صحيفة المثقف

حيدر عبد الرضا: قراءة في مجموعة (تجاعيد الماء) للشاعر مهدي القريشي

حيدر عبدالرضاالجملة الشعرية وغائية التوغل في أسئلة الواقعة الآنوية

توطئة: عندما يوظف الشاعر عبر مجسات نصه صياغة حالات الأشياء المتاحة في أحياز مقترنة من موجبات أحياز العلامة والإيحاء والقصد المتراكم من خلال وحدات نواة الفعل الخطابي. لعلنا نعاين منبع ذاتية الشاعر وهي تستقدم ذاتها في الانتظام عبر ممارسة لغة ظنية ـ استنكارية، تتاح كلغة ذات اشارة أو إحالة نحو هوية متساءلة في أساس كينونة عدمية مفتوحة نحو إكراهية خاصة في الامتطاء للزمن عبر وسائل تتوالد في الرؤية وحمى الدال المتباين ضمن رقعة (الأنا ـ الأشياء ـ التيه = ظنون الدال). وإذا تناولنا من جهة هامة مجموعة قصائد (تجاعيد الماء) أي من ناحية أركيولوجية فلسوف تتبين جملة إحالات الدال المرتبطة في علاقة تشعب وتشابك ونفاذ نحو أوجه رؤية شعرية تسعى لذاتها في التوغل بإمكانية العلامة المحفوفة بأسئلة الآنوية الذواتية للشاعر، وهي تتلمس مصيرها الدلالي بين أيقونة العامل الزمني، وحرائق الجانب الظرفي من النفس في علاقة مضافة من خطوط الإلتباس والترقب والحلم والتحيين اللفظوي. نقرأ ما جاءت به قصيدة (القلق في محنته) لنواجه محتوى دواليا يتمظهر ما بين الأحساس بالانتماء للزمن الأحوالي للأشياء، والتجرد منه بالأنساب إلى سمة خاصة من الظهور بموقع الحاكي أو السارد الذي غدا يطرح إشكاليته مع اللحظة الوجودية لذاته وللزمن والمكان والصفات، بذلك الوازع البين من زخم حمولات الكائن الشعري:

لطفاً أيها القلقُ

ماذا دهاكَ

تسيرُ في شوارعِنا

بخشوعِ ناسكٍ

وتشرب من ينبوعِ اللذة

وتشير إلى جثثِنا المعلقة

وهي تتصبُ خجلاً . / ص7

أن العلاقة المنظورة الواقعة ما بين أحياز (القلق ـ الزمن ـ الذات) كلها مجموعة هواجس نفسية ورؤية موازية بين الشيء والذات والمحنة ، بمعنى ما تندرج القيمة الاحتوائية للمضمون الدوالي، عبر صورة وعلامة مشتملة على الذات الرائية لذاتها وما حولها من المؤولات المكتسبة أبعاد الهوية الظنية، كصفة فاعلة بمعنى العلاقة بالشيء كحالة بعدية تبدو غالبا متجاوزة للذات وزمنها وموقعها، لذا فإن جملة (لطفا أيها القلق) تشكل بنية استعارية خالصة بمصدرها الراهن كدور المرسل ـ المتكلم ـ وذلك الشيء المرسل إليه الذي هو بذاته المرسل نفسه، ارتباطا بما يتيح للعلامة توظيف المختزل الدلالي من مساحتها المرتبطة بمجال المضاف من الإحالة نحو ذلك الدليل الاستعلامي في جملة (ماذا دهاك) لتنكشف من هنا طابعية الوعي التكراري الظرفي في جملة (تسير في شوارعنا) فيما تبقى مشخصات ذلك الدال القلق الذي لا يمكن عده بروح الهيئة الشريرة، أنما يمكن وصفه كحالة متوارية داخل مؤثرات وجودها (بخشوع ناسك) أما عندما تصف لنا الذات الرائية حجم مغذى ذلك الدال، فإنها تضعه في حدود آلية استلاب محقق وبشكل يوحي بذلك الامتداد نحو محيط الكائن المستوعب (وتشير إلى جثثنا المعلقة.. وهي تتصبب خجلا) وعلى هذا النحو يبرز لنا مدلول ثنائية (القلق =الموت) بما يحقق لإمكانية محنة القلق ذلك الانسحاب نحو حيلولة الذات المحصورة ما بين السيف والنار. إذ يبقى الحاجز النفسي لدى الذات الرائية هو الالتحام بذاتها استبطانا لها بالألفة وحميمية السؤال وتلمس خيارات الموت المريحة في الإجابة:

لأن جماجمَنا لا تصلحُأوعيةً للحساءِ.

ولفرطِ خشيتي من الطمأنينةِ

فرشتُ الشوارعَ قصصاً محنّطةً بالسوادْ . / ص7

لأن ذات الشاعر تستكشف عوائق عبورها نحو محنة الخلاص، لذا أكتفت بتبني إرادة الخسران بأقل مما يجب من الإرسالية (جماجمنا لا تصلح للحساء) وبذلك لا تتوقف الأنا عن معاودة انفصالها عن الشبح ذلك الهاجس المقلق، بل أنها أخذت دور الاستحالة الضمنية في أقصى غاية من غايات وجودها الاغترابي (فرشت الشوارع قصصا محنطة بالسواد).

ـ صراع الذات في سياق إيقاعاتها المكبوتة

إن الإشكالية في مظاهر شعر (مهدي القريشي) هو ذلك الإفراط من صوت الأنا وهواجسها الفرضية في إثبات سؤالها وظنونها وغائيتها المرسومة عبر دائرة التشابك بين (الأنا ـ المحيط الخارجي) ما جعلنا نعلم بأن حتى حلقات الدخان كان لها ذلك الحلم والإيقاع والدور والاستثارة  والفعل والطقس في إيحاءات الشاعر الغائية، وأقول هنا الغائية وليس الظنية المخيالية حصرا، لأن سياق دلالات المعنى في فضاء الدوال، بدت تماهيا بين الموحي واللامحدود في مهد الدال الموظف، لذا تبقى علاقة الجملة الشعرية في صلب النص كأنها حالات مخمنة في رصد مقصديتها المرجحة. نقرأ مثالا قصيدة (دخان) حتى يتسنى لنا لاحقا الحديث عنها في تباين طرحي:

تنفث من بين عقيق مضطرب

دخاناً يتراقص كنبيذِ أحمر

غشاه الليل

حلقات

حلقات

حلقات صامتة ترفس حفر الوقت

تطوقني من قمة نرجستي

حتى أخمص خذلاني . / ص10

إلى حد الآن، والقصيدة تعد بمثابة الاستشراف أو البحث في حالات ملهاتية أو مأساوية، ولكن ضمن دقة قولية وموضوعية موفقة، جعلت تبث هواجسها من ناحية رسم الأشياء، داخل خصوصية حسية في افتراضاتها وملفوظاتها الإيهامية، لذا نجد جملة المستهل (تنفث من بين عقيق مضطرب) تترجم لنا حالة وصفية مركبة الأجزاء والأحوال، ولكن مصدرها يظل يشرع بالسؤال الذاتي وليس بالسؤال الاستفهامي، ما دام هناك فارق بين أن تباشر الذات في معمول سؤالها الذي هو كل كون القصيدة، وبين أن تطرح قيمة الأداة الاستفهامية ملفوظا مستفهما؟ وهذا الأمر ما وجدنا في قصيدة (دخان) حيث التشاغل الأحوالي في طلب جملة حسية من شأنها إطالة الوصف بالملفوظ دالا متصلا، حتى تتبين لنا الفاصلة الزمنية والظرفية ما بين العلامة في محامل القول ، وما تترتب عليه من صور شعرية ذات كشوفات ما، حتى تتكشف لنا من جهة أخرى العلاقة الجمالية المتصلة بدورها من جهة (أنا الواصف) كقول الشاعر في هذه الجمل (دخانا يتراقص كنبيذ أحمر.. غشاه الليل.. حلقات ..حلقات) وتشغل طبيعة العلاقة ها هنا ما بين أوجه الجمل كإثارة بانورامية من نوعها لجهة الواصف، لذا فإنها وحدها كافية للإشادة بأن الأفعال في الجمل الشعرية، قد حلت بروح (التشكيل ـ المقايسة ـ الأفق المحايث) ما جعل من جميع أحوال النص، تبدو كحالة من الحركية المتجلية من خلال هذه الجملة اللاحقة الأكثر وضوحا (حلقات صامتة ترفس الوقت) العلاقة هنا تتضح متشكلة بين الذات والموضوع، لتظهر مقصدها المحبوك عبر جملة (تطوقني من قمة نرجستي) وبهذا الحلول الوصفي نفهم العنصر الرابط والمتمثل بـ (الأنا ـ الأشياء) وصولا إلى قيمة احصائية معنوية  أخذت تحددها الجملة القادمة في فعل بؤروي خاص (حتى أخمص خذلاني) إذ تستحيل الدوافع الخارجية من هذا المعنى إلى نواة للفعل الذاتي الداخلي، ليظل المراد الشعري حيا في حدود مؤول دال (الخذلان) وليس قصدا لعلاقة خارجية ما، بل أن الواصل هنا في اللغة غدا مرجحا نحو جهة المجرد من الذات بأهمية ملموسة أخذت تجسد لواقعها الشعري المعاش فصاحة الدليل وإضافة الإسقاط الذواتي المتعالق في سياقات جمل شعرية تتوغل في ذاتها نحو محايثة السؤال وغائية الماهية الآنوية المندرجة في مساحة أكوان القصيدة.

تعليق القراءة:

كنت أسعى في قراءة مقالنا هذا إلى توضيح العلاقة ومرادها المنصوص بين الجملة الشعرية وغائية التوغل في أسئلة الذات الشاعرة، فيما اتخذنا من عينات هذه النماذج الشعرية المنتخبة من أولى قصائد المجموعة، لتكون لنا دليلا ودالا مبحثيا، فيما تبقى قصائد المجموعة الأخرى هي الأكثر أهمية وسعة وثراء في محصلة القراءة والتلقين ولا حاجة بنا إلى ذكرها فرادى، لأنها ذاتها تحمل نفس الوظائف في مشروع الشاعر، غير أنها أكثر تنويعا وتعددا في موجهات القراءة النقدية، وأنا من جهتي الشخصية أجد في هذه المجموعة الشعرية كل الكفاءة الإيحائية والدلالية في اللغة والمخيلة والمحايثة في العلاقة القصدية المؤثرة في حضور التساؤلي والوصفي والاسنتكاري في وجه الواقع المعاش وما يدور في فلكه من محنة مصيرية كبيرة .

 

حيدر عبد الرضا

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم