صحيفة المثقف

حاتم حميد محسن: حقيقة اليد "اللّامنظورة" لآدم سمث؟

حاتم حميد محسنمن الأسرار التي جرى التكتم عليها في الاقتصاد هو ان لا وجود لليد اللامنظورة. بعد اكثر من قرن في محاولة إثبات العكس، حقّق المنظّرون الاقتصاديون في المسألة واستنتجوا في السبعينات من القرن الماضي ان لا سبب للاعتقاد بان الاسواق تقودها يد لا مرئية الى حالة مثلى من التوازن او أي توازن كان. بالطبع، التاريخ الديناميكي والمضطرب للرأسمالية يكذّب وجود أي يد لامرئية. الأزمة المالية التي انفجرت عام 2008 وأزمة الديون اللتان هددتا اوربا هما فقط دليل آخر على ذلك . اللذين عاشوا في مكسيكو في أعقاب ازمتها لعام 1994 ودرسوا سياساتها، لاحظوا غياب أي يد لامرئية كحقيقة عملية. الشيء الذي صدم المختصين عندما نقّبوا في النظرية الاقتصادية، وفي هذه المسألة بالذات هو ان النظرية تدعم الدليل العملي. آدم سمث اقترح فكرة اليد اللامرئية في مقطع غامض في كتابه (تحقيق في طبيعة وأسباب ثروة الامم،1776). هو ذكر ذلك فقط مرة واحدة في الكتاب، بينما هو لاحظ مرارا مواقف لا تعمل فيها "الحرية الطبيعية". دع البنوك تتقاضى اكثر من 5% فائدة، سوف يقرضون أصحاب المخاطرة المفرطة في البحث عن الربح ، معجّلين من الفقاعات والانهيارات. دع "الناس المتعاملين بنفس التجارة" يجتمعون مع بعضهم، ستتحول محادثاتهم الى "وسيلة لرفع الاسعار". دع منافسة السوق تستمر في قيادة تقسيم العمل، فانها ستنتج عمالا "حمقى وجهلة ". في عام 1870، بدأ الاقتصاديون الاكاديميون جديا محاولة بناء انموذج "للتوازن العام" لإثبات وجود اليد اللامرئية. كانوا يأملون بيان ان تجارة السوق بين الافراد، والسعي للمصلحة الذاتية،والشركات،وتعظيم ارباح الشركات،سوف يقود الاقتصاد الى توازن ثابت ومثالي.

ليون والرس من جامعة لوزان في سويسرا، اعتقد انه نجح في عام 1874 بكتابه (عناصر الاقتصاد الخالص)، لكن الاقتصاديين استنتجوا انه فشل في ذلك. اخيرا، في عام 1954،طوّر كينيث ارو من جامعة ستانفورد، وغيرارد ديبرو من جامعة يال، تسمية انموذج "التوازن العام"، فازا فيه لاحقا بجائزة نوبل. هما وضعا افتراضات لوصف الاسواق التنافسية،واثبتا ان هناك بعض الاسعار سوف توازن العرض والطلب لجميع السلع. لكن لا احد ابدا بيّن ان يدا لا مرئية تحرك الاسواق نحو ذلك المستوى. انه فقط موقف ربما يوازن العرض والطلب صدفة. في عام 1960 اوضح هربرت سكرافت من جامعة يال ان اقتصاد (ارو- ديبرو) يمكن ان يدور بشكل غير مستقر. وهي الصورة التي ازدادت عتمة باستمرار. اوراق هامة في السبعينات من القرن الماضي، أزاحت أي أمل ، كما يقول المنظّر فراكلن فشر، في إثبات ان تلك الاسواق سوف تحرك الاقتصاد نحو التوازن. فرانك هان من جامعة كامبردج يلخص المسألة: "نحن ليس لدينا سبب جيد للافتراض ان هناك قوى تقود الاقتصاد نحو التوازن".(1)

مقارنة هندسية ربما تفيد في هذا الشأن. اليد اللامرئية ترى اقتصاد السوق كمجموعة من المسافرين في طائرة والتي بسبب كوارث السفر الجوي، هم يستقرون ديناميكيا. تحت تأثير الاضطرابات، هم فقط يستقرون في مسار طيران مختلف قليلا. نظرية التوازن العام كما طُورت في الستينات والسبعينات تقترح ان الاقتصادات تشبه كثيرا الطائرات المقاتلة. متأثرة بالعواصف، هي سوف لا تستقر فقط في مسار مختلف قليلا وانما سوف تتغير بسرعة مفاجئة وخارجة عن السيطرة. الاقتصاديون ربما يسمّون المقارنة مع الطائرة المقاتلة نوعا من الجدل، لكن لا منظّر مرموق يقول ان ما سمي انموذج "التوازن العام" هو مستقر. ان كلمة "توازن" مضللة بعمق في هذا السياق لأنها تصف موقفا ليس فيه توازن. التوازن الاقتصادي الذي هو حالة مستقرة يتحرك نحوها الاقتصاد يكشف فقط عن أمل من جانب الاقتصاديين، وليس آلية مفهومة في انموذج معقول. الحديث عن "التوازن" سمح للاقتصاديين ليخدعوا أنفسهم والآخرين.

ان الفشل في نمذجة اليد اللامرئية واضح جدا. ولكن اذا كانت ألمع الاذهان الاقتصادية فشلت على مدى قرن في بيان كيف تحرك اليد اللامرئية الاقتصاد نحو التوازن، فهل يمكن ان توجد مثل هذه الآلية؟ ان شيئا ما خارج الاسواق مثل المعتقدات الاجتماعية،التعليمات الاقتصادية، يجب ان يجنّبنا الكارثة.

كيف يمكن للنماذج الاقتصادية ان تستمر في افتراض الاستقرار؟ نموذج (ارو- ديبرن) في التوازن يعامل كل فرد، كل شركة، وكل سلعة كاشياء متميزة – الاقتصاديون التطبيقيون يطورون نماذجا للتراكم والتوحيد. هم يراكمون القمح مع الايبود و الحلاقة في كمية منتظمة واحدة من المادة يسمونها "سلعة" ويضعون لها رمز (Y). ثم يقومون بجمع كل الافراد المختلفين في شخص واحد " كممثل". انت تستطيع بسهولة بناء الاستقرار في هكذا نموذج بافتراض خالص. ولكنه فقط افتراض خالص. كيف يمكن للتجارة اللامركزية تحرك الاسواق الى التوازن اذا كانت هناك فقط سلعة واحدة؟

في ضوء عزلة الاكاديميين فان معظم الاقتصاديين التطبيقيين غير واعين بالنتائج غير المستقرة للمنظّرين. هم ربما رأوها باختصار في نظرية واحدة وتجاهلوها كونها غريبة الاطوار وغير ملائمة. آخرون نبذوها. ملتن فريدمن قال مرة لفرانكلن فشر انه لم ير معنى في دراسة استقرار التوازن العام لأن الاقتصاد بوضوح هو مستقر – واذا لم يكن كذلك "نحن جميعنا نضيع وقتنا". ملاحظة فشر تعني ان مسألة استقرار الاقتصادات لم تكن مُدركة.

الايمان الشديد باليد اللامرئية جعل بنك الاحتياطي الفيدرالي يفشل في رؤية حدوث أزمة العقارات. النماذج الاقتصادية التي استعملها حرفيا افترضت ان الاسواق هي دائما في توازن تلقائي، لذا كيف يمكن ان تحدث الأزمة؟ ولكن بعد ان انفجرت الازمة، طرح الاحتياطي الفيدرالي جانبا نماذج اليد اللامرئية العالية التقنية واستجاب بقوة كاملة لدعم الاقتصاد. ان فرضية اليد اللامنظورة رفضت ان تموت. انها طمأنت انجيلا ميركل مستشارة المانيا، مع انها نشأت في المانيا الشرقية في ظل الشيوعية، بأن تحرير اسواق العمل قد ينهي أزمة اليورو. بناءً على التفكير الخافت لأوهام اليد اللامنظورة، كانت السلطات الاوربية مرة بعد اخرى متأخرة مما جعل اليورو يفشل في الاستجابة لعواصف السوق. وبالتالي،هم جعلوا أزمة اليورو اسوأ مما كانت عليه.

 

 حاتم حميد محسن

......................

الهوامش

(1) في نقده لفكرة اليد اللامنظورة يذكر جوزيف ستجلز الحائز على جائزة نوبل ان "اليد اللامنظورة "لا منظورة لأنها غير موجودة. ويضيف ان آدم سمث اعتبر الشركات في سعيها للربح كأنها تُقاد بيد لا مرئية لتحقيق الأفضل للعالم. ولكن سمث كان مدركا لعوائق ونواقص الاسواق الحرة، حيث ان البحوث اثبتت ان الاسواق الحرة لا تقود الى الافضل. يقول ستجلز ان لا وجود هناك لليد اللامرئية. متى ما حصلت هناك مؤثرات خارجية (حين لا يتحمل صاحب الشركة جميع تكاليف الانتاج كما في حالة التلوث التي يتركها صاحب المصنع خلفه) فان الاسواق لن تعمل بنجاح. من الواضح ان الاسواق تنتج الكثير من التلوث والقليل من البحوث الاساسية. اما الحكومة فهي مسؤولة عن تمويل البحوث العلمية الهامة وهي ايضا تلعب دورا في إنجاح عمل المصارف واجراءات السلامة، فلابد من الاجراءات التنظيمية مثل فرض العقود وحقوق الملكية لكي تعمل الاسواق بفاعلية.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم