صحيفة المثقف

محمود محمد علي: الجنون.. ظاهرة فلسفية (ميشل فوكو أنموذجا) (3)

محمود محمد علييشدد فوكو على أنه لا يريد استعراض تاريخ الطب النفسي، وإنما تاريخ الجنون نفسه «في عنفوانه، قبل أن تكبح المعرفة جماحه» ولكن، ما هي التواريخ، أو على حد تعبيره، ما هما الحدثان اللذان سيستند إليهما في بحثه؟ "١٦٥٧" (في الواقع ١٦٥٦): "إنشاء المستشفى العام والاحتجاز الكبير للفقراء"، "١٧٩٤" (في الواقع ١٧٩٣): "إطلاق سراح المُكبَّلين في بيسَتْر". إنهما حدثان يشكلان بالطبع (ضمن وقائع أخرى) لحظاتٍ حاسمةً في تاريخ الاعتقال، ومن ثم في تاريخ الطب النفسي.

بين هذين التاريخين، كان هناك انتقال «من تجربة القرون الوسطى والخبرة الإنسانية في شأن الجنون إلى تلك التجربة المستندة إلى خبرتنا الخاصة، والتي تؤطر الجنون ضمن حدود المرض العقلي. إبَّان العصور الوسطى وحتى عصر النهضة، كان الجدل الدائر بين الإنسان والخَبَل جدلًا دراميًّا يضع الإنسان في صدام ومواجهات مع القوى الصماء في العالم؛ وهكذا كانت تجربة الجنون محفوفة بالصور المتعلقة بالسقوط والكمال، والوحش، والتحول، وبجميع أسرار المعرفة المثيرة للدهشة. أما في عصرنا الحالي، فإن تجربة الجنون يغلفها الصمت ويحيط بها هدوء المعرفة التي نَسِيتْها بعد أن استغرقت في بحثها وعرفت عنها الكثير.» نستنتج من ذلك أن الجنون «السابق».

أي الجنون النابع من الحُمْق (الاختلال العقلي في العصور الوسطى)، كان ذا طبيعة خاصة وبنية مختلفة جذريًّا عن الجنون "اللاحق" النابع من العقل (العقلانية في العصر الكلاسيكي). هذه المقدمة، التي تنتهي على ذلك النحو، ليست إلا تمهيدًا لبرهان تاريخي طويل أفضى، في الجزء الأول، إلى كتابة أطروحة نالت شهرة واسعة عن "الاعتقال الكبير" - وهو تعبير أوجده ميشيل فوكو عبر مصطلح "الاحتجاز" التاريخي - حيث قررت السلطة المَلَكية، باسم العقل، أن تسجن، سياسيًّا، المجنون.

الفصل الأول من الجزء الأول يعنونه فوكو بــ "سفينة الحمقى" وفيه يرصد بدايات تأريخه للجنون في العصر الكلاسيكي حيث ينطلق بنا من نهاية الجذام مع نهاية العصور الوسطى. يقول فوكو "اختفى الجذام، وتوارى المصاب به أو كاد من الذاكرة، إلا أن بنياته ستستمر فستشهد الأماكن ذاتها نفس لعبة الإقصاء (يعني مع المجانين) قرنين أو ثلاثة بعد ذلك. فقد حل الفقراء والمشردون والخاضعون للإصلاح والمرضى عقليا محل المصاب بالجذام...». وسفينة الحمقى هذه هي إحدى الأساطير في ذلك الوقت وهي تقول ان هناك سفينة غريبة جانحة مليئة بالحمقى تنساب في الأنهار الهادئة لنهر ريناني والقناطر الفلامية. هذه الأسطورة كما يشير فوكو كان لها وجود حقيقي فالمجانين كانوا يطردون من المدن على ظهر هذه السفن (16).

والفصل الثاني: "الاعتقال الكبير" يفتتح فوكو الفصل بعبارة مهمة يقول: لقد أعاد عصر النهضة إلى الجنون صوته، ولكنه تحكم في مصادر عنفه، وسيأتي العصر الكلاسيكي لكي يسكت صوته بقوة غريبة. في عصر النهضة كان العقل واللاعقل مجتمعة بمعنى أنه لم يكن هناك رفض صارم لـ «اللاعقل» كان هناك شعراء مجانين وأدب مجنون إلا أنه في القرن السابع عشر استبعد الجنون نهائيا من الساحة (17).

وفي الفصل الثالث وعنوانه: "عالم الإصلاحيات": الحجز والسجن أصبح هو التصرف مع المجانين كان هذا هو الحل الذي اهتدت إليه مخيلة الفترة الكلاسيكية فقد أصبح هو المكان للخلاص من الخطايا ضد الجسد والأخطاء ضد العقل. لقد أصبح الجنون رديفا للخطيئة وذاك هو الرابط الذي سيظل ثابتا على مدى قرون بين اللاعقل والذنب (18).

أما في الفصل الرابع فقد جاء بعنوان"تجارب الجنون" يقول فوكو في افتتاحية الفصل: منذ أن أنشئ المستشفى العام، ومنذ أن فتحت دور الحجز أبوابها في ألمانيا وانجلترا، إلى نهاية القرن الثامن عشر، لم يتوقف العصر الكلاسيكي عن الاعتقال . اعتقال المنحرفين والمبذرين والأبناء الضالين، كما اعتقل الذين يمسون المقدسات الدينية والمنحلون والذين (يؤذون أنفسهم) . ولقد رسم، من خلال سلسلة من التقاربات والتواطؤات الغريبة، صورة من تجربته الخاصة مع العقل. دراسة فوكو هذه تعتمد على السجلات والأرقام المتوفرة عن أماكن الحجز في ذلك الوقت، من خلال هذا البعد الكمي تنكشف لنا تجربة الجنون في العصر الكلاسيكي في أحد وجوهها ويستمر فوكو في تتبع بقية الوجوه (19).

وفي الفصل الخامس «الحمقى» يقرأ وجها آخرا للتجربة فحجز المجانين لم يقتصر عليهم بل كان "الحمقى" يسجنون مما يشير إلا أن العقلانية أصبحت متعجرفة ضد كل من لا يتفق معها، لقد اختفى تسامح عصر النهضة . يورد فوكو بعض التهم التي حجز البعض بسببها من مثل «مترافع متصلب»، «مشاكس كبير»، «إنسان سيئ وكثير الشغب» رجل يغني في الليل والنهار ويتفوه بسباب رهيب، «ذهن قلق وحزين وفظ». لم يكن العصر الكلاسيكي يأبه بالتفريق بين الجنون والخطأ، لقد أصبح الجنون جريمة (20).

وأما في الجزء الثاني من الكتاب: يتابع فوكو هذا التحول في الوعي الأوروبي المتحول تجاه الجنون. لم يكن هذا التحول منتظما ومتماسكا ولكنه كان بارزا في عدة أماكن في أوروبا ويشير بشكل جلي إلى هذا التحول الشديد. ولذا يتجه فوكو في الفصل الأول «المجنون في حديقة الأنواع» يتجه فوكو إلى الوعي المباشر لقضية الجنون فكريا وطبيا فقد كان هناك عمل مستمر موجه للجنون تعريفا وفحصا. خذ مثلا هذا التعريف للجنون في القرن الثامن عشر: الجنون هو «الانزياح عن العقل دون معرفة ذلك، لانعدام الأفكار، معناه الغباء . الانزياح عن العقل والوعي بذلك، لأننا تحت نير عبودية هوى عنيف، معناه كون المرء ضعيفا، أما الابتعاد عنه بثقة واقتناع تام، فهذا فيما يبدو هو ما نطلق عليه الجنون». تبدو صرامة العقلانية تجاه الجنون كل ما لا يتفق معها أصبح جنونا يجب أن يحجز ويخفى عن الظهور. يتتبع فوكو بعد ذلك تصنيفات الجنون في القرن الثامن عشر (21)

وفي الفصل الثاني "تسامي الهذيان" يبحث فوكو مسألة الروح وموقعها، بحسب العصر الكلاسيكي، من مرض الجنون. وهنا نتذكر أن في هذا العصر كان هناك جدل فلسفي حول روحانية الروح أو ماديتها. وهو جدل بين تيارات فلسفية مثالية أو وضعية بارزة في ذلك العصر. كان السؤال هل روح المجنون مريضة كجزء من الجسد المريض أم أنها مبدأ مستقل لا ينفلت من إساره سوى تلك الأدوات العرضية والمادية. ويعلق فوكو على هذه الأسئلة أنها أسئلة الفلاسفة، وكان القرن الثامن عشر مزهوا بها، وهي أسئلة هشة بشكل كبير، فكل جواب عنها لا يقوم سوى بإغراقها بالمزيد من الالتباس. يتواجد فولتير في هذا الفصل وموسوعته كممثل بارز لهذا العصر (22).

وفي الفصل الثالث:"أشكال الجنون" يصنف أشكال الجنون في العصر الكلاسيكي في المجموعات التالية:أولا: مجموعة العته ويحضر في أسماء مختلفة: الجنون، غياب العقل، الحماقة، الغباء، مزاج غير سوي. ثانيا: مجموعة الهوس والاكتئاب. المجموعة الثالثة: مجموعة الهستيريا والسوداوية . بالطبع يتابع فوكو تطور هذه التصنيفات ويربطها بالتطور الفكري والطبي وبدلالاتها تجاه الموقف من الجنون (23).

والفصل الرابع "أطباء ومرضى" يبدأه فوكو بملاحظة أن الفكر الطبي والممارسة لم تكن متوحدة في القرنين السابع والثامن عشر، كما هي في العصر الراهن. ثم ينتقل لتتبع التطور الطبي ومعالجة الجنون يبرز منها مجموعة من طرق التطبيب كالتقوية (باعتبار الجنون ضعفا) والتطهير (باعتبار الجنون ناتجا عن تعفن في الداخل) والغطس، بمعنى تغطيس المجنون في الماء إلى أن يفقد قواه وينسى سخطه. وانتظام الحركة ويراد بها إعادة الحركة إلى الذهن والجسد والروح (24).

وفي مقدمة الجزء الثالث يعود فوكو إلى ديكارت، أبو العقلانية، ليبرز ذلك اليقين الذي تشكل ابتداء منه بالتعقل الكامل . كما يكشف عن «الوعي بالجنون» في نص «قريب رامو» وهو نص لديدرو يحكي لقاء في مقهى بين الفيلسوف (أنا) وبين قريب الموسيقار رامو يرى فوكو أن هذا النص متجاوز في فهمه للجنون القرن الثامن عشر وكان يعد بتغير حاسم . ورد هذا في الفصل الأول من هذا الجزء الأخير «الخوف الكبير». لقد اقتربنا من الثورة «الثورة الفرنسية» 1797، التي ستشهد تحولا بارزا في تاريخ الجنون (25).

وفي «التمييز الجديد» عنوان الفصل الثاني يلاحظ فوكو تزايد عدد حالات الجنون في القرن الثامن عشر رغم الحجز مما أدى إلى تخوف كبير من هذا الازدياد. وبالتالي تزايدت تهم الاعتقال بالجنون، ويربط هنا بحالات سياسية متردية، فقد دخلت تهمة جديدة هي تهمة «الانحلال» لاعتقال من لا يمكن وصفهم بالمجانين (26).

وفي الفصل الثالث «في الاستعمال الجيد للحرية». مع الثورة انهار الحجز. لم يعد هناك سجن للجنون لقد صدر القرار ب «إطلاق سراح الذين لم يفعلوا أي شيء يبرر قسوة الأحكام الصادرة في حقهم كارتمائهم في أحضان حياة الانحلال والانحراف والتبذير». أخذ هذا التطور عدة مراحل: الأولى: التقليل ما أمكن من ممارسة الحجز فيما يتعلق بالأخطاء الأخلاقية، والصراعات العائلية والمظاهر التافهة للانحلال مع الإبقاء على المجانين. المرحلة الثانية: مرحلة التحريات الكبرى بعد الإعلان عن حقوق الإنسان مباشرة بحث لا يبقى أحد في السجن إلا وفق القانون وفي الضرورة القصوى أيضا. المرحلة الثالثة: مرحلة التطبيق العملي لميثاق حقوق الإنسان. لن يبقى المجنون في السجن بعد الآن إما أن يفرج عنه بتقرير طبي أو يتحول للمستشفى للعلاج. طبعا كان الخروج من الفكرة السابقة الكلاسيكية يمر بفترة من التردد والتذبذب إلا أنه من المؤكد أن الجنون قد تمكن دون خطر من الدخول إلى لعبة الحوار (27).

والفصل الرابع «ميلاد المارستان» يلقي النور على بداية مستشفيات الأمراض العقلية. هذه المؤسسة الجديدة وصفت في ذلك الوقت «إن الأمر لا يتعلق بإنشاء سجن، بل يتعلق بالأحرى بضيعة كبيرة ذات طابع فلاحي، إنها محاطة بحديقة كبيرة مغلقة . لا وجود فيها لقضبان، ولا وجود لسياج في النوافذ». يتابع فوكو نشوء هذه المشافي في أوروبا والأجواء الاجتماعية التي تكونت في داخلها كما ارتباطها بالأوضاع السياسية والاقتصادية العامة (28).

وفي الفصل الأخير «الدائرة الأنتروبولوجية» هو فصل حرية الجنون بامتياز فمع نهاية القرن الثامن عشر وبدايات التاسع عشر ظهر جنون جديد جنون سيحكي دون كلل مغامرات الحرية . إن ليل المجنون الحديث، ليس هو ليل الحلم حيث تصعد وتتوهج الحقيقة المزيفة للصور، إنها ليلة تحمل معها رغبات مستحيلة وإرادة متوحشة وهي رغبات لا تتمتع في الطبيعة بالقدر الكافي من الحرية. جنون ما بعد العصر الكلاسيكي قصة أخرى ليست مجال هذا الكتاب (29).

هل أردت في هذا العرض إيصال فكرة الكتاب الكاملة للقارئ. ستكون هذه إرادة «مجنونة» بالتأكيد. كل ما أردته لفت القارئ العربي لكتاب مهم عن تجربة إنسانية مثيرة، ترجمه مشكورا باحث عربي قدير.

وختاما نقول هذا الكتاب هو أول كتاب نظري شامل يصدر للكاتب وأحد أشهر أعماله ، بل على العكس ، يمكن اعتباره انطلاقة فعلية لمشروع نظري ضخم يمتد لما يقرب من ربع قرن ، وموضوعه الرئيسي هو "التجربة الإنسانية" ، وإبداعه هو قمع نبض الجسد والروح من خلال أشكال مختلفة من العفة، وتجاوز القيود "المعقولة" و"العقلانية" و"المستقيمة" و"الهادئة" ، فقط في تلك العوالم التي لا تعترف بأي "قيود إضافية" ، باستثناء الأشياء من الأشياء الطبيعية وجوهر الأشياء (نشير على وجه الخصوص إلى كتبه اللاحقة: "المراقبة والعقاب" و"تاريخ الجنس").

وهذا الكتاب غني بالمحتوي، ويجب أن يركز كل تاريخ على "خيال الروح" للبشر في مختلف الدول. لديهم معرفة علمية بالاضطرابات النفسية والأسباب واللاعقلانية والاضطرابات العقلية وجميع السلوكيات "الغريبة" و"غير الطبيعية" ، بالإضافة إلى الدوافع على الحدود ، ولن يتوقف العدو على الحدود عن اختراق المجهول.

ولذلك وبلا جدال يعد ميشيل فوكو أحد أكبر فلاسفة فرنسا والغرب في النصف الثاني من القرن العشرين، هو الذي اختصّ بالجنون وتاريخ الجنون وعوالم الأمراض العقلية والعيادة والحجر الصحي وعلاقات ذلك كله بالنظم الاجتماعية والسلطوية، السابقة منها واللاحقة، خصوصاً في كتابه: «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي» الصادر في العام 1961.

 

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

................

الهوامش

16-ميشيل فوكو:  ا تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، ترجمة سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء ، المغرب، 2006، ص 256.

17- المصدر نفسه، ص 274.

18- المصدر نفسه، ص 281.

19- المصدر نفسه، ص 299.

20- المصدر نفسه، ص 310.

21- المصدر نفسه، ص 322.

22- المصدر نفسه، ص 255.

23- المصدر نفسه، ص 345.

24- المصدر نفسه، ص 366.

25- المصدر نفسه، ص 367.

26- المصدر نفسه، ص 389.

27- المصدر نفسه، ص 391.

28- المصدر نفسه، ص 399.

29- المصدر نفسه، ص 411.

 

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم