صحيفة المثقف

محمود محمد علي: مقدمة علم الاستغراب.. قراءة فلسفية في فكر حسن حنفي (2)

محمود محمد علي2- التعريف بالمؤلف: في حياة الأمم والشعوب أفراداً يتميزون عن غيرهم بحيوية الفعل، وبالقدرة علي التضحية، وقد عرفت مصر الشقيقة نماذج رائعة من هذا النوع من الرجال الذين شكلوا طلائع الإحساس العميق بضرورة التغيير، وتمتعوا بقدرة كبيرة علي الاستنارة، وكان المفكر والباحث والكاتب الدكتور حسن حنفي، واحداً من كبار المفكرين المريين المعاصرين والذي تميز بإنتاجه العلمي الفكري الثري والمتنوع في مختلف أبعاد وجوانب العلم والثقافة والفكر .. الخ (12).

كما يُعد المفكر وأستاذ الفلسفة الراحل الدكتور حسن حنفي، أحد أهم المفكرين العرب المعاصرين، وأبرز أساتذة الفلسفة في مصر والمنطقة العربية، وهو ما يتجلى في العديد من الكتب الفكرية المهمة التي أصدرها خلال مشواره العلمي (13).

فرض حضوره في أوساط الفكر العالمي وساحات الفلسفة الاحترافية، فشهدت أنحاءٌ شتى من العالم أنه إبان النصف الثاني من القرن العشرين وما تلاه أهم فينومينولوجى هيرمنيوطيقى "الفينومينولوجيا هي فلسفة الظاهريات ومعه ظاهريات الدين"، من حيث تطبيقه إياهما فى بناء شامل متنامٍ، وليس في واقعة أو نص جزئى، وليس تكرسا للتنظير لهما فحسب. وهذه حقبة جعلت الهيرمنيوطيقا «فلسفة الفهم والتأويل» بابا مفتوحا لبعث الحياة مجددا في كل واقع ثقافى، لاسيما واقع النصوص التراثية التى هى المخزون الشعورى والرصيد الحضاري للشعوب (14).

ولد الفقيد في القاهرة عام 1935، وتخرج في كلية الآداب بقسم الفلسفة في جامعة القاهرة عام 1956، ثم سافر إلى فرنسا، وحصل هناك على على درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة السوربون، وذلك برسالتين للدكتوراه، قام بترجمتهما إلى العربية ونشرهما في عام 2006 م تحت عنوان "تأويل الظاهريات" و"ظاهريات التأويل"، وقضى في إعدادهما نحو عشر سنوات، حيث حصل عليهما في عام 1966.

عمل المفكر حسن حنفي، مستشارًا علميًا في جامعة الأمم المتحدة بطوكيو خلال الفترة من "1985-1987"، وكان نائب رئيس الجمعية الفلسفية العربية، والسكرتير العام للجمعية الفلسفية المصرية، كما عمل مستشاراً لبرامج البحث العلمي لجامعة الأمم المتحدة، ويرجع إليه الفضل مع آخرين، في الإشراف على إعادة تأسيس الجمعية الفلسفية المصرية عام 1989.

حاز الراحل عدداً كبيراً من الجوائز، أبرزها حصوله على جائزة الدولة التقديرية عام 2009، وجائزة النيل فرع العلوم الاجتماعية 2015م، وجائزة المفكر الحر من بولندا، وتسلمها من رئيس البلاد رسمياً.

ترك الدكتور حسن حنفي العديد من المؤلفات تحتَ مظلَّةِ مَشروعِهِ "التراث والتجديد"؛ منها: "نماذج مِن الفلسفةِ المسيحيَّةِ في العصرِ الوسيط"، و"اليَسار الإسلامي"، و"مُقدمة في عِلمِ الاستغراب"، و"مِنَ العقيدةِ إلى الثَّوْرة"، و"مِنَ الفناءِ إلى البقاء"؛ علاوة علي كتابات أخرى مثل: وو"حوار الأجيال".

تميز الراحل بالكتابة الموسوعية، وكثيراً ما كتب معرّفاً مشروعه المعرفي بالقول: "إنه يهدف إلى إقالة العرب والمسلمين من تراجعهم الحضاري الطويل"، وتوزع هذا المشروع، الذي أطلق عليه "التراث والتجديد" على ثلاث جبهات، الأولى: الموقف من الأنا، وهو محاولة لتجديد علوم الذات، ففي كتابه "من العقيدة إلى الثورة"، أما الجبهة الثانية من مشروع الراحل فتمثلت في الموقف من الغرب، ويتضح ذلك بقوة في كتابه "مقدمة في علم الاستغراب"، وتتمثل الجبهة الثالثة في الموقف من الراهن، وهنا كان ركز حنفي على علوم الذات التي تؤثر في سلوكاتنا مباشرة مثل الفقه وعلم الحديث والسيرة النبوية.. الخ (15).

ودخل حنفي في حوارات مطولة مع كل تيارات الفكر العربي المعاصر، لعل أشهرها حواراته مع المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري في كتاب «حوار المشرق والمغرب»، حيث كان أحدهما يطرح قضية ملحة ويقوم الآخر بالإدلاء بوجهه نظره فيها. وفي ما يتعلق بالفكر الراهن كان طموحاً أيضاً ويسعى إلى تقديم قراءة لقواه الليبرالية واليسارية والإسلامية، للخروج برؤية جديدة تسهم في النهوض الحضاري للأمة (16).

3- عرض الكتاب:

يعد الكتاب " مقدمة في علم الاستغراب"، من الدراسات القليلة التي تناولت فكر" حسن حنفي "، فهو متميز في موضوعه، جديد في أسلوبه ومنهجيه، ويعد إضافة معرفية نوعية من بابه . نظراً لما يقدمه من رؤى وأفكار، حيث يحول حنفي الغرب إلى موضوع للدراسة، من أجل معرفة جذور حضارته وراهنه ومستقبله، والاقتراب من عوامل قوته ونقاط ضعفه. كان حنفي من المؤمنين بقدرات العالم الإسلامي والشرق بصفة عامة، ومن المهمومين بشؤونه والحالمين بقدرته على تسلم الريادة الحضارية مرة أخرى، وكان يرى أنه آن الأوان لكي يتخلص الشرق من تبعيته الثقافية والمعرفية للغرب، وحان الوقت لدراسة هذا الغرب من الخارج بعيداً عن تأثيرات عقود طويلة من التبعية الكولونيالية. وتتمثل الجبهة الثالثة في الموقف من الراهن، وهنا كان ركز حنفي على علوم الذات التي تؤثر في سلوكاتنا مباشرة مثل الفقه وعلم الحديث والسيرة النبوية..الخ.

وقبل أن أتطرق للحديث عن أقسام الكتاب، أود أن أسأل حسن حنفي:  لماذا اختار لكتابه عنوان "مقدمة في علم الاستغراب "، ولم يختار له اسم “نحو علم جديد للاستغراب "، أو " علم الاستغراب في مواجهة الآخر " أو ” إشكالية علم الاستغراب  " أو " فلسفتنا في علم الاستغراب" أو " علم الاستغراب والاستشراق المعكوس"... الخ؟

ولهذا قد لا نكون مبالغين عندما نقول مع المؤلف بأن الهدف من دراسة علم الاستغراب في نظر حنفي هو انهاء أسطورة كون الغرب ممثلا للإنسانية جمعاء، وأوربا مركز الثقل فيه . فلا يصح أن يبقي تاريخ العالم هو تاريخ الغرب، وتاريخ الإنسانية هو تاريخ الغرب، وتاريخ الفلسفة هو تاريخ الفلسفة الغربية، يجب ألا تبقي عصور تاريخ الغرب هي عصور كل الشعوب . فالعصر الوسيط هو كذلك لكل الشعوب، والعصر الحديث هو كذلك لكل العالم مع الانتباه إلى أن عصرنا الوسيط كان الحديث بالنسبة للغرب، وعصورنا الحديثة (القرن الأول الهجري حتى السابع الهجري) كانت عصورا وسيطة بالنسبة للغرب، وسقوط الغرب حاليا يعني نهضتنا، ونهضتنا تعني أفول الغرب . من هنا أهمية أن يكون لعلم الاستغراب فلسفة للتاريخ تتميز عن فلسفات التاريخ الأوربي في القرنين الثامن والتاسع عشر خاصة، والتي صاغت التاريخ كله بحيث يصب في النهاية في الحضارة الغربية، بينما مهمة علم الاستغراب في نظر حنفي وضع هذه الأخيرة في مكانها الطبيعي كمرحلة من مراحل تطور الإنسانية والتي تكون مرحلة واحدة، مجرد قوس صغير، في فضاء درب الإنسانية الطويل (17).

وهنا المؤلف أراد أن يطبع كتابه بخصائص جعلته يرقي إلي مستوي علمي رفيع، ومكنته من الوصول وبذلك يمكن قراءة أهداف المؤلف في هدفين أساسيين، أو جعلهما في دافعين:-

الدافع الأول: نظري معرفي، يقوم علي ضم الفروع والجزئيات بعضها إلي بعض، والتماس الروابط بينها، وصياغتها في صفة نظرية، وهو ما لا يعلم المؤلف أن أحدا قام به من قبل، لا في شئ محرر، ولا في كتاب مصنف، بل لم ير أحدا حام حوله طائر فكره، أو جعله غاية بحثه ونظره، فرسخ في ذهنه أن هذا أمر مستحسن إظهاره، وإبراز تعم فائدته، وبيان خفيت معالمه، وهذا الدافع قد نصفه بالهدف الأول لتأليف الكتاب، أو الدافع الظاهري أيضا.

الدافع الثاني: واقعي دعوي، يقوم كما يقول المؤلف:" مهمة هذا العلم الجديد هي إعادة الشعور اللاأوربي إلى وضعه الطبيعي، والقضاء على اغترابه، وإعادة ربطه بجذوره القديمة، وإعادة توجيهه إلى واقعه الخاص من أجل التحليل المباشر له، وأخذ موقف بالنسبة لهذه الحضارة التي يظنها الجميع مصدر كل علم، وهي في الحقيقة حضارة غازية لحضارة أخرى ناشئة نشأة ثانية أو تعيش عصر احيائها ونهضتها (18) .

ولأكثر من سبب فقد جعل الدكتور "حسن حنفي" مضمون الكتاب وفحواه ومادته في الاستدلال علي الهدف الأول، أي علي الجانب النظري المعرفي، مستغلا كل فرصة للتعليق بالسلب علي أصحاب الدافع الثاني، بين نقد أو نقض؛ والدليل علي ذلك ما قاله المؤلف:" وإذا كان " الاستشراق" قد وقع في التحيز المقصود إلى درجة سوء النية الارادية والأهداف غير المعلنة فإن " الاستغراب" يعبر عن قدرة الأنا باعتبارها شعورا محايدا على رؤية الآخر، ودراسته وتحويله إلى موضوع، وهو الذي طالما كان ذاتا يحول كل آخر إلى موضوع، ولكن الفرق هذه المرة هو أن " الاستغراب " يقوم علي أنا محايد لا يبغي السيطرة، وأن بغي التحرر . ولا يريد تشويه ثقافات الآخر، وإن أراد معرفة تكوينها وبنيتها (19) .

ولهذا انطلق المؤلف ليقسم كتابه علي إلي ثمانية فصول، الفصل الأول وفيه تحدث حنفي عن مظاهر التغريب في دراسة الشخصية العربية سواء في الأحكام العامة أو في النظرة إلى التاريخ والعصور أو في بعض المصطلحات والمراجع العامة، فمن الأحكام العامة أن المشرق العربي لم ينهل من الثقافة الغربية قدر المغرب العربي، وبالنسبة إلى التاريخ يعتبر التغريبيون أن الإسلام جزء من تاريخ العصر الوسيط الغربي وكأن الغرب مقياس لكل العصور والحضارات، ويعتبر التغريبيون أن عصور الغرب الحديثة والمعاصرة تمثل تاريخاً لكل الحضارات وعصورها، تبعاً لعلاقة المركز بالأطراف؛ ولذلك نجد في هذا الفصل أن المؤلف قسمه إلي عدة محاور: والمحور الأول ويتناول المشروع وحياته الثلاثة (20)، حيث يشرح حنفي مشروع التراث والتجديد من خلال الجبهات الثلاثة (21)، ثم ينطلق للحديث بتوسع عن الجبهة الثانية والتي تشمل موقفه من التراث الغربي (22)، وفي المحور الثاني يناقش فيه المؤلف فكرة الاستغراب في مواجهة التغريب (23)، وكيف تم الانتقال والتحول من الاستشراق إلى الاستغراب (24)، وفي المحور الثالث ناقش المؤلف فكرة المركز والأطراف وذلك من خلال توضيح علم الاستغراب والرد على المركزية الأوربية (25)، ومن نقل الغرب إلي إبداع " الاستغراب، ثم نتائج الاستغراب (26) والمحور الرابع يناقش فيه المؤلف فكرة البحث عن جذور علم الاستغراب (27)، ثم فكرة الامتداد من خلال البحث مفهوم الغرب كنمط للتحديث (28). وفي المحور الخامس يناقش المؤلف الغرب في فكرنا المعاصر من خلال الحالة الراهنة للثقافة الغربية في ثقافتنا المعاصرة (29)، ومن خلال الموقف من الغرب في دراستنا الوطنية (30)، ومن خلال علم الاستغراب في مؤلفات المؤلف السابقة (31). وفي المحور السادس فقد شبهات واعتراضات (32).. وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

....................................

هوامش المقال:

12- أحمد محمود سلامي: الاستشراق المعكوس في فكر حسن حنفي، المجلة الأردنية – عمادة البحث العلمي، المجلد 9، العدد الأول، 2016، ص 109-110.

13-نفس المرجع، ص 111.

14- د. يُمنى طريف الخولى: فى وداع حسن حنفى فيلسوف "اليسار الإسلامى" مؤسس علم "الاستغراب"، جريدة الأهرام المصرية، منشور بتاريخ الجمعة 22 من ربيع الأول 1443 هــ 29 أكتوبر 2021 السنة 146 العدد 49270

15-جيلالي بوكبر: التراث والمجتمع في مشروع – التراث والتجديد – لحسن حنفي، مجلة الحكمة، مؤسسة كنوز الحكمة للنشر والتوزيع، العدد 13، 2014، ص 11-14.

16- المرجع نفسه، ص 15-16.

17- صفوان جيد: قراءة في علم الاستغراب، شؤون الأوسط، مركز الدراسات الاستراتيجية، العدد 98، 2000، ص 88.

18- حسن حنفي: المصدر نفسه، ص 31.

19- المصدر نفسه، ص 32.

20- المصدر نفسه، ص 9.

21- المصدر نفسه والصفحة نفسها.

22- المصدر نفسه، ص 15.

23- المصدر نفسه، ص 16.

24- المصدر نفسه، من ص 29-35.

25- المصدر نفسه، ص 36.

26- المصدر نفسه، من ص 50-56.

27- المصدر نفسه، من ص 57-63.

28- المصدر نفسه، من ص  62-70.

29- المصدر نفسه، من ص  70- 77.

30- المصدر نفسه، من ص 77-83،

31- المصدر نفسه، من ص 83- 90.

32- المصدر نفسه، من ص  90 -97.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم