهواء، ولكن تأتى الحكومة وتجعله بالباطقات، بالتموين، بالقطارة .. تسقى من تشاء وتمنعه عن من تشاء، الرى هز للعمود الفقرى لكل حكومة مصرية  (18).

وقد ساهم تحويل الرواية إلي شريط سينمائي في جعل رواية الشرقاوى مشهورة، وليس كلنا يعرف، بالطبع، مدي قيمة وأهمية هذا الفيلم الخالد.. لـكن هناك مشاهد عديدة من الفيلم ما تزال عالقة بذهن وذاكرة المتفرج العربي من الخليج إلى المحيط فبالإضافة إلى أهمية هذا الفيلم الفنية والتقنية، فهو أيضاً فيـلم جماهـيري من الـدرجة الأول.. إنه فيلم يحمل رؤية فنية وفكرية واضحة، ويتحدث عن الفلاح والأرض وضرورة الانتماء إليها.. وبالتـالي فهـو فيـلم يدعـو إلى الثـورة والـدفـاع عن مثـل هـذه المبـــادىء الإنسانية السامية ؛ ولا ننسى أن نذكر بان فيلم الأرض قد اختير ليتصدر قائمة أفضل عشرة افلام في تاريـخ السيـنما المصـرية، وذلـك في إستـفـتاء أجـرته مجــلة فنـون المصرية في عام 1984. كتب السيناريو والحوار لفيلم الارض الكاتب والصحفي والفنان حسن فؤاد، عن رواية بنفس الاسم للاديب عبد الرحمن الشرقاوي (19).

نحن إذن، في فيـلم الأرض، أمـام مضـمون قـوي يحـمل رؤيـة تقدمية عن ذلك الصراع الطبقي الحادث بين الفلاح والإقطاع في الفيلم.. وهذا المضمون، بالطـبع، يقف وراءه مخرج فنان ومثقف فيلسوف، يعد من بين الكبار في الوسط السينمائي المصري، فـ يوسف شاهين في هذا الفيلم قد توصل إلى جـودة فنـية وتعبـيرية لم يكـن قـد توصـل إليها في أيٍ من افلامه السابقة لهذا الفيلم.. فقد برز كلاعب حاذق بالكاميرا، إلى جانب حرفيته في إدارة من معه من فنيين وفنانين.. وقد شهد له العالم ولفيلمه بذلك.

فعند الحديث عن الاستقبال الحار والنجاح الكبيرالذي لقيه الفيلم، منذ عرضه الأول حتي يومنا هذا، فمن الأهم ذكر ورستعراض آراء النقاد السينمائيين العالميـين عن فيلم الأرض.. حيث أن الفيلم، وخلال العشرين عاماً الماضية، عرض في أكثر من مهرجان عالمي، وشارك في العديـد من الاسـابيع السـينمائية الخـاصة للفيـلم المصري والعربي في أغلب عواصم العالم في الشرق والغرب.

وفى النهاية لم يتبق لنا فى هذه الوقفة السريعة مع رواية الأرض للشرقاوى إلا أن نقول تحية حارة للعملاق الكبير عبد الرحمن الشرقاوى، ذلك الروائي المبدع من طراز فريد، والمؤمن برسالته، والمدافع عن قضيته، ذلك الفلاح البسيط الذي هتف مع الفلاحين من أهل قريته الذين يحملون الفؤوس ويهتفون بقوة وبسالة.. يحيا العدل.. وتحيا مصر حرة.. يحيا الاستقلال التام.. يسقط الإنجليز - يحيا الوطن.

 

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

.........................

الهوامش

13- محمد البدوي: المرجع نفسه، ص 13.

14- المرجع نفسه.

15- المرجع نفسه.

16- المرجع نفسه.

17-أحمد عبدالمعطى حجازى: عبدالرحمن الشرقاوى .. فى عيده ــ2،

18- فتحي سلامة : عبدالرحمن الشرقاوي : شاعر الرواية المصرية، القصة، نادي القصة، العدد 26، 1980، 85-86.

19- فتحي سلامة : المرجع نفسه، ص 86-87.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم