صحيفة المثقف

عصمت نصّار: المشروع الفلسفي في مصر بين صدق الدعاة وأباطيل الأدعياء (2)

عصمت نصارلم تكن غاية قادة الرأي في مصر - باختلاف اتجاهاتهم كما بينا فيما سبق - من ترويجهم للمعارف الفلسفية وتوضيح أهميتها كآلية دافعة لمشروع النهضة، ومنهج للحوار والتثاقف، ومنهاج للقراءة والاستيعاب وضرب للنقد وتقويم للآراء والمعتقدات والعادات الفاسدة فحسب؛ بل كان هناك غرض آخر أكثر أهمية عند الاتجاه المحافظ المستنير، ألا وهو إثبات أن للمفكرين المسلمين فلسفة خاصّة بهم تحمل خصائص هويتهم ونهوجهم في البحث والتأليف على نحو يختلف عن فلسفة اليونان وغيرهم من الثقافات المحاكية، ذلك على الرغم من الاعتراف بتأثرهم بتلك الفلسفات بوجه عام.

وقد ذهب "إسماعيل مظهر" و"سلامة موسى" (1887-1958م) و"محمود عزمي" (1889-1954م) و"عصام الدين حفني ناصف" (1900-1969م) و"عمر عنايت" و"حبيب إلياس" و"إبراهيم حداد" و"حسين كامل الصيرفي" (1908-1984م) وغيرهم من العلمانيين في هذه الحقبة؛ إلى الانطلاق من دعوتهم للفلسفة لنشر الفكر الأوربي وأعلام فلاسفته وأشهر اتجاهاته السياسية والأدبية والدينية، ونظرياته واكتشافاته العلمية، وذلك للتعرف على ثقافة الأغيار المتقدمين، بينما عكف "مصطفى عبدالرازق" على دراسة الأسباب التي أدت إلى عزوف الأزهرين بخاصّة والمثقفين على وجه العموم عن دراسة كتب الفلاسفة ومذاهبهم بحجة أن كتاباتهم لا تخلو من التجديف والاجتزاء والتحرر الزائد الذي لا يصلح لمجتمعنا ولا لعصرنا.

أضف إلى ذلك؛ أن معظم أحاديث المحافظين من المثقفين قد جعلت الفكر العقدي الإسلامي مقابل الفكر الفلسفي قديمه وحديثه وزعمت أن الجمع بينهم غير جائز؛ ومن ثم يمسي من العسير ربطهما بسياق واحد؛ الأمر الذي يقطع بأصالة دور الاتجاه المحافظ المستنير في إحياء الخطاب الفلسفي من جهة، وجعله دافعاً للمشروع الحضاري من جهة أخرى؛ فقام شيخنا بتوضيح أن المراد بالفلسفة التي نريد غرسها في بنية مشروعنا النهضوي ليست حكايات هوميروس وتعاليم الشُكاك وأقوال أفلاطون أو آراء هولباخ وداروين وماركس ونتشه، فكتاباتهم لا تعدو أن تكون رؤى ومعارف قابلة للنقد، ولا تعدو الرغبة في إدراج المعارف الفلسفية ضمن الدروس التعليمية لنشر المذاهب الإلحادية أو التعاليم الماجنة والتقاليد الشاذة بين الشباب؛ فالمراد الحقيقي من مطالعتها هو التعرف على نهوج الفلاسفة، وطرائقهم في بناء الأنساق، وصياغة الأدلة في التحاور، والرد على الطعون، وتقويم الأفكار بمنحى عقلي أقرب إلى المنطق البرهاني منه إلى الخطاب الإنشائي أو الاحتجاج بالنصوص والاستشهاد بأقوال الأقدمين.  كما بيّن "مصطفى عبدالرازق" أن للمسلمين فلسفة قد نبعت من القرآن وعلومه، وذلك قبل اتصال علماء المسلمين بفلسفات الأغيار وعلى رأس تلك المباحث الإسلامية الخالصة علم أصول الفقه وعلم الكلام وعلم مقارنة الأديان والتصوف السُّني وعلم التربية والأخلاق ثم اكتشافات علماء المسلمين في العلوم وإبداعاتهم في الشعر والأدب وأخيراً نظريتهم في الفلسفة الاجتماعية والسياسية. 

كما أكدَّ أن أبحاثهم الأولى قد جمعت بين النقل والعقل المحاكي لثقافة الواقع المعيش في المجتمع الإسلامي، أمّا العلوم المتأخرة فتمثل فلسفة الحضارة الإسلامية التي تأثرت وأثرت، وأخذت وأعطت، ونجحت وأخفقت شأنها شأن كل الأمم في مراحل تطورها عبر العصور. كما استفاض شيخنا "مصطفى عبدالرازق" وتلاميذه من بعده في طرح قضايا الفلسفة الإسلامية بداية من كيفية تجديد الفكر الإسلامي ومروراً بالرد على الطاعنين والمشككين في سلامة الشريعة الإسلامية وصلاحيتها وقابليتها للتفاعل مع متغيرات العصر رغم ثبات جوهرها ومتانة أصلها. وأعرب عن طرافة ما انتهى إليه علماء أصول الفقه من آراء مرنة يمكن تبديلها وتعديلها وتغييرها وذلك باعتراف أصحابها، فهي لا تُعدو أن تكون اجتهادات ورؤى وتفاسير تحتكم في النهاية إلى علم علوم الفكر الإسلامي ألا وهو (علم المقاصد) الذي يرمي إلى حماية الإنسان من الأضاليل والمهالك وتوجيه إلى الأحسن والأرشد من الأعمال والأسلم والأءمن من المسالك؛ للسعادة في الدنيا والنعيم في الآخرة.

وشرح كذلك أبحاث المتكلمين في التوحيد، والتأليف بين الحكمة العقلية والشريعة، والنبوة، والقدر، ورؤية الله، وخلق العالم، وأولانية علم الله، وخلود الروح، والعدل الإلهي، وإعجاز القرآن، وغير ذلك من القضايا والموضوعات المستنبطة من القرآن والحديث الشريف.

كما دعى لتطهير التصوف من البدع والخرافات وجعل منه علماً تطبيقياً لتصفية القلوب، وتهذيب الأنفس، وعشق الخير والجمال والجلال في ذكر البارئ. كما علم أن حبّ المصطفى والتغني بكماله لا يغني عن العمل بسنته وسير على ضربه في مقام الوصول والوصال والإحسان لعباد الحق المنعم الكريم والتأكيد على أن المسلم الحق هو البار، والمحسن لكل الناس، والصادق في قوله ووعده، والآمر بالمعروف، والناصح باللين، والمفطور على العفة والحياء. ونقل بذلك علم التصوف ورفع مقامه وأنقذه من طور البدع ومستنقع التواكل والشطط في التعبد ووجه محبيه إلى رحاب العمل والإحسان والهداية والإصلاح والجهاد في ميدان الدعوة.  كما كلف رحمه الله تلاميذه بجمع وتخطيط كتابات أقطاب الصوفية ودراستها على نحو يبرز غاية هذا العلم الخُلقيّة، ويكشف عن مقاصد كتاباتهم الروحية؛ ولعل تلاميذه من أمثال "محمد مصطفى حلمي" و"عبدالحليم محمود" و"توفيق الطويل" و"محمد غلاب" و"على سامي النشار" خير من أستجاب لدعوته في هذا الميدان.

أضف إلى ذلك كله؛ أهمية دراسة مباحث علماء الإسلام في شتى العلوم الطبيعية لإثبات قدر إسهامهم في تطور تلك العلوم، وذلك للبرهنة على أن العقلية العربية الإسلامية لم تكن مجرد قناة لحمل علوم اليونان وثقافات الشرق القديم ونقلها لجماعات أوربا في العصر الحديث (أي في عصر النهضة) كما ادّعى غلاة المستشرقين. ثم لفت الأنظار إلى أهمية تحليل النصوص الأدبية للوقوف على الأفكار الفلسفية الكامنة في بناءها وبنيتها، ليكشف بذلك عن قدرة العقلية العربية الإبداعية على التفلسف.

كما يعدُّ "مصطفى عبدالرازق" من أوائل المفكرين العرب الذين لفتوا الأنظار إلى أهمية دراسة فلسفة الدين ومبحثيه الدين المقارن وفلسفة اللاهوت؛ الأمر الذي مكن تلاميذه من دراسة الديانات الوضعية والثانوية بمنهج نقدي تحليلي عوضاً عن الكتابات التاريخية والسرديّة. وأخيراً أثبت أن ظاهرة تكفير الفلاسفة ترد إلى الساسة وثقافة الرأي العام، وليس إلى النصوص المقدَّسة تلك التي يمكن تأويلها لاستيعاب مختلف الآراء والاجتهادات لنقدها وتقويمها.

ولا ريب في أن آراء "مصطفى عبدالرازق" التي ذاعها تلاميذه في الرأي العام لها عظيم الأثر لاطمئنان القائمين على التعليم على سلامة موقفهم من الفلسفة ومشروعهم وتخطيطهم لإدراجها ضمن المقررات الدراسية للتعليم الثانوي. وقد تم لهم ذلك عام 1933م حيث أدرجت لأول مرة تاريخ الفلسفة النظرية في نظارة محمد حلمي عيسى (1931-1934م) للمعارف العموميّة، وذلك لطلبة القسم الأدبي، وجاء في مقدّمة الكتاب المقرّر أن الهدف من أدرجها في مقرّر السنة النهائية هو إثارة تفكير الطالب وفتح باب التفلسف أمامه، وتنمية قدراته العقلية. كما بيّن مؤلفا الكتاب (محمد على مصطفى، وأحمد عبده خير الدين) أن علة خلو مناهج التعليم الثانوي من مادة تاريخ الفلسفة ترجع إلى عدة أسباب، منها:

  * إن التعليم كان في يد نفر من رجال الدين الذين يمقتون الفلسفة، ويحرمون على الناس دراستها. في حين أن الدين الإسلامي لا يعادي الفلسفة في شيء، فقد خاطب العقل وحض على النظر في ملكوت السماوات والأرض، وتآخى العقل والدين لأول مرة في كتاب مقدّس، وهو القرآن.

  * إن حجة رؤساء الدين في تحريمهم للفلسفة مبني على أسس واهية، وأن الغرض الأساسي من هذا التحريم، هو الاستئثار بحق الفهم لأنفسهم والضنّ به على كل من لم يلبس لباسهم ولم يسلك مسالكهم.

 * إن العقول كانت لم تصل إلى مستوى تشعر فيه بضرورة الفلسفة، وبأنها من وسائل الثقافة العامة، ورقي المدارك، وشحذ المذاهب، وتوسيع الأفق العقلي، وأساس النهوض والتقدم.

 * إن كلمة فلسفة من الكلمات التي أسئ استعمالها في الوقت الحاضر، فكانت تجري على ألسنة الناس العوام بمعنى الخيال ومرادفة للأوهام والثرثرة. وأنها ليست في متناول عقول العامة، وأن مباحثها نظرية لا تصل بصاحبها إلى غاية معينة، وأن مسائلها منقطعة الصلة بالحياة؛ لذلك كله سعينا إلى توضيح حقيقة الفلسفة، وإزالة الأوهام التي علقت بأذهان العامة عنها، وجعلها الطاقة الفاعلة للنهضة العلمية المرجوة. وقد واكب هذا الحدث ظهور الطبعة الأولى لترجمة دائرة المعارف الإسلامية عن الفرنسية مع تعقيبات نقدية لأكابر المفكرين العرب تدعيماً للمشروع الفلسفي وأهميته بالنسبة للفرد والمجتمع، وجاء في مقدِّمتها ما يلي: (ليست فائدة ترجمة هذه الدائرة مقصورة على الناحية الثقافية وحدها، ولكنها مفيدة في بعث الحضارة الإسلامية، ومفيدة في تكوين الرأي العام الإسلامي، وتدعيم تقاليده، والكشف عن مثله العليا، وذلك لأن مهمّة دائرة المعارف - فيما نعتقد - أكبر من مهمة الجامعة في تكوين الرأي العام، لمّا فيها من الشمول مع العمق، والتحقيق مع الترتيب؛ على سهولة في الأسلوب واللغة لا تجعلها وقفاً على الخواص وأشياء الخواص.

والمسلمون يشعرون هذه الأيام بحاجتهم إلى هذا التوحيد في الثقافة؛ فأنت تسمع عن الوحدة العربية، وعن الجامعة الإسلامية، وعن المجامع اللغوية العربية، وعن المؤتمرات الإسلامية، وكلها ترمي إلى توحيد الثقافة في العالم الإسلامي -العربي إذا شئت- كما ترمي إلى تغذية اللغة العربية التي هي أكبر الوسائل وأخطرها في توحيد الجماعة الإسلامية، فإذا قمنا بترجمة هذه الدائرة؛ فلأننا نريد المساهمة في هذه النهضة ونرغب رغبة صادقة في العمل على تحقيق أغراضها، ولسنا نشك في أن دائرة المعارف الإسلامية هذه، ستكون من أقوى الدعائم التي سوف يعتمد عليها في كتابة دائرة المعارف العربية الكبرى التي يتحرّق الناطقون بالضاد شوقاً إلى ظهورها). وذلك في 20 يوليه 1933م.

كما شرع مجمع اللغة العربية في تخصيص أحد لجانه للفلسفة ومصطلحاتها. ويتضح من هذا الإفصاح وعي وقصدية هذا الاتجاه الذي كان يخطط بعقلانية وخبرة لذلك المشروع الفلسفي الحضاري الذي نحن بصدده، كما يبرهن تصريح المترجمين على إيمانهم بأن الفلسفة هي الآلية الأقدر على دفع المجتمع قُدماً إلى طريق الاستنارة والتقدّم، الأمر الذي يتناقض مع حال الفلسفة في ضوء الخطابات المعاصرة.

 (وللحديث بقيّة)

 

بقلم : عصمت نصّار

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم