صحيفة المثقف

منى زيتون: التطرف العرقي

منى زيتونفي العصر الحديث يغلب الحديث عن التطرف الديني عند ذكر التطرف؛ فالظاهر لمن يتابع قضية التطرف وما ينشأ عنها من آثار أن النوع الغالب منها هو التطرف الديني؛ الذي ينبني على اعتقادات وأحكام فقهية في دين ما –على فهم المتطرفين- للانتقاص من الآخر المخالف، وربما بقي التطرف فكريًا، وربما تطور ليصبح إرهابًا. لكن إن دققنا لوجدنا أن كثيرًا من المشاكل بين الجماعات التي نظن أن أسبابها ترجع إلى تطرف ديني إنما تكون جذروها هي التطرف العرقي!

ومن يظن أن التطرف الديني مقيتًا فعليه أن يقارنه بالتطرف العرقي، فعلى الأقل تجد المتطرفين دينيًا بعضهم يحمل رأيًا علميًا يتعصب له، أما المتطرفون عرقيًا فقبائليون لا يعرفون سوى أنسابهم ويجهلون ما سوى ذلك، ومجرد قراءة بعض مما يكتبون كفيل بإصابة العاقل بالغثيان.

وبداية لا بد أن نميز بين مصطلح العِرق ومصطلح الإثنية. والإثنية Ethnic مصطلح يستخدم حاليًا في العلوم الاجتماعية للدلالة على شكل من أشكال الهوية الثقافية التي تربط الجماعة؛ وسبب انتماء الفرد إلى جماعة إثنية يختلف باختلاف تركيب الجماعة؛ فقد يكون الأساس المشترك الذي تقوم عليه الجماعة الإثنية وتتحدد على أساسه هويتها هو الدين الواحد أو الجهة الجغرافية أو الهوية القومية الواحدة أو اللغة الواحدة أو العِرق المشترك.

فالجماعة الإثنية مهما اختلف تركيبها لديها عوامل تشعر أفرادها بالتضامن والترابط؛ وهي تتشابه في ملامح التراث الثقافي السائد (الزي والطقوس والعادات وطرق الطهي والفنون وغيرها)، وتشترك في اللغة، وقد تشترك في التاريخ والإقليم الجغرافي الواحد أو الوطن الواحد، إضافة إلى السلف الواحد، والأخير تحديدًا هو ما يُطلق عليه مصطلح "عِرق" Race، ويُستخدم للإشارة إلى السلالة البشرية التي ينتمي إليها الأفراد، وهو مؤسس على الوراثة. وليست كل مجموعة إثنية تشترط النقاء العرقي، فمصطلح الإثنية يستند بالأساس إلى الملامح الثقافية المتشابهة وليس التشابه البيولوجي الصارم.

وقد يكون تطرف البشر ناتجًا عن أحد عوامل التشابه التي تتألف بسببها الجماعات الإثنية، ولكن يعد العِرق السبب الأكثر انتشارًا للتطرف من بينها. ونلاحظ أن الله تعالى في كتابه العزيز اعتنى بلفت النظر إلى دور العرقيات والشعوبيات في صراعات البشر، فقال جل شأنه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات: 13]. وقد أعجبني ما قال الطبري في معنى الشعب: "إذا قيل للرجل من العرب: من أيّ شعب أنت؟ قال: أنا من مضر، أو من ربيعة". فالشعب فرع كبير أكبر من القبيلة، ويجمع عددًا كبيرًا من القبائل، وهو أقل من الأصل. فالأصل إننا بشر من ذكر وأنثى، ثم إننا من عرق كبير، ثم من شعب، وكل شعبة انقسمت إلى قبائل، ولكن الناس لا تهتم سوى بالقبائل وتتناسى الأصل.

وكذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا عن التطرف العرقي، وأرشد الناس إلى التركيز على العمل الصالح، ومن ذلك ما أخرجه البخاري (3383)، ومسلم (2378)، فعن أبي هريرة، سُئِلَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: مَن أَكْرَمُ النَّاسِ؟ قالَ: "أَتْقَاهُمْ لِلَّهِ". قالوا: ليسَ عن هذا نَسْأَلُكَ، قالَ: "فأكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ، ابنُ نَبِيِّ اللَّهِ، ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ، ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ". قالوا: ليسَ عن هذا نَسْأَلُكَ، قالَ: "فَعَنْ معادِنِ العَرَبِ تَسْأَلُونِي؟ النَّاسُ مَعادِنُ، خِيَارُهُمْ في الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ في الإسْلَامِ إذَا فَقُهُوا".

كما أخرج أبو نعيم في "حلية الأولياء" (3/100)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (5137) عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا أيُّها الناسُ إنَّ ربَّكمْ واحِدٌ ألا لا فضلَ لِعربِيٍّ على عجَمِيٍّ ولا لِعجَمِيٍّ على عربيٍّ ولا لأحمرَ على أسْودَ ولا لأسودَ على أحمرَ إلَّا بالتَّقوَى إنَّ أكرَمكمْ عند اللهِ أتْقاكُمْ".

ويقول سيدنا علي بن أبي طالب:

كن ابن من شئتَ واكتسب أدبًا *** يُغْنِيكَ مَحْمُودُهُ عَنِ النَّسَبِ

فليسَ يُغني الحسيبُ نسبته *** بلا لسانٍ له ولا أدبِ

إن الفتى من يقولُ ها أنا ذا *** ليسَ الفَتَى مَنْ يقولُ كان أبي

اللغة أساس القومية

يذهب العالم اللغوي إدوارد سابير إلى أن اللغة هي على الأرجح أعظم قوة من القوى التي تجعل من الفرد كائنًا اجتماعيًا. ويعلق د.عثمان أمين في كتابه "فلسفة اللغة العربية" أن مضمون هذا الرأي أمران: الأول أن اتصال الناس بعضهم ببعض في المجتمع البشري لا يتيسر حصوله بدون اللغة. والأمر الثاني أن وجود لغة مشتركة بين أفراد قوم أو أمة من شأنه أن يكون هو نفسه رمزًا ثابتًا فريدًا للتضامن بين الأفراد المتكلمين بها.

وأستنتج من ذلك أن الإثنية القومية وإن كانت تتأسس على الشعور بهوية قومية مشتركة لدى أفراد الجماعة، إلا أن وجود اللغة الواحدة التي تتكلمها الجماعة ويتواصلون ويتفاهمون بها هو السبب الرئيسي لاستشعار الجماعة هذه الهوية، وكلما كانت اللهجات الفرعية أكثر تشابهًا تعززت تلك الهوية المشتركة.

وربما كانت اللغة أو اللهجة المختلفة سببًا في نشوء جماعات إثنية على أساس لغوي، حتى وإن كانت تجمعهم هوية قومية واحدة! ويظهر هذا عندما تتعدد اللغات الرسمية في دولة واحدة مثلما هو الحال في كندا، أو عندما تكون هناك لهجات شديدة التباين في ألفاظها وأصواتها في المجتمع الواحد. فاللغة من أهم العوامل التي يتوحد ويتفرق على أساسها البشر.

ورغم توحد أوروبا تحت مظلة الاتحاد الأوروبي فإن الأوربيين لا يستشعرون أنهم قومية واحدة بسبب اختلاف اللغة. وكان أول ما فكر فيه اليهود عندما قرروا بناء دولتهم هو إحياء اللغة العبرية، لأنه لا قومية حقيقية دون لغة، والعِرق المشترك –الذي يدّعونه- لا يصلح أساسًا لتكوين هوية واحدة دون لغة.

وأقول إن بلاد فارس دخلت في الإسلام ولم يتوقف الفرس عن التحدث بالفارسية لذلك حافظوا على قوميتهم. وكان من الفرس أكابر العلماء، ممن كتبوا تفاسير للقرآن كالطبري والفخر الرازي، وجميع المحدثين الكبار كانوا فرسًا، فالبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه جميعهم فرس، وحتى الإمام أحمد بن حنبل أمه فارسية. وكانت مجالس العلم عندهم يدور فيها الحوار بالفارسية، ثم بعد خروج العلماء وطلبة العلم منها يتحدثون في شئون حياتهم بلغتهم؛ فلم يكن طلب العلم يومًا مبررًا لفقدان الهوية القومية.

والأتراك أيضًا جلهم مسلمون ومع ذلك يعتزون بلغتهم وقوميتهم ولم ينصهروا في بوتقة العروبة، وكذلك فعل الأمازيغ، والنوبيون، والهنود، فكلهم شعوب احتفظوا بلغاتهم، ومن ثم يمكنهم التحدث عن أنفسهم كقوميات منفصلة عن العروبة.

أما المصريون فقد صاروا عربًا ودخلوا في العرب المستعربة طواعية منذ أن تكلموا العربية في مجالسهم وبيوتهم.

التطرف العرقي بين العرب

معلوم أن التقسيم الدارج للعرب يجعلهم ثلاثة أقسام، عرب بائدة، وعرب عاربة وهم القحطانيون وقحطان أبو اليمن، وعرب مستعربة وهم العدنانيون. فالقحطانيون شعبان: سبأ وحضرموت، والعدنانيون شعبان: ربيعة ومضر ابنا نزار بن معد بن عدنان.

ولأن التطرف العرقي يوجد حتى داخل القومية الواحدة؛ فإن العرب أكثر من يتفاخرون بأنسابهم على بعضهم البعض، وفي إحدى مجموعات الأنساب على موقع الفيسبوك قرأت منشورًا لم أكن أتصور أن يوجد في الحقيقة، وهل يُعقل أن يتناظر القحطانيون مع العدنانيين، ويقولوا لهم إن كان الله قد اصطفى آل إبراهيم وإن كان رسولنا محمد منكم فالقرآن يقول: أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ أَهْلَكْنَاهُمْ ۖ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ [الدخان: 37].

يقول الطبري في تفسير الآية: "أهؤلاء المشركون من قريش خير أم قوم تبع والذين من قبلهم من الأمم الكافرة بربها، يقول: فليس هؤلاء بخير من أولئك، فنصفح عنهم، ولا نهلكهم، وهم بالله كافرون، كما كان الذين أهلكناهم من الأمم من قبلهم كفارًا". وكما يتضح من الآية فالتساؤل لا يُستدل منه على أفضلية قوم تُبَّع، علمًا بأن تُبَّع كان رجلًا صالحًا ذم الله قومه ولم يذمه.

ويقولون إن أول العرب المستعربة هم بنو إسماعيل من زوجته الجُرهمية لأن ابن أخت القوم منهم. وقولهم في ابن الأخت من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي جاء في صحيح البخاري (3528) عن أنس رضي الله عنه قال دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار فقال: "هل فيكم أحد من غيركم؟" قالوا: لا إلا ابن أخت لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ابن أخت القوم منهم". ولكن هل يصح أن ينفوا عن إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام أنه عربي وأنه قد تحدث العربية؟!

لقد تواترت الأخبار عن تحدث إسماعيل عليه السلام العربية من خلال عشرته لقبائل جُرهم الذين تربى بينهم، روى البخاري (3364) عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم - في قصة إسماعيل وهاجر عليهما السلام - قال: " ... وَشَبَّ الغُلاَمُ وَتَعَلَّمَ العَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ". وقد روى الإمام السيوطي في الجامع الصغير (2837) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "أول من فتق لسانه بالعربية المبينة إسماعيل، وهو ابن أربع عشرة سنة". وروى الإمام الحاكم في المستدرك على الصحيحين (ج2، 4029/38) عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "أول من نطق بالعربية ووضع الكتاب على لفظه ومنطقه، ثم جعل كتابًا واحدًا مثل بسم الله الرحمن الرحيم الموصول حتى فرق بينه ولده: إسماعيل بن إبراهيم صلوات الله عليهما". أي أن اللسان العربي المبين بلغة قريش، والذي نزل به القرآن الكريم، كان إسماعيل بن إبراهيم أول من نطق به.

ثم إن هناك إشارات وروايات متناثرة تدعي أن العرب الباقية كلهم من ولد إسماعيل. وقد روى الإمام البخاري في صحيحه، في باب "نسبة اليمن إلى إسماعيل" (3507) عن سلمة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم من أسلم يتناضلون بالسُوق فقال: "ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا". وذكر البخاري: وأسلم بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر من خزاعة. وإنما يعني البخاري أن خزاعة كانت ممن تفرق من قبائل سبأ بعد سيل العرم، وكانت الأوس والخزرج منهم، وقد خاطبهم الرسول بأنهم من بني إسماعيل رغم أن التقسيم الشائع أن سبأ وأبنائه قحطانيون وليسوا من ولد إسماعيل!

ولا يعنينا كثيرًا إن كان القحطانيون من ولد إسماعيل أم لا، ولكن تطرف بعض السفهاء وصل حد التطاول على الأنبياء! ومعلوم إن هذا الشكل من التطرف بين العرب العاربة والمستعربة، وكذا بين ربيعة ومضر، وهو من دعاوى الجاهلية، عاد سريعًا للعرب بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أرادت بعض قبائل العرب أن تفاخر قريشًا بعدما قضى الله أن يكون النبي منهم، وبعدما هزموا في حروب الردة وفشلت دعوات المتنبئين الكذبة. ولا ينسى التاريخ قولة قالتها قبائل ربيعة ممن سارعوا في تأييد كذاب اليمامة: "كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر".

وللخليفة المأمون العباسي قول شهير رواه عنه الإمام الطبري في ترجمته في "تاريخ الرسل والملوك" (ج8، ص652) قال: "وأما ربيعة فساخطةٌ على ‏الله منذ بعث نبيه من مُضَر؛ ولم يخرج اثنان إلا خرج أحدهما شاريًا "أهـ. والشُراة هم الخوارج، ويعني أن نصفهم خوارج.‏

وكان العرب يكثرون التفاخر فيما بينهم بقوتهم وكثرة عددهم وعظم أنسابهم، فعلمهم رسول الله أن التفاضل يكون بالتقوى وبالفضل والسبق إلى الإسلام. في صحيح البخاري (3515) عن أبي بكرة نفيع بن الحارث قال رسول الله: "أَرَأَيْتُمْ إنْ كانَ جُهَيْنَةُ، ومُزَيْنَةُ، وأَسْلَمُ، وغِفارُ، خَيْرًا مِن بَنِي تَمِيمٍ، وبَنِي أسَدٍ، ومِنْ بَنِي عبدِ اللَّهِ بنِ غَطَفانَ، ومِنْ بَنِي عامِرِ بنِ صَعْصَعَةَ. فقالَ رَجُلٌ: خابُوا وخَسِرُوا، فقالَ: هُمْ خَيْرٌ مِن بَنِي تَمِيمٍ، ومِنْ بَنِي أسَدٍ، ومِنْ بَنِي عبدِ اللَّهِ بنِ غَطَفانَ، ومِنْ بَنِي عامِرِ بنِ صَعْصَعَةَ".

وفي رواية أخرى (3516) عن أبي بكرة نفيع بن الحارث أنَّ الأقْرَعَ بنَ حَابِسٍ قالَ للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّما بَايَعَكَ سُرَّاقُ الحَجِيجِ، مِن أسْلَمَ وغِفَارَ ومُزَيْنَةَ، -وأَحْسِبُهُ- وجُهَيْنَةَ -ابنُ أبِي يَعْقُوبَ شَكَّ- قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "أرَأَيْتَ إنْ كانَ أسْلَمُ، وغِفَارُ، ومُزَيْنَةُ -وأَحْسِبُهُ- وجُهَيْنَةُ، خَيْرًا مِن بَنِي تَمِيمٍ، وبَنِي عَامِرٍ، وأَسَدٍ، وغَطَفَانَ خَابُوا وخَسِرُوا؟" قالَ: نَعَمْ، قالَ: "والذي نَفْسِي بيَدِهِ إنَّهُمْ لأَخَيْرٌ منهمْ".

التطرف بين الأعراق

إن كان التطرف لا زال موجودًا بين أبناء العِرق الواحد، خاصة بين العرب، فلم يتخلقوا بأخلاق الإسلام ويدعوه، فمن باب أولى ألا ينقطع التطرف بين الأعراق المختلفة، ومن أشهر الصراعات العرقية التي دارت في العصور القديمة الصراع بين الفرس والروم، والحرب الباردة في عصرنا بين إيران وأمريكا ما هي إلا شكل متجدد عصري لحرب الفرس والروم قديمًا.

ويحكي التاريخ أن ملوك الحيرة المناذرة كان ملكهم في العراق على حدود بلاد فارس، وكان يخدمهم كتيبتان رئيسيتان من الجند، الشهباء والدواسر. والأشاهب بنو المنذر؛ فهم بنو عم الملك وإخوانه، وسُموا بذلك لبياض وجوههم وجمالهم. وكانت أغلب الدواسر تغلبية، يرجع نسبهم إلى تغلب بن وائل من ربيعة، فهم عدنانيون، وأصلهم من نجد، وهناك دواسر من الأزد من سبأ وكانوا يسكنون مأرب في اليمن. فالدواسر ليسوا قبيلة واحدة، وإنما اكتسبوا الاسم من الكتيبة التي كانوا يقاتلون فيها. وقيل إن الدوسر هو اسم من أسماء الفَرَس، وقيل هو اسم للجمل الضخم، والدُّسُر أيضًا المَسامير الضخمة محددة الطرفين التي تُدق فتربط الألواح الخشبية ببعضها، وقيل سُمّيت دوسر اشتقاقًا من الدَّسْر، وهو الطعن الشديد، والعرب تضرب بهم المثل في البطش، تقول: أَبْطَشُ من دَوْسَر. ولكن كثيرًا من عرب نجد تحديدًا يقفون هذه المرة مع الروم، بينما كان جدودهم جنودًا لفارس ودواسرًا لهم. أما عرب العراق فأغلبهم لا زال على ولائهم لفارس، وربما كان التطرف الديني يطل برأسه هذه المرة ويبرر هذا الولاء.

كما أن الصراع في اليمن اليوم ليس دينيًا طائفيًا فقط، بل هو عرقي أيضًا؛ فإيران وريثة الإمبراطورية الساسانية لا تزال ترغب في الاحتفاظ بنفوذ في اليمن، مثلما لا زالت تحتفظ بنفوذها في العراق، بينما من رفعوا نفوذها عنهم في نجد منذ قرون لا يرحبون بذلك! وهذا ولا شك لا يبرئ المعتدين على اليمن. وكان الفرس قد اكتسبوا نفوذهم في اليمن منذ أن ساعد كسرى (خسرو) الأول معد يكرب سيف بن ذي يزن على استعادة ملك آبائه بخلع مسروق بن أبرهة الحبشي، وتولى سيف الحكم حوالي سنة 575 أو 577م، وكان مسروق قد تولى الحكم في اليمن خلفًا لأبيه أبرهة الذي قتله الله وجيشه سنة 571م والمعروف بعام الفيل.

ولا ننسى الموجة العدائية ضد مصر التي سادت في العقد الأخير في السودان، وادعاءات تدفق الحضارة مع النيل، ومن ثم فحضارتنا هي حضارتهم، ومحاولتهم سرقة تاريخ مصر بدلًا من التنقيب عن تاريخ خاص بهم؛ فيدعون أن سيدنا موسى مدفون في جبل مرة، وأن مجمع البحرين هو التقاء النيل الأزرق بالنيل الأبيض! وموقفهم المخزي في قضية سد النهضة وتمنيات السوء لمصر، والذي ارتد عليهم فتضرروا من فيضان 2020 أشد الضرر بعد أن خزنت إثيوبيا المياه خلف السد واضطرت لتفريغ كمية كبيرة منها، وكل هذا ما هو إلا تطرف عرقي، وللأسف أن يصدر عن أشقاء.

ولا ننسى دعاوى سيادة العرق الآري التي لعبت بعقل النازي وتسببت في ويلات الحرب العالمية الثانية. ويهود إسرائيل يدَّعون أيضًا أنهم شعب الله المختار؛ فهم يعتبرون أنفسهم مميزين كقومية وليس كأصحاب دين؛ فيظهر لديهم التطرف العرقي أكثر من التطرف الديني. وتظهر كثير من الدراسات التي أجريت على اليهود المهاجرين إلى إسرائيل ‏أن أغلبهم أقرب للإلحاد، ولا يؤمنون بالحساب ووجود الجنة والنار، ولكنهم مع ذلك مقتنعون ‏أنهم القومية الأكثر تميزًا بين البشر! وهذا هو السبب الحقيقي لهجرتهم إلى إسرائيل، أو الإعلان عن ‏هويتهم الدينية في أوروبا وأمريكا، فهم أعلى نفيرًا وهذا يوفر لهم ميزات، وينشأ عن اقتناعهم ذاك أيضًا نظرتهم الاستعلائية على من دونهم حتى إنهم يستبيحون الكذب على من عداهم ‏من الجوييم (الجماهير غير اليهودية)، ولا يعتبرون ذلك نقيصة.‏

‏ وسبب الإشكالية الرئيسي فيما تفعله السلطات الصينية مع أقلية الأويغور المسلمة أن الأويغور هم عرقية تركية، تتحدث لغة أقرب إلى اللغة التركية، ومن ثم فهم أقرب عرقيًا وثقافيًا لشعوب آسيا الوسطى. فتطرف الصين ضد الأويغور هو تطرف عرقي ومحاولات للإبادة العرقية، وإن كان ظاهريًا يبدو تطرفًا دينيًا.

فالحقيقة إن السلطات الصينية تسعى إلى قولبة المجتمع الصيني، وفرض هيمنة ثقافة عرقية الـ "هان" والتي تعتبر أكبر جماعة عرقية في العالم بأسره؛ إذ يشكلون 92% من سكان الصين و18% من سكان العالم، والمشكلة الأهم التي أقلقت السلطات الصينية أن الأويغور رغم كونهم قلة عددية في الصين ولا يزيد عددهم عن 11 مليون نسمة إلا إنهم يشكلون أغلبية في مقاطعة شينجيانغ التي تتمتع بالحكم الذاتي، وهذا يجعل الثقافة السائدة في هذه المقاطعة تختلف عن الثقافة العامة في البلاد.

ومن ثم فهناك رفض من الحكومة الصينية لبروز أي ثقافة غريبة داخل البلاد، وأي سلوكيات تختلف عن سلوكيات الجماعة الكبرى، لذلك تقوم السلطات الصينية بترحيل مواطنين من عرقية الهان إلى شينجيانغ، وإجبار الأويغور على الرحيل منه، إضافة إلى اعتقال 10% منهم، إذ قامت بحملات اعتقال جماعية لنحو مليون شخص منهم منذ سنة 2016م فيما يسمونه معسكرات "إعادة التأهيل" و"مراكز مكافحة التطرف" بدعوى إنهم متشددون وبحاجة للتثقيف! ويتم تعقيم النساء إجباريًا لمنعهن من الإنجاب، وكذلك فصل أبناء الأويغور عن آبائهم المعتقلين ووضعهم في مدارس داخلية بغرض محو ثقافتهم التي تراها الحكومة الصينية مختلفة عن الثقافة العامة للمجتمع والمطلوب ألا يبقى غيرها! وجميع ما يحدث من إجراءات في هذا الشأن يستحق أن يوصف بأنه عين الغباء ويستحيل تحقيقه على أرض الواقع. ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ [هود: 118].

الثراء الثقافي للشخصية المصرية

في مقدمته الشهيرة أضاف ابن خلدون قسمًا رابعًا إلى ما سبق وذكرناه من العرب؛ وهم العرب المستعجمة وهم أبناء الأعاجم الذين دخلوا في نفوذ الدولة الإسلامية. والعجم هو اصطلاح يشمل كل من ليسوا عربًا.

وإن أردنا أن نصف من منظور أنثروبولوجي علاقة المصريين بالعروبة فإن المصريين –ومنذ العصور الوسطى- ينتمون إلى القومية العربية وإن لم يكونوا من العِرق نفسه، والقوميات عادة تخلو من النقاء العرقي، والسبب في ذلك الانتماء هو اللغة العربية في المقام الأول. وإن كان يصعب ضم المصريين والعرب في مجموعة إثنية واحدة بأريحية؛ فالتراث الثقافي المصري إجمالًا –والثقافة أوسع وأشمل من اللغة- يتشابه في ملامح كثيرة مع التراث الثقافي العربي، ولكن تبقى مساحة الاختلافات واسعة.

وقد انتشرت صورة لفترة على صفحات موقع الفيسبوك تظهر فيها بعض الآثار والتماثيل الفرعونية باعتبارها آثارًا مصرية وفي المقابل منها بعض رموز الثقافة البدوية، وتدعو الصورة المصريين لرفض العروبة والانتصار لعِرقهم القبطي! وقد تداولها بعضهم وتحمسوا لها، وهؤلاء الذين تشدقوا بالمصرية رافضين العروبة بعضهم مسلمون وبعضهم مسيحيون، ومنهم من لا ينتمون عرقيًا إلى قدماء المصريين كما تبدو من صفاتهم الظاهرية التي تؤكد أن جيناتهم أقرب للساميين، ثم إنهم تناسوا أو يتناسون أن الوضع قد حُسم من قديم بتخلي أجدادهم عن اللغة القبطية حتى لم تعد تستخدم سوى في الكنائس فقط، واللغة هي أساس القومية كما أسلفنا.

أستطيع أن أتفهم أن كثيرًا من المصريين قد اختنقوا بعض الشيء في السنوات الأخيرة من بعض العرب بسبب تدخلاتهم وتعليقاتهم على اختياراتنا السياسية، وبسبب محاولات بعض الجماعات الدينية المتطرفة طمس الهوية المصرية، ولكن لا ينبغي أن يكون رد الفعل بهذا العنف، وإلى درجة تفقد المصري هويته العربية تدريجيًا.‏

في كتاب "شخصية مصر.. دراسة في عبقرية المكان" لعالم الجغرافيا الفذ د. جمال حمدان فصل قصير هام بعنوان ‏"تعدد الأبعاد والجوانب"‏، وهو من أهم فصول الكتاب الذي اختاره د.جمال ليترجمه إلى الإنجليزية. وأعتقد أن كثيرين بحاجة إلى قراءته ليضبط تفكيرهم بخصوص حالة استقطاب الهوية التي يحاولون إيقاع ‏الشخصية المصرية فيها؛ فمن لم يفهم كيف أن مصر آسيوية وأفريقية وعربية ونيلية ومتوسطية معًا لم يفهم كيف أثرت عبقرية المكان في هذا ‏الشعب، ولا من أين أتى تميزه.

وما أراد د.جمال قوله إن الثقافة المصرية بقوتها امتصت كل التأثيرات الثقافية التي جاءتها من موقعها الجغرافي ‏العبقري كملتقى للقارات والذي لم يكن طاردًا للبشر المسالمين العابرين من مكان لآخر عبر مصر، ومن ظروفها ‏التاريخية التي نشأت من الغزوات المتكررة من أعراق وأجناس مختلفة، ثم أفرزت مصر ما امتصته لتكون ثقافة ‏عظيمة نشأت من تلاقح ثقافات كثيرة.‏

ولا شك لدي –رغم التدهور الحضاري البادي- أن الشخصية المصرية لا زالت لديها أسباب للثراء الثقافي، نستشعره من خلال التعامل مع المصري البسيط؛ فلديه مخزون كبير من الخبرات والحكمة لا يمكن تفسيره إلا بأنه مكتسب من خلال ‏البيئة لأن مثله لم يتعلم تعليمًا نظاميًا، كما أن نظامنا التعليمي ذاته أصبح ضحلًا ولا يمكن أن يُدعى أنه يدعم الثقافة ‏بأي حال من الأحوال. ‏

ولو كانت مصر منغلقة على ثقافتها القديمة ما كانت هذه العظمة في شخصية المصري التي تظهرها التحديات، ومن ‏وجهة نظري فإن ذلك يفسر سبب تراجع ثقافة الشعب المصري ككل، وأعني الثقافة الفطرية وليس فقط ثقافة الكتب. ‏ففي العقود الأخيرة انغلق المصريون على أنفسهم بشكل لم يحدث مسبقًا في تاريخهم، وحتى متابعاتهم الإعلامية ‏تكاد تقتصر على القنوات المصرية، بينما باقي العرب يتابعون قنوات من كل البلاد العربية ما زاد ثراءهم الثقافي ‏وتراجع في المقابل المخزون الثقافي المصري، لذا أرى أن دعاوى استقطاب الهوية والإصرار على مصرية ‏مصر فقط ستؤثر علينا ثقافيًا بشكل سلبي، وينبغي أن نعي هويتنا الثقافية المركبة الثرية، وأن مصر شجرة لها جذور قوية ولكن فروعها طُعِّمت من أشجار ‏أخرى ما أكسبها نكهتها.‏

خاتمة

في مقال "أن تكون من الفئة الغالبة" سبق وتحدثنا عن الرغبة في التميز، والتي توجد داخل الإنسان، فإن لم يتمكن من تحقيقها بأعماله الفردية، حققها من خلال الانتماء إلى جماعة، وكثير من الجماعات التي صارت تتكون تحت أي اتجاه؛ ديني أو سياسي أو رياضي وغيره صارت بديلًا للأعراق وللقومية، والتعصب لها ربما يفوق التعصب للأعراق، حتى إنني كثيرًا ما أقول إن الإخوان يظنون أنفسهم "جماعة الله المختارة".

ومثل ذلك يُقال عند ذكر جماعات الخوارج القديمة كالباطنية الإسماعيلية النزارية، والذين ذكرتهم في مقال مؤخرًا بعنوان "جدود وأحفاد ريا وسكينة"، واتهمني بعضهم بأنني أتطرف ضدهم عرقيًا! علمًا بأنهم لا ينتمون إلى عرق واحد؛ بل هم حثالة ما في جميع الأعراق الشرقية، حيث تجمع الحثالة من العرب والقبط والفرس والأرد والترك والزنج واندمجوا في هذه الجماعة!

إن النقاء العرقي أكذوبة، وصحيح أن ابن آدم نسبه لأبيه، ولكن ابن الأخت منهم، وجميعنا نحمل جينات عربية وقبطية وتركية وهندية وفارسية وأمازيغية وغيرها، فلا داعي للتعالي على عباد الله بآخر ما ينبغي أن نتعالى به، فأي منا لم يكتسب نسبه بكده، وفرق كبير بين أن يعرف الإنسان قدر نسبه ليتذكر أصله الطيب ويحافظ على الأثر الصالح لأجداده، وبين أن يتفاخر بنسبه ويمشي يتيه به على خلق الله.

والمشكلة أن المتطرف عرقيًا هو نتاج تربية وتنشئة تجعله يظن نفسه وجماعته العرقية أعلى قدرًا من غيره من البشر ممن لا ينتمون إلى العرق ذاته، ولا يعي أن كل متطرف عرقي ينتمي إلى أي عرق آخر يُربى على ما تربى هو عليه، ويبقى كل منهم يظن أن باقي البشر يحسدونه على انتمائه العرقي، إلى درجة أنه لا يدرك أيضًا أن بعض الأعراق تُربى على احتقار أعراق أخرى، وأن غيره من المتطرفين على شاكلته يحقره لأجل عرقه!

ومما يساعد على التطرف العرقي تجمع الأفراد الذين ينتمون إلى العرق الواحد وعدم تفرقهم في البلاد، بينما يخفف اختلاط الأعراق وعدم تجمع عرق معين في مكان واحد التطرف بينهم، فيقلل درجته ويساعد البشر على الاندماج. ولعل السفر وكثرة الترحال العلاج الأنجح للتطرف العرقي ولكل تطرف؛ كونه يفتح عين المتطرف على اختلافات البشر ويجعله أقرب لتقبلها.

 

د. منى زيتون

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم