صحيفة المثقف
  • مدخل
  • الاولى
  • مقالات
    • أقلام حرة
    • آراء
    • أقلام ثقافية
    • قضايا
    • أقلام فكرية
    • شهادات ومذكرات
    • كتب واصدارات
    • علوم
    • دراسات وبحوث
    • ثقافة صحية
    • تنوير واصلاح
  • أدب
    • نصوص
    • ترجمات
    • هايكو
    • روافد
    • قراءات نقدية
  • حوارات
    • حوارات عامة
    • مدارات حوارية
    • نص وحوار
    • مرايا حوارية
    • حوار مفتوح
  • تقارير
    • تقارير وتحقيقات
    • أوركسترا
    • يوتيوب المثقف
    • اخبار ثقافية
  • استفهامات
    • مواربات
    • استطلاع
  • فنون
    • مقاربات فنية وحضارية
    • لوحات فنية
    • معارض تشكيلية
  • ملفات
    • المرأة في أسر العبودية
    • المرأة والسياسة
    • مستقبل الديمقراطية
    • المثقف والانتخابات
    • ملف: المثقف 10 سنوات عطاء زاخر
    • ملفات سابقة
  • تكريم
    • يحيى السماوي
    • وفاء عبد الرزاق
    • عبد الرضا علي
    • شوكت الربيعي
    • فرج ياسين
  • المؤسسة
    • رئيس التحرير
    • إصدارات المثقف
    • كتب ماجد الغرباوي
    • نشاطات المثقف
    • مناسبات المثقف
    • جوائز وشهادات
    • جائزة الابداع
    • ملتقى المثقف
    • ساهم معنا
  • كتّاب مشاركون
  • اتصل بنا

أَلْقِيَمُ أَلْكَوْنِيَّةُ وَالْخُصُوصِيّاتُ الثَّقافِيَّةُ

التفاصيل
كتب بواسطة: زعيم الخير الله

هَلْ هناكَ قيمٌ مُشتَرَكةٌ عابرةٌ للثقافات والخصوصيات يتفقُ عليها جميعُ البَشَر، أَمْ أَنَّ القِيَمَ مَحَلِيَّةٌ ترتبطُ بالبيئةِ والجغرافيا والثقافة؟ واذا كانت هناك قيمٌ مشتركةٌ بين جميعِ البَشَرِ، فهل هناكَ تعارُضٌ بينَ هذهِ القيمِ المشتركةِ العابرة للحدودِ والخصوصياتِ والثقافاتِ وَبَيْنَ الثقافاتِ والخصوصيات لكل أُمّةِ ؟

 انَّنا نرى بالوجدانِ والفطرةِ وجودَ قيمٍ عابرةٍ للحدودِ والثقافاتِ، يتَطَلَعُ اليها كلُّ البَشَرِ على اختلافِ الوانهم ودياناتهم وثقافاتهم، كالتطلعِ نحو العدالةِ والحريّةِ والمساواةِ ؛ لانها قيمٌ مرتبطةٌ بالانسانِ كانسان بغض النظر عن لونهِ وعرقهِ ودينهِ .

 وهذه القيمُ ساهمت كلُّ الحضارات وكلُّ أُممِ الارض في ابرازها، فالحضارة عمليّةٌ تراكميّةٌ، فالحضارةُ الاغريقية تأثرت بحضارة وادي الرافدين وحضارة مصر واضافت اليهما، والحضارة الاسلاميّة، لم تكن مجرد حضارة ناقلة لماعند الاغريق، بل اضافت وطورت وأَبدعت، وكذلك الحضارة الاوربية، فهذا العطاء الحضاري المتواصل والمتراكم هو جهد انساني مشترك .

 هذهِ القيم الكونيّةُ قيمٌ انسانيّةٌ مشتركةٌ ساهمت فيها الانسانيّةُ عن طريق الحوار واللقاء والتواصُل الانسانيّ . وهذه القيم لايمكن أَنْ تُفرَضَ بالقوة . الاستعمارُ الذي فرضَ ثقافتهُ بقوةِ الجُيُوشِ، لايمكن أنْ نسميَّ هذهِ القيمَ المفروضةَ بقوةِ السلاحِ قيماً كونيّةً، ولايمكن ان نُسّمِيَ العولمةَ المتوحشةَ التي فرضتْ انماطَها الاستهلاكيّةَ على شعوبِ الارض، وفرضت رؤية واحدة على شعوبِ العالَم، لايمكن ان نُسّمِي ذلك قِيَماً كونِيَّةً . القيَمُ الكونيّةُ لاتتعارض مع ثقافاتِ الشعوب المحليّةِ . الحضاراتُ المختلفةُ تتعايش وتتحاور وتتبادلُ الثقافات والمعارف والخبرات، وحسب التعبير القرانيّ، الحضارت تتعارف ولاتتصادم، يقول الله تعالى:

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ). الحجرات: الاية: (13).

 الاختلافاتُ بين اممِ الارضِ ليس على كونيّةِ هذه القيم المُشتركة، وانما على تصورات هذه القيم . الاختلافاتُ منشؤُها الثقافات التي هي خصوصيات لكل أُمَّةٍ  أَو شَعبٍ، وهذه الخصوصياتُ لاتسحقها وتلغيها القيمُ الكونيّة ؛ لانها تتعايشُ مع الخصوصيات، وتحترمُ التعددياتِ، وتعتبرها نقاط قوةٍ وثراء . نعم، العولمةُ تسحقُ هذه الخصوصياتِ وتقهرها، وتفرضُ عليها نمطاً احادياً من التفكير، ورؤيةً واحدةً، وثقافةً واحدةً .

 البشريةُ بحاجةٍ الى قيمٍ كونيّةٍ عابرةٍ للحدود والخصوصيات والثقافات، تشكّلُ معاييرَ تحتكمُ اليها، مع احتفاظها بخصوصياتها وتنوعاتها الثقافيّة .

 

زعيم الخيرالله

 

الفلسفة البنيوية والعود الفلسفي

التفاصيل
كتب بواسطة: علي محمد اليوسف

علي محمد اليوسفتقديم: هل نستطيع ويحق لنا التساؤل كيف تموت الافكار بالحياة؟ هل تموت الافكار كما يحكم الموت الانسان بالفناء؟ هل الافكار القديمة تموت بالتجديد المضاف عليها؟ هل الافكار تفنى وتموت بلا رجعة كما يفنى ويموت الانسان؟ هل الابداع الادبي والفني والمعرفي هو تراكم كمي ونوعي واقعي - خيالي لا يندثر ولا يموت؟ هل أفكار الايديولوجيا والفلسفة والسرديات الكبرى يأفل بريقها ويزول تاثيرها القيادي بالحياة في تطبيقها المسخ على أرض الواقع بعيدا عما تحمله من رؤى منهجية نظرية أصلاحية في محاولة نقل المجتمعات من مرحلة تاريخية الى أخرى افضل منها وتخفق بمسعاها نتيجة التطبيق الفاشل للافكار الصائبة؟ وهل أفول الافكار الفلسفية مرحليا على طريق أستحداث ما يتجاوزها بنفس المنهج والاسلوب الذي يطال الايديولوجيا السياسية بالافول المتلاشي، كون جميع مناحي الحياة هي حركة دائبة من التطور الذي لا تحده حدودا ولا يتوقف في مرحلة منها زوال تأثير الافكاراللاحق على السابق؟ ...هل نستطيع القول أن للافكار الفلسفية والمعرفية العامة دورة حياة انبعاثية تستحدث نفسها تاريخيا لاحقا باستمرار بمعنى مقارب ماصحة مقولة التاريخ يعيد نفسه وكيف ينطبق هذا على الافكار؟  وهل أن الافكار طاقة مادية لا تفنى ولا تستحدث من عدم.؟ هل يمكننا تكرار توصيف هذا الانبعاث الارتدادي في العودة التاريخية مجددا لافكار غادرناها بالتجديد المضاف عليها؟ بمعنى أكثر وضوحا هل يبقى للافكار من تاثير علينا في اندثارها الحاضر بماهي تجديد طاريء عليها طارد لها  متجاوزعليها زمانيا؟

هنا بهذا المقال ليس المقصود بالعود الوجودي هو نسخ كاربوني لنفس الصيغة الميتافيزيقية التي نادى بها نيتشة بالعود الابدي في عودة كل شيء حدث كما كان قبل تواريه الاندثاري الزماني المؤقت في دورة حياتية دائرية لا تنتهي من الاعادة والتكرار.؟

ماهي الاسباب التي تجعلنا نحكم على أفكار أندثرت من حياتنا، لكنّا نجدها في مراحل متقدمة من مسيرتنا التاريخية الحياتية ماثلة أمامنا وخطأ أرتكبناه بحماقة توجب علينا العودة لاحيائها من جديد في معالجتها الصحيحة لقضايا تهمنا في حاضرحياتنا... وهل كل الافكار والنظريات التي غادرتنا وأصبحت ماضيا لم تعد لها حاجة في حياتنا الراهنة والمستقبلية؟

الفيلسوف الذي عالج هذا الاشكال الاستعصائي بجدارة وأقتدار ادبي - فلسفي هو سارتر الذي ضّمنه اربعا من مسرحياته ورواياته الفلسفية كنت استعرضتها في مقالة مستقلة منشورة بعنوان (سارترالعود الوجودي الفلسفي). وبهذا المقال أرغب شد الانتباه الى ما أنجزته البنيوية من ثورة فلسفية أصبحت ايقونة العودة المستمرة لها ضرورية. بمعنى تراكم الفكر الفلسفي كميّا على صعيد الشمول الخطّي الافقي كتاريخ متطور دوما، هو في حقيقته تراكم شاقولي نوعي من العسير والصعوبة أندثاره من حياتنا. ربما نقرأ بعض الافكار في أبعاد زمنية ثلاث الماضي، الحاضر، المستقبل، هي تحقيب لحقيقة وجودنا الارضي متناسين أن الافكار الحيّة لها دورة حياة تجعلنا نحن نعيش زمن الماضي الاندثاري بيولوجيا لتكون هي الحضور الزماني الدائمي المتحكم فكريا بالحياة.

التاريخ والذاكرة

نجد مهما التفريق بين تجزئة الوقائع والاحداث كتاريخ يحتويها الماضي، عن تجزئة الافكار التي هي استذكار الحاضر المتعالق مع الذاكرة في قراءة الماضي واستذكاره. هل تستتبع وحدة وقائع التاريخ الماضي في نسق زماني منتظم ثابت في اركيولوجيته الماضية، أن تلازمه وحدة الافكار الاستذكارية التجريدية عنه.؟

تختلف تجزئة الوقائع والاحداث كتاريخ عن تجزئة الافكار المعّبرة عنها، التاريخ هو الماضي بوقائعه وأحداثه، أكتسب صفة النظام النسقي الذي لا يسبق المابعد الماقبله فيه، لذا يكون التاريخ كوقائع محدودا بمحددات زمانية تحقيبية لا يمكن القفز عليها أو العبور من فوقها في مجاوزتها.

فوقائع التاريخ محكومة باركيولوجيا الحفرالاثاري التدويني التوثيقي المتجدد دوما الذي لا يتقبل  التجزئة ولا التقسيم في طمس تسلسله النظامي كزمن يحده التاريخ الذي هو في المحصلة فكر سابق على أستذكار الذاكرة والخيال له. الوقائع التاريخية أكتسبت الماضي الثابت الذي لا يمكن تغييره اركيولوجيا بالنسبة للمؤرخ، بينما الافكار التي تعّبر عنه يمكننا تجزئتها والاجتهاد التقسيمي لها، بمعنى كل فكر يستحضر التاريخ كماض هو فكر متغيرفي بنية من السيرورة الدائمية ولا يشمل هذا التغيير زمانية التاريخ كوقائع وأحداث بل يشتمل الرؤى الجديدة في البحث والتنقيب عنه وتوثيق حقائقه الجديدة..

الفلسفة البنيوية والعود الفلسفي

بعد أفول نجم الفلسفة الوجودية نهاية عقد السبعينات من القرن العشرين، ظهرت الفلسفة البنيوية في هيمنة غير مسبوقة على مجمل الفلسفات القارة عالميا. تشعبت تلك الهيمنة بما طرقته البنيوية من مباحث فلسفية متنوعة وعديدة، مثل الانثروبولوجيا، فلسفة اللغة وعلوم اللسانيات، علم النفس، السرديات الكبرى مثل الماركسية وميتافيزيقا الاديان والادب. كل هذه المباحث وغيرها العديد أنضوى تحت لوائها عمالقة الفلسفة البنيوية التي أستهوتهم طروحات ما بعد الحداثة في وجوب مجاوزة كل الثوابت الفلسفية التي قامت عليها سابقا فلسفات الحداثة التي أهتمت بتمجيد الانسان كذات وقيمة عليا بالحياة، وتبجيل العقل كمرجعية انقاذ، وأدانة الميتافيزيقا كمهيمن أعاقة تحررية، وهيمنة التكنولوجيا وتسارعها العلمي، وغير ذلك من ثوابت كانت مهيمنة على قضايا الفلسفة وتاريخها قرونا طويلة بأسم ما عرف بالحداثة الاوربية... هنا ليس مهما معرفة قيمة المنجز المتحقق في مباحث الفلسفة البنيوية وهو كثير بمقدار أن أهمية الفلسفة البنيوية القيمية هي بما فتحته من آفاق معرفية فلسفية جديدة لم تكن سابقا تشغل ولا حتى أهتمام الهامش الفلسفي بالقياس الى قضايا الفلسفة الكبرى التي توارثت هيمنتها عبر العصور الطويلة من تاريخ الفلسفة وركنت خارج هيمنتها المركزية ما أصبح جديرا بالعناية الفلسفية أكثر من مباحث المركز.

البنيوية خلخلت البنى الاجتزائية المحدودة وطرحت وجوب أعتماد انساق بنيوية كلية شاملة لا تضيّع قيمة شيء جزئي جديرا بالاهتمام الفلسفي في توخي عدم تشتيت التوجه نحو معالجة القضايا الفلسفية الكبرى المهمة والتي لم تمت ولكن جرت محاولة نسيانها الاندثاري في بطون التاريخ..

من المهم التنبيه الى أن البنيوية لم تستنفد طاقتها الفلسفية بمراجعة تاريخ الفلسفة كما هو سائد لدى معظم الفلاسفة ولعصور طويلة. ما نعنيه أن التراكم الفلسفي البنيوي عموديا وأفقيا لم ينبثق جديدا في لاعلاقة نقدية جسورة تحكمه قامت بتعرية الزيف الفلسفي المتداول على مر العصور في عملية نقد مستمر لما سبق في تاريخ الفلسفة وقراءته قراءة جديدة غير مسبوقة، ومن هذا النقد الفلسفي المستمر لتاريخ الفلسفة نشأت المفاهيم الجديدة التي هي ايضا بدورها لم تخلص نفسها من تناول النقد الفلسفي لها. وبقيت أرهاصات الفكر الفلسفي القديم حيّة لم تمت رافقت وزامنت الكثير من التجديد الذي بني عليها.

البنيوية بنزعتها المتطرفة لا بل العدائية تناوشت على وجه التحديد مناوأة كلا من الماركسية، والفلسفة الوجودية، وكلتا الفلسفتين بقيتا الى اليوم تفعل فعل المرجعيات القارة حيويا في تداخلها الفلسفي مع طروحات البنيوية بميراثها القديم الذي تمتلكه وليس بجديد استحدثته المواجهة مع البنيوية. بمعنى كل عظمة البنيوية كفلسفة شمولية رافقت ما بعد الحداثة عالجت الكثير مما عجزت عن معالجته الماركسية والوجودية الا انها أخفقت أن لا يكون لتلك الفلسفتين حضورا لم يستطع يدّخره تاريخ الفلسفة في طي النسيان. أفكار الفلسفة وغير الفلسفة بعضها لا يموت في تقادم الزمن عليه. ومن هنا لم تمت الماركسية تاريخيا ولم تمت الوجودية ولا البنيوية فلسفيا.

من جانب آخر أعطت البنيوية بما تمتلكه من فضاءات فلسفية الحرية التامة لفلسفات نشأت وتغذّت (فضاء) الحرية في الاجتهاد الذي حملته، فهي أعطت المجال لفلسفة اللغة وعلوم اللسانيات أن تاخذ مجالها الحيوي في المتراكم الذي بقي متعالقا بها مثل فلسفة العقل ونظرية المعنى والتحول اللغوي والتحليلية المنطقية الانجليزية، والتحليلية التجريبية المثالية عموما وهكذا.

مع كل هذا لم تتمكن تلك التيارات الفلسفية زحزحة وأخراج الفلسفة البنيوية من حضورها الدائم في المشهد الفلسفي الذي كان له تاثيرا قويا في فلاسفة القارة الاوربية والاميركان الذين كانوا قبل ظهور الفلسفات الفرنسية المتعاقبة طيلة القرن العشرين، كان سابقا محذورا عليها من منطلق تداخل فلسفي غير ايديلوجي مجرد التفكير بمنازلتهم تيارات فلسفية فرنسية يثير اليأس والقنوط في انعدام الندّية لفلسفات فرنسا الدخول في معترك المواجهة مع اولئك الفلاسفة وتياراتهم الفلسفية..

خير دليل على ذلك هو في عجز التاويلية والتفكيكية والتحليلية الانجليزية بكل ثقلهم المتفرد لم يتمكنوا القضاء على المنطلقات الفلسفية البنيوية التي تمكنت أزاحة كل من الماركسية والوجودية عن طريقها بمعنى التنحية في ملء الفراغ وليس بمعنى أماتة تلك الفلسفتين كمرجعيتين قارتين دائمتي الحضور التاريخي بالفلسفة والفكر المعرفي الاستراتيجي الى اليوم.

ما قامت بانجازه فلسفة اللغة واللسانيات في التحول (اللغوي) قامت به البنيوية في مجال التحول (الفلسفي) بكفاءة ومقدرة ولم يكن سهلا مواجهتها في المزاحمة. رب أعتراض وجيه يقول البنيوية في أستحواذ فلاسفتها العظام على المشهد الفلسفي وأحتكارهم له جعلت من التشتيت والتبعثر في مباحث الفلسفة مسألة مفروغ منها. وهذا لا يقلل من منجز البنيوية الذي أضطلع تنفيذه عمالقة فلاسفة القرن العشرين سوسير، شتراوس، التوسير، فوكو، لاكان، وبياجيه، وبارت، ديلوز، وريكور وغيرهم من الذين دأبوا على أن لا يكرر أحدهم الاخر ولا يعتاش أحدهم على فلسفة الاخر والسبب هو الفضاء المفتوح الواسع الذي فتحت البنيوية الفرنسية أبواب آفاقه الفلسفية الذي أثّر في فلاسفة الانجلو سكسونية في عقر دارهم،. أخذت فلسفات عديدة مركزية التحول اللغوي وبنوا عليه العديد من المسارات الفلسفية التي وصلت الى قلب الجامعات الامريكية التي أستقبلت المنجزات البنيوية الفرنسية على مضض نقدي لم تهضمه. وهو ماحصل مع ريتشارد رورتي، جلبرت رايل الانجليزي، وراسل ومور ووايتهيد وجون سيرل، وسانتيانا وكارناب وغيرهم. فهؤلاء جميعا وغيرهم كانوا منقادين لفلسفة اللغة والعقل والوعي الفرنسية ولكن بحذر شديد تحدوهم رغبة الاحتواء لتلك التيارات الفلسفية الفرنسية وليس الانقياد خلفها.

لذا تعامل الفلاسفة الاميركان مع صرعات وتيارات الفلسفات الفرنسية على أنها ليست أكثر من موضات مآلها الاندثار والتراجع عن أمتلاكها بريق الفلسفات الاولى الجديدة لمرحلة تاريخية طويلة. وكذا الحال جرى مع تصورات فلاسفة التحليل الانجليز محاولتهم استيعاب فلسفة اللغة في عدم الانقياد وراءها وفشلت.

عديدة هي التيارات الفلسفية التي عاشت على هامش مركزية البنيوية لعل أبرزها التاويلية والتفكيكية والعدمية والتحليلية وغيرها. في تداخلها مع ما قامت به البنيوية فتحها ابواب فلسفة اللغة والتحول اللغوي ونظرية فائض المعنى اللغوي على يد دي سوسير وبياجيه ورولان بارت. انها أي البنيوية وجدت نفسها ستضّيع مساراتها الفلسفية المتعددة الكبرى لذا نجد أبرز فلاسفتها أهتموا بمباحث فلسفية أخرى لا تقوم على مركزية الدوران حول فلسفة اللغة وعلوم اللسانيات وأن لم يهملوها تماما.

لعل فوكو وشتراوس ولاكان والتوسير خير أمثلة على أنهم لم تستوعبهم فلسفة اللغة وصرف أنتباههم عن مشاكل وقضايا فلسفية تحسب للبنيوية الريادة لها بامتياز. فقد كان أهتمامهم بالسرديات الكبرى ونقدها، والانثربولوجيا والحفر الاركيولوجي، ومراجعة أفكار فرويد في علم النفس، ومعنى القراءة الجديدة للنص، وقضايا عديدة جميعها لم تشتغل على مركزية تحليل اللغة بما يصرف ويشتت الانتباه والجهود الفلسفية معالجة قضايا فلسفية كبرى جديدة على تاريخ الفلسفة طرقت ابوابها الفلسفة البنيوية وفتحتها أمام الاجتهاد الفلسفي عالميا.

البنيوية التي فتحت آفاق فلسفة اللغة وما يتعالق معها من فلسفات متداخلة، وجدت نفسها أمام مسؤولية رد الاعتبار وتخليص ما سيعقبها من فلسفات غاطسة في فلسفة المعنى واللسانيات، لذا نجد البنيوية حين تجنبت الغرق في قضايا فلسفة اللغة، أنما أرادت من غير وعي ولا قصد منها تجنيب فلاسفة مابعد البنيوية السقوط في مستنقع نظريات اللغة الذي اغرق تلك الفلسفات العديدة ولم تستطع الخلاص منه. وأول من التزم هذا النهج هي البنيوية ذاتها حين وضعت فلسفة اللغة والتيارات الفلسفية المعتاشة عليها جانبا وأهتمت بقضيا فلسفية كبرى لم يكن الدوران حول مركزية تحليل وتفكيك وتاويل اللغة من بينها أو يهمها كفلسفة مركزية أولى رغم أقرار معظم فلاسفة القرن العشرين أن فلسفة اللغة والتحول اللغوي ونظرية المعنى، وفلسفة العقل واللسانيات والتحليل اللغوي هي الفلسفة الاولى طيلة عصر القرن العشرين والى اليوم بلا منازع.

حين أفل نجم فلاسفة البنيوية بعد وفاة العديد منهم وجدت الفلسفات التي كانت تعتاش على هامش التنظير البنيوي الفلسفي أنها أصبحت هي المهيمن والمرتكز الذي تدور حوله بقية التيارات الهامشية لكنها فشلت في مقدمتهم تأتي التاويلية والتفكيكية والتحليلية والتاريخانية وغيرها كفلسفات حاولت شغل كرسي المركز أن تكون محاور لهوامش فلسفية تتبعهما ولم تجد نفسها بالنتيجة أكثر من فلسفات وحيدة متباعدة في المحصلة النهائية أخذت طريقهما الفلسفي الآفل.

ثمة وجه مقارنة يحضرنا هنا حين أرادت البنيوية التمرد أن لا تكون هامشا يدور حول مركزية الماركسية أو الوجودية، ولا تابعا فلسفيا زائلا في عدائها الشديد لكل منهما،، فماذا كانت النتيجة؟ النتيجة بقيت تشير بوضوح الى أن الافكار العظيمة لا تموت ولا تندثر ولا يزول تاثيرها بالحاضر والمستقبل. من الملاحظ أن البنيوية كما هي الماركسية والوجودية لم تنطفئ شعلتها لتوقد بضيائها طغيان فلسفة اللغة والتحول اللغوي ونظرية المعنى وفلسفة العقل واللسانيات بمجموعها.

مسار التحول اللغوي الذي بدأ مطلع القرن العشرين والذي ساهمت البنيوية فيه على يد دي سوسير، قابلته البنيوية بمعالجة قضايا فلسفية كبرى جديدة بعيدا عن مركزية اللغة الذي لم تستطع هضم الفلسفة البنيوية في تعدد اشتغالاتها خارج فلسفة اللغة. ومختلف الاتجاهات الفلسفية اللغوية التي ملأت القارة الاوربية ووصلت الجامعات الامريكية غالبيتها تم تفريخها في مفقس البنيوية الفرنسية تحديدا. ولم تمت افكارها الفلسفية الجديدة لحد الآن.

 

علي محمد اليوسف/الموصل

 

الدوغماتية.. مرض حكّام العراق

التفاصيل
كتب بواسطة: ا. د. قاسم حسين صالح

قاسم حسين صالحتعدّ (الدوغماتية) احد أهم واخطر اسباب الأزمات السياسية والاجتماعية في العراق والعالم العربي.ومع ذلك فان السياسيين والاعلاميين يتعاملون معها كتعامل من ينشغل بوصف اعراض المرض ولا يلتفت الى تشخيص سبب العلّة..التي نكشفها لكم الآن.

تعني (الدوغماتيةDogmatism): الجمود العقائدي، الجزمية الفكرية، القطعية، العقيدية..غير ان اكثرها تداولا هو اصطلاح الجمود الفكري.ولقد انشغل الفلاسفة بتحديد مضمونها، فمنهم من وصفها بانها طريقة منغلقة للتفكير، يمكن ان تصاحب اية ايديولوجية بصرف النظر عن محتواها ما اذا كانت دينية او علمانية.ومنهم من وصفها بانها تنظيم معرفي مغلق نسبيا خاص بمعتقدات ولامعتقدات الشخص بخصوص الحقائق والوقائع والسلطة المطلقة، فيما حددها آخرون بعدم قدرة الفرد على تغيير افعاله او اتجاهاته حتى لو تطلّب الموقف ذلك، وحددها آخرون بأقوال مطلقة من غير سند او برهان، وصنفها آخرون بانها صفة الأفراد الذين يسعون الى فرض آرائهم بالسلطة، او بالنفوذ، وانتهى آخرون الى انها الاعتقاد الجازم واليقين المطلق المستند الى مباديء تقليدية راسخة دون البحث عن وجه الحق في التسليم بها.

ولأن الجمود الفكري (الدوغماتية) يعدّ من وجهة نظر علماء النفس والاجتماع السبب الرئيس للخلافات السياسية التي غالبا ما تنتهي بحروب، وأنه (مرض) خالقي الأزمات من القادة السياسيين، فقد ظهرت حوله نظريات اشهرها نظرية روكيتش التي تناولها في كتابه (العقل المنفتح والعقل المنغلق).وعلى وفق هذه النظرية فأن الافراد منفتحي العقول (غير الدوغماتيين، غير االمتطرفين)، هم الذين يقبلون التخلّي عن بعض معتقداتهم اذا ما اقتنعوا بخطئها، ويقبلون الافكار الجديدة اذا ساندتها ادلة قوية. اما الافراد منغلقي العقول (الدوغماتيون، المتطرفون) فهم الذين يرفضون الافكار الجديدة مهما كانت قوة الادلة التي تساندها، ويتشبثون بمعتقداتهم القديمة حتى ان ثبت خطؤها.

وعلى وفق نظرية التصنيف الاجتماعي فان الناس ينزعون الى تصنيف عالمهم الاجتماعي الى صنفين " نحن " (أو الجماعة الخاصة بالفرد) و"هم" (أو الجماعة الاخرى). وانهم يتحيزون لجماعتهم ويبالغون ويعظّمون ايجابياتها ويغمضون اعينهم عن سلبياتها، فيما يعمدون الى تضخيم سلبيات الجماعة الاخرى وغضّ الطرف عن ايجابياتها، وهذا ما كنّا نحتنا له مصطلحا جديدا بعلم النفس بأسم (الحول العقلي)، واثبتنا ان حكّام العراق..حولان في السياسة.

لقد توصلت الدراسات السيكولوجية الى ان الدوغماتي( الجامد فكريا) لا يسمع الا نفسه ولا يرى غيره ولا يتقبل الرأي الاخر، وليس هذا بسبب عدم كفايته الشخصية وانما بسبب شعوره بأنه منبوذ من قبل الآخرين، وهذا ما حدث لقادة احزاب الأسلام السياسي في العراق في انتخابات 2018 التي عزف عن المشاركة فيها اكثر من 80% من الناخبين العراقيين.

ولك ان تراقب حكّام العراق تجد أن اغلبهم يسارع الى رفض أي دليل او مناقشة تتعارض مع معتقداتهم، وينظرون الى الامور الجدلية على انها ابيض واسود فقط، وغير قادرين على التخلي عن ارائهم حتى لو بدا لهم خطؤها، بعكس صاحب الفكر المنفتح الذي يتشوق لمعرفة الجديد سواء كان موافقا لما يرى ام مخالفا له.

والمفارقة ان صاحب الفكر المنغلق لا يشعرك بأنه شخص عقلاني منطقي، كقول من كانت امور العراقيين بيده بأن العلمانية كفر وزندقة، لأنه متخندق مع نفسه ومتبرمج على معتقدات ومفاهيم جاهزة وقطعية..يحفظها عن ظهر قلب، دون ادنى اعتبار لمشاعر الآخرين، سيما اذا كان الشعب متنوع المكونات والمعتقدات كالشعب العراقي الذي يحتاج الى حاكم منفتح عقليا.

والدوغماتية تفضي الى التعصّب وتعمل على تشكيل شخصية بمواصفات معينة، اوضحها..صلابة الرأي التي لا تسمح له بأن يتزحزح عنه، والميل الى التسلط والعدوان الذي يسقطه على الجماعات او الاشياء التي يتعصب ضدها.وسيكولوجيا، يجد المتعصبون في احقادهم على الاخرين تفسيرا مبررا عن دوافعهم ورغباتهم المكبوته بما فيها الانتقام، ويعدون التسامح مع الخصوم ضعفا او جبنا، ولك ان تتذكر ما حدث بين عامي (2006 و2008) التي راح ضحيتها الآف الأبرياء من العراقيين بسبب دوغمايتهم.

وللتاريخ، كانت الدوغماتية هي التي اسقطت (الأخوان) في مصر، وهي التي ادخلت في نفق مظلم فريقي الصراع في اليمن (الحكومة والحوثيون) اللذين تفاوضا في الكويت (نيسان-ايار 2016) والى الآن(2021) ما تفقا!. والمفارقة ان الدوغماتية كانت هي السبب في بقاء سياسيين عراقيين في السلطة سبعة عشر عاما برغم انهم افشل وافسد من حكم العراق في تاريخه السياسي، بأن نجحوا في ايصال معظم العراقيين من ذوي الاصابع البنفسجية الى ان يكونوا في دوجماتيتهم مثل حصان العربة..لا يرون الا الذي امامهم، حتى اذا كان في حساباتهم احتمال ان يكون طريقهم الى..المقبرة!.

*

أ. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

 

 

 

علي القاسمي وشهادات المغاربة له بالريادة الفكرية (1)

التفاصيل
كتب بواسطة: د. محمود محمد علي

محمود محمد عليما زلت أؤمن بل ربما أكثر من أي وقت مضي بأن الأستاذ الدكتور "علي بن الحاج محمد بن الحاج عيسى بن الحاج حسين القاسمي" (المعروف بالدكتور علي القاسمي) ليس مجرد أستاذ جامعي عراقي عادي يعمل في دولة المغرب الشقيقة، فمعرفتي عن زملائنا المغاربة أنهم ينظرون إليه بوصفه رمزاً من أبرز الرموز العراقية في مجال في مجال اللسانيات - تخصُّص المعجمية؛ كما يمثل لهم أيضاً قيمة كبيرة وشعلة من التنوير الفكري التي بدأها منذ أكثر نصف قرن باحثاً ومنقباً عن الحقيقة والحكمة. إنه الباحث عن سبيل يحفظ للإنسان حريته وكرامته فهو ينقب في ثنايا علم المصطلح، صناعة المعجم، الترجمة ونظرياتها، التنمية البشرية، حقوق الإنسان، القصة القصيرة، الرواية، النقد الأدبي المعاصر، التاريخ الفكري.، لكنه لا يسلم به من ما يكتب عنه من قبل زملائه الباحثين، بل لديه قدرة عظيمة علي أن يلقي بنفسه في خضم المشكلات المطروحة، ويشق لنفسه طريقه الخاص غير عابئ بما يقوله هذا العالم أو ذاك من الأعلام الشوامخ.

وإذا كنت لم ألتقي بالدكتور علي القاسمي إلا أنني أستطيع أن أقول عنه من خلال معرفتي القصيرة به؛ بأنه يعد بحق أحد القامات الأدبية الرفيعة الباقية في العراق والعالم العربي، ومهما كُتبت عنه فلن تأتي الكتابة، مع الجهد المبذول فيها، وافية لحقه مقرّرة لحظه الوافر من العناية بمبدعي الفكر واللغة والأدب .

فالرجل لعلمه الغزير وثقافته الواسعة، ولأخلاقه الأصيلة، مطبوع على البحث والدرس والتفكير، أمين غاية الأمانة فيما يكتب ويستخلص من مباحث، وآراء، فهو والله حلو المعشر، جميل الأحدوثة، يجذبك برُقيّه، وسمو روحه، وفكاهته، إلى درجة تعجب فيها أن تصدر تلك الفكاهة عن لغوي ومعجمي ومحقق وأديب وفيلسوف، عاش بين الآراء الجادة والمباحث العميقة سنوات عمره المنتجة، ولم يفقد مع ذلك روح الدعابة والمرح؛ لكأنه يريد أن يلطّف جفاف الفكرة بخفّة الروح الحانية.

أنا شخصيّاً أحببته بما سمعت عنه بأنه كان عميق الفكرة، خفيف الظل، يألفه النظر، ويعشقه القلب من أول وهلة، لا يضنّ برأيه على مسترشد، ولا يتهجم في وجه طالب علم، ولم يعرف لسانه العف كلمة نابية، ولم تكن الأخلاق التي قضى حياته يدرسها، ويدرّسها، وينظّر لها، ويحللها، مُجرّد أقوال لعلماء اللغة والأدب بل كان يستقيها من روحه ويستدعيها من ضميره، يستحضرها حيّة عاملة فاعلة لتكون فيه حقيقة لا صورة.

ولأجل ذلك شهدوا له إخواننا المغاربة المتخصصين في علوم اللغة والأدب بالفضل، وشهادتهم لم تأتي تملقاً، ولا رياءً، فهم يقدرون العلماء حق قدرهم، وقديماً قيل " لو كان العلم في الثريا لناله رجال من فارس" (وفارس هنا يُقصد بها أرض العراق القديمة)، فمن فارس خرج منها، أبو الأسود الدوؤلي، سيبويه، وأبو زكريا الفراء، وأبو كر السراج، كذلك خرج منها علي القاسمي ليستقر في المغرب، والمغاربة لا يأوون أحد بينهم بسهولة إلا كان بالفعل يستحق ذلك.

ولا أنسي الدراسة الشيقة والرائعة التي كتبت عنه في سفر ضخم بعنوان " الدكتور علي القاسمي سيرة ومسيرة .. مجموعة بحوث ودراسات مهداه إليه بمناسبة عيد ميلاده الخامس والسبعين" والتي صدرت عن دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر بجمهورية مصر العربية، والذي أعده الناقد الأديب الأستاذ عبد الرحيم العلام - الأستاذ عبد الرحيم العلام، رئيس اتحاد كتّاب المغرب.

وهنا أستأذن القارئ الكريم باختيار نماذج من العلماء والمفكرين المغاربة الذين أدلو بشهادتهم في حقه من خلال البرنامج الذي أذيع بالمغرب العربي تحت عنوان " الدكتور علي القاسمي في ضيافة الرواية المسافرة"، ونختار شهادة الدكتور عبد المالك أشهبون، والدكتور "عبد الرحيم وهابي، والدكتور محمد الفتحي، والدكتور عبد الواحد المرابط، وعبد السميع بنصابر..

نبدأ بشهادة الناقد المغربي الدكتور عبد المالك أشهبون وذلك من خلال دراسته النقدية هذه البحث عن مظاهر التجديد في متون السردية (الروائية والقصصية) عند علي القاسمي؛ حيث قال: يعد علي القاسمي من الكتاب المشارقة الذين كتبوا سيرتهم الذاتية بطرقة مباشرة أو غير مباشرة مستحضرين المغرب محطة رئيسة في ترحالهم خارج الوطن الأم .. من أبرز تلك السير نذكر علي سبيل المثال لا الحصر أيام الرباط الأولي للكاتب والصحفي السوداني طلحة جبريل وكتاب "بعض مني" للناشط الفلسطيني البارز واصف منصور، وكتاب جدل الأنا والآخر للمرخ فارس محمود إسماعيل، وأخيراً وليس آخراً السيرة الروائية الموسومة بعنوان "مرافق العشق السبعة" للكاتب والأكاديمي العراقي المقيم في المغرب علي القاسمي، كما أن هناك بلدانا رسخت في دخيلة علي القاسمي وطأة الاغتراب كالولايات المتحدة علي سبيل المثال، فإننا نجد أن هناك بلداناً أخري مكنته من الاستقرار، ووفرت له الحد الأدني، من الدفئ النفسي والدعم المعنوي، وذلك ما حصل له عند وصوله إلي المغرب في سبعينيات القرن الماضي في مهمة أكاديمية لإلقاء الدرس بجامعة محمد الخامس بالرباط ليتحول هذا اللقاء العابر إلي رباط آسر وعروة وثيقي لهذا البلد .. ومن المؤكد أنه أحياناً يكون الدر في الوطن الغربة والعدل في الغربة وطناً ثاني تمشياً مع جوهر هذا القول، اعتبر القاسمي إحدى شهاداته، المغرب بلده الثاني بعد العرق، حيث يقول في هذا المضمار:" أكثر من خمسة وثلاثين عاما بدأت أحس أن حب المغرب تغلغل في حنايا الروح وسويداء القلب ورحاب الفكر، وإني من المغرب والمغرب مني "... وهذه الشهادة تعبر بصدق عن علاقة المغرب أو علاقة علي القاسمي بالمغرب .. من هنا لم يكن المغرب مكاناً للعبور إلي مرافق أخري بالنسبة لعلي القاسمي، بل فضائاً جتاباً وآسراً حميمياً فيه عوض عثراته حين لاذ بلوحته وارفة الظلال، بل وجعل هذا البلد مستقر حيث لم يبرحه إلا لكي يعود إليه مشتاقاً، حتي أصبح علي مر السنين جزء من سيرته التي تتعدد وتتنوع منها ما هو معرفي أكاديمي ومنها ما اجتماعي ومنها ما هو وجداني عاطفي، فقد كان التفكير في الرحلة إلي المغرب يسوده الكثر من علامات الاستفهام في البداية، وحين حل علي القاسم ضيفا هذا البلد سيفسح له الحياة في ربوعه طولا وعرضا، ذهاباً وإياباً، زائراً أو مقيماً، حيث سينتقل في المقام المغربي من ممارسة التدريس إلي المغرب وخارجه والعودة إليه مرة أخري إلي مزاولة مهام جديدة – فكرية، وفلسفية، وأكاديمية، وإدارية، أبلي فيها كل البلاء الحسن، وفي ذات الوقت سمح له المقام في المغرب، أن يكتشف حقولاً بعيدة وعميقة من العشق المغربي للعراق، وبانفتاحه علي المثقفين المغاربة الذين وجدو فيه قلماً رصيناً في الابداع والبحث الاكاديميين، له مني كل التقدير والتحية..

كما قال عنه الباحث المغربي الدكتور "عبد الرحيم وهابي " (الحاصل علي شهادة الدكتوراه في التواصل وتحليل الخطأ والحاصل أيضا علي جائزة كتارا للرواية العربية): بأنه هذه ليست المرة الأولي التي أشارك فيها للحديث في قراءة أعمال علي القاسمي، فقد سبق أن تحدثت عنه في عام 2013 بالمركز الإعلامي بمدينة "فاس"؛ حيث تحدثت عن بعض كتبه، مثل كتاب "سيرة ومسيرة"، وكتاب في اللسانيات والآداب والترجمة، علاوة علي كتب أخري، وهنا يمكننا القول بأنه قد يصعب الإحاطة في دقائق لإحصاء المشروع العلمي والاكاديمي والأدبي للدكتور علي القاسمي، وذلك نظراً للمجالات الكثيرة التي كتب فيها، وأغني بها الخزانة العربية في الترجمة المعجمية والمصطلحية والنقد الأدبي إلي آخره، ولكني سأركز علي خصائص أفكاره العامة والتي التي طبعت كتاباته الثرية والتي يمكن أن أجملها في ثلاثة خصائص، الخاصية الأولي، وهي تلك الرؤية الفلسفية والفكرية التي تطبع أعماله وقدرته علي إثراء المعرفة وجعل الرواية موسوعة تتناثر بها الأفكار والآراء والثقافات، فالسرد عند "علي القاسمي" دائما يستبطن رؤية فلسفية؛ حيث يستعيض آراءه في قضايا وجودية وإنسانية وأدبية وفلسفية مستقبلاً مجموعة من الطرفات مع عدد من المفكرين والأدباء، بل إنه قد يجعل من عنصر ما خلفية للتعبير عن هوية وجودية كما فعل مع عنصر ما في رواية " مرافي الحب السبعة" وكنت قد كتبت دراسة حول هذا الموضوع نشرتها في إحدى المجلات بينت فيها كيف جعل السرد عنصرا ما مهيمنا ومحركا للحديث ومعبرا عن الذات السعيدة، وفي هذا السياق نشرت مقالا بعنوان " ما وراء الحكي في رواية " مرافي الحب السبعة"، بينت فيها كيف يتحول السرد في بعض المواقف إلي ناقد يقدم آراءه عن خيال وهو باسم الكتابة وقضايا القراءة وطبعا هذه سمة عامة تتبع كتابات أو روايات ما بعد الحداثة .. الخاصية الثانية والتي تتبع السردية عند "علي القاسمي" هي جعل السرد خلفية للتعبير عن الهويات العرية والثقافية والسياسية إلي آخره، فالشخصيات لا تعبر عن ذاتها بقدر ما تعبر عن انتمائها ولذلك فالشخصيات عند علي القاسمي هي من جنسيات وهويات مختلفة حيث تحضر هوية كردية وهوية أمريكية وهو أوربية والهوية السوداء والهوية اليهودية إلي آخره، ومن هنا يحقق علي القاسمي في كتاباته السردية ما يسميه بحث متعدد الأصوات وهي أصوات يستطلعها علي القاسمي لإلقاء الضوء علي الكثير من الرواية التاريخية والاجتماعية والسياسية إلي آخره .. الخاصية الثالثة والتي سأقف عندها الطاقة التأويلية والتي تنطوي عليها أعمال علي القاسمي السردية كما هو الشأن مثلا في رواية " مرافي الحب السبعة" حيث الاقتباس عن امتداد الرواية بين الخيال والواقع، بين الرواية والسيرة الذاتية، إذ علي الرغم من أن "علي القاسمي" جعل " مرافي الحب السبعة" رواية، لكن القارئ يلاحظ ذلك التقاطع العجيب بينها وبين سيرته حيث يتنقل البطل بين العراق وبيروت وأوسلو وأمريكا والمغرب ويمس الأماكن التي عاش فيها "علي القاسمي" .. إذن فهناك هذا الارتباك علي مستوي النص وتأويله أهو رواية أم سيرة ذاتية!، كما يستثمر "علي القاسمي" في كل أعماله القصصية والسرد والرواية وضوع الحلو وهناك دائما أحلام يفردها البطل ويترك تأويلها للقارئ مثلا شكل الحلم بؤرة .. وللحديث بقية ..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط.

 

 

بين رهبتين.. لذاذة النثر وترف المعنى

التفاصيل
كتب بواسطة: محمد خالد النبالي

محمد خالد النباليقراءة انطباعية لنص الأديبة والشاعرة خيرة مباركي

نص شعري كعبه عالي بهذه اللغة المنسابة كالغدير بكل سلاسة المفردة، تحمل بطياتها دلالية وعمق. وتناغمية أضافتها الشاعرة لهذه النثرية. فنشعر بأنه نص مموسق دون إسقاط النثر. ومع هذا الانسياب السلس يشعر المتلقي براحة في النفس. فاللغة رغم الوجع ورغم العتاب والغياب وحالة التشظي، إلا أنها لغة رغم قساوة الموقف وصعوبته تنساب سلسة وهذا يعطينا انطباعا عن نفسية الشاعرة وحالتها الشعورية أثناء الكتابة، تكتب بأعصاب هادئة مسترخية بلغتها الأنيقة، فنشعر بأنها شهرزاد تجلس كأميرة وهي تخاطب الآخر كأنها تتحايل عليه وتوجه رسالتها حتى تجعله ينحني خجلاً لرقتها، وهنا بهذا النص المبهر نجد تصويرا إبداعيا، وقد أثرت النص بالرمز والانزياح الجميل دون الابتعاد في تقاعير اللغة. فكانت صور شعرية من البلور الخالص , وأكاد أحس بحركة متجسدة في النص متوالية الايقاع في الروح وهذا الحب الجارف، وإن دلت هذه النثيرة على شيء فهي تدل على خوف وقلق من القادم والروح المتعبة وكأن الشاعرة خيرة مباركي ترتحل بين جدران الغياب طوعاً .

وقد بدأت الشاعرة بمفردات لطيفة ترضي الذائقة، لطيفة رغم وجود العنوان بين رهبتين فتقول مثلاً (الشغاف، المزامل، ترنيمة، موال) وتنطلق بسرعة للرهبة ومفردات أخرى بلغة أنيقة رغم العتاب، (فارتجفت كخطيئتي.. بآهاتي وقصائدي والغرق بهدير الصمت والمنفى) وبدأت بالتضرع للغياب الذي يجتاحها أن ينجلي تبحث عن وهج حتى يعصف بدمها. هنا صورة شعرية فكيف للوهج أن يعصف هذا تركيب مبهر وتتساءل كيف تواري الحسرات المتتالية حسرتها المحرمة وكأنها تقول أن ألمي مذموم بنظر الآخر إن بُحتُ به فلن تشتكي أو تظهر شكواها، وتبدأ بالتحذير بألا يباغتها حتى لا تضر به قسراً فليست بحاجة لأنفاس معلبة بمعنى نفس العبارات لا جديد حفظتها عن ظهر غيب فكلها مواعيد جاهزة معلبة فهذه خطيئة نادرة وفيها لذة ورعشة. وتتابع " هذا غرسك يتلألأ قمرا في مساماتي " ورغم ذلك تقول له لكن "اليوم أقايض ربيعكَ فهل تبايعني أن تكون "؟ " وأحاول أن أشفيك من هذا المرض "! "وتكون قديساً "، إنه بمثابة تساؤل، وهل سيتغير همسكَ ويبتكر المواعيد ويتخلص من العبارات والمواعيد المعلبة والتي تفتقد لطعمها ونكهتها المتجددة فقد مللت من التكرار تعال واعلن الجنون في جلالة اللقاء، وفي النهاية هي لا تصدق بأن هناك شيء ما سوف يتغير فتباغته بقولها لكن بنفسجة خائفة ترتجف وكأنها تقول لا أثق وهنا أخفت الشاعرة مشاعر أو سلوك احتفظت به لنفسها. فالسؤال يلح عليها ويرتجّ بهوس وبين المعنى والمعنى تبدأ الطواف بين ضفافه فالروح عطشى وزمزمها إشارة لماء الطهر. وتصر بأنها ستقتل عتابه وهنا أظنها تعني لن تسمع ولن تصدق بل سوف ترمي عتابه بالجمرات وكأنها ترمي الشيطان بسبع جمرات .

قرأتكِ كثيراً في النص وقد تجاوز الكثير من الألم والوجع والحرف الصارخ بصمت . كان وجعا ناعما ولذيذا. فكانت الشاعرة خيرة عميقة .

أخيراً لغة النص كبيرة تصويرية . فكم من البلاغة والمفردات الدلالية المبهرة , سامقة المعاني تخطف الأنفاس لعذوبتها. فقرأت وانتشيت لهذا العزف على وتر القلوب .

أقول للشاعرة خيرة : الله على هذا الألق والروعة المنسكبين .

هي كلمات بريشتك الساحرة ومدادك الزمرّدي من أعماق قلبك النازف عسلا وماءاً رقراقا , وبوحك يدبّ النشوة والسحر في النفوس الكامنة المنتظرة بشغف هذا الجمال وقلب ما زال عامرا بالحب لكنها بنفس الوقت ما زالت تقف على شواطئ ساحرة بالنوارس الصديقة  ... وقلم مدجج بالسحر، وقلب ما زال يغيب خلف الشمس فمن ينتشله من الغرق .

 كم تسرقنا الحروف من القلق ومن الفرح وكل الهواجس وحالات الغياب ولكن الأمل موجود ولا نعدمه، دمت وهذا الإبداع والإحساس المرهف بجمال المفردات والتعبير

 

بقلم محمد خالد النبالي

 الأردن 16/1/2021

...........................

بين رهبتين

خيرة مباركي

لي أن..

أجذّرك في الشغاف

أيها القمر المزامل نبضي..

أن أزمّنك بدقائق هاجسي

همستك بيقين الصباح

ترنيمة شاردة في موال شتويّ

فارتجفتُ..كخطيئتي في انتظارك ..

بلى:

همستك بآهاتي وقصائدي ..

فغرقتُ بهدير الصمت بين محرابك

ومنفاي

وأنا أتضرع للغياب أن ينجلي

ويعود وهج العنابر يعصف

في دمي!!

كيف أواري حسرتي المحرّمة

في ثغر ابتسامتي الجديدة؟!

أو أحلّلُك حراما بشغف الرغبة الجامحة!

هل تبايعني نسمةً جنوبيةً الهوى؟

وهل يرقد صهيل المواسم في نهمي؟!

إياك أن تباغتني بهمس دمك الهانئ

وتغزو مساماتي الغافية

ربما سأرضيك وأقطع حبل الشكّ..

فلا تخدش أنفاسك المعلبةَ بالمواعيدِ اليوميةِ ..

كُنْتُكَ نعيمَ الشرفات المفردسةِ

بخصب الحنينِ

وأفشيتُكَ في خطيئةٍ نادرةٍ بين لذّةِ الخوْخِ

ورعْشةِ الترابِ..

هذا غرسُكَ يتلألأ في فؤاد النور.. قمرا يضيء مساماتي!!!!

واليوم أقايضُ ربيعَكَ بالعِتابِ..

فهلْ تُبايعُنِي كيْ أتماثلكَ شفاءً قدسيّا

وهمسُكَ يبتكرُ المواعيدَ في جلالةِ اللِّقاءِ؟؟؟!!!!

لكنّني كبنفسجةٍ طموحٍ:

أرتجفُ

...........

...........

أحلّقُ في زواياكَ

وأرتجفُ

...........

...........

بين ارتجاجِ السُّؤالِ وهَوَسِ المعْنَى

وبين المعنّى والمعنى..

أطوف بين صفائِكَ وعطشِي

بين دواتِكَ وزمزمي..

ولسوف أنحر عتابكَ

وأرميه بجمرات سبع.

***

خيرة مباركي / تونس

 

 

آفة العدمية السياسية في العالم العربي

التفاصيل
كتب بواسطة: ا. د. ابراهيم أبراش

ابراهيم أبراشحالة من العدمية السياسية الهوياتية والانتمائية تتمدد في العالم العربي وتملأ فراغ انهيار وتفكك الأيديولوجيات والانتماءات الكبرى خصوصاً في الدول التي عصفت بها فوضى ما يسمى (الربيع العربي)، وأبرز تجليات هذه العدمية حالة من التيه الفكري والأيديولوجي والهوياتي وفقدان الثقة بالدولة وبكل الأيديولوجيات الوطنية والقومية والأممية دون طرح بديل توافقي أو رؤية للمستقبل.

العدمية Nihilism فلسفة قديمة يمكن التأريخ لها منذ فلاسفة المدرسة الكلبية أو التشاؤمية Cynicism في اليونان القديمة في القرن الرابع قبل الميلاد وأبرزهم (Diogenes ديوجين) مروراً بالفيلسوف والشاعر الإسلامي أبو العلاء المعري (363 هـ - 449 هـ) (973 -1057م) إلى الفيلسوف الألماني نتشيه (1844 – 1900) وتيار الفوضوية Anarchism في النصف الثاني من القرن التاسع عشر مع ميخائيل باكونين الذي كان ضد الدولة ومؤسساتها وضد القانون، وقد صدرت كتب ودراسات عديدة عن العدمية في أبعادها وتمظهراتها الفلسفية والفكرية والأدبية والسياسية.

يمكن تعريف العدمية بأنها نزعة أو تصور سلبي وتشاؤمي للحياة في كل أبعادها ومستوياتها من الأخلاق والدين إلى الفكر والأدب والسياسة، نزعة تقوم على ألا معنى وألا يقين وألا ثقة بأي شيء، وهي تعبير عن حالة رفض للواقع ورغبة قوية في تدميره أو على الأقل عدم الاعتراف به، بحيث لا ترى في الواقع إلا سواداً بدون نقاط مضيئة ولا تلمس شيئاً يمكن البناء عليه ولا تعترف بالانتماءات الجامعة الكبرى الدينية أو الوطنية أو القومية أو الأممية.

والعدمية بهذا المعني ليست مجرد نقد للواقع، لا نقد موضوعي ولا حتى نقد هدام، لأن النقد بشكليه السالفين يطرح البديل ويُنظِّر للمستقبل أما العدمية وخصوصاً في بُعدها السياسي فهي تنتقد بشراسة وتنسف المعنى الكامن وراء أي شيء موجود دون أن تطرح حلولاً أو منافذ أمل بالمستقبل.

موضوعنا في هذا المقال ليس التأصيل أو شرح النزعة أو الفلسفة العدمية بل تغلغل هذه النزعة في العقل والفكر السياسي العربي وعند كثيرين من المثقفين والكُتاب بل وتغلغلها في الأدب والفن، وخصوصاً في ظل حالة الفوضى الناتجة عن ما يسمى الربيع العربي وتفكك وتراجع الأيديولوجيات الوطنية والقومية والأممية وانكشاف الأيديولوجية الإسلامية وضعف مؤسسات الدولة الوطنية، بحيث سادت حالة من اليأس والاحباط وألا يقين بكل ما هو قائم .

نزعة العدمية السياسية على المستوى الشعبي وفي مجتمعات ترتفع فيها نسبة الجهل والفقر تؤدي إلى التطرف والإرهاب والرغبة في تدمير كل شيء دون أن يكون لدى الإرهابيين رؤية أو تصور عقلاني وواقعي للبديل عما يتم تدميره، كما تكمن وراء عصبويات ما قبل الدولة من عائلية وقبلية وطائفية ومذهبية ضيقة، لأن فقدان الثقة بالدولة ومؤسساتها وقوانينها وبالأحزاب والأيديولوجيات يفكك رابطة الوطنية والقومية الجامعة ويدفع الأفراد لطلب الحماية والتعبير عن ذاتهم من خلال الانتماءات التقليدية، هذا إن لم يهربوا نحو التطرف والإرهاب كما سبق ذكره.

خطورة العدمية السياسية عندما تنتقل من المواطنين العاديين إلى المثقفين ومجال التنظير الفكري ،ليس بالكتابة المباشرة عن العدمية أو الدعوة لها، ولكن من خلال  المبالغة في نقد الواقع بكل تجلياته الرسمية والشعبية والحزبية ونقد كل مَن يحاول أن يكتب متلمساً بارقة أمل أو فرصة متاحة في بعض تفاصيل الواقع العربي القائم أو في التجربة التاريخية، فكل شيء في نظرهم عدمٌ لا أمل أو رجاء منه، فالوطنية شوفينية وأكذوبة، والقومية العربية سراب ووهم، والإسلام إرهاب وفتنة وتخلف، مستشهدين في ذلك بأسوأ النماذج والتطبيقات،  دون تقديم إجابة عن السؤال: من نحن؟.

 هذه النزعة لا تعبر عن واقعية سياسية أو فكر ثوري أو شجاعة كما لا يمكن إدراجها في سياق الطُهرية أو المثالية السياسية ما دامت لا تطرح البديل عن الواقع ولا تناضل لتغييره، إنها أقرب إلى حالة اسقاط العجز والفشل والإحباط الشخصي والفكري على كل شيء والهروب من عمل أي شيء جديد أو تجديد قديم يمكن البناء عليه. هذا النمط من التفكير العدمي يريدها قطيعة مع كل شيء دون وصل مع أي شيء أو رؤية تؤسس لبداية واعدة بشيء

عندما نخص الحالة العربية في الحديث عن العدمية السياسية على مستوى الهوية والانتماء  لأنه ما بين المحيط والخليج وهي الحيز الجغرافي الذي يسمى العالم العربي نجد شعوباً وقوميات وثقافات فرعية تستنهض قواها وتستحضر تاريخها بل وتسعى لبناء دولتها القومية، سواء تعلق الأمر بالأمازيغ أو البربر في بلاد المغرب العربي أو الأكراد في المشرق العربي وهم محقون في ذلك، بالإضافة إلى نزعات قومية ودينية أخرى، كما أن دول الجوار – إيران وتركيا بالإضافة إلى الكيان العنصري الصهيوني- تسعى لإحياء مشاريعها القومية والدينية والتمدد على حساب العالم العربي، بينما العرب وهم الأكثر عدداً في المنطقة لا يوجد لهم الآن مشروع قومي عربي ولا نلمس أي حراك لإحياء هذا المشروع، وعندما يتحرك أو يكتب البعض مطالباً باستنهاض القومية العربية والمشروع القومي العربي يتصدى لهم العدميون مشككين بالعرب والعروبة معتبرين أن من يتحدث في هذا الموضوع إما حالم وغير واقعي أو عنصري معادي للقوميات الأخرى، حتى حديث الوطن والوطنية أصبح ممجوجا وغير مقبول عند العدميين العرب.

العرب الذين يشكلون أكثر من 80% من السكان ما بين المحيط والخليج ليس لهم دولة قومية ولا مشروع قومي ولا زعيم أو زعماء قوميين ولا أمن قومي ولا اقتصاد قومي ويعتمدون على الخارج لحماية كياناتهم الهزيلة كما غاب عن مجال التنظير المفكرون القوميون إلا قلة قليلة، بينما كل القوميات الأخرى في المنطقة لها مشروعها القومي وزعماؤها القوميون وتسعى لتأسيس دولتها القومية وبعضا قطع شوطا طويلاً في هذا السياق ويعتمدون على قوتهم ووحدتهم القومية ولا يترددون في النضال المسلح لتحقيق وجودهم القومي، فلماذا يجوز للآخرين ما لا يجوز للعرب؟ ولماذا غير مسموح للعرب دون غيرهم أن يكون لهم مشروعهم ودولتهم القومية؟ !!! .

***

إبراهيم ابراش

 

 

مصداقية الادب

التفاصيل
كتب بواسطة: د. يسري عبد الغني

يسري عبد الغنيحتى يكون الأدب صادقا-، لا بدّ وأن يتكلّم عن الواقع الذي يعيشه الأديب، والظروف التي تحيط به، وتؤثر على نفسيته وعلى يراعه، فتخرج حينئذ الكلمات نابضة بالصدق، وتأخذ طريقها مباشرة إلى فكر القارئ ووجدانه.

أمّا معنى الالتزام فعريق في الادب، قديم مثل كلّ أدب أصيل، وكلّ تفكير صميم، ذلك أنّ الالتزام في الأدب لا يعدو في معناه الصحيح أن يكون الأدب ملتزما الجوهري من الشؤون، منصرفا عن الزخرف اللفظي وعن الزينة الصورية التي هي لغو ووهم وخداع، والالتزام هو أن يكون الأدب مرآة جماع قصّة الانسان وخلاصة مغامراته وتجربته للكيان، وزبدة ما يستنبطه من عمق أعماقه وألطف أحشائه من أجوبة عن حيرته وتساؤلاته، وهو أن يكون الأدب رسالة يستوحيها من الجانب الإلهي من فكره وروحه، ومن هذا الوجدان أو الحدس الإلهي، الذي هو الفكر وما فوق الفكر، والعقل وما فوق العقل، والخيال مع العلم والمعرفة، مع الانطلاق مجربا في كليته وشموليته.

فالأدب الملتزم هو سابق على محاولات المحدثين، وقد وجدنا قديما الأدب يتجسّد في مشاركة الأديب الناس، همومهم الإجتماعيّة والسياسيّة، ومواقفهم الوطنيّة، والوقوف بحزم، لمواجهة ما يتطلّبه ذلك، إلى حدّ إنكار النّفس في سبيل ما يلتزم به الأديب شاعرا أم ناثرا . واطلاعنا على أدبنا القديم وشعرائه، يعرّفنا أنهم كانوا في العهود والأعصر العربية، في الجاهلية والإسلام كافة، كانوا أصوات جماعاتهم . كذلك قبل كلّ واحد منهم أن يعاني من أجل جماعته التي ينطق باسمها، إلى حدّ أنّك إذا سمعت صوت أحدهم وهو يرتفع باسم جماعته أو قومه، لا يمكنك إلا أن تحسّ هذا الالتزام ينساب عبر الكلمات، يصوّر هذا الإيمان وتلك العقيدة دون أن يساوره أدنى شكّ أو حيرة أو تردّد في تحديده للمشكلات التي يواجهه، والتي تتعلّق بمصيره ومصير سواه من أبناء قومه في القبيلة أو الحزب أو الدين، يدفعه إيمان راسخ بضرورة حلّ إشكالية القضايا التي كان يواجهها في حينه

سارتر عرّف الأدب الملتزم فقال: مما لاريب فيه أنّ الأثر المكتوب واقعة اجتماعيّة، ولا بدّ أن يكون الكاتب مقتنعا به عميق اقتناع، حتى قبل أن يتناول القلم . إنّ عليه بالفعل، أن يشعر بمدى مسؤوليته، وهو مسؤول عن كلّ شيء، عن الحروب الخاسرة أو الرابحة، عن التمرّد والقمع . إنّه متواطئ مع المضطهدين إذا لم يكن الحليف الطبيعي للمضطّهدين

ويشير سارتر إلى الدّور الكبير الذي يلعبه الأدب في مصير المجتمعات، فالأدب مسؤول عن الحرية، وعن الاستعمار، وعن التطوّر، وكذلك عن التخلّف.

فالأديب ابن بيئته، والناطق باسمها، وكلمته سلاحه، فعليه تحديد الهدف جيدا، وتصويبها عليه بدقّة، فـ " الكاتب بماهيته وسيط والتزامه هو التوسّط "

وهنا يبرز هدف الالتزام في جدّة الكشف عن الواقع، ومحاولة تغييره، بما يتطابق مع الخير والحقّ والعدل عن طريق الكلمة التي تسري بين الناس فتفعل فيهم على نحو ما تفعل الخميرة في العجين] على ألا يقف الالتزام عند القول والتنظير، فالفكر الملتزم في أساس حركة العالم الذي يدور حوله على قاعدة المشاركة العملية لا النظرية إذ: ليس الالتزام مجرّد تأييد نظري للفكرة، وإنّما هو سعي لتحقيقها، فليست الغاية أن نطلق الكلمات بغاية إطلاقها .

الكاتب مطالب بمسؤوليّة مجرّد أن يكتب وينشر لامته، فهو يجب أن يعبّر عن آلامها وآمالها ونضالها .

" ليس كفعل القلم اجتماعي وتاريخي بكل ما تنطوي عليه كلمة اجتماعي من شؤون الأمّة، والشعب، والقوم، والوطن، والانسانيّة ... وعلى القلم المسؤول أن ينفي عنه أوّل شيء اعتبار عامل الكسب . فذلك هو الشرط المبدئي لصحّة الرأي ونزاهته "

وظروفنا الاجتماعيّة الحالية، الحافلة بالقلق، والمليئة بالمشكلات، تدعو وبشدّة إلى الأدب الملتزم .

ووضع بلادنا العربية وما آلت إليه من تشرذم ومن تآمر الأعداء وتكالبهم عليها، تدعو الكلّ إلى تجنيد الجهود للعمل على رفع مستواها السياسي والاجتماعي والفكري.

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

كيفَ تمَّ إفراغُ الأستاذيةِ منْ محتواها؟

التفاصيل
كتب بواسطة: محمد الورداشي

محمد الورداشيلم يعد أحدٌ منَ الباحثين والمهتمين ب/في الشأنِ التربوي يماري في كونِ صرحِ الحضاراتِ الإنسانيةِ التي أرادتْ لنفسها التقدمَ والرقيَّ، والتربعَ على عرشِ قيادةِ العالمِ، يُشيَّدُ على التعليمِ والبحثِ العلميِّ. فهذا الأخيرُ يُعَدُّ اللبنةَ الأساسَ والترسانةَ الصلبةَ اللتينِ تقومُ عليهما المجتمعاتُ المتقدمةُ، والتي بوساطتها يمتدُّ التقدمُ ليشملَ الحياةَ الاقتصاديةَ والسياسيةَ والاجتماعيةَ والثقافيةَ لتلك المجتمعاتِ. ومن ثم، فلا غرابةَ في كونِ الدولِ المتقدمةِ، في مختلِفِ الجوانبِ والمجالاتِ، تتنافسُ في تخصيصِ مبالغَ ماليةٍ مرتفعةٍ للبحثِ العلميِّ، وإنشاءِ المؤسساتِ ومراكزِ الأبحاثِ لخدمةِ هذا المجالِ الذي لا مهربَ من عبورهِ بحُسْبانِهِ جِسرا للتقدم. وهكذا، نقولُ إن العهدَ الراهنَ ليس عهدَ الخرافةِ والتقليدِ والاجترارِ والتكرارِ في المعارفِ والقيمِ، وإنما هو عهدُ العلمِ والعقلانيةِ والإبداعِ والاختراعِ والتجديدِ في العقلياتِ وأنماطِ التفكيرِ، والمعارفِ والقيمِ. كما أنَّ انكبابَ وانهمامَ الدولِ المتقدمةِ بالتعليمِ والبحثِ العلميِّ، فضلا عنِ الميزانياتِ المخصصةِ إليه، تَدفعُ بالباحثِ العربيِّ إلى زاويةِ المقارنةِ، حتى وإنْ تأبَّى ذلكَ في قرارةِ نفسه، بينَ وضعِ تلكمُ الدولِ ووضعِ التعليمِ والبحثِ العلميِّ في وطنِه. ومنْ هذا السياق، نتساءلُ: لمَ تتدهورُ مكانةُ التعليمِ والبحثِ العلميِّ في الدولِ المتخلفة؟ وما نظرةُ هذهِ الدولِ إلى المعلمِ والأستاذِ، والباحثِ في مجالاتِ المعرفة؟ هل مَرَدُّ الأمرِ إلى غيابِ الإرادةِ السياسيةِ التي تَتعمدُ تغييبَ البحثِ العلميِّ، أم أنَّ المعلمَ والباحثَ كليهِمَا يُسْهِمانِ في هذا الركودِ والتخلفِ؟

لا نتغيا، في مقالتنا هذه، تشخيصَ وضعيةِ التعليمِ والبحثِ العلميِّ في الدولِ العربيةِ؛ لأنَّ هذا واقعٌ يَكشفُ عنْ وجهِهِ دونما صعوبةٍ تُذكرُ، ولكننا نسعى إلى الوقوفِ عندَ وضعيةِ الأستاذِ، في المغرب، الذي يُنتظر منهُ التغييرُ والتنويرُ، وزرْعُ بذرةِ الإبداعِ والابتكارِ في تربةٍ (تلاميذ) معينة. هذه الوضعيةُ التي باتَ يَعرفها القريبُ والبعيدُ، والعاميُّ والمثقفُ والمتخصصُ، تَدفعنا، مجددا، إلى التساؤلِ عنْ كيفَ تُفَرَّغُ الأستاذيةُ منْ محتواها، وتُعدمُ منْ أدوارها ووظائفها المنوطةِ بها؟. ف"المدرس رقمٌ مُتوَّج له أثر على أجيال متلاحقة من المتعلمين دون أن يكون له شكل أو معنى"(1)، ويُعزى ذلك إلى كونه قطبَ الرحى في العمليةِ التعليميةِ التعلميةِ، وبدونه لا يمكنُ أن نتحدثَ عن أيِّ إصلاحٍ جذريٍّ حقيقيٍّ لمنظومتنا التربوية. وبهذا، نرى أنَّ المدرسَ يعاني إهانةً مزدوجةً بحيثُ لها طرفانِ ينفذانِها مع اختلافٍ في الوعي بها؛ فمن جهة، يُهانُ منْ قِبَلِ الدولةِ التي يُنتظر منها أن ترفعَ من مكانته؛ إذ أضحتْ تَختزلُ "أدواره ووظائفه في سطور مبتورة بين وثائق الإصلاح"(2)، إنْ لمْ نقلْ إنها مُغيبةٌ بشكلٍ تامٍّ ومُلفتٍ للنظر، ويجعلنا مشدوهينَ من هذا التقزيمِ والتصغيرِ المُمنهجيْن، واللذينِ يحددان تناقضَ المسؤولين والقائمين على الشأن التربوي؛ لأنهم يُشكلون مفارقةً غريبةً، وصورةً متناقضةً للمدرس، ومن ثمَّ، "نصفه بالمربي وندوس كرامته، وبالقائد ونسلبه سلطته، وبالأب أو الأم ونحرض على عقوقه أو عقوقها، ونصفه بالمصلح ونسخر من كفاءته، وبالحكيم ونشكو خفة عقله"(3)، هكذا وضعَ الأستاذُ الدكتور، أحمد نظيف، إصبعَهُ على مَكمَنِ المفارقةِ، ووصَفها وصفا كافيا شافيا، وكيف لا؟ وهو الذي مارسَ مهنةَ التدريسِ، ولا يزال، واحْتكَّ بالميدان من خلال تكوينِ الأساتذة، لذلك نُحسُّ، في كلامهِ المُقتبسِ أعلاه، حُرقةً وحسرةً شديدتين على هذه الوضعية التي لا يُحسد عليها ممارسو التعليم في المغرب. كما أن الأستاذ والدكتور، قدم مجموعةً من الأدوار المستقبلية للمدرس التي من خلالها يمكننا أن ننتشله من هذا الوضع الجامد إلى وضع حيوي يجعل منه مبدعا وموجها ومرشدا، ومبتكرا ومجددا في مجال اشتغاله. ولكننا، ونحن نتحدثُ عن أدوار مستقبلية، لا بد منَ الإقرار أن تنزيلَها يحتاج إلى حرية، وما دام الأستاذُ مسيرا فيما يقوم به فإنَّ التغييرَ يغدو ضربا من التقليد. نحن نريد منه أن يكون مبدعا، بيد أننا نُحدد له نقطةَ الاجتهادِ ونُسَيِّجُهُ داخلها؛ إذ نريده أن يجتهد في ابتكارِ طرق جديدة لنقلِ معرفةٍ جامدة إلى المتعلم، بمعنى أن حدودَ اجتهادِه وابتكارِهِ لا ينبغي أن تتجاوزَ ما سطره القائمون على الشأنِ السياسيِّ والتربويِّ، وذلك دونما اعتبارٍ لمنْ سيتلقّى هذه المعرفةَ؟ ووظيفتها؟ ومنْ يستفيد منها: المتعلمُ أم ذوو الأدلوجةِ السائدة؟.

على أن تحريرَ وظيفةِ المدرسِ منَ التسييسِ والتأدلج، ومن ثمَّ، فتح المجال واسعا للإبداع والابتكار الشخصيين، وكذا الانفتاح على المجالات المعرفية والثقافية الأخرى، وإعطاؤه متسعا منَ الحرية، وتوفير الأدوات الضرورية له، والاعتراف بمكانته في المجتمع، لهوَ السبيلُ إلى الرقي بالمنظومة التربوية في المغرب، بعيدا عنِ التنظير في الهواءِ، واستيرادِ تجاربِ دولٍ أخرى واعتبارها وصفةً سحريةً للقفز من وضعية إلى أخرى.

ومن جهةٍ ثانيةٍ، وتوضيحا لدورِ الطرفِ الثاني في ممارسةِ فعلِ الإهانةِ، فإننا نتساءلُ عن مكانة المدرسِ لدى المتعلم؟ فالمكانةُ المهيبةُ التي كانت في السنوات الماضية لم تعدْ موجودةً في عهدنا الراهن، وبكلّ أسف، نرى أنه منذ أن بدأ المتعلمُ يجرؤُ على أنْ يطلبَ منَ المدرسِ النقطَ/معدلاتٍ دونَ مجهود، أي يغدو مُتعلما وُصُوليا بحيث يسعى إلى تملّكِ النقطِ بتوسُّل الإلحاف، والوشاية بين الأساتذة، والتزلف، والتملق، والغش...إلخ، منذ أنْ أصبح المتعلم على هذه الصورة قوّض الجدارَ المَتينَ الذي كان يَفصله عنِ الأستاذ، ويجعلُ كُلاَّ منهما في مكانته، بمعنى الاحترام والهيبة، هذان الأخيران اللذان كان يجعلانِنَا نتأهبُ الأستاذَ، ونتغيّا تقليدَ شخصيتِه ومهابتِه، ومن ثمّ، نأتي مُتعطشين لمعرفتِه من جهة، ولاقتفاءِ سيرته في الحياةِ الشخصيةِ والمهنيةِ من جهة أخرى.

أضف إلى ذلك، أنَّ تَنازُلَ الأستاذِ عن جملةٍ من حقوقه التي ما فتئتِ الدولةُ تُجهزُ عليها بين الفينة والأخرى، وتخلّيه عنِ القراءةِ والبحثِ والإبداعِ والابتكارِ، ومواكبةِ المعارفِ المتطورةِ والمتجددةِ، وتقوقُعَهُ داخل المقرراتِ المدرسيةِ يُكررُ ثقافتَها ويجترُّها عبرَ السنين، كلّ هذه النقاطِ التي أسلفنا ذكرَها، جعلتْ منَ الأستاذِ تلميذا كبيرا: يشتركُ هو والتلميذُ في تلويكِ المعلوماتِ نفسِها، ويتناقشانِ في الدائرة الضيقة المُسَيَّجَةِ نفسِها، ومن ثمّ، يتساويانِ في مرتبةٍ واحدة مع اختلافٍ يَتمظهرُ في كون أحدهما يَجلسُ في مكتب، والثاني في طاولة، وقد يحدثُ أن يتبادلا المواقعَ إنْ لمْ ينهضِ المدرسُ بتحرير نفسه من سِيرة الاجترارِ والتكرارِ والتقليد، وتلويكِ معارفَ لا تتجدد ولا تتغير، ومفارِقةٍ للواقعِ الاجتماعيّ لكليهما (الأستاذ والتلميذ) متعاليةٍ عما يزخرُ به منْ تموجات وتطوراتٍ على أصعدةٍ مختلِفةٍ، وفي ميادينَ مُتعدّدةٍ.

ونافلُ القولِ إنّ لا سلاحَ للأستاذِ سوى العودةِ إلى مكانته التي تبددتْ، والقائمةِ على القراءةِ والبحثِ والإبداعِ من جهةٍ، وعلى التفكيرِ والتنويرِ والتحريرِ من جهةٍ ثانية.

 

محمد الورداشي

........................

- الإحالات والهوامشُ:

1- أحمد نظيف: "الأدوار المستقبلية للمدرس، بين الثبات والتغير"، مجلة فكر العربية، العدد الثالث- السنة الأولى- دجنبر 2016، ص173.

2- المصدرُ والصفحة نفساهُما.

3- المصدر و...

 

 

أمريكا وإقليم كوردستان من الشراكة الی التحالف

التفاصيل
كتب بواسطة: د. سامان سوراني

سامان سورانيبما أن الشراكة هي وسيلة أو أداة لتنظيم علاقات مستقرة ما بين وحدتين أو أكثر  بهدف التقارب والتعاون المشترك على أساس الثقة وتقاسم المخاطر بغية تحقيق الأهداف والمصالح المشتركة. والتحالف ماهو إلا اتفاق رسمي بين فاعلين اثنين أو أكثر للتعاون بعضهم مع بعض بشأن قضايا أمنية مشتركة مدركة، من خلاله يشعر الجهات المتحالفة بحاجة بعضهم إلى دعم بعض دبلوماسياً في تنفيذ سياساتهم الخارجية، فأن هدف إقلیم كوردستان هو مواصلة تنسيقه القوي مع أمريكا لتوثيق شراکته وعلاقاته الثنائية بغية حماية الإستقرار والتنمية في الإقليم والمنطقة.

من الواضح بأن السياسي الفعّال ينخرط في التجارب وينغرس في التاريخ بقدر ما يتجاوز تاريخيته أو مشروطيته، لكي يُغيّر من شروط الواقع والإنجاز.

فهو يفعل بقدر ما ينفعل ويشتغل بقدر ما ينشغل، إنه نتاج للبنی والآليات والمؤسسات ولکنه يعمل في الوقت نفسە علی المساهمة في خلق الأفكار وفتح المجالات لإعادة إنتاج بنی وآليات ومؤسسات.

والقيادة الكوردستانية الحکيمة تعلم بأن الديمقراطية لاتأتي من الباب الخلفي كما يسعی الیها البعض، بل يجب أن تنبع من قرار سياسي واع ومقصود بتأسيس الديمقراطية، فالتحول والتغير الديمقراطي لا يأتيان إلا من خلال إصلاح واع وجريء.

نحن نعلم بأن الإقليم شريك قوي للتحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة في العراق لمحاربة داعش، ولرفع مستوی هذه الشراكة الی تحالف مبني على أساس الشراكة والندية، علینا أن نفهم مايجري لکي نساهم في صناعة علاقات راهنة، حية، متجددة وقوية ونتغير عما نحن علیه لخلق آليات جديدة تنسج تلك العلاقات بشكل أفضل ولحماية مصالحنا الوطنية علیه توظيف تلك العلاقات بحکمة وعقلانية ليس فقط مع أمريکا، بل مع نظم ديمقراطية أخری تمتلك مؤسسات ناضجة، لها القدرة علی إصلاح نفسها بنفسها وتصحيح ذاتها بذاتها لتخرج بعد كل أزمة بشكل أقوی. 

أما إذا أردنا أن نعرف ما قد تحمله  السياسة الخارجية الأميركية في المرحلة المقبلة من عناصر التغير والاستمرارية، فلابد أن نرجع الی السجل التاريخي للتطورات في السياسة الخارجية الأمريكية طوال العقود الماضية. فهذا السجل التاريخي يكشف لنا بسهولة طغيان عناصر الإستمراية علی عناصر التغير، دون أن تتأثر مسألة إنتقال السلطة من رئیس الی آخر، أو من حزب الی آخر إلا في حدود ضيقة.

فإهتمامات وأولويات صانع القرار الجديد في واشنطن في عامه الأول هي الترکيز على ترتيب البيت الداخلي الأمريكي، ومحاربة فيروس كورونا، والعمل على الملفات الاقتصادية، وتهدئة الشارع الأمريكي المنقسم وإعادة ضبطه، أما فيما يخص الملفات الخارجية فأنه سوف يتعامل كما تعامل الرئيس باراك أوباما، خلال حقبة رئاسته، وهذا يعني أنه سوف لن يخرج عن عباءة سلفه في كثير من الملفات سواء الداخلية أو الخارجية.

صانع القرار في الإقليم يؤکد دوماﹰ علی مسيرة السلام والأمن والتعايش السلمي في الإقليم وأولوية مصالحه، لذا نراه يعمل بعقلانية وواقعين ورؤية إستراتيجية بعيدة المدی لحماية تلك المصالح، فهو يدرس مواقفه لتجنبيب نفسه نتائج الأزمات والصراعات القائمة في المنطقة ويمارس استراتيجية فاعلة وواضحة للتعامل مع الإدارة الامريكية الجديدة ويؤکد إستمرار التعاون في مكافحة الإرهاب. 

القيادة الكوردستانية تدرك مکان الإقليم، كمرتکز مهم في حماية السلم والأمن الإقليميين، بين أمريکا وخصومه في المنطقة وحجم التحديات والعقبات التي تقيد إرادة الإقليم، لذا تعمل بكل الوسائل الممكنة للمساهمة بشكل إيجابي في منع تطور الأوضاع المحلية والإقليمية بشكل يلحق الضرر بمصالحه العليا.

إقليم كوردستان تتبع سياسة الدبلوماسية الهادئة والهادفة الی إقامة أوثق العلاقات مع محیطه الإقليمي ودول الجوار، بعيداﹰ عن سياسات توتير الأجواء وخلق المحاور المتناحرة والتدخل في شؤون الغير وتكديس الاسلحة وشحن الاجواء بمفاعيل الاحتراب، ما يرتد سلباﹰ علی الإستقرار والإقتصاد والأوضاع الداخلية.

 

الدکتور سامان سوراني

 

 

قراءة ٌ في: خجلُ الشفاهِ حبّاتُ رمّان لكريم عبدالله

التفاصيل
كتب بواسطة: خيرة مباركي

خيرة مباركيخجل الشفاه حبات رمان.. يلتذّ الكلام كالأحلام.. فهل هي لذة المرأة أم لذّة الشعر ؟؟ خجل ، وشفاه ، ورمان.. تترامى أصداؤها على تخوم الكلام بل إلى ما بعد حدوده..إلى أنغام وألحان.. إنّه نشيد يلوّح للجديد.. لمعنى وقصيد... قصيد -إمرأة وإمرأة- قصيد.. روحه شعر وروح شعره شعريّة عالية.. هو مجاز عال للتكثيف.. ونظم من النحو، ورجع من اللحن.. يقيمانها معادلة شعرية بين الصفة والذات.. بين خجل الشفاه وحبات رمان : مبتدأ تخبر عنه اللذة و" البنّة "، حبات تراود العين قبل الذوق.. صورتان للعذوبة.. هي الموصوفة فوق الوصف، ذيقت بالقلب أو بالعين.. حسّ وحدس.. عذوبة الرمان في اللسان وعذوبة الشفاه في الوجدان.. جمال موسوم بالخجل.. وخجل كالعزف على رجع المجاز.. هو الجزء من الكل.. جزؤه شفاه ساحرة وكلّه مخلوق ليس كالبشر.. كالأحلام.. كالصباح.. كحور الفراديس.. أخلاق وخلقة، عذبة.. في أفق روحها، قدر الفواتح والخواتم.. من نسل مثالية أفلاطونية وعشق رومنسي ووشي عذري.. وليست من عالم النسبيّة.. لا شيء يعادلها.. هي الكل والجزء.. أو جزء في الكلّ.. لا تشبه شيئا وإن شابهها الشيء.. أوردها عددا " خجل الشفاه " لأنه لم يوجدها واحدا وفردا.. هي الكل والكل هي.. وشبّهها جمعا ، حبات رمّان ، فلم يُرد بها العدد، ولكنّه أراد ظلّ الحبّة التي تتورّد وتتحول بلونها.. تحمرّ ثمّ تتحوّل قانية كتوهج قلبه.. كاشتعال روحه.. لوّنها بلون الأشواق وأفاض عليها من ظلّ حلم ورؤيا، يكنّى الطيف ويخطر في الأحلام وله سيولة كذوبان الحنين في نفس العابد إلى المعبود.. لا جسم لها سوى الشفاه.. ولا لحم لها سوى نغم..هوائية كصوت الغناء في الفضاء.. وإذا كان جمع المدلول ساحرة سحرت مسحورا بسحرها.. فباقي الطرح ترجيع الدوال لرنات المعاني من انسان فنان.. مسحور في المقول وبالقول ساحر..

 

بقلم: الناقدة والباحثة: خيرة مباركي – تونس .

............................

خجلُ الشفاهِ حبّاتُ رمان

كريم عبد الله

شفتاها …

تحملُ

نكهةَ السنابل

تتمايلُ

حبلى …

بلذّةِ الأرتجافِ

خجلاً يتطيّبُ

يغطسُ في أطلسها

غبشٌ

يتمهّلُ

على ضفافِ النعاسِ

يحملُ العجائب …

فتنامُ الكلمات

يُبخّرها

شعرها المسترسلِ

الى أعماقِ أحلامي

فتفزُّ مذعورةً …

يلفّني طِيبها

بإعصارٍ

يقتلعُ

ذاكَ الشَبَقَ

المتراكمَ على ( الجينز )*…

أقشّرُ دَلَعَ طفولتي

ممتشقاً

كُحلَ عينيها

مستجيراً

مِنْ

سطوةِ العيون …

يلهثُ جِيدها

يكسّرُ كبريائي

متناثراً

على هتافِ غنجِ خزائنها …

يااااااااااااالطبولها ….!

ترتجُّ معها أغنياتي

تتوقدُ

على

أناملِ غاباتها …

يهطلُ عطرها

في

رئتيَّ

أتنفسُ

صراخَ مراكبها الغارقةِ

في بحرٍ حزينٍ …

تابعتُ مندهشاً

طيورَ صدرها

تنعتقُ

على

حينِ غفلةٍ

تنفضُ

رمادَ

ريشِ التولّه …

على

أسواريَ العاليات

تحطّ ُ

رحالَ الخجلِ

ينمو

يتأملُ شهقاتي …

كمْ حدّقتُ

بأنهارها يناديني لؤلؤٌ مكنون

فأفتحُ مزهوّاً

صدفاتها

يتبعني

مستسلماً عطر أنفاسها …

 

 

الإيمان والأسطورة

التفاصيل
كتب بواسطة: حسين علاوي

حسين علاويتعتبر الأسطورة مفتاح الإيمان ولغته، وعقل وصياغة التفكير الديني.. وهي سابقة على الذهنية الفلسفية والتفكير العلمي.. فهي كانت وما زالت تلعب دوراً مهماً في صياغة الفكر وإدارة الحياة العملية للإنسان، وذلك من خلال الإجابة على أسئلة الكون، وما فوق الطبيعة (الميتافيزيقيا)، والمجتمع وعلم النفس.. فهي مستودعاً للقيم الاجتماعية والثقافية.. وخزين معرفي مبكر للبشرية.. ورغم ما فيها من خرافات إلّا أنها تمنح سلالة الطقوس الدينية وتقاليد العبادة في المجتمعات القديمة نماذج غنية بالأفكار.. ونظرة الإنسان إلى الأسرار الكامنة في الكون، والأمور الغامضة في الحياة، وقد نجد أن الدين والأسطورة هما صنوان متلازمان في الفكر الغربي، بل والعربي السائد.. ورغم أن العقل يُدين الأسطورة، ويُقصيها ويطاردها، ويتخذ موقفاً سلبياً منها، وينفي ويسلب الحقيقة والمطلق منها، ومن ناحية أخرى يتوسل إليها لتبيين الحقائق والكشف عن الأسرار الدفينة في الماضي، وما يستجد في المستقبل، ولا يرى بدّاً منها في معرفة تفسير الكثير من الحقائق في الماضي..

ويعتبر (هيجل) الأسطورة حقيقة لا مفر منها، وهي تعبير عن مرحلة تاريخية وواقعية من الفهم المترابط والمتواصل للحقيقة، ولها صلة بالزمان والمكان ومدى قدرة الإنسان على صور التعاطي مع المفاهيم والاعتبارات المركّبة والمعقّدة.. (هيغل والمثالية المطلقة، ص143، ترجمة: زكريا إبراهيم)

ويعتبر (ريكور) أن الأساطير الدينية الأولى أعطت معنىً قادنا إلى التفكير للخطيئة الأصلية في أسطورة (طرد آدم وحواء من الجنة).. التي تمثل حجر الزاوية في المفاهيم اليهودية والمسيحية والإسلامية.. وهي مجموعة التصورات الدينية المروية، التي تعتمد في حكيِها على الأحداث الأولى المؤسِسة، والتي تهدف من خلالها إلى تأسيس الفعل الإنساني، وبشكل عام تجليات الفكر الإنساني كلها، التي يستطيع من خلالها الإنسان فهم ذاته أمام العالم كله.. (أنظر: الهرمنيوطيقيا الفلسفية وهرمنيوطيقيا النص الديني عند بول ريكور، مصطفى العارف، ص128-129).

ويعتبر عالم النفس (يونغ) أن الأساطير هي محددات رئيسية للتطور البشري، والتي تجسد شكلاً متقدماً من الغرائز، وتؤلف نموذجاً من التنظيم البيولوجي لاشتغالنا النفسي، فإذا قلنا: (الإله) فإنما نعبر عن صورة أو مفهوم لفظي قد تعرّض إلى تغيير كثير على مر الزمان.. ولكننا لا نستطيع القول بدرجة من اليقين إلّا أن يكون ذلك عن اعتقاد أو إيمان (أنظر: الدين والأسطورة، محمد مصطفوي، ص66).

ويتساءل (آرنست كاسبرز): هل الأسطورة تنشأ من قدرة الذهن على التخيّل، أم إن جذورها تكمن في الشهود الواقعي..؟ وهل تكشف عن المرحلة البدائية للمعرفة البشرية والإيمانية، وترجع إلى العقل..؟ أم إنها تتعلق بدائرة الانفعالات العاطفية وتنشأ من الإرادة البشرية..؟

ويكون الجواب: أن العنصر الأساسي الذي له حضور عن كل أشكال الثقافة ويؤدي إلى تشابه الثقافات الأسطورة.. ويرفض تحولها إلى أمر خرافي وغير واقعي.. لأن الأساطير هي من بدأت تروي قصة الخلق وتبيّن كيف نشأ العالم.. وإن الفكر الأسطوري والفكر الديني في العقيدة اليهودية هو من جعل ذات الله وقدرته ترتبط (بإسمه).. بل إن أسماء الله هي التي تحاكي ذات الله وصفاته (أنظر: المصدر السابق، ص42-43).

فالأسطورة لها صلة قوية بالدين والإيمان بالله.. وهي جزء لا يتجزأ من الحضارة الإنسانية، ولا ينبغي اعتبارها قصصاً خرافية وواهية.. وحكايات عادية.. بل إنها تؤدي وظيفة اجتماعية أساسية ترتبط بطبيعة العقائد والتقاليد، وباستمرارية الثقافة، وبالموقف الإنساني من الماضي، ومن عبادة الإنسان.. والأسطورة هي حقيقة اجتماعية تفسَّر بها ومن خلالها قضايا ومسائل اجتماعية أخرى، بما فيها الدين والمعتقدات البشرية على مر التاريخ..

وقد عرّف (الياد ميرسيا) الأسطورة: بأنها تاريخ حقيقي وقع في بداية الزمان، ويستعمل نموذجاً للمسائل البشرية.. وإن الرمز هو المقدس عينه، في حين أن تجلياته هي صورهُ وأشكاله المتعددة والمتباينة.. والتجلي يكون في الحجر والصخرة والنصب والوثن.. أما الرموز فهي تجسيد للألوهية، وليس علامات تعسفية، معلقة في الفراغ، فالديني مهما كان بدائياً أم متمدناً، فهو حتماً يفكر بواسطة الرموز، وهو ما يزكيه (مارسيل موس) معتبراً أنه لا يمكن فهم مغزى أي صلاة، إذا لم يعترف بفاعلية الكلمة.. وإنّ أكثر هذه الرموز موجودة في الأديان الكبرى، حائط المبكى، تماثيل وصور المسيح، مكة... وغيرها. (أنظر: الياد ميرسيا، الحنين إلى الأصول في منهجة الأديان وتاريخها، ص17، 23.

فالأسطورة فضاء من المرويات والألغاز والمعاني، وكون من الآيات.. ولهذا تفسر لنا كل حدث، وتجيب على كل سؤال.. فلا شيء يبقى دون تفسير ما دمنا نعتقد بأنَّ لكل شيء في الكون دلالاته ومغزاه، وما دمنا نقرأ في كل ظاهرة طبيعية توقيع القوة العلوية التي تدير العالم وتدبّره.. وما دمنا نرى في كل حدث تاريخي سراً من أسرار العالم الإلهي.. فالأسطورة كانت وما زالت شريعة للتحليل والتحريم.. وثقافة لخلق الإنسان، ولبداية ونهاية الكون.. وهي التي أعطتنا الاعتقاد والبرهان على الغيب والقول بالإيمان.

 

حسين علاوي

 

المغايرة والقصدية التاريخية

التفاصيل
كتب بواسطة: ا. د. محمد كريم الساعدي

محمد كريم الساعديإنَّ الحاضر اليوم يميز لنا أهمية التاريخ في دعم أحداثه ووقائعه للهويات الجماعية وكيفية إسهامه في تمركزها من خلال التطابق الذي أنتجته الجماعات في ذوات استلهمت التاريخ وعملت على توظيفه لصالحها . وللتاريخ دور في طبيعة التمركز حول الذات والتمايز عن الآخر الذي أصبح جزء من عملية تشكيل وعي الذات المؤسسة وابتكاراتها وطريقة أنتاجها للتاريخ من أجل التفوق على الآخر ثقافياً .

إنَّ أستخدام التاريخ في مجال القصديات لبناء الهوية التاريخية، فإن للقائمين على كتابة التاريخ دور في عملية صنع التمايز بين الذات لدى الجماعات التي حاولت أن تصنع هويتها التاريخية في الضد من الآخر الذي تميز عنها بالتناقض عن ثقافتها ومعارفها لذلك فقد جُعل هذا الآخر المميز للهوية وذواتها المنحاز لها في تشكيل صورة للتفرقة في ضوء الفهم التاريخي لهذا التمايز، وهنا يتشكل التاريخ من معرفة قلقة بين الذات والآخر المناقض لها .

فالتاريخ يطابق ويناقض، فالمطابقة تقع بين الذات وتاريخها ويتناقض تاريخها في صورته مع الآخر. ومن هذه الحركة المستمرة في العلاقية بين الذات والآخر نتجت حركة التاريخ في التمايز بينهما في ضوء معطيات هذه الحركة في اختلاف الأثنين . إنَّ الذي ينظر الى التاريخ بوصفه وقائع من الممكن أن تنتهي في نهاية وقوعها فهو في الفهم الخطأ، لأن التاريخ في ظاهره وقائع وأحداث ومدونات، لكنه أيضاً يد ممتدة الى الحاضر يمكنها أن تغير، أن تصلح، أو أن تعبث في واقعنا الحالي خصوصاً إذا كان التاريخ قد دوّن بطريقة مشوهه. فالتاريخ قد يسهم في تمزيق أمة، أو يسهم في انطلاقها نحو المستقبل أفضل إذا ما استلهمت التجارب الحقيقية والفعالة منه . فالتاريخ ليس فقط مدوّنة، بل أفق يمتد من الماضي الى الحاضر، كما يرى المنظر الألماني (هانز جورج غادامير) في نظريته القائمة على أساس (الأفق التاريخي) الذي يؤكد فيه على أن الأفق التاريخي لا يكتمل " خارج زمانية الكائن التي تسمح باندماج الأفق الحاضر بالأفق الماضي فتعطي للحاضر بعداً يتجاوز المباشرة الآنية ويصلها بالماضي، وتمنح الماضي قيمة حضورية راهنة تجعلها قابلة للفهم "(1). إنَّ الافق التاريخي الممتد الى الحاضر فيه الكثير من ملامح عدم الأستقرار للحاضر ذاته، إذا كان قد بني على أساس من القلق التاريخي في أبنيته صاحبة الأحداث المختلفة المتقصدة في الاستخدام،والتاريخ القلق ينتج صوراً مشوهه وقلقة في الحاضر، والعكس صحيح أيضاَ، لكن عملية الصراع وصور التمايز بين الذات والآخر جعلت التاريخ يقع في أطار قلق وليس مستقر مما ولّد هذا القلق صراع مستمر من أجل الهيمنة والسيطرة والإخضاع لأحد طرفي الصراع . وعملت الذات المؤسسة للفكر الغربي على إعادة إنتاج دلالات خاصة بها من أجل الوصول الى سمة التمايز المتخيل في داخلها من أجل بث روح التفاضل عن كل ما يحيط بها من اختلافات تتعارض مع هويتها المتجذرة في البناء المتمايز عن الآخر، والسعي من أجل تثبيت هذه المرتكزات في الذهنية الغربية، وأقامت صورة التمايز " على إعادة إنتاج مكونات تاريخية، توافق رؤيته، معتبراً إياها جذوراً خاصة به، ومستحوذاً في الوقت نفسه على كل الإشعاعات الحضارية القديمة، وقاطعاً أواصر الصلة بينها والمحاضن التي احتضنت نشأتها، الى ذلك تقصّد ذلك المفهوم، أن يمارس إقصاء لكل ما هو ليس غربياً،دافعاً به خارج الفُلك التاريخي الذي أصبح (الغرب) مركزه، على أن يكون مجالاً يتمدد فيه، وحقلاً يجهّزه بما يحتاج اليه"(2) إنَّ فكرة الاستحواذ على الآخر معرفياً فكرة هدفها الوصول الى بناء التفوق على حساب التعايش الحضاري، فإن جعل كل ما للآخرين من معاني حضارية تنسب للذات المؤسسة من خلال الاختلاق التاريخي للمنجزات التي ليست للذات نفسها، بل قد وجدت من قبلها لحضارات أخرى كما في مواضيع مهمة مثل البدايات الفكرية والفلسفية التي أعتبرها البعض ممن يدرسون التاريخ أن للإغريق قصب السبق بذلك رافضين كل البدايات الفكرية وأنواع التفلسف الأخرى في الحضارات التي سبقت الإغريق  في ذلك، هو من دلائل الاختلاق التاريخي في العقل الغربي ونسبه لحقائق هي ليست له في مجال البدء في الظهور في هذا المجال . وكذلك أنكار ما للفلاسفة المسلمين من دور في ترجمة ونقل الإرث الحضاري الفلسفي اليوناني وبث الروح فيه بعد أن كان قد أهمل من أبناء الحضارة الغربية في ما بعد الفترة الرومانية، وكذلك أنكار العديد من الإضافات التي قدمها الفلاسفة في الحواضر الإسلامية للفلسفة وجعلها فقط للإغريق دون غيرهم، كل هذا يدل على عملية اختلاق لتواريخ خاصة فقط بالمرجعيات الغربية والتي تعد الفترة الإغريقية نقطة التمركز لديهم في مجال التفوق التاريخي على الآخر في الحضارات السابقة. ومن هذا الاختلاق التاريخي الذي وضع في سياق جعل من خلاله كقاعدة للتمدد الحضاري للغرب على الآخرين في بقاء العالم الأخرى، ليبرروا أن الحضارة في الغرب فقط وما هذه القاعدة الفكرية والمعرفية في الغرب الأ اشعاع فكري مبني على أسس وقواعد التفوق التاريخي الذي يميزهم عن باقي مناطق العالم الأخرى وهنا تكمن الغائية التاريخية في هذا المجال .أما باقي الحضارات فهي كانت شعوب بدائية لم تحقق ما يرجو منها قياساً لحضارة الغرب الإغريقية . وهذا ما يؤكده الفيلسوف (برتراند رسل): " إنَّ الحضارة اليونانية حضارة متأخرة بالقياس الى حضارات العالم الأخرى، إذ سبقتها حضارتا مصر وبلاد ما بين النهرين بعدة ألوف من السنين . ولقد نما هذان المجتمعان الزراعيان على صفاف أنهار كبرى، وكان يحكمهما ملوك مؤلهون، وأرستقراطية عسكرية، وطبقة قوية من الكهنة كانت تشرف على المذاهب الدينية المعقدة التي تعترف بآلهة متعددين . أما السواد الأعظم من السكان فكانوا يزرعون الأرض بالسخرة. ولقد توصلت مصر وبابل الى بعض المعارف التي أقتبسها الإغريق فيما بعد، ولكن لم تتمكن أي منهما من الوصول الى علم أو فلسفة . على أنه لا جدوى من التساؤل في هذا السياق عما إذا كان ذلك راجعاً الى افتقاد العبقرية لدى شعوب هذه المنطقة، أم الى الأوضاع الاجتماعية، لأن العاملين معا كان لهما دور بلا شك "(3). إنَّ رؤية (رسل) أن مصر وبابل قدمت معارف لكنها لم تصل الى علم أو فلسفة كما حصل مع الإغريق الذين أخذوا المعارف ووظفوها في علومهم وفلسفتهم وأصبحت تنسب لهم دون غيرهم في مصر وبلاد ما بين النهرين الذين عملوا على اكتشافها قبلهم . ويتضح جلياً مفهوم الاختلاق التاريخي ونسب الحقائق الى غير أصحابها من خلال ممارسة الأقصاء على كل ما هو غير غربي ولا ينتمي الى الإغريق، ويبرر الأقصاء التاريخي لأبناء الحضارات الأخرى بمسألة عدم وجود شعوب عبقرية من جهة، أو لأسباب أجتماعية دفعت أبناء تلك الشعوب للابتعاد عن دائرة الحضارة، أو بسبب السلطة الدينية المسيطرة ومن قبل الكهنة، أو سطوة الحكام الذين يؤلهون أنفسهم في أعين شعوبهم . وهذا ما أشار اليه (هيغل) ومن قبله  (أرسطو) سابقا في مسألة الأستبداد الذي يعيشه المواطن الشرقي، والذي ابعده عن دائرة التفوق والحرية في أنتاج معارف سامية من الممكن أن تتنافس مع الحضارات الأخرى حسب رأيهم .

إنَّ التمايز عن الآخر أصاب الذات الغربية بهوس التفوق حتى بات من الصعب توضيح التاريخ الحقيقي لتحديد هوية الذات المؤسسة التي اختلطت فيها العديد من إنجازات أخرى قد لا تكون دليلاً كافياً على مرجعياتها الثقافية والفكرية ،لأن التاريخ الغربي بات يخفي الكثير من الوقائع التي تفضح أساليبه ويغطي عليها بأمور أخرى ثقافية ذات أبعاد تاريخية غريبة عنه، أو أخذها عن غيره كما في قول (رسل) السابق: أن بعض انجازات بلاد ما بين النهرين وبلاد مصر قد أخذتها الحضارة الإغريقية، وتمثيلها في حضارته ونسبتها لها كما في علوم الفلك وبعض المكتشفات الأخرى في مجالات الزراعة، أو الطب وغيرها، والتاريخ الغربي تاريخ يخفي الكثير من انجازات الأمم الأخرى، " أي أن تاريخ الغرب وكيفية تشكله يخفيان في طياتهما خبايا كثيرة، وجب فحصها ونقدها، لكشف التسترات التي قامت بها الذات الغربية وفضحها، وقصد ملامسة حقيقة الغرب،أو على أقل تقدير الاقتراب منها. (...) ولما كان الغرب مفتتنا بمفهوم القدر التاريخي الفريد الذي يراه في نفيه، كما كان مفتتنا بفكرة السيطرة العالمية والتوسع، قام بعملية تمثيل فكري للحضارات الأخرى ولم يستطع تقبل فكرة الأختلاف عن الآخرين "(4)، كونهم من المنافسين له وأن مشاركتهم في الحضارة لها حضورها في الوعي الجمعي لدى أبناء الشعوب، وعمل الغرب على ابتكار المفاهيم الخاصة بتمثيل فكري لإنجازات الحضارات الأخرى في حضارته ونسبها بعد أن عدل وطور فيها لصالحه .

 

أ. د. محمد كريم الساعدي

.....................

المصادر

1- بوفير: الفلسفة الألمانية الحديثة، ترجمة: فؤاد كامل، بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة، 1986، ص86.

2- د عبد الله إبراهيم: المركزية الغربية، بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون،2010، ص11، ص12.

3- برتراند رسل: حكمة الغرب، ترجمة فؤاد زكريا، الكويت: عالم المعرفة، 2009، ص 28.

4- منير مهادي: نقد التمركز وفكرة الأختلاف، مقاربة في مشروع عبدالله إبراهيم، الجزائر: ابن النديم للنشر والتوزيع، 2013، ص51.

 

 

الدلالات الاصطلاحية للاصلاح الاقتصادي

التفاصيل
كتب بواسطة: د. صلاح حزام

صلاح حزاميتردد الحديث في اكثر من دولة وفي اكثر من مناسبة عن الاصلاح الاقتصادي وضرورة القيام به لتحسين أداء الاقتصاد الوطني.

وقد تكون التصورات مختلفة في اذهان من ينادون بذلك الاصلاح ويتمنون مجموعة من الاجراءات التي تقدم عليها الحكومة لانجاز ذلك الاصلاح.

ولغرض القاء الضوء على المقصود "اصطلاحاً" بالاصلاح الاقتصادي سوف أورد في ادناه عدد من النقاط التي تشكّل مفهوم الاصلاح الاقتصادي:

- هنالك اتفاق على ان اصطلاح "الاصلاح الاقتصادي" يعني الاستعداد لقبول دور متزايد لقوى السوق والقوانين الاقتصادية في ادارة الحياة الاقتصادية.

- انه يعني تراجع الدور المسيطر المباشر للحكومة على الانتاج والتجارة.

- تزايد استقلالية الافراد عن الدولة.

- نمو مؤسسات المجتمع المدني.

- تزايد لامركزية الادارة العامة.

- إصلاح الاسعار والاجور باتجاه ازالة التشوهات التي تسببها سياسات التدخل الحكومية.

- مراجعة اوضاع منشآت القطاع العام والاستعداد لبيع او تصفية او اعادة هيكلة هذه المنشآت وبما يضمن عملها بكفاءة.

- اتاحة المجال امام القطاع الخاص للمبادرة في مختلف قطاعات الاقتصاد الوطني والغاء السياسات التقييدية على حرية المبادرة الاقتصادية.

- الانفتاح على العالم بما في ذلك قبول المشاركات الاقتصادية بشكل استثمارات اجنبية بصيغ مختلفة وبدرجات مختلفة.

- تعتبر الليبرالية جوهر عملية الاصلاح الاقتصادي (ويمكن تعريف الليبرالية بانها : الاعتقاد بأن القوة المحركة للحياة الاقتصادية هي دافع المصلحة الشخصية والمنافسة وآلية الاسعار في ظل سوق حرة. وان هذه الادوات هي افضل مايمكن للوصول الى النمو الاقتصادي والتقدم الاجتماعي وان الدولة عليها المساعدة في هذا المجال. وقد طوّرت ليبرالية القرن العشرين الجديدة neoliberalism دور الدولة بحيث وصل الى امتلاك قطاع عام وتدخلها في منع الاحتكار ومنع تدمير البيئة واستنزاف الموارد الطبيعية ومعالجة الازمات الاقتصادية ومراقبة التوزيع العادل للدخل. وتدعو الليبرالية الجديدة الى مراقبة عمل السوق فاذا ادى الى افضل النتائج المرجوّة فذلك مقبول اما اذا ادى عمل السوق الى مصاعب فأن الدولة تتدخل . كذلك الاهتمام بالوضع الانساني الناجم عن البطالة).

- يقضي الاتجاه نحو الليبرالية إعادة الهيكلة لاسيما مراجعة السياسة المالية والنقدية وآثارها على القطاعات الاقتصادية المختلفة.

- مراعاة العلاقة بين التوازن الداخلي (توازن الميزانية الحكومية) والتوازن الخارجي (ميزانة المدفوعات) والآثار المتبادلة بينهما.

- ان ذلك يعني وضع قيود على الانفاق الحكومي واحترام القواعد المالية والنقدية واتباع حزمة سياسات للاقتصاد الكلي تفضي، مجتمعةً ،الى تحقيق أهداف النمو الاقتصادي المطلوبة.

 

د. صلاح حزام

 

 

سيكولوجية المدح في الاستقطاب الاجتماعي والسياسي

التفاصيل
كتب بواسطة: د. محمد بنيعيش

محمد بنيعيشكل فرد منا نحن بني آدم، مهما كان مستواه أو شكله أو عرقه أو لغته أو لونه أو صوته أو أو أو.. قد يسعى لإثبات وجوده أو لنقل حضوره ضدا على مغيبه، وهذا تأكيد على أن الإنسان حضاري بطبعه . ولا يسعى بعضنا لتغييب هذا الحضور بالتستر والتواري عن الأنظار إلا إذا كان يعاني من شبهة أو نقص قد يطال كماله فينزل منزلته نحو الأسفل .وعلى العكس من ذلك فقد يكون هناك نقص معين فيه قد سبب له تهميشا وتغييبا، ولم لا إغراقا في جب النسيان واللامبالاة، فيحتاج حينئذ إلى من يمد له يد المساعدة للخروج من غياهبه إلى أن يطفو على السطح فيشار إليه بالبنان والتفاح النفّاح، ثم يصبح مسجلا في لائحة الحضور .

وعند هذا التداخل بين بواعث ومعادلة الحضور والغياب يتداخل موضوع المدح مع الذم على نفس الطاولة ويتبادلان الأدوار في الإقصاء والاستقطاب .

أولا: المدح بين الثقة بالنفس واستدراك الكمال

فالمدح لغة" هو إحسان الثناء على المرء بما له من الصفات الحسنة. مَدَحَه كَمَنَعَه مَدحا ًومِدحَةً: أحسَنَ الثَّناءَ عليه.. والمَديحُ والأُمدُوحَةُ ما يُمدَحُ به، جمعُه: مَدائِح، وأَماديح" و"المدح هو ذكر المحاسن، وهو الثناء بذكر الجميل، والمدح لا يستلزم المحبة"و"فالمدح هو إخبار مجرد، وقيل المدح هو ذكر المحاسن بمقابل وبدون مقابل، والمدح يكون بذكر الجميل الاختياري وغير الاختياري". هذا باختصار. وأما الذم فهو"بالفتح مصدر ذم، جمع ذموم، الانتقاد واللوم = ضد المدح."

ومن هذا التناقض الأخلاقي والتعبيري نتساءل: كيف يمكن للمدح أن يصير ذما وللذم أن يصير مدحا، مع أن القصد قد يكون إما إيجابا أو سلبا؟، وهنا تتدخل الكيمياء الأخلاقية لتحليل العناصر المتركبة منها المادتين.

وكمنطق علمي فلابد من البحث في أسباب المبادرة وبواعثها النفسية، قبل الاعتبارات المادية والظواهر الاجتماعية، وهذه الأسباب سيلخصها أحد فحول الفكر الأخلاقي الكبار، وهو أبو حامد الغزالي من كتاب الإحياء الثالث في أربعة أسباب:

السبب الأول هو شعور النفس بالكمال: وهذا ما يمكن وصفه بـ "الأنا" حسب المصطلح الحديث، والهوية والشخصية وما إلى ذلك، وهذه "الأنا" تطلب دائما أن تكون هي الأعلى. أعلى على المستوى الفردي، وأعلى على المستوى الجماعي، وهذا ما يمثله الطموح السياسي الذي يسعى للحكم والتحكم وإصدار الأوامر والنواهي، وفيه منتهى التطلعات على المستوى الظاهري.

والكمال هنا قد يتفاوت بحسب القيمة التي تعطى للأشياء في المجتمع. فقد يكون الأمر متعلقا بالظواهر الجسدية الجلية، كطول القامة واستقامتها أو قصرها وانكسارها، وصفاء اللون وعذوبته أو بحته وخشونته...والمدح في مثل هذه الحالات لا يورث لذة أو متعة تذكر، لأن لها منافسات عدة كما أنها مرحلية ومتغيرة، بل ما يعتبر ممدوحا في مجتمع قد يكون مذموما في مجتمع آخر .وهذا الأمر ربما سيجرنا إلى جدلية "القبح والحسن العقليين" عند الفلاسفة والمتكلمين.

لكن الكمال الذي يورث لذة لدى الممدوح حين مدحه هو حينما يتعلق الأمر بمسألة غير محصورة ويدخلها الشك في النفس من طرف الممدوح، كفي مستواه العلمي مثلا أو ورعه ونزاهته ودقة صنعته وخبرته، " فإن الإنسان ربما يكون شاكا في كمال حسنه وفي كمال علمه وكمال ورعه ويكون مشتاقا إلى زوال هذا الشك بأن يصير مستيقنا لكونه عديم النظير في هذه الأمور إذ تطمئن نفسه إليه فإذا ذكره غيره أورث ذلك طمأنينه وثقة باستشعار ذلك الكمال فتعظم لذاته".

وعند هذه النقطة سيتداخل موضوع المدح مع الذم بحسب طبيعة المادح، بحيث إذا كان المادح من المستوى الرفيع ومن علية القوم علما وشرفا ومكانة فإن هذا المدح سيكون كمالا للممدوح، لكن إذا كان المدح من سفلة القوم وأراذلهم، أو بالأحرى ممن ليس لهم إلمام بالمستوى أو التخصص الذي يكون عليه الممدوح فذلك سيصبح مؤلما للممدوح إن كان فعلا هو على مستوى رفيع. أما إن كان متقمصا لشخصية عالم أو مفكر، أو رجل دولة، أو ولي صالح، أو طبيب مختص، وهو ليس له من ذلك سوى الادعاء والتطفل فإن المدح حينئذ قد يزيده غرورا وبطرا وتكبرا ونقصا ووهما كماليا .

لكن المدح المفيد للكمال والجمال الأكيد فيكون مثلا" كفرح التلميذ بثناء أستاذه عليه بالكياسة والذكاء وغزارة الفضل فإنه في غاية اللذة وإن صدر ممن يجازف في الكلام أو لا يكون بصيرا بذلك الوصف ضعفت اللذة وبهذه العلة يبغض الذم أيضا ويكرهه لأنه يشعره بنقصان نفسه"حسب تعبير الغزالي.

أما السبب الثاني والثالث في المدح فهذا مربط الفرس لدينا في هذا المقال المختصر، وهما عبارة عن غريزة الامتلاك والسيطرة عند الإنسان من خلال صيد المدح والترويج له. وهما يسيران على نحو متناقض تماما كما هو عليه الحال بين المدح والذم حينما يوضعان في غير محلهما .

فالسبب الثاني قد يكون من باب سيطرة الممدوح على قلب المادح، ولكن ليس كل مادح بل ينبغي أن يكون صادرا من شخصية مرموقة وذات أهمية اجتماعية ومالية وحتى سياسية، كما يحصل من مدح بعض الرعايا ووجهاء القوم في حضرة حاكمهم، أو من بعض المريدين لشيخهم وأستاذهم أو إمامهم.فبقدر ما كان المادح له قيمة بقدر ما ازداد الممدوح فرحا واغتباطا بهذا المكسب، الذي قد تكون له انعكاسات مادية أو معنوية على المستوى الفردي أو السياسي العام.لكن حينما يكون المدح من رعاع الناس وعامتهم فذاك ليس إلا...

ومن نفس خلفية الامتلاك هذه نقول أيضا بأن هناك مدح ممن هو أدنى لمن هو أعلى مقاما لغاية جعله مِلكا له في مقام المادح الصغير وليس كممدوح كبير.وهذا قد يقع بين بعض أفراد الرعية والخدام والمتزلفين نحو المناصب بالتقرب إلى السلطان. فتجد المادح يستعمل أساليبه الفنية والنثرية والشعرية والمتمسكنة حتى يحصل له التمكن من قلب الحاكم، الذي قد ينقلب في لحظة وعند الغفلة من حاكم إلى محكوم وآمر على مأمور، ويصبح الحاكم نفسه حينئذ لعبة في يد حاشيته وندمائه لهذا السبب.

ثانيا: الوسائط في الثناء والاستقطاب غير المباشر

أما السبب الثالث فهو مرتبط بهذا المعنى ولكن بالقنص عبر الوسائط، وهنا يمكن إدراج الوسائل الإعلامية في الإشهار والتشهير والاستطلاع والتزمير، تماما كما كان يفعل الشعراء مع الخلفاء قديما، بحيث كانوا يضربون عصفورين بحجر واحد. الأول كسب قلب الحاكم حيث العطايا والهدايا والحظوة. والثاني الترويج لحكم الحاكم وملك قلوب العامة بتحريك العواطف وذكر المناقب والمنجزات التي قد تكون صحيحة أو وهمية، المهم هو أن الخطاب يكون قد وصل إلى القلوب والمشاعر .

فكما يرى الغزالي: "أن ثناء المثني ومدح المادح سبب لاصطياد قلب كل من يسمعه لاسيما إذا كان ذلك ممن يلتفت إلى قوله ويعتد بثنائه وهذا مختص بثناء يقع على الملأ فلا جرم كلما كان الجمع أكثر والمثني أجدر بأن يلتفت إلى قوله كان المدح ألذ والذم أشد على النفس".

وهذا المعنى يكاد يشبه ما يصطلح عليه في عصرنا ب"البروباغاندا" السياسية والإعلامية.والتي تمارس على أعلى مستوى، وفي مختلف المجالات، وخاصة السياسية والدعوية والطائفية. فيأتي الشخص من ذوي المكانة العالية علميا وإداريا وسياسيا مشحونا بحزمة من المدائح عند التجمعات، وإن كان هو بدوره غير مقتنع علميا أو سلوكيا بممدوحه، فيستَغل أو يوظَّف في مثل هذه التجمعات تحت شعار "إياك أعني واسمعي يا جارة". وما أكثر ما تصيدت به الجماهير من هذا الباب وغلب عليها العقل الجماعي وسيقت سوق البعير وهي لا تدري ! فتجدها تتمسح وتتمدح وتصيح وتذرف الدموع تفاعلا من خلال هذه المدائح، فتكون في النهاية المصيدة الصائدة.

وهذا الأمر والتفاعل بالمدح قد يحتمل نتيجتين متناقضتين أيضا. فإما أن يكون المادح و الممدوح من الصادقين والصالحين فعلا فيكسب المستمع وده وفضله وينتفع به، وإما أن يكون الممدوح ذئبا عاويا يفتك بالقطيع فيرديها الموارد، فيكون المادح من حيث لا يريد أو يدري مساهما في هذا المطب الصائد.

وعند السبب الرابع قد يلعب الوسيط نفس الدور ولكن مع وجود مانع أخلاقي لدى الممدوح ألا وهو الحياء والحشمة، وعدم الجرأة على إبراز مواهبه أمام الجمهور .فيكون المادح حينئذ ممن يبرز هذه الخلال نيابة عنه، ولكن بشرط أن يكون المادح ممن تعتبر مكانته في المجتمع وإلا انقلب المدح ذما والرفعة سفلا.

وخلاصة القول فإن الشريعة الإسلامية قد وردت فيها إشارة إلى هذه المعاني والمخرجات النفسية والاجتماعية لما يمكن للدعاية والثناء أو الذم أن تفعله في نفس المستمع والمادح والممدوح معا .فكان النهي من جهة وكان التوظيف من جهة أخرى وكان التخصيص بالكمال حيث المدح المطلق .

يقول النبي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: "إِذَا رَأَيْتُمُ الْمَدَّاحِينَ فَاحْثُوا فِي وُجُوهِهِمُ التُّرَابَ".

وفي نفس الوقت كان يستبشر ويجيز لحسان بن ثابت أن يمدحه:

وَأحسَنُ مِنكَ لَم تَرَ قَطُّ عَيني       وَأَجمَلُ مِنكَ لَم تَلِدِ النِساءُ

خُلِقتَ مُبَرَّءً مِن كُلِّ عَيبٍ           كَأَنَّكَ قَد خُلِقتَ كَما تَشاءُ

وفي باب الكمال ومدح الذات والصفات والأفعال الإلهية يقول النبي صلى الله عليه وسلم:". ما مِن أحَدٍ أغْيَرُ مِنَ اللَّهِ، مِن أجْلِ ذلكَ حَرَّمَ الفَواحِشَ، وما أحَدٌ أحَبَّ إلَيْهِ المَدْحُ مِنَ اللَّهِ".

فعلى الفاهم والحاذق أن يفهم متى يمدح ومتى يذم . ولا نحصي ثناء عليك يا الله فأنت كما أثنيت على نفسه.

 

الدكتور محمد بنيعيش

كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة المغرب

 

 

الترامبية بين الثقافة الديمقراطية وثقافة القطيع

التفاصيل
كتب بواسطة: د. عامر صالح

عامر صالحالديمقراطية منذ نشأتها الأولى وبما يؤرخ لها منذ عام 500 قبل الميلاد في أثينا وفي بقاع اخرى من العالم لم تأتي لأطفاء او ألغاء الغرائز الانسانية الفطرية في المنافسة واشباع الدوافع الاساسية من جوع وعطش وجنس وتجنب الألم والارتقاء الى مستويات اعلى من الحاجات في الأمن والثقافة والأبداع، بل اعادة تنطيم اشكال اشباع الغرائز الانسانية استنادا الى الاجماع الاجتماعي في اضفاء البعد الانساني والحيلولة دون وقوع ما يفني العضوية الانسانية بسبب من عوامل المنافسة خارج أطر القيود الاجتماعية المشروعة الناتجة من العقد الاجتماعي، والديمقراطية هنا افضل الحلول النسبية لما توصل له الفكر الانساني لحد الآن على اقل تقدير.

لقد شكلت نقطة التحول الفسيولوجية التشريحية الحاسمة بالنسبة للإنسان وانفصاله النسبي عن مملكة الحيوان هي بامتلاكه الجهاز العصبي المتطور، وبشكل خاص امتلاكه للدماغ ونصفي الكرة المخيين المتخصصين تخصصا عاليا ديناميكيا، وخاصة القشرة الدماغية المتطورة وذات التخصص الدقيق ذو الصلة المباشرة بالعمليات النفسية أو العمليات العقلية العليا أو النشاط العصبي الأعلى " حسب تعبير علم الفسيولوجي " الذي تجسده عمليات التفكير والانتباه والتخيل والتصور والتعلم والإدراك والتذكر والبرمجة والتخطيط، والاهم من ذلك كله هو نشوء الأساس الفسيولوجي التشريحي للغة ونشأة اللغة نفسها التي أضفت على العمليات العقلية بعدا معقدا، حيث لا يمكن تصور العمليات العقلية خارج إطار اللغة، لأنها تلعب دور الممول لمحتوى العمليات العقلية وخاصة عبر عمليتي التجريد والتعميم اللازمتين للعمل الفكري. وفي هذا الانجاز التاريخي أعلن الإنسان انفكاكه عن الغابة وتحوله إلى كائن رمزي منتجا للحضارة المادية والمعنوية وللثقافة بمفهومها الواسع.

هذه النقلة النوعية التي حققها الإنسان في سلم التطور البيولوجي لم تلغي إبقائه مشتركا مع أسلافه في الكثير من العمليات الفسيولوجية التي تضمن له البقاء والاستمرار، أو ما نسميها بعلم النفس بالدوافع الفسيولوجية الأولية وهي فطرية في أساسها ومشتركة بين مختلف أنواع الكائنات العضوية، ومنها دوافع الجوع والعطش والجنس وتجنب الألم وكالحاجة إلى الهواء، والاحتفاظ بحرارة الجسم، والحاجة إلى الراحة والتخلص من التعب وغيرها، إلى جانب طبعا دافعية العدوان" المنازلة والمنافسة "، إلا أن رمزية الإنسان " ثقافته بمعنى اشمل " أضفت على جميع هذه الدوافع بعدا اجتماعيا تطبيعيا يستجيب لمكانة الإنسان الجديدة، وعلى أساس ذلك نشأت ثقافة الأكل والشرب وثقافة الجنس وكذلك " ثقافة " أو "حضارة" العدوان والعنف، وتتنوع هذه الثقافات ومظاهرها متأثرة بعوامل غنى البيئة وثرائها ومدى تطورها الفكري والاقتصادي والاجتماعي والتقني والمعلوماتي.

كانت الديمقراطية ولا زالت هي الأستجابة الانسانية الأولى لأعادة رسم واشباع مختلف الحاجات الانسانية عبر مايسمى بالعقد الأجتماعي الذي يقترن به دستور معبر عن مصالح المكونات المجتمعية الى جانب سيادة  القانون ومجتمع مدني وصحافة حرة ومستقلة للتعبير عن مختلف الأراء. "ولايمكن طبخ الديمقراطية دون الاعتماد على ميزان الاقلية والاكثرية.صحيح ان الديمقراطية ليست نظام مائة في المائة ولانظام 99%99 بالمائة ولكنها نظام 50+ 1 في ابسط تجلياتها عن حكم الاكثرية. لكن نصاب الثلثين هو الميزان الحقيقي للاكثرية ولذلك تصدر اغلب القوانين والتعديلات الدستورية والاستفتاءات بهذه النسبة لكي تعبر عن رأي الاكثرية في المجتمع".

وقد شكلت اركان الديمقراطية الأساسية احد عوامل دعم البنية التحتية للديمقراطية وديمومتها وتجددها، والمتمثلة بأرزها: الأنتخابات النزيهة الحرة والشريفة، والتسامح السياسي، وسيادة القانون، وحرية التعبير، والمساءلة والشفافية، واللامركزية والمجتمع المدني. وقد اثبتت التجربة التاريخية لممارسة الديمقراطية الى أفراز ابرز محاسنها وهي: الاستقرار السياسي، التجاوب الفعال في اوقات الحروب، انخفاض مستوى الفساد، انخفاض مستوى الارهاب، انخفاض الفقر والمجاعة، السلام الديمقراطي" أي ان الديمقراطيات لا تدخل في حروب فيما بينها"،  انخفاض نسبة قتل الشعب وارتفاع نسب السعادة.

لقد جاء ترامب ليقلب موازين القوى في دولة عمر الديمقراطية فيها اكثر من مائتي عام بأستناده الى خطاب القطيع الذي يلغي الديمقراطية  كخطاب موجه الى المجتمع بأكمله وبكل تنوعه الأثني والثقافي الى خطاب منفعل قوامه العزف على الأصول العرقية والثقافية والأثنية واستنهاض الغرائز الأولى ذات الصبغة العدوانية والتحريضية على الانقسام المجتمعي وبما يفضي الى تشظيته وتحوله الى كانتونات متعادية ومتخاصمة ولا يمكن الجمع بينها على اساس المواطنة المتساوية، فقد كان غبيا بارعا في العزف على سمفونية افضلية الجنس الابيض،  " لديكم جينات جيدة، تعرفون ذلك، أليس كذلك؟ إنها نظرية سباق الخيل. هل تعتقدون أننا مختلفون جداً؟ نعم لدينا جينات جيدة في مينيسوتا". المتحدث، بالطبع، هو دونالد ترامب، الذي لعب، على ما يبدو، ببطاقة التعصب في تجمعه  الانتخابي ويصف أنصاره البيض بالتفوق الجيني.

المشكلة الأولى: أن دونالد ترامب لم يمثل حزباً سياسياً هُزِم في انتخابات الرئاسة، بقدر ما يُمثل تيارات اجتماعية متعددة وقوية.

كلمة "متعددة" هنا مهمة. ذلك لأن أهم نجاح لترامب كان في جمعِه تيارات مختلفة ورائه.. تيارات لها ليس فقط مصالح مختلفة، ولكن أيضاً أفكار وتصورات متضاربة.

أهم هذه التيارات هي:

أقصى اليمين الرأسمالي، الذي يريد تحجيماً كبيراً لدور الدولة في كل قطاعات الاقتصاد الأمريكي تقريبا.

أقصى اليمين المسيحي، الذي يريد قوانين داخلية يراها متبعة رؤيته لقوانين الله. والذي أيضاً يريد سياسة خارجية تعكس قناعات دينية لذلك التيار.

مجموعات واسعة في أسفل الطبقة الوسطى، خاصة من ذوي البشرة البيضاء، الذين يرون في التغيُرات الاقتصادية في الولايات المتحدة في العقدين الماضيين إفقارا لهم وتراجعاً لمستويات معيشتهم. وعليه يريدون سياسات داخلية وتوجهات خارجية ضد تلك التغيُرات الاقتصادية.

ترامب نجح في جمع هذه المجموعات وراءه. صحيح، أن جغرافيا الولايات المتحدة الشاسعة، وهيكل الإعلام فيها (بتعدديته)، والنظام الانتخابي فيها، يُسهِل على أي سياسي أن يصل لمجموعات مختلفة من الناخبين برسائل مختلفة، وأحيانا متعارضة. لكن ترامب برع في ذلك الوصول المتعدد لتلك المجموعات المختلف.

المشكلة هنا ان ترامب عزف على خطاب ليست واقعي بمسلمات المنافسة الانتخابية حول برامج ما بل عزف على انفعالات خالصة تستنهض العدوان والتحريض واحتمالات القتل. فقد استند ترامب الى الأشاعة بما فيها من تضخيم وتنميق ومبالغة حد الخرافة والدهشة، ويمكن للإشاعة أن تنتقل عبر الجمهور وأيضا بواسطة وسائل الاتصال، أمام التطور التكنولوجي وسرعة انتقال المعلومة التي قد تحمل الصدق أو الكذب، والجمهور ميال بطبعه لتصديق الإشاعة لما تحمله من إثارة وتشويق، من هنا نعتقد أنه يتم استغلال الإشاعة بكثير من الخبث للتأثير في الجمهور النفسي، خاصة إذا كان القائد انتهازيا ميكيافيليا، حساباته دنيئة، فيستغل قوة الجماهير وسذاجتها لتحقيق مآرب قد تبدو ذات نفع عام، وما هي في الحقيقة سوى دسائس شخصية، تروم تحقيق السلطة والمال والضغط على الآخر، ولو أن سيجموند فرويد يرى أن محرضات الجمهور تكون نبيلة أو خبيثة، فالجمهور يتأثر ويندفع ويصدق الإشاعة بسرعة في غياب حس نقدي أو بعد نظر لما قد يأتي من عواقب للأحداث، ويتسم الجمهور بالعواطف البسيطة التي تتأجج بسرعة متلاحمة بين أفراده، فيجد الجمهور نفسه أمام وضعية أو وضعيات تتطلب رد فعل أو مبادرة أو التخلص من موقف أو اتخاذ قرار، وهنا يتجلى أبداع الجمهور ليبدع وينتج الحلول بكيفية لا تخرج عن دائرة الجماعة، وهو بذلك يفكر بعقل الجمهور، وتحت تأثيره النفسي، ويقوم الجمهور بوضع قواعد للاشتغال وخطط، قد تبدو له جامحة لتحقيق أهداف تمت صياغتها من طرفه أو من الخارج، أو من طرف “القائد”، وتبقى طموحات الجمهور غير واضحة المعالم، فقد تتلاشى بفعل الزمن أو امتصاصها من الطرف النقيض، أو قد تصل الذروة لتجد من يحولها في اللحظة الحاسمة لفائدة جهة معينة، لأن البداية، بداية اندفاع الجمهور لم يكن مخطط لها، حكمها اللاوعي واللاشعور، وتلك القوة المكبوتة المقموعة التي دقت ساعة تفجيرها، فالجمهور نزاع لكل ما هو متطرف، وما إن ينفلت من عقاله حتى ينخرط في العنف والتخريب والتكسير، لهذا نجد التعامل معه يتوجب الحذر وعدم مواجهته بالعنف.

ترامب، الذي رفع منذ فترة حملاته الانتخابية عام 2016 شعار «فلنرجع أمريكا عظيمة مجددا» تمكن، خلال «غزوة الكونغرس» من تسديد أكبر الضربات المهينة لصورة الولايات المتحدة الأمريكية كدولة ديمقراطية، بتحريض المتطرّفين من أنصاره على الهجوم على مركز إصدار القوانين وتمثيل الأمة الأمريكية، وأحد أهم المواقع الرمزية للعظمة التي يتغنى بها، وبإهانته كل عناصر هذه العظمة، بدءا من مؤسسة الرئاسة نفسها، التي أصبحت، خلال حكمه، مركزا لإطلاق الأكاذيب، وإثارة الغرائز، وتحريض قسم من الشعب على القسم الآخر، مرورا بالمحكمة العليا، المنوطة بحماية الدستور والقوانين، ومجلسي النواب والشيوخ، اللذين تعرضا للاقتحام، ولمحاولة التلاعب بهما بكافة الأشكال الممكنة، ومرورا بالقضاء والأجهزة الحكومية، والمؤسسات الأمنية، وانتهاء بالإعلام، الذي كان محطا لهجماته وإساءاته.

وبالتالي عمل ترامب على خلق قطيع انتخابي ذو مواصفات غوغائية عدوانية، ابرز ملامحها هي:

الشعور باللامسؤولية:

عندما يجد الفرد نفسه في صلب المجموعة «الغوغائية» أو «القطيع»، فإنه يشعر بـ «قوة لا تقهر» ويتخلص بالتالي من كبح النفس والزواجر التي كانت تمنعه من التحرك ويحتمي بالتالي بالمجموعة ويشعر بالأمان في وسط «القطيع». عندها قد يصل به الأمر إلى ارتكاب أفعال لا يجرؤ بمفرده على إتيانها «مواجهة شرطة الشغب، عمليات التخريب، السطو على البنوك والمحلات التجارية، مهاجمة الأملاك الخاصة والعامة وغيرها من الأفعال الغوغائية التي قد يدخل فيها أيضا الاغتصاب الجماعي وهي من أشنع الجرائم التي قد تنجم عن عقلية القطيع.

تنتفي روح المسؤولية والاحساس بالمصلحة العامة تماما وتحل محلها نشوة البطولة الزائفة والانتصار لقضية قد لا يفهمها الغوغائيون وإنما تحركهم أياد وتوجههم مثل قطع الدومينيو أو البيادق فوق رقعة الشطرنج، مجرد أجساد وطاقات جسدية بلا فكر ولا حس ولا روية. إذا ما «غرق» الفرد في القطيع فإنه يفقد ذاته وقد يصعب بعد ذلك الوصول إليه، الأمر الذي يشعره بالأمان وبأن يد العدالة لن تطوله لمحاسبته عما فعله.

الإصابة بالعدوى:

يتحدث غوستاف لوبون في كتابه "سيكولوجيا الجماهير" عن «انتقال العدوى» بين الغوغاء والقطيع وهو ما يسميه كتاب آخرون في مؤلفاتهم ودراساتهم على غرارديفيد هيوم «التعاطف». قد تبدأ «العدوى» على مستوى فردين اثنين فقط أو أفراد يعدون على أصابع اليد قبل أن تسري بعد ذلك سريان النار في الهشيم ويتم ذلك خاصة عبر «بث الشائعات» و«المبالغة» و«التهويل» الأمر الذي يهيج المشاعر ويخاطب المشاعر وينفي العقل وملكة الفكر التي تسمح بتبيان الحقيقة من الافتراءات. تنقل العدوى من الفرد إلى العائلة فالجيران قبل أن تصل إلى الطريق العام وتشمل القرية فالمدينة ثم البلاد ثم العالم ليحدث بعد ذلك العنف والتخريب لجلب الانتباه. لا شك أن وسائل التواصل الاجتماعي تلعب دورا كبيرا في تغذية «العدوى» وتكريس عقلية «القطيع» وبث «الشائعات» و«الأخبار المفبركة» لكن يجب ألا ننكر جوانبها الايجابية إذا ما أحسن استخدامها.

غيبوبة الفكر:

إن الفرد يذوب في «القطيع» الأمر الذي يصيبه بما يشبه «الغيبوبة الفكرية» ويصبح وكأنه تحت تأثير «التنويم المغناطيسي». عندها لن يكون له أي رأي فوق رأي «القطيع» كما يصبح مجردا من أي عواطف وأحاسيس خاصة به. هذا ما يفسر القرارات التي يتخذها «القطيع» والتي تتناقض تماما مع مصالح «الفرد» أو «الأفراد» الذين يكونون "القطيع".

تذوب «الشخصية الواعية» وتحل محلها «الشخصية غير الواعية» في صلب «القطيع». عندها يسهل على متزعمي «القطيع» توجيه «أعضاء القطيع» عبر «العدو» والأمر «وحتى عبر «الغمز» و«الإشارة» و«الرسالة المشفرة» أو «الايحاء». عندها يسهل تحويل «أفكار القطيع ومشاعره المتشنجة» إلى «أعمال عنف» و«مظاهرات» و«شغب» و"تخريب".

يقول المؤلف جوستاف لوبون في كتابه «سيكولوجيا القطيع»: «إن الفرد في القطيع لن يكون فردا بل يتحول إلى آلة ميكانيكية مسلوبة الارادة، تسيرها إرادة أخرى خارجة عنها وتوجهها الوجهة التي تريدها». يعتبر المؤلف أن الفرد الذي يتواجد مع المجوعة لا يتحول بالضرورة إلى جزء من «القطيع» - يتطلب هذا الأمر تحلي «الفرد» بروح المسؤولية والوعي والقدرة على النقد الذاتي إضافة إلى إلادراك.

هكذا فعل ترامب بأنصاره بتحويلهم الى كتل هامدة لا قدرة لها على الخيار السليم واخضاعهم لعمليات التنويم المغناطيسي لغسل ادمغتهم بغسيل العنصرية والشوفينية القاتلة للديمقراطية، ولكن الديمقراطيات العريقة يفترض ان تجدد نفسها بأعادة انتاج خطابها المسالم والجامع للحمة الوطنية ومحاسبة مرتكبي جرائم انتهاك الديمقراطية ولعبتها في التدوال السلمي للسلطة. 

الذي فرح لكل ما جرى لديمقراطية أمريكا هم من الأسلامويين والدكتاتوريين من الانظمة الشمولية الذين وجدو في ذلك فرصتهم السانحة للتنفيس عن فشلهم واخفاقهم واستباحة دماء شعوبهم، واعتبروا احداث امريكا هي مؤشر لنهاية الديمقراطية  التعددية في امريكا وفي العالم، بل يوعدون العالم بديمقراطيات لا نعرف منها شيئ إلا عبر التصفيات الجسدية والاغتيالات والفساد الاداري والمالي وانتهاك المال العام.

في الديمقراطيات الهشة والنظم القمعية ستجد ما يجري في أمريكا فرصتها "الذهبية" لتبرير كل أفعالها المشينة للعبث في الأستقرار والتداول السلمي للسلطة وتكريس منطق السلطة الغنيمة وعلى طريقة ما ننطيها. سينتظر الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته وصلاحيته"ترامب" طريق قضائي وقانوني طويل على خلفية تحريضه باستخدام القوة والعصيان ضد الديمقراطيةومؤسساتها الدستورية وتعريض السلم الأهلي والمجتمعي إلى الخطر بل وهناك توجه لمنعه من ممارسة السياسة لاحقا فهل تتم الأستفادة العالمية من تلك التجارب ام تبقى حكرا للأمريكان.

 

د.عامر صالح

......................

المصادر:

عامر صالح: العدوان عند الأنسان والحيوان

عامر صالح: سيكولوجيا احتجاجات اكتوبر العراقية

روبرت كوهلر: أمريكا 2020 الفوضى المقبلة

طارق عثمان: الوصول لحافة الفوضى

محمد حماس:  غريزة القطيع لدى الجماهير

كوستاف لوبون:  سيكولوجيا الجماهير

موقع موضوع: مفهوم الديمقراطية

نبيل ياسين: تاريخ الديمقراطية

 

 

قادة التاريخ الى أين؟

التفاصيل
كتب بواسطة: د. عبد الجبار العبيدي

عبد الجبار العبيديصحيح ان دراسة التاريخ تشمل الماضي والحاضر ولربما تكهنات المستقبل، لكن هذا المقياس يختلف باختلاف الزمان والمكان والناس وثقافة المؤرخ.. ان ما يتم اختياره في الادب يختلف عما يتم اختياره في الفن والرسم .لذا فان الاختيار يجب ان يكون أنتقائياً ومحددا حين ينطوي على تجربة معينة للحاضر والمستقبل وما يهم امور الناس والاوطان معاً. لان التجارب هي حصيلة ما ينتج من عمل الانسان في الزمن المعين سواءً كانت ناجحة او فاشلة ومن هنا يتكون منهج الاستفادة عند الناس من التاريخ.

وحين ندرس التاريخ على انه منافع ناجحة للناس، ونعرضها لهم بشكل مشوق ومقبول منطقياً، نستطيع ان نخلصهم من المعاناة الحياتية نفسها وتجشم متاعبها، لكي تبقى مناهجه نجوما لامعة تهدي دروب الاخرين عند الاهتداء بها في التجربة الحياتية المعتمدة، سواءً كانت هذه التجارب للافراد او الجماعات او الشعوب، لانها في النهاية سوف تنفع الجميع نحو عمل الخير دون أستثناء.. وهنا تكمن فلسفة التاريخ .

اذا طبقنا هذا المنهج العلمي في الدراسات التاريخية على المناهج العلمية الأخرى.. نراه منهجا علميا لا يختلف عن المنهج العلمي لبقية العلوم كالرياضيات او الفلك اوغيرهما، لكنه يختلف تماماً عن المنهج التاريخي او قل التكهن التاريخي بقراءته للعبرة والاتعاظ بها كما في مؤرخينا الأوائل الذين أساؤا الينا دون قصد، لذا يجب علينا ان ننقي وان نكون حذرين في قراءة الأصول، فالكتابة التاريخية لا تحتاج الى دقة فحسب بل الى ذكاء كي لا ننقلها على عواهنا للأخرين لنثبت الخطأ، لان منهجية العبرة والاتعاظ لا تصلح الا في حالات معينة وضيقة جدا حين تتشابه الاحداث والفترات الزمنية كما في بعض أعمال المقاومة وأحداثها، وهذه حالات نادرة الحدوث. لان مثل هذه الحالات لا تتكرر بكل ظروفها ابداً، ومن هنا فأن قراءة التاريخ للعبرة والاتعاظ ضرب من الوهم الذي لا معنى له ابداً.، ولان الحسن لايمكن ان يدوم وكذلك القبح لا يمكن ان يدوم، لذا فالمقياس العلمي او المنهجي التاريخي يخضع للتغيير وليس للثبات دون تغييركما تدعي فلسفة الفقهاء المتدينين.. .

الامم والجماعات وحتى الشخصيات المستقلة تنآى بنفسها عن تجارب الاخرين، واكثر ما يزعجها ان تسير في أعقاب الاخرين، ومن هنا فقد كانت المواعظ أثقل شيء على قلوب الناس، لذا فرجال الدين كثرة ما يرددون من مواعظ عامة وخاصة في كل مناسبة ودون تعيين وتطبيق من أنفسهم من أجل الهيمنة المقدسة على الأخرين، فقد مل الناس مواعظهم واصبحوا يرمونهم بالسطحية والسفسطائية ويعرضون عنهم، ففلسفتهم الكلامية الغير النافعة اصبحت لاتدخل عقول الناس حتى ملوهم ولم يصبروا على سماعهم اليوم وأنا واحد منهم، ولا يتجاوبون معهم الا في حالات خاصة ونادرة احياناً لكونهم عشوائي الفلسفة والمنطق.. .لدرجة اصبح رجل الدين بنظر العامة نشازاً لا يقبل لغموض في التعبير، وحتى هو نفسه بدأ يشعر بالأحباط.. وهذه خسارة للنص الديني الرصين، الذي يجب ان يفسر او يقرأ وفق النظرية العلمية خارج نظرية الترادف اللغوي الخاطئة والمكررة منهم دون تدقيق.. ليحتل المكانة الرفيعة في قلوب سامعيه.

فاذا كان التاريخ للعبرة والاتعاظ، فلم َ لم تتعظ قادة الامم بما جرى للسابقين؟حين تكرر نفس الاخطاء دون اتعاظ او تصحيح. فأذا كنا ننتقد عهدا او حاكما، فلماذا نكرر ما فعلوه كما هم حكام العراق الجهلة اليوم عندما تعاونوا مع المحتل من أجل التغيير وها هي النتائج العكسية اليوم . وكذلك الحروب والغزوات ان لم تكن دفاعاً عن الاوطان والقيم فهي لا تفيد القائمين بها في شيء، فقد ادت الحروب والغزوات الى اضرارجسيمة ما حسبها القائمون بها وقت تنفيذها كما في الحرب العالمية الاولى والثانية وغزو العراق الباطل للكويت.. والغزو الامريكي للعراق وأفغانستان .وما تكرره أيران اليوم على المجاورين.. فقد كانت الخسائر باهظة الثمن ان لم نقل افقدت الدولة الغازية مستقبلها الذي كان يجب ان يكون كما في كراهية الشعب العربي لأيران اليوم التي ساهمت وتساهم في التدمير.

هكذا تجرعت الناس محن الحروب والقادة الذين نالهم الاذى والاغتيال لما اقدموا عليه دون معرفة بالعواقب، مدفوعين بالعاطفة الشخصية او الدينية وحب الظهور والسيطرة على الاخرين.. كما في الفتوحات الاسلامية اللامبررة في فتح بلدان الشعوب سوى للهيمنة والسيطرة والسلب والنهب وانتهاك الاعراض.. بحجة وما ملكت أيمانكم.. وهي مخالف للنص "لكم دينكم ولي دين" فعلام الأعتداء ؟. وتلك عاقبة المعتدين. والمعتدي دوماً هو الخاسر الأكيد لأن الحق ما جاء ليساند المعتدين وهولا يحب المعتدين آية حدية التنفيذ لا تقبل الأختراق حتى من الرسل والأنبياء.. فكيف لو كانت من عامة الناس..

لذا من يدعون قادة العراق اليوم في حيرة من امرهم يقتلهم الندم لخيانتهم مبادىء القرآن والدين.. لكنهم يكابرون بنفوسهم الدنيئة في زمن ما حسبوه الا لهم دون الأخرين.؟ قصر نظر في الثقافة والتفكير.

واذا كان قادة الحروب والغزوات مدفوعين بدوافع نرجسية معينة كما في قادة العراق اليوم، فما ذنب الشعوب التي نالت منهم الخراب والدماروتحطيم الكبرياء الانساني، وماذا يبقى للانسان اذا آستذلت كرامته وتحطمت كبرياؤه؟ ألم تكن هذه النتائج اعمالا وحشية قامت بها القيادات التي لا تعترف بالقانون متخذه من قانون الغاب شريعة لها، والا كيف تجاسر بعض قادة العراق الطارئين عليه تجنيس ألاف الأجانب ومنحهم حقوق العراقيين من اجل ضمان أصواتهم في انتخابات الفاشلين.. والمواطن العراقي مسلوب الحقوق.. وفي النهاية كانت وستكون نهاية الحساب ويل وشر ودمار عليهم وعلى شعوبهم، ولكن هل فهم الناس وقادتهم ذلك ؟ واذا فهموه هل سيطبقون ما حل بهم ام سينسون الذي حدث؟. من اجل ان تفهم عليك ان تقارن بين نظرتين في تقييم الامور، الاولى نظرة متطرفة، والثانية معتدلة، الاولى تعتمد على الخيلاء الكاذبة والثانية على الاحساس الانساني العميق ، مجسدا في قول المتنبي رفيق السيف والمعري رفيق الاحساس الانساني العميق.

يقول المتنبي:

 ولا تحسبن المجد زُقاً وقينةً  بل الحرب والضرب والفتكة البكرِ

ويقول المعري:

 تسريح كفك برغوثاً ظفرت به أبر من درهمٍ تعطيه محتاجا

فرق بين النظرتين المثاليتين كبير.. أي فرق بين الأحساس الأنساني والخيلاء الفارغة.

ويبدو ان الجهلة دوماً مع البيت الاول للمتنبي لما ورثوه من عادات وتقاليد ومن غزوات وحروب لم نجنِ منها الا الويل والثبور وعظائم الامور.اما المعري فعدوه جبانا يخاف السيف والمعركة، أنه نقص في الثقافة الحضارية عندنا منذ ذلك اليوم والى الآن . ويبقى ان نعرف هل ان الناس يتعضون بالتاريخ؟ لا اعتقد لكن القلة الواعية منهم نعم تتعظ بالتاريخ وفلسفته الواقعية، كما في المارشال سوار الذهب في السودان الذي أحيا في العصر الحديث نظرية الامام الحسن بن علي ومعاوية الثاني حينما تنازلا عن السلطة درءً لخطر الاختلاف في المجتمع، والا لماذا بعض قادة التغيير اليوم حين وصلوا لسلطة الدولة اصبحوا من اكثر الناس عرضاً عن نظرية الاقدمين.. "أخذناها وبعد ما ننطيها" ألم يكن ذلك جهلاً بالتاريخ.. ؟

خذ قادة الأوربيين بعد النهضة الفكرية والصناعية عندهم وكيف تعاملوا مع الحدث الجديد.. تعاملت معه على اساس الفكر غير المقيد، والعقل المتطلع الى المعرفة والحقوق بعد ان مارست الدكتاتوريات القديمة وملوك آل بوربون كل اصناف الأضطهاد والتعنيف.. فراحوا يحددون معنى لفظة العلم وحقوق الشعوب.. فنادوا في تحديد سلطات الدولة عن حقوق الناس حين نادوا بالفكر والحرية والتقدم، وهاجموا القديم بعنف دون توقير لشيء من الموروث.. فتوجه أعلام النهضة الفكرية من امثال روسو وفولتير الى تحقيق نظريات عصر الانوار لا اراء الدكتاتوريين المتخلفين كمافي بلدانناالعربية والاسلامية اليوم.

 

من هنا استطاعوا تغيير المفاهيم المتوارثة في ميادين المعرفة بعد ان نفض المشاركون فيها ايديهم من الماضي البعيد.. فصنعوا رؤية جديدةلمستقبل الانسان الاوربي قائمة على العقل والعلم والحرية.. حتى وصلوا بأممهم الى ما نراه اليوم.. حين اصبح التطور عندهم قائم على قاعدتين اساسيتين هما: الفكر العلمي ثم استقرار فكرة التقدم في الآذهان.. فأستطاعوا ان يردوا السلطة الغاشمة عن هواها.

بينما العلم الذي يتحدث عنه فقهاؤنا في العصور الاسلامية الماضية -ولازال متبعا- لا يخرج عن نطاق علوم الدين من قرآن وتفسير لم تراعى فيه اصول الصيرورة الزمنية في التغيير.. فأنشأوا لنا المذاهب المتعارضة وكأن المذاهب اصبحت اديان كل واحد منهم يعارض الاخر فأستقرتافكارهم في الاذهان وثبتها المنهج الدراسي المتخلف فأصبح المذهب كأنة دين الانسان فتجمدت العقول في محاربة السلطة تحت راية:"أطيعوا الله والرسول وآلوا الامر منكم دون فهمهم لتأويل الاية في التطبيق حتى وصلنا الى ما نحن عليه من ظلم وتجهيل.

واليوم تعيش أمم كثيرة كالافارقة والمغول والاوربيين في حال احسن بكثير مما كانت عليه وقت الحروب والغزوات بعد ان ادركت الخطأ السحيق، لكن المؤرخين احيانا يساهمون بالمبالغة في تصوير الحروب والانتصارات

من هنا علينا ان ندرك ان الناس يتربون بالتجربة الواقعة لا بالمواعظ، والتي تتولد بالمنهج العلمي القويم، او بذكر اخبار السابقين بتفهم علمي كبير، لذا فالمستبد والسارق والخائن والمعتدي والمزورعلى حقوق الوطن والمواطنين لا يعرف سوء ما فعل الا وهو على فراش الموت، لكن ساعتها تكون متأخرة لن ينتفع منها كل النادمين.

ومع كل الذي يُكتب ,ويقال ويُحذر منه فلا زالت الدول الكبرى والصغرى بقادتها المتغطرسين ينشطون في مصانع التدمير، واذا بحثت في تاريخ معظم القادة تراهم من قراء التاريخ مثل آدلف هتلر وموسليني وبليرو صدام حسين الذي شرد أهله وماله وعياله من جراء غطرسته وجبروته وصده عن الحكمة، كما يحصل لقادة ايران الجهلة اليوم مدفوعين بقدسية وهمية فارغة وبدين احادي وهمي اجرد من حقيقة التحقيق.. وكما حصل لمروان بن محمد أخر خلفاء الأمويين حين شرد أهله وعياله وأضاع ملك بني امية جراء غطرسته وعناده على الخطأ، فهل من جاؤا من بعده أتعظوا بالتاريخ؟ لا أبداُ ولاشيء.

ان الذين يتعضون بالتاريخ وتجاربه المريرة هم الذين يضيفون الزمن الى حهد الانسان، وهم الذين يتصرفون بالعقل فيتغلبون على الظروف غير المواتية بدلا من الرضوخ لها وتركها تشكلهم كيف شاؤوا كما في رئيس ماليزيا الكبير، وهم الذين يقومون أساساً على أفتراضات يقبلها المنطق وان تناقضت مع الواقع، وهم الذين يقومون بنقد النظريات الخاطئة بميزان الاحصاء الذي لا يخطىء، وهم الذين يبتعدون عن تطبيق النظام السياسي الجامد المتخلف الذي يوقف التقدم الحضاري من اجل ان يبقوا يحكمون، كما عند قادة العراقيين الجهلة من اصحاب شهادات التزويراليوم. فمناصب الدولة العليا تحتاج الى الكفاءة وهم لا يدركون.

لكن السؤال الذي يتبادر الى الذهن اليوم هو:هل نستسلم للقدر ونبقى دون حراك حتى نموت؟ الجواب يحتم علينا القول لا وألف لا، فالشعوب الحية لا تموت والحضارات المتجذرة في اعماق التاريخ لا تندثر، ألم نكن نحن منها ؟ ان التاريخ وتجاربه القاسية تعلمنا ان الثمرات الحضارية تحتاج الى زمن لكي تطلع، اي انها جزء من التاريخ، لذا فالثمرات الحضارية لا تظهر الا باضافة الزمن الى جهد الانسان، وسيبقى الانسان العراقي يكد ويكدح ويقاوم المستحيل حتى يعود بعجلة التاريخ نحو الدوران مستمدا من تاريخ حضارته الموغلة في قدم التاريخ صانعة القلم والكتابة وعلوم وقوانين الاقدمين كما في آور نمو وحمورابي ووثائق الآشوريين.. وستصبح الازمة الحالية في خبر كان قريباً وبجهود المخلصين وسنرى.. فتحية لثوار تشرين القرنالعشرين الأبطال الميامين المطالبين بالتحرير والمعتصمين في سوح النضال من أجل وطن العراقيين..

أما الذين اغتصبوا الحقوق بحجة القرارات الدولية وسياسة الامر الواقع وأنتهاز فرض الضعف الحكومي وغياب التوجه الوطني فهم واهمون ان ينتصروا ويحققوا ما يرغبون على حساب الاخرين، بعد ان اصبح القادة العملاء المترهلون واصحاب النظرة المادية القاتلة تساندهم محكمة دستورية خائنة للقسم والقانون.. ورئيسها قد حنث اليمين.. ومدعي عام مترهل ورئيس للوزراء متآمر مع (الأرجنتينيين )، وساعتها سيعود الندم مرة اخرى للمغتصبين، وكما قال الامام علي (ع) (ان الحق القديم لا يبطله شيء.. والعقل مضطر لقبول الحق كما رددها الامام قالها الشافعي الكبير) فهل سيدرك المغتصبون حقوق الاخرين قبل فوات الاوان ونحن لهم من المنتظرين؟

وفي الختام نقول: ان موضوع التاريخ هو دراسة التجربة الانسانية على وجه الارض منذ ان ظهرالانسان على هذا الكوكب الى يومنا هذا، وليس ذكر اخبار السالفين من الحكام الغاصبين.. والا أين قادة بني أمية والعباسيين والمغول والنازيين.. واليوم الميثيولوجيين الجهلة من اصحاب عمائم الأستغلال والتخريب.. الجهلة بالتاريخ والانسان وحياة الآدميين.. تقودهم خرافات الوهم في اللاوجود.

الانسان يتربى بالتجربة والاعتبار، والتفكير في شئون الكون على اساس الفكر غير المقيد، والعقل المتطلع المتعطش الى المعرفةأيضاً، على اساس التجربة التي هي أصل كل كشف صحيح.. لا بالموعظة والعبرة والاستذكاروالفخفخة والغطرسة واللطم على الآولياء الآولين الذي جاؤا للاصلاح لا للتدمير كما هم يعتقدون اليوم من اصحاب المواخير.... وهكذا كانت اوربا بعد النهضة، فاذا أهمل تدريب الذهن تبلد وقلت حركته، ويبقى عاطلا طيلة فترة حياته، فالتجربة تبقى هي الاساس في حياة البشر دون غيرها، وخاصة اذا ادركها الانسان وتعلمها دون تقصير.وتبقى التجربة على أهميتها قاصرة عن ادراك الهدف الانساني الكبير مالم يرافقها المنهج العلمي المنظم القويم والتطبيق السليم.

 

د.عبد الجبار العبيدي

 

وصية بيجوفيتش للرئيس التركي طيب رجب أردوغان

التفاصيل
كتب بواسطة: علجية عيش

علجية عيش(هذا هو زعيم الشعب البوشناقي الذي حارب الأصولية ودعا إلى التسامح والتعايش بين الأديان والأعراق)

حياة الرجال العظماء مليئة بالأحداث والمعارك كما هي مليئة بالأفكار والإبداعات، ومن هؤلاء الرجال البوسني علي عزت بيجوفيتش الذي وصفه النقاد بالفيلسوف المحارب، ووصفه آخرون بالعالم الحكيم، ولا ينفصل بيجوفيتش عن الشخصيات الكارزماتية التي اتسمت بالروح القيادية من اجل تحقيق الإزدواجية الإنسانية، فقد عرف عنه بالرجل المتواضع، لم يكن كباقي الرؤساء والملوك يسكن قصرا شامخا ويحيط به الخدم والحشم، بل كان يسكن شقة متواضعة بسراييفو، قبل وفاته ترك بيجوفيتش للرئيس التركي طيب رجب أردوغان وصية خاطبه فيها قائلا: "هنا أرض الفاتحين، دافعوا عن البوسنة وحافظوا عليها، هذه الأراضي أمانة في أعناقكم" وهاهي البوسنة والهرسك اليوم تعيش اسوأ ظروفها إذ تحولت كما يقول متتبعون إلى مصيدة للحالمين باللجوء إلى أوروبا

بيجوفيتش ناشط سياسي بوسني وفيلسوف إسلامي، وشخصية عبقرية تتصف بكل صفات "الكاريزما " من مواليد 1925 بمنطقة شاباتس بالمملكة اليوغوسلافية، تميزت طفولته بحياة تدين كونه ينحدر من أسرة مسلمة، تعلم تلاوة القرآن وحفظه وهو في سن الخامسة، وفي سن الخامسة عشر بدأت تظهر على ملامحه النزعة الشكية، قرأ لكثيثر من الفلاسفة ماركس، كانت وهيغل وغيرهم واهتدى في النهاية إلى الدين، ووجد في الإسلام الدين الصحيح، فتح بيجوفيتش عيناه على الصراعات في وقت كانت الحرب العالمية الثانية في ذروتها، فكان ورفاقه قد بادروا بتأسيس "جمعية الشبان المسلمين" لكنها لم يكتب لها أن تعتمد قانونيا بسبب الظروف التي كانت تعيشها بلاده، حيث واجه ورفاقه الإعتقالات وكانت تلك بداية رحلة علي مع السجن، فقد حكم عليه بالسجن لمدة 03 سنوات، بعد خروجه من السجن، التحق بكلية الحقوق وهو في العشرين من عمره،و اسس له حياة تميزت بالتسامح والتجاوز على الإساءات، لكنه تعرض للإعتقالات من جديد بسبب مواقفه وأفكاره، كان بيجوفيتش تواقاً للحرية، حيث أسس حزب العمل الديمقراطي في 26 مايو 1990، وبه دخل الإنتخابات فكان هو من اختاره المجلس رئيسا لجمهورية البوسنة والهرسك لعشر سنوات، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتيّ تفككت دولة يوغوسلافيا إلى عدد من الدول، منها صربيا وكرواتيا والبُوسنة والهرسك (المُسلمة)، لم يكن يتوقع أن تدخل بلاده في الحرب مع صربيا عندما أرادت ضمّ البوسنة والهرسك لأراضيها، وخاض الحرب إلى أن تم التوقيع على معاهدة الولايات المتحدة الأمريكيَّة المُسمَّاة بـ: اتفاقية "دايتون" للسلام، والتي نجحت في تقسيم البوسنة والهرسك إداريًّا، لكن بيجوفيتش وافق عليها واستسلم للواقع لينقذ أهله ومواطنيه من الدمار.

لم يكن علي عزت بيجوفيتش مجرد مناضل يبحث عن الحرية، أو سياسي يؤدي دوره الوطني، بل كان مبدعا ومفكرا يغوص في الأعماق، ومثقفا مسلحا بألوان الثقافة العصرية، ويعتمد فكر بيجوفيتش على مسلمات يراها هو حتمية في معرفة الآخر والتواصل معه ومعرفة مكوناته، إذ يؤمن بـ: "الإزدواجية الإنسانية " ويقصد بها وجود عالَمَيْنِ يعيشهما الإنسان هما: (الروح والمادة) ما جعله يولي اهتمامه بفكرة الإنفصال أي انفصال الروح وعن الجسد أو الخروج منه، ومن خلال هذه الإزدواجية ( المادة والروح ) يرى بيجوفيتش مفهومي الحضارة والثقافة والتقدم على أساس من الاختلاف والتباين، فالثقافة عنده هي مجموع العوامل التي تربط الإنسان باروح فتغذيها وتنميها لتجعلها دومًا روحًا لإنسان، وتستمرُّ هكذا خلال الزمن في نضال مستمرٍّ، والحضارة عنده هي مجموع العوامل التي تربط الإنسان بأصله الماديّ، وهي التغيير المستمرّ للعالَم، أما التقدُّم هو التحسين المستمر في الجانب الحضاريّ فقط، دون التحسين في الجانب الرُّوحيّ الثقافيّ، فهو يضفي على التقدم صفات الشر لدرجة السخرية، كما جاء في كتابه "التقدُّم ضدّ الإنسان" تساءل فيه إن كان التقدم قد أدخل السعادة على البشرية أم زاده تعاسة وشقاءً؟ بفعل إجرامه وأخلاقه السيئة، من هذا المنطلق اهتم بيجوفيتش بالمشكلات الرئيسة في عالَم اليوم هذه المشكلات التي تعصف اليوم بالشعوب وتهدد العالَم كله، حيث شخّصها في الصراع الأيدولوجيّ المسيطر على العالم، يقول بيجوفيتش: إن العالم اليوم يكاد أن يتحول إلى كتلة من صراعات فكرية شرسة تحارب بعضها البعض، فهو يتميز بصدام إيدولوجي تورط فيه الجميع، والدليل حالة الاستقطاب الشديدة التي تُمارَسُ على الدول والشعوب من قِبَل إيدولوجيَّات جعلت من العنف والقمع والغذاء سلاحا لاستقطابها، ولتكوين جبهات داعمة ومؤيدة لها.

كانت الكتابة الهاجس الذي يلاحقه في يقظته وفي منامه، فقرر دخول عالم التأليف، فجل الذين درسوا كتابات بيجوفيتش يجمعون على أن فكره يرتكز على تشخيص القضايا الإنسانية من منظور علم الإجتماع الديني لاسيما كتابه "الإسلام بين الشرق والغرب" وهو كتاب يشبه الموسوعة، فقد خاطب به قادة الفكر هناك، وكان فيه عالما وفيلسوفا وأديباً وفناناً مسلماً تمثّل كلّ ما أنجزته الحضارة الغربية، أما كتاب "هروبي إلى الحرية" الذي كتبه في السجن، عندما اعتقله الشيوعيون عام 1949 بسبب نشاطه السياسي، ولانتمائه إلى جمعية الشبان المسلمين، وحكموا عليه بالسجن مدة خمس سنوات، قال فيه عن نفسه : "عقلي يفكر على الدوام، ولكن قلبي مطمئن بالإيمان"، في إجابته على سؤال: كيف ينبغي أن يحيا الإنسان في عالم متقدم متخلف في آن واحد ؟، ولذا يرى بيجوفيتش أن الدين هو الضوء الذي ينير درب الإنسان، في صراعه مع الطبيعة ومع الآخر، وهو الذي يجب ان يركن إليه العقل البشري لأنه وحده القادر على حل المشكلات التي يعيشها العالم اليوم، ما دفعه إلى دراسة الأديان الثلاثة ( اليهوديَّة، المسيحيَّة والإسلام)، فالدين اليهوديّ كما يرى هو انصب على الجانب الماديّ من الإنسان، فكانت تعاليمه وفلسفته مُنحازةً للمادة وحدها، وانصب الدين المسيحي على الجانب الرُّوحيّ فقط، أما الإسلام فقد جمع بين المادة والروح أي أنه جمع بين الاثنَيْنِ في مُركَّب واحد وحقق الإزدواجية الإنسانية، فكان النظام الأكمل في العالم، نظام يشمل ازدواجيَّة الإنسان ويكون دين الحضارة والثقافة معًا، لأنه يجمع بين الفكرة والفعل، وبين الثقافة والحضارة، دين يُوحِّد الحياة الاجتماعيَّة الماديَّة مع الرُّوحيَّة.

في عام 2000 قرر بيجوفيتش اعتزال السياسة ليكرس ما تبفى من حياته في البحث والتنقيب في أمهات كتب الفلاسفة بالتحليل والنقد يبحث ويقارن في المسائل الحضارية للإنسان، وظل يكتب منطلقا من رؤيته وفهمه لعالمية رسالة الإسلام وتعاليمه، حيث دعا في أطروحاته ونظرياته إلى التسامح والتعايش بين مختلف الأديان والأعراق، إلى حين توفي في 19 أكتوبر 2003 بعدما سقط أسير المرض (القلب)، فيما يكشف البعض ان وفاة بيجوفيتش كانت بسبب تعرضه لضغوطات دولية لمواقفه الدينية المحافظة، وقد دفن بمقبرة شهداء الحرب، وضحايا الإبادة الجماعية من شعب البوسنة، تاركا وراءه عدة مؤلفات، أشهرها كتابه"الإسلام بين الشرق والغرب"، الذي كان له دويّ هائل في الأوساط الفكرية والثقافية، من مواقفه أنه يقف ضد "الأصولية" وكان يرفض أن يتهمه أحد بها، معتبرا أن الاتهام تغطية على التطهير العرقي والإبادة الجماعية ضد الشعوب المسلمة، كانت تجمعه مع الأتراك ورئيسهم طيب رجل أردوغان علاقة صداقة قوية وصفا بالتاريخية، قبل وفاته ترك بيجوفيتش للرئيس التركي طيب رجب أردوغان وصية خاطبه فيها قائلا: "هنا أرض الفاتحين، دافعوا عن البوسنة وحافظوا عليها، هذه الأراضي أمانة في أعناقكم".

واعترافاً بجهوده الإسلاميّة وتقديراً لمواقفه الفكرية، حظي بيجوفيتش بالعديد من الجوائز العالمية منها جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام، في مذكراته قال بيجوفيتش: "إنما أنا رئيس انتخبه الشعب"، وقد عرضت مسيرته النضالية والفكرية في فيلم وثائقي بعدما وصفوه بالفيلسوف المحارب، وقد وصفه المفكر المصري الراحل عبد الوهاب المسيري وهو كاتب مقدمت كتابه الإسلام بين الشرق والغرب، بأنه "المجاهد المجتهد الوحيد في العالم الآن"، وقال المسيري: "إن بيجوفيتش كان مفكرا ورئيس دولة، يحلل الحضارة الغربية ويبيّن النموذج المعرفي المادي العدمي الكامن في علومها وفي نموذجها المهيمن، ثم يتصدى لها ويقاوم محاولتها إبادة شعبه"، كما وصفه بعض النقاد بالفيلسوف المحارب، ووصفه آخرون بالعالم الحكيم، ووصفته الجماهير البوسنية بزعيم الشعب البوشناقي.

 

علجية عيش

 

 

 

المناضلون بين قسوة الأنظمه وتنكر الجمهور

التفاصيل
كتب بواسطة: أياد الزهيري

اياد الزهيرييروي الجبرتي وهو مؤرخ مصري عن المناضل الوطني المصري محمد كريم حادثة ألقاء القبض عليه من قِبل الجيش الفرنسي بقيادة نابليون، وحُكم عليه بالأعدام بدعوى أنه كان السبب بقتل مجموعه من جنود الجيش الفرنسي المحتل، والرجل بالحقيقه كان يقود مجموعه شعبيه مقاومه للأحتلال الفرنسي، ولكن عند القبض عليه، وبعد أصدار الحكم عليه بالأعدام، أتوا به الى نابليون حيث قال له يعز عليَّ أن أعدم رجل دافع عن بلاده ببساله، ولا أُريد أن يذكرني التاريخ بأنني أعدم أبطال يدافعون عن أوطانهم، ولذلك سوف أعفو عنك مقابل عشرة آلاف قطعه من ذهب تعويضاً عن عدد الجنود الذين قتلتهم، فقال له محمد كريم ليس معي هذا المال، ولكني أَدين مجموعه من التجار بمبلغ أكثر منه، فأعطاه نابليون مهله أن يذهب ويجمع المال وهو مصفد بالأغلال يحدوه الأمل أن يتمكن من جمع المال من الذين ضحى من أجلهم من أبناء وطنه، ولكن للأسف لم يستجب تاجر واحد لطلبه، بل بدل من التعاطف معه، أتهموه بأنه كان السبب بدمار الأسكندريه، وتدهور الأحوال الأقتصاديه للمدينه، بسبب مقاومته لجيش نابليون، فرجع الرجل خالي الوفاض الى نابليون من دون أن يجمع شيئاً، فقال له نابليون، ليس أمامي الا أن أعدمك، ليس لأنك قاومتنا، وقتلت جنودنا، بل لأنك دفعت بحياتك مقابل أناس جبناء تشغلهم تجارتهم، ولا معنى لديهم عن حرية الأوطان، وفعلاً أُعدم في ميدان القلعه عام 1798م . طبعاً هناك من يشكك بهذه الروايه ولكني وجدت ما يماثلها أيضاً في مصر مع شخصيه أخرى وهو مصطفى البشتيلي، وهو أيضاً ممن قاوم الأحتلال الفرنسي لمصر وقد أُمسك به من قِبل جنود الجنرال الفرنسي كليبر، ولكن هذا الجنرال أراد أن لا تتلطخ يده بدمه، فعمل على وضعه على حمار بشكل معكوس والمرور به بطرق وأزقة مدينته فأخذ الناس يبصقون عليه ويرموه بالحجاره، ويضربوه بأيديهم، حتى تجمعوا عليه وأبرحوه ضرباً ففارق الحياة . هذا مثل عربي، وهناك مثل أخر عالمي، ألا وهو ما تعرض له المناضل الأرجنتيتي تشي جيفارا عندما وشى فيه راعي الأغنام الذي كان جيفارا يقاتل من أجل تحريره، ورفع الظلم والحيف عنه، وذلك بتخليصه من نظام عسكري دكتاتوري، وأُعدم الرجل، وبعد أعدامه سُئل الراعي لماذا أوشيت بجيفارا،قال لأنه كان يروع أغنامي . هكذا كان مصير المناضلين مع شعوب لم تقدر تضحياتهم، ولم تستوعب أهدافهم وتثمن جهودهم، وهذا ما حدى بالمفكر والمصلح المصري (محمد رشيد رضا) بقوله (الثائر لأجل مجتمع جاهل، هو شخص أضرم النيران بجسده كي يضيء الطريق لشخص ضرير). أن ذكري لهكذا أمثله ليس هدفه أحباط الأخرين، والتقليل من العزائم في مقاومة الأنظمه الدكتاتوريه والقوى المحتله، ولكن لتبيان أثر الأكثريه عندما تتخاذل، وتتصف بعدم المسؤوليه أتجاه أوطانها، وتركها للمناضلين من أبناءها وحدهم بالساحه يواجهون الموت والأضطهاد من قبل الطغاة، هذا الأمر يذكرني أنا شخصياً عندما خرجنا في أنتفاضة 1991م ضد النظام الصدامي، وعندما أتفق التحالف مع النظام على ضرب الأنتفاضه الشعبانيه، ولم يبقى من العتاد لدى المجاهدين لمقاومة جيش النظام خرجنا الى الصحراء وأنا أسمع من ورائي من يشتمنا ويسمعنا من الكلمات التي أترفع عن ذكرها هنا في هذا المقام من قِبل بعض الأهالي، وكان هناك من يعطي أحداثيات للجيش لضربنا بالمدفعيه ونحن في طريق أنسحابنا بأتجاه صحراء السماوه، كما يمكننا الأستعانه بالتاريخ القريب، وهو حادثة أعدام الفيلسوف الأسلامي الكبير السيد محمد باقر الصدر عام 1980م، وكيف كان الشارع العراقي متخاذلاً عن نصرته الا ثله قليله جداُ في بعض محافظات الوسط والجنوب، والذين أيضاً تعرضوا للأعدام والسجن الطويل، وكان ذلك بمساعدة من أوشى بأسماءهم من أبناء مدنهم ومناطقهم، وقد كشفت سجلات الأمن الكثير من الأسماء المتعاونه مع النظام البعثي الأجرامي أثر هروب أجهزة أمن النظام في الأنتفاضه الشعبانيه . أن ذكر هذه الأحداث المؤلمه ليس القصد منها التيئيس ولا التحبيط ولكن من باب دراسة الواقع، وممارسة الموضوعيه في بحثه، وأستنتاج العبر والدروس التي تنهض بالواقع، وعدم تكرار الأخطاء السابقه، كما نسعى لألفات النظر لخطورة عدم الشعور بالمسؤوليه، والتي كانت ومازالت سمه واضحه في سلوك شعوبنا العربيه، وشعبنا العراقي بشكل خاص . أن ظاهرة اللاأباليه، هي السبب الرئيس في جثوم الأنظمه الدكتاتوريه على صدور شعوبنا، وهي العامل الرئيسي في عدم تقدمنا على جميع الأصعده. كما لا يمكننا القول أن ما ذكرناه من ظاهرة عدم المبالاة تمثل حاله كليه، لأن هناك من عبر عن صور رائعه من الود والأحترام، وتقديم المساعده لعوائل المجاهدين، ولكن تبقى للأسف ظاهره ليست بالحجم الذي يعتد به، وليست ذات أثر أجتماعي بين، وهذا هو ما سبب الكثير من الأحباط والشعور باللاجدوى لدى الكثير من الناس، وخاصه الطبقه المجاهده والمثقفه في المجتمع، وأن من دواعي الأسف ما نلمسه من عدم الأحتفاء بذكر الشهداء، وعدم ذكر مآثرهم، وما حادثة الأعتراض على تشيع الشهيد المهندس في مدينة الناصريه من قبل بعض الفئات الا شاهد حي على ذلك، بل وتمثل نكوصاً خطيراً في سلم القيم الرفيعه . لقد ألتفت المحتل الأمريكي الى هذه الظاهره، وعمل على ترسيخها، بل وأستثمارها الى أقصى طاقاتها، والعمل على تحطيم كل القيم المتعاليه، وتكبير الفجوه بين القيادات الوطنيه والدينيه والجمهور لكي لا تُشكل جبهه كبيره وقويه لمقاومة المحتل وطرده من البلد.

خلاصة القول، أن ما تقدم من سرد لحالات وظواهر سلبيه مررنا بها، وعلينا الأقرار بحصولها، وأنها جزء من واقعنا، والتي علينا أنكارها، بل وشجبها، ولكن هذا لا يكفي، بل علينا العمل على تغيرها، وتصحيح أخطاءنا، فهو الطريق الأمثل للأنتقال الى حاله أكثر تقدم وأفضل حال، وأن نربي شعوبنا على تحمل المسؤوليه، وأن كل ممتلكات البلد هي ممتلكاتنا جميعاً، وأن الحاق الضرر بها، هو ضرر لنا جميعاً، وأن نتربى على أن السجناء السياسيون هم أناس مضحون يستحقون كل التشجيع والتكريم من أبناء وطنهم، لا أن يعتبروا تضحياتهم، فيما تعرضوا له من سجن وتعذيب وأعدام مسأله فرديه، والسجين والمعدوم هو وحده من يتحمل التبعات وأسرته وحدها من تتحمل الأعباء، وهذا من أخطر مظاهر عدم المسؤوليه، ليس عيباً أن نتعلم الشعور بالمسؤوليه من الفرد الياباني الذي حَمَّل المسؤوليه في هزيمة اليابان في الحرب العالميه الثانيه على قادتهم العسكريون، وأن أخطاءهم في دخول حروب عديده في أحتلال دول مجاوره هو السبب الحقيقي في دمار اليابان وأذلال شعبه، وأن ما لحق باليابان من دمار وما تعرضت له من ضربات ذريه، هو بالحقيقه كانت أخطاء يابانيه قبل أن تكون أمريكيه، فالأعتراف بالخطأ وتصحيحه، هو من أنقذ اليابان وسبب نهوضه، والباعث على تقدمه.

 

أياد الزهيري

 

في علم النفس الديني.. أسئلة الطفل الأولى

التفاصيل
كتب بواسطة: د. ريكان ابراهيم

ريكان ابراهيمإن صرخة الطفل الأولى ساعة ولادته هي صيحة الإعتراض الأولى على الوجود، والسؤال الأول عن (لماذائية) الخروج من بيئة الرحم إلى بيئة الحياة.

معنى هذا أن أول عمل يقوم به الكائن البشري - مختلفاً في ذلك عن الكائنات المولودة الأخرى - هو الإعتراض، والإعتراض يحمل سؤال الإختلاف، وسؤال الإختلاف يحمل ظاهرة إنعدام التوافق. إن كل شقاء الإنسان اللاحق وأمراضه النفسية والعقلية وحتى الكثير من الأمراض الجسدية يٌعد ناتجاً من إنعدام القدرة على التوافق أو التوافق على نحوٍ خاطىء.

معنى هذا أيضاً  أن الإنسان كائن يقوم على الرفض أكثر من قيامه على القبول. وتعرف الأمهات أكثر من غيرهنَ ما يكابدنه من مشقة في إقناع الطفل الجائع حتى يرضع مع انه في حاجة إلى ذلك. ويكبر الطفل قليلاً ليزداد تمرده على رفض الأشياء التي حوله. فهو لا يلعب مع الدمية التي تٌقدم إليه بل يكسرها ليعرف ما فيها غير مقتنع بجمالها الخارجي. ويسبق دماغ الطفل في نضوجه النوعي حجمه أو وزنه، ولكن ذكاءه - وهو عمل إدراكي مبكر - يسبق لغته - وهي أداة أو وسيلة للتعبير عن هذا العمل الإدراكي. وكٌلما تقدم الذكاء أو العمل الإدراكي على اللغة مال الطفل إلى (معملية) الأداء وقصَر في (نظرية) الأداء، حتى إذا تأخر الطفل عن النطق بكلمات مفهومة عَبرَ عن ذلك بالمزيد من الفهم وقوة الملاحظة.

ولهذا نجد أن عطل اللغة يرافقه غالباً حدة في الذكاء صعوداً إلى مرحلة (الأخرس) الذي كثيراً ما يتمتَع بذكاء عالٍ (بإستثناء حالة واحدة وهي وجود الصمم).

* * *

إنَ الطفل لا يتعلم النطق لأنَ النطق قدرة مولودة يشترك فيها الدماغ (منطقة بروكا  Broca’s area في الفص الجبهوي) والحبال الصوتية في الحنجرة. هذا هو النطق. أما ما يتعلمه الطفل في مجال اللغة فهو الكلمات في لغة الوالدين والأسرة بكل إنشطاراتها في السؤال والجواب وعلاقة الأشياء بأسمائها. وحين تنضج منطقة فيرنكا ( Wernicke’s area ) في الفص الصدغي المسؤول عن فهم الكلمات، تصبح اللغة مفهومة ويٌصبح النطق المولود قادراً على ترديد المكتسب واستعادته. ويمٌر الطفل في مرحلة مبكرة بفهم الكلمات فهماً رمزياً يساعده على الدلالة ونعني بذلك اللغة السميائية Semantic language.

* * *

إن الطفل يبدأ باسئلة كبرى على عكس ما كان يٌقال سابقاً عن سذاجة أسئلة الطفل. ويركز الطفل مبكراً في السؤال عن مغيِبات مثل الخالق الذي خلقه وعن الخالق الذي خلق مَن خلقه، وعن الجنس، وعن المصير بعد أن يموت الإنسان.

وعلى مدى ذكاء المجيب، أٌمَا كان أو أباً، يبني الطفل فهمه للظاهرة ولكنه لا يبني بالضرورة قناعته، وفَهمُ مجردٌ من القناعة يقود إلى الشك. وبالمنطق السيميائي للغَة ينظر الطفل إلى الأشياء المجهولة حوله على أنها كرة أكثر من كونها شكلاً هندسياً آخر، ولذلك تبدأ مهاجمته للأشياء على أنها كرات مغلقة، ويقع في ذلك ثدي الأم الذي يٌمثل عنده سراً يرضع منه حليبه ويعضه بأسنانه في محاولة لتحطيمه وإكتشاف محتواه.

ومن هذا المنطق السيميائي تبدأ رحلة الكشف عن (المجاهيل) بما فيها الإله والولادة والموت.

* * *

إن فوضى الأفكار التي لدينا، نحن الكبار، حول الظاهرات الكبرى التي ذكرناها (ومنها الله تعالى) ناتجة من الفوضى الأولى في حياتنا ونحن أطفال، يوم كنا نتلقى أجوبةً أضعف من أسئلتنا ومعلوماتٍ أقل من قناعتنا.

ان (جان بياجيه) يشير الى ظاهرة الحس على أنها بداية الإدراك ( Sensory-motor-st) . ماذا يقول بياجيه عن بداية الأسئلة الإدراكية عند الطفل قبل تنامي معالم الحس بما فيها معلَم الإدراك السمعي والبصري؟

يشير الحديث إلى أن الطفل يٌولد على الفكرة وإنما أبواه هما اللذان يٌنصرانه أو يٌهودانه، وهذا على مستوى الدين ولكنه ينطبق على الإيمان بالله أيضاً.

والفطرة عند الإنسان لجوجة، متسائلة، قلقة، غير مستسلمة، كما أنها جموحة لا تقنع بشيء في سهولة. والذي يحدُ من تمرد الفطرة بتقادم عمر الإنسان هو مجموعة عوامل منها:

1- العقلنة: أي دخول حسابات العقل في الإجابة عن سؤال الكينونة والمصير.

2- اليأس من فائدة التمرد: ان التمرد  في حياة الإنسان لا يضع حلا لاسئلته، وكلما تقدمت السنوات يبدأ هذا الكائن بالإيمان بعبثية التمرد لأن الأخير يجعلة في حلقة مفرغة تحيله إلى (لا جدوى الأسئلة).

3- التأثر بالمجتمع: حيث يخضع الفرد المٌتمرد للناموس الإجتماعي والعٌرف العام شاء أم أبى لكي يٌحقق الإنسجام حيث لا يٌحقق التمرد (سايكولوجية التوافق).

4- الخيبة الذاتية: يملك الإنسان بالفطرة ظاهرة النظر إلى ذاته نظرةً مركزيةً مملوءة بالنرجسية حيث يعد تلك الذات مركزاً للعالم الذي يدورحوله حتى إذا تعب من هذه المداولة بدأ بمشاعر الخيبة من قدراته على حل السؤال بجواب مغلق لأن أجوبته عن أسئلةٍ فتحت وتفتح أمامه أسئلةَ أخرى لا تنتهي.

5- قصور المحسوس أمام اللامحسوس: يٌحاول السلوك الفطري في الإنسان أن يفهم كل شي عن اللامحسوس فِهماً مباشراً بوسائط الحس وهذا الشيء صعبٌ تحقيقه. حيث لا يعني غياب اللامحسوس عن الإدراك الحسي أنه غير موجود، فقد يكون غائباً لأنه موجود في مكان آخر أو في صورة أخرى.

* * *

إن الطفل يخاف ولكنه لا يستحي من شيء، فهو كائن غير منضبط لأنه لم يخضعٌ بعد للعيب الإجتماعي ولا لسطوة القانون ونتائج تطبيقهِ. وبسبب هذا الخوف وهذا الفقدان للحياء من شيء ما تبرز قدرته على إثارة الأسئلة التي تبحث عن إجابة تمحو خوفه. وهذا الكائن الفطري يٌلقى إيمانه بطريقة التخويف من الإلحاد فينشأ مؤمناً بالتلقين وليس القناعة.

لكنه لو لم يُلقن بل تٌرِك حٌراً طليقاً لوصل إلى ربه عن طريق عقله لأنه لا يوجد إنسانً بعقل ما لم يكن مؤمناً أو باحثاً عن إيمان. إن علينا أن نٌفهم هذا الكائن الفطري أن هناك فرقاً بين (الإلحاد) و(الإنكار)، فالإلحاد يعني الإيمان بأن لا يوجد إله بينما الإنكار يعني معرفة الإله مع التنكر لحقيقتها، ويظلُ الملحد باحثاً عن ربِه بينما يظل المٌنكر إنساناً عارفاً بالحقيقة لكنه يتنكر لها، وهذا أخطر من الأول.

* * *

إن الدين الأول هو دين الفطرة التي جَبل الله الإنسان عليها. وسٌمي الدين (أي دين) بهذه التسمية لأنه معارفٌ لا تحتاج الى الكثير من العناء في الإطمئنان إلى وجود الله.

ففي الصف المدرسي الأول، وقبله في البيت، يستطيع أيُ منا أن يقول للطفل: ما دام لك خالق فإذن لابد لهذا الكون من خالف فيكون الله.

هذا مثال بسيط على كيفية الوصول إلى مشارف الفطرة وبأبسط الأمثلة، وإذا أردنا أن نضع منطلقاً للفرد الطفل في بداية عمره في تحديد موقفه: هل هو كائن مفطورُ على الإلحاد أو مٌهيأ للإيمان أو مٌولع بالإنكار، فإنَ أفضل تسمية منا لهذا المنطلق هي: مرحلة (اللاأدري).

ففي هذه المرحلة يكون الطفل مٌهيأ لكل شيء طبقاً لثقافة من سيوصل المعلومة إليه. ولهذا نشير كما أشرنا إلى أن طريقة التعريف بالله هي الأساس في صياغة إيمان الطفل وإبعاده عن الإلحاد أو المكابرة وفيها الإنكار.

إن أسئلة الطفل الأولى عن الله تقع في (المنطقة المحايدة) فهو ليس مؤمناً وليس مٌلحداً لكنه ينتمي إلى (اللاأدرية). وكثيراً ما تٌقمع أسئلة الطفل بأجوبة لا اقناع فيها بسبب جهل المجيب أو ضعف ثقافته أو ضبابية إنتمائه إلى الله.

وكثيراً ما يقودنا الغرور بالإنسان المحدود فنسمي حركات الإلحاد بالله تسمياتٍ فيها من البريق اللفظي أكثر مما فيها من المعلومات ونسمي أصحابها روادَاً في ( الوجودية) و(العبثية) و(ما بعد الحداثة) و(العدمية).

نسميهم هكذا وننسى أنهم ما زالوا أطفالاً كبروا  أجساماً حسب فظلوا يرددون أسئلة طفولتهم الأولى، يختلفون عنها ببريق التخريج اللغوي والتزويق الإصطلاحي وهذا في حقيقته لا يعدو كونه انتصاراً لصالح المبنى على المعنى والشكل على الٌمحتوى.

* * *

1. جئتٌ لا أعلم من أين ولكنني أتيتٌ

ولقد أبصرتٌ قدامي طريقاً فمشيتُ.

حينما قالها شاعرها، سٌميَ فيلسوفاً شعرياً يبحث عن سبب المجيء وعبثية الإتجاه مستقبلاً، وننسى كما ينسى شاعرها أنها كلماتُ سبق أن قالها الطفل بكلمات أٌخرى تفتق  إلى العروض الشعري الذي لا يعرفه الطفل.

2. إلهي الذي في السماء

أٌناديك من هذه الأرضِ

يا قاهر الأقوياء.

يتصور هذا الشاعر أن ربَهٌ في السماء حسَب. هل يختلف هذا الشاعر (الطفل الكبير) عن الطفل الذي يسأل أٌمه: أين الله؟

فتجيبه - وهي منشغلة بإعداد وجبة الغداء - فوق، في السماء.

الإختلاف هو في شيء واحد. أن الطفل الكبير يجيد كتابة السؤال في قصيدة.

هل ولدنا أطفالاً صغاراً لنموت أطفالاً كباراً؟

* * *

لماذا يسأل الطفل عن الله؟

سؤالُ جديرُ بأن يٌثار. ألا يكفي هذا الطفل إنشغاله بالأكل لكي لا يجوع، وبالدفء لكي لا يبرد وبالبرودة لكي لا يضايقه الحر وبالنقود لكي لا يحرم من اللعب، روادعَ له عن إثارة سؤال كوني يتعلق بالولادة والخلق والموت والمآل؟

إنه يسأل عن الله بفضول كبير:

1- ما معنى الله؟.

2- ما شكله؟.

3- أين مكانه؟.

4- كيف خلقَنا؟.

5- من خلقهٌ؟ .

6- لماذا هو خالد؟.

إن الطفل يسأل مثل هذه الأسئلة لأنه محكومُ بالعالم الحسي الذي حوله وبمحدودية هذا الحس في العالم. إنه الكائن الذي يحاول إدراك اللامحسوس بالمحسوس. إنه لم يُدرِك بعد معنى (مفهوم المٌطلق والجزئي).

إن هذا الكائن الفطري يتعلم ما هية الله عن طريق وسائل أخرى وبأيدي أبويه - اللذين لا يٌقدمان بالضرورة إقناعاً له. خٌذ مثلاً:

1- أنه يتابع الطقوس في دين أبويه فيصعب عليه إكتشاف العلاقة بين ممارسات طقوسية مرئية وخالقٍ لا يمكن رؤيته.

2- أنه يسمعٌ من أبويه استخدامات لفظية تصف الله بلغتهما التي تختلف في معانيها عن لغته. (يدٌ الله فوق يد الظالم) و(يحرسكالله الذي عينه لا تنام) و(كرسيه على الماء) و(أقربٌ اليك من حبل الوريد) و( أنى تٌولوا وجوهكم فثَم وجه الله). هذه الأقوال وفيها الآيات، يستخدمها الناطقون بها بلغة المجاز  التي لا يعرفها الطفل لأنه ما زال في طَور عقلي يٌفسر ولا يُؤول.

3- كثيراً ما يخاطب الناس ربهم بلغةِ دٌعاء فَجة تٌوحي إلى من يجهل رحمة الله ولطفه بأنها لغة تذمر وضجر من مظلومية يتنزه عنها الله الذي لا يظلم أحداً (ليس ربك بظلام للعبيد). وترديد مثل هذه اللغة أمام الطفل تٌشوه في عقله الكثير من صورة الله المشرقة العادلة فيبدأ بإثارة أسئلة أمام والديه في دواخل نفسِه.

4- يٌعلم الأبوان الطفل الكثير عن الله بطريقة التخويف منه وليس الحٌب له، لأنهما خائفان أصلاً والخائف لا يستطيع أن يٌعلم خائِفاً آخر درساً في الطمأنينة. هنا يبدأ الطفل بإثارة الأسئلة في داخله حول هذا الجبَار المخيف وليس هذا الرحيم الرحمن اللطيف.

5- يٌقدِم الأبوان صورةً عن الله للطفل فيها الكثير من الفهم الأرضي المحدود لهذا المٌطلَق ومن أمثلتها: أن الإنسان إذا كان تقياً فإن الله يٌغدق عليه شآبيب الغنى والصحة. وهذه المقايضة مهزوزة تجعل الطفل يٌفسر رضا الله بأنه نوع من تبادل العطايا بين خالق ومخلوق كما تجعل الطفل يبتعد عن مفهوم (الله المٌطلَق) الذي لا يٌمكن ان تٌجزأ قدرته وكٌليتِه.

6- كثيراً ما يٌفهم الأبوان الطفل أن أسئلته التي ذكرناها هي نوع من أنواع التشكيك الذي يجب  أن لا يٌثار. والممنوع في كل ظاهرة يٌعدُ عاملاً مٌحرضاً على السؤال عنه.

* * *

إن إمتداد طريقة التفكير فيحياة الإنسان في الطفولة إلى العٌمر الناضج (وهذا مايحدث كثيراً) يقود إلى استمرار طريقةٍ مغلفة لا تٌوفر الإنفتاح المطلوب.

فالذكاء الذي لدينا يرتكز على التعلم (learning). والتعلم يقوم على ثلاثة أنواع من الوسائل:

1- التعلم بالتطبيع على الشيء (Conditioning learning).

2- التعلم بالمٌحاكاة والملاحظة (Observation learning).

3- التعلم بالمٌقارنة (Comparison learning).

ومن هذه الثلاثة ينشأ الحاصل النهائي للذكاء وهو الذكاء الإستنباطي (Abstractive intelligence). وكلما تأخر ظهور الإستنباط تأخر الدماغ في تحقيق حالة الفكر الحٌر الذي يقود إلى الإبداع. ويٌعَدُ الأفراد الذين يتأخر عندهم ظهور الإسنتباط أطفالاً استمر لديهم التعلم بواحدة من الوسائل الثلاث فظلوا أسرى ارتباطهم بفهم يقوم على محاكاة المألوف والتطبع عليه فيتأخر عندهم الإستنباط. ويٌعدُ الأخير (الإسنتباط) أرقى أنواع الذكاء الذي يتميز به الإنسان في الوصول إلى إدراك اللامحسوس بالمحسوس واستقراء الأسباب بمناقشة النتائج، ومن ذلك معرفة الله الخالق بمعرفة آثاره في الخَلق والتكوين على أساس قاعدة بسيطة غاية في البساطة، مثلٌها يقوم على أن الكرسي صنعه نجار والبيت بناه بنًاء ولولا النجار والبنًاء لما رأينا الكرسي ولا رأينا البيت.

معنى هذا أن العقل الذي لا يقدر على استنباط لن يقدر على معرفة وجود الله. والإستنباط ميزةُ للعقل البشري لا تملكها أدمغة الكائنات الأخرى مع أنها تملك بسائط أخرى للتفكير حيث تأكل عندما تجوع وتشرب الماء عندما تعطش.

ولما كان الإستنباط ميزة فهو لا يظهر فجأة إنما يتدرج، وبذلك فهو يبدأ في الطفل ليزداد وضوحاً في النضج، وكلما عجلنا في تعليم الطفل الإستنباط عجلنا في جعله ناضجاً مٌبكراً. وخيرٌ طريقة نٌعلمها للطفل في كيفية النظر إلى وجود الله والإيمان به هو أن لا يطلب ممن يواجهه أن يٌثبت له وجود هذا الإله العظيم بل يطلب من الآخر ان يٌثبت عدم وجود الله، وهذا موضوع يٌحرج الملحد أو المنكر لأن معرفة الظاهرة (أية ظاهرة) تقوم على مرتكزين:

1- إثبات الظاهرة بالأدلة.

2- إثبات عدم وجودها بالأدلة.

وحينما يعجز منكر الله عن نفيه سيكون بذلك عاجزاً عن إنكاره فينقاد إلى إثباته وبذلك تبطل الثقافة المضادة التي تنفي وجود الله.

* * *

إن أطفال المجتمعات البدائية كالمجتمعات الوثنية أو التي تٌقدس الحيوانات والنباتات وترفعٌها إلى مقام الآلهة يعانون كثيراً من هذا الفكر الوسيط ونعني به الفكر الذي يجعل الإيمان بالإله في حاجة إلى وسيط كصنم أو الأفعى أو البقرة أو شخصية الكاهن أو الضريح، مثلُهم مثل أطفال المجتمعات التي تؤمن بالظاهرات الطبيعية  كالمطر والرعد والنجوم على أنها آلهةُ تعبد أو تجب عبادتها.

وفي مثل هؤلاء الأطفال تنشأ ظاهرة التعلم بالمشاهدة أو المراقبة للكبار عن أبناء مجتمعاتهم وبذلك يزرع فكر هذه المجتمعات في الأطفال تفكيراً ساذجاً مدعوماً بالخرافة والتأويل (الميثولوجي). وفي مقابل هؤلاء الأطفال تبرز معاناة أطفال المجتمعات الموحدة لإله واحد حينما يتعلم الطفل منهم دينه بالتلقين من دون إبداء المرونة لهذا الطفل في أن يسأل ما يريد لأنً كبت أسئلته بالتخويف سيجعله يؤخر إعتراضه اللاشعوري إلى يوم يثور فيه على قناعته الزائفة الخجولة.

إن أبرز الأسئلة عند الطفل ثلاثة هي:

1- ما معنى الله؟.

2- أين الله؟.

3- كيف الله؟.

وما لم يٌفَهم الطفل معنى (المٌطلق) في مقابل محدودية (المجزوء) فإنه لن يدرك الإجابة عن هذه الأسئلة. وخير طريقة لإفهام الطفل حقيقة الله هي توجيه ذهنه إلى آثار الله  في خَلقه، ونبدأ في ذلك بتوجيهه إلى فحص نفسه وفهم أسرارها لأنها أقرب الأشياء إليه.

لقد كان الكثيرون من المعلمين الدينيين يميلون إلى تحذير الناشئة من أسئلة الشك وتخويفهم بالعقاب إذا مارسوا عملية الشك في خطابهم.

إن التخويف من الله هو صورة من صور التخويف من بعض المفردات في ذهن الطفل كالخوف من الوالد القاسي أو المعلم المتشدد أو القانون أو المحاكم وهنا تٌصبح صورة الله مخيفة لدى الطفل ويبدأ بممارسة حياته خائفاً من الرقيب.

إن اليقين المصطنع ينتظر يوماً يتحول فيه إلى شك بينما يقود الشك في كثير من الحالات إلى اليقين الذي لن يتزعزع. إنَ (مع العسر يسراً) أقوى وأفضل من (إن مع اليسر عسراً) ولذلك استخدم القرآن الكريم القول الأول ونأى عن إيراد القول الثاني. والشك عٌسر ولكنه يقود إلى اليسر الذي يحققه الإيمان.

* * *

إن أسئلة الطفل تختلف عن أسئلة الكبار في موضوع شكها حيث تنطلق من التلقائية فيما تنطلق أسئلة الشك عند الكبار من (القصدية) التي تتوزع على ثلاثة أنواع: نوع يبحث عن مٌزيل لها باليقين، ونوع من الإصرار على نكران المشكوك فيه ونوعٍ محايد يبحث عن الإستقرار  على الإيمان أو الإستقرار على الإلحاد (النوع الثالث لا يحمل سوء النية بل يحمل المٌحايدة). إن فتح الباب باكراً  أمام أسئلة الطفل مهما كانت جرأتها  أو نوعها أو لغة بنائها يقود إلى الآتي:

1- زوال القلق عند الطفل ونعني به قلق السؤال والخوف من الرقيب.

2- تنشئة حرية التفكير في وجود الكينونة وقصدية المصير.

3- إزالة مفهوم (المٌقدس المٌحرم) وإثبات مفهوم (المٌقدس غير المٌحرم الذي يمكن السؤال عنه بالممكن من الكلمات في إنتظار الممكن من الجواب).

4- نشوء الفهم عند الطفل لآلية الفصل بين الظاهر الذي يمكن الإجابة عنه والغيب الذي لا يمكن الإجابة عنه لأنه شيٌء فوق الحس أو أداء أعضاء الحس وسيد إدراكها، الدماغ.

5- إزالة الحذر من القوى التي تَتَمثل نوعاً من سلطة الخوف مع الطفل كسطوة الأب أو الشرطي أو السجن أو العقوبة أو القانون الصارم.

6- بظهور المعالم التي ذكرناها (من 1 - 5 ) يتخلصٌ الطفل من النشوء المبكر للأمراض النفسية التي تتعلق بالموت المخيف واندحار الكائن كما يتخلص من (قلق الإغتراب) في المكان الذي يٌفترض أن يكون مكاناً للطمأنينة.

7- نشوء سلامة الشخصية لدى الطفل وإنعدام ظاهرة (البارانويا) التي تقوم أساساً على الشك المريض الخفي الذي من نتائجه ظاهرة الإنكار الواهمة (Persecutory delusion).

إن ظاهرة قَمع الطفل عن الله، على جلالة قَدره وعظمته، لها مثائل أدنى في المهمة لكنها شبيهة في النتائج  ونعني بها  أسئلة الطفل المٌحرمة عن الجنس والسياسة وقٌدسية الحاكم. إن تعليمنا الطفل صعوبة الثقافة الجنسية مثلاً هو الذي جعلنا نتأخر عن إفهام الطفل ظاهرة أصلية لا يلبث أن يمارسها لاحقاً في حياته. ومثال ذلك ما يسري على السياسة وقدس الحكومات مهما كان ظلمها وصعوبة مناقشتها من الأفراد والمحكومين.

فالإنفتاح على أسئلة الطفل في دلالة (الله) العظيم بحرمة تٌهون انفتاحه على ظاهرات أرضية وتجعل من الطفل فرداً  حٌراً  يبحث عن الحقيقة.

* * *

إن الطفل، أي طفل، فيلسيوف مبكر. فيلسوف يسألأ ولا يجيب حتى إذا لم يجد جواباً في من سبقه عٌمراً عمَد إلى وضع أجوبة من عنده. ولهذا ظنَ بعض الكبار  أن الفلسفة تراثٌ طفولي إمتدَ به العمر وبذلك فرق هذا (البعض) بين الدين والفلسفة بإعتبار الأخيرة مثيرةً لأسئلةٍ لا جواب لها. 

إن للدين فلسفة تٌعلم الإنسان ضرورة الإيمان بالله ونعتقدٌ أن فلسفة الإلحاد شيٌ عابث ينطلق بها أصحابها من منطلق العجز عن الإجابة. إن أسئلة الطفل الثلاث التي ذكرناها (معنى الله؟، أين الله؟، كيف الله؟) هي أسئلة فلسفية  مٌبكرة مما يؤكد وجود فلسفة للدين الذي تَدرج بالإنسان من مرحلة تعدد الآلهة وطوطمية الإنتماء وتابوية المصير إلى مراحل الدين السماوي الذي توفرت فيه عناصر الإله الواحد ومٌبلغ الرسالة (الملاك)، والمحتوى (الكتاب المٌنزل) والرسول المبعوث، وهذه الثلاثة (الكتاب والوحي والنبي) ليست مثيلاً للوسيطية التي فيها الصنمية، بل أنها تبسيط واقعي لطريقة تبليغ الناس بالرب الواحد خالق كل شيء.

وهنا تجب علينا إجابة الطفل الذي قد يكون ذكيَاً فيسألنا عن الفَرق بين الصنم الذي يتوسله الناس وصولاً إلى الله ومفردات الدين السماوي الذي يتسلسل على النحو الآتي (إله        ملاك          كتاب          رسول بشري). هذا الفرق يتوضَح أما الكفل، إذا استطعنا توضيحه كالآتي:

1- الصنيم يصنعه الناس بأيديهم حجراً  أو حيواناً  أو نباتاً  أو طائراً  خرافياً بإتجاه الله. بينما يبدأ الدين السماوي من الله وبأمره عبر الملاك المٌوحى  وضمن محتوى الكتاب وعلى لسان النبي، نزولاً من الله بإتجاه البشر.

2- مفردات الدين السماوي مفردات نقاش تملك حركة اللغة وحياة الخطاب وقوة الحجة بينما لا تملك مفردات الوثن إلا الجمود وفقدان الحجة.

إذا استطعنا أن نضع أمام الطفل مثل هذا الإيضاح نكون أستطعنا تحطيم مفهوم الوسيطية عنده والجأناه بمحبةٍ ولطف إلى فهم الفَرق بين الصنم الجامد والدين المتحرك حتى في فهم الثوابت وعلى رأسها  الله الواحد الأحد.

 

د. ريكان إبراهيم

 

شطحات ماركس

التفاصيل
كتب بواسطة: د. عبد الحسين شعبان

عبد الحسين شعبانفي استفتاء أجرته هيئة الإذاعة البريطانية الـBBC في مطلع الألفيّة الثالثة كان ماركس واحداً من بين أهم 100 شخصية مؤثّرة في العالم، ولا أخال أحداً من جيلنا الستّينيّ إلّا وترك ماركس شيئاً عنده، لكن ذلك لا يعني أنّه دون أخطاء أو شطحات، وباستثناء المنهج الذي اعتمده والقوانين التي اكتشفها بشأن الصراع الطبقي وفائض القيمة، فإنّ الكثير من تعاليمه لا ينبغي التعامل معها كنصوص مقدّسة لدرجة اعتبارها أقرب إلى الأسفار التوراتية أو الآيات الإنجيلية أو القرآنية، ويذهب البعض أكثر من ذلك إلى تنزيهه من الأخطاء، بل يضعه خارج دائرة النقد، سابغاً عليه نوعاً من المعصوميّة؛ في حين إنّ تعاليم ماركس واجتهاداته هي مجرّد آراء بعضها تجاوزها الزمن أو أن الحياة لم تزكّها، لكن ذلك لا ينفي عبقريّته ومواهبه وموسوعيّته كفيلسوف ومفكّر وعالم اجتماع واقتصادي وسياسي يسيل من قلمه حبر الأديب وتتدفّق لغته بالشعر.

في العام 1984 كتبتُ في مجلّة "الهدف" خاطرة تأمّلية بعنوان "بروموثيوس هذا الزمان" جئت فيها على منجز ماركس الفكري والثقافي، وذلك بمناسبة وفاته (14 مارس/آذار1883). وإذا كان أعداؤه وخصومه يعتبرونه تهديداً لهم ولمصالحهم لدرجة أنّ شبحه لم يعد يجوب "أوروبا العجوز" فحسب، بل شطر العالم إلى نصفين في القرن العشرين، فإنّ أنصاره ومريديه تعاملوا مع تعاليمه وتفسيراته  كمعتقدات "منزّلة"، مردّدين بعض مقولاته بطريقة أقرب إلى التعاويذ والأدعية والتلقينيّة المدرسية التي لا علاقة لها بجوهر منهجه، ناهيك عن روح العصر.

ثلاث قضايا يمكن التوقّف عندها في هذه المساحة بشأن بعض شطحات ماركس؛

أولاها - موقفه الخاطئ بخصوص الاستعمار الاستيطاني الفرنسي في الجزائر (1830)، ورسالته "التمدينيّة"، ولعلّ الفضل في إطلاعنا على موقفه هذا يعود إلى الصديق جورج طرابيشي الذي ترجم كتاباً عن الفرنسية بعنوان "الماركسية والجزائر" كشف فيه عن قصور وُجهة نظر ماركس، علماً بأن الطبعة الروسية كانت قد حذفت فقرات منه لأنها صادمة ومُحرجة، خصوصاً رؤية ماركس المغلوطة وتقديره المخطوء للإستعمار الفرنسي في الجزائر بوصفه شكلاً من أشكال الهجرات التي تنقل التمدين والتحضّر إلى شعوب شبه بدائيّة أو شعوب متخلّفة" بوصفها: بدوًا، قطّاع طُرق، لصوصًا، وكانت نظرته تلك تقوم على وجهة نظر اقتصادية بحتة، بعيداً عن الجوانب الحضارية والثقافية والإنسانية، بتفسير مبتسر مفاده أنّ الثورة الصناعية أدّت إلى تضخّم رأس المال واحتاجت إلى الموارد والأسواق والأيادي العاملة، فكانت الهجرات. ومثل هذا الرأي يهمل الطابع الإجرامي لتلك المحاولات الاستعمارية الاستيطانيّة وسعيها لقهر شعوب هذه البلدان ونهب ثرواتها وتدمير ثقافاتها وإلغاء هُويّاتها، ومع أنّه لم ينسَ التعاطف مع الضحايا، لكنّ ذلك جاء من زاوية أخلاقية.

بتقديري إن فترة بقاء ماركس في الجزائر للاستشفاء من 20 فبراير/شباط إلى 2 مايو/أيار 1882 لم تكن كافية لمعرفة معمقّة للمجتمع الجزائري، وانطلق في حكمه من "المركزية الأوروبية" التي هيمنت على تفكيره والرأسمالية الصاعدة فيها، حيث قام ماركس بتحليل قوانينها بدقّة كبيرة مشخّصاً عيوبها ومثالبها ونظامها الاستغلالي على نحو عميق وعظيم.

ثانيتها - موقفه المتناقض من تقرير المصير، فعلى الرغم من أنّه هو الذي صاغ فكرة "أن شعباً يضطهد شعباً آخر لا يمكن أن يكون حرًّا" ودعا إلى استقلال بولونيا في حركة قادها الإقطاعيون ضدّ روسيا لأن ذلك سيكون خطوة مهمّة تسمح بإنضاج التناقضات، وهي استنتاج دقيق لكنه وقف ضدّ حقّ تقرير المصير للشعبين التشيكي، والسلوفاكي، اللذين كانا يطالبان بالاستقلال من الامبراطوية النمساوية - المجريّة، والسبب حسب وجهة نظره أنّهما "شعبان رجعيّان" وضعيفان وصغيران ويمكن أن يقعا تحت هيمنة الروس وسيكون نجاحهما في الظّفر بذلك تقوية لدور روسيا بتشجيع من فرنسا، وسيتم توظيفهما ضدّ ألمانيا المتطوّرة صناعيًّا، وهي نظرة خاطئة قامت على فرضيات اقتصادية بعيدة عن الجانب الإنساني التحرّري.

وثالثتها - كان موقفه المُلتبس والخاطئ من ايرلندا، لا سيّما في المرحلة الأولى، ففي رسالة منه إلى إنجلز بتاريخ 23 أيار (مايو) 1856، يقول "لقد تحوّل الإيرلنديون بواسطة القمع المنهجي إلى أُمّة ساقطة"، وهناك رسالة ثانية بهذا الخصوص بتاريخ 24 تشرين الأول (أكتوبر) 1869، ويبني استنتاجاته انطلاقاً من منظور تقدّميّة الطبقة العاملة الإنكليزية تجاه إيرلندا المتخلّفة والمحتلة، التي يعزو إليها سبب سقوط الجمهورية في زمن كرومويل، ويدعو إلى أن تقطع الطبقة العاملة الإنكليزية علاقتها مع ايرلندا بعيداً عن كلّ جملة أُمميّة وإنسانية بشأن العدالة، وحسب رأيه إن لم تنتصر الطبقة العاملة وتتحرّر في إنكلترا فلن يتمّ تغيير الأوضاع في ايرلندا، أيّ أن التحولات الاشتراكية في المركز ستؤدي إلى تحسّن الأمور في البلد الطرفي والمتأخر، لأن رافع التقدم هو لندن، وليس دبلن، لكنه يعود في العام 1870 ليتحدّث عن اضطهاد مركّب رأسمالي متزامن مع اضطهاد قومي ضدّ ايرلندا.

وباستثناء المنهج فجزء كبير من تعاليم ماركس وشطحاته بالطبع يمكن الاحتفاظ به في المكتبات أو المتاحف، حتى وإن بقيت الأحلام واليوتوبيّات ورديّة، فتلك مأثرة أيضاً.

 

عبد الحسين شعبان

 

 

التطور التاريخي لمشكلة الطائفية السياسية في العراق (2)

التفاصيل
كتب بواسطة: زهير جمعة المالكي

مرحلة الاحتلال البريطاني للعراق

تتعرض مختلف المجتمعات الى تغيرات مستمرة نتيجة التطور والتقدم الاجتماعي، هذه التغيرات تفرز العديد من التعقيدات في الابنية الاجتماعية، تظهر بصورة جلية عند محاولة دراسة مستويات البناء الاجتماعي، اذ يلاحظ ان هناك اختلاف وتباين في هذا البناء، يعرف عند المختصين بعلم الاجتماع بالطبقة الاجتماعية

لاحظنا في الحلقة الأولى من هذا الاستعراض ان تطور الطائفية السياسية كان يترافق مع دخول البلد في مرحلة الانحطاط السياسي والأخلاقي وتتعارض الفكرة الإنسانية والحداثة والدولة المدنية والشرعية وفكرة المواطنة . ولكن ما يجب اقراره إن مجرد الانتماء إلى طائفة أو فرقة أو مذهب لا يجعل الإنسان المنتمي إلى تلك الطائفة طائفياً، كما ان سعي أي شخص لتحسين أوضاع طائفته أو المنطقة التي يعيشون فيها دون إضرار بحقوق الآخرين لايجعله طائفيا . فأخطر ما يبتلى به شعب أن يتحول حكامه من رجال دولة إلى رجال طوائف أو أحزاب أو قبائل، فالمصير الذي ينتظر ذلك الكيان هو التفكك لا محالة، ولن يكون بعد ذلك رابح إلاّ أعداء ذلك الكيان، المستفيدون من تمزيقه. فحين يبتلى بلد برجال سلطة يستندون في وجودهم إلى الأجنبي؛ فإنهم يمنحون ولاءهم واهتمامهم إلى أولئك الذين مكَّنوهم من السلطة، لا إلى شعوبهم. وقد كانت هذه احدى الأساليب التي سعى العثمانيون الى استغلالها في صراعهم مع الصفويين لاحتلال العراق فعمدوا الى دعم طائفة ضد طائفة أخرى فقسموا المسلمين الى اهل السنة و(الروافض) كما خلقوا تنظيمات للطائفة الموسوية ( اليهود ) وطائفة النصارى . واستمرهذا الوضع لحين وصول القوات البريطانية الى بغداد وانسحاب القوات العثمانية . ولقد أدرك البريطانيون نقطة الضعف هذه في السياسييّن العراقيّين ونجحوا في استغلالها واللعب عليها.

يعود تاريخ الوجود الاوربي في الخليج الى القرن السادس عشر في آخر يوم من عام 1600 تأسست شركة الهند الشرقية الانجليزية وبعد ان عززت موقعها في الهند، اخذت تتطلع الى الخليج الذي له علاقات تجارية مع الهند .في عام 1640 وصل ممثلي ووكلاء شركة الهند الشرقية الى البصرة ابرمت بريطانيا عدة معاهدات مع الدولة العثمانية، كان اولها معاهدة الامتيازات التي اتفق عليها سنة 1661م، وتم تصديقها سنة 1675. ثم حصل السفير البريطاني في الاستانة على فرمان من السلطان 1764م يتضمن الاعتراف بأن وكيل شركة الهند الشرقية البريطانية قنصل يمثل بريطانيا، ففتحت لها مقيمة في بغداد سنة 1798م، وفي العام 1808م عينت بريطانيا المستر (ريج) قنصلا ً في بغداد ويعتبر هذا الرجل هو أول من عمل على تكريس الدور البريطاني في العراق وقد نجح في ذلك نجاحاً كبيراً، وكان ريج يتمتع بعلاقات كبيرة ومهمة مع العراقيين وكانت شخصيته أقوى من شخصية الوالي العثماني . وقد ذكر الدكتور الوردي في كتابه لمحات إجتماعية أن الناس في بغداد كانوا لا يقيمون وزناً لوعود بشواتهم وأعيانهم إلا إذا كانت مدعومة بضمان من المستر (ريج). في عام 1821 عينت الحكومة البرطانية الكابتن تيلر قنصلا ً. وعرض القنصل على والي بغداد (داود باشا) أن يتولى الضباط البريطانيون مهمة تدريب افراد الفيلق العثماني في بغداد وتم جلب بعض الضباط البريطانيين امثال جورج كيبل ورفاقه لهذه المهمة كما تم ارسال القس المسيحي (غروفز) الذي سكن بغداد وأتصل بأهلها واصبحت له علاقات معهم، أما على الصعيد التجاري فقد ذكر بطاطو في كتابه العراق ان البريطانيون كانوا يحضون بمعامله خاصة ومتميزة في السوق العراقية . ومن جانب آخر كان البريطانيون يولون للعراق أهمية خاصة فقد صرح اللورد كيرزن في العام 1892م بأهيمة بغداد التجارية فقال يجب أن تدخل بغداد ضمن السيطرة البريطانية. وكانت بريطانيا سبق لها ان حصلت على فرمان سنة 1834م يحق فيه لبريطانيا استخدام باخرتين في نهر الفرات، وسبق هذه المعاهدة قيام رحالة بريطانيين عام 1830م باستكشاف طريق الفرات النهري من بيرة جك جنوب الاناضول الى مدينة الحلة في العراق، وقام الرحالة (راودن جسني) برحلة استكشافية حظيت برعاية الملك (وليم الرابع) وساعده (هنري بلوص لنج) في مسح نهر دجلة، عمل (لنج) خلال الفترة بين (1837-1839) على كتابة مذكرات في وصف قسم من دجلة بين بغداد وسامراء، وقد حصلت عائلة (لنج) على امتياز تسيير باخرتين في دجلة بين بغداد والبصرة، وقامت في 30 تشرين الثاني سنة 1860م بتأسيس شركة في لندن باسم (شركة الفرات ودجلة للملاحة التجارية). استطاعت شركة لنج ان تحتكر الملاحة التجارية في نهر دجلة، في نقل المسافرين والبضائع والبريد بشكل كبير. وفي عام 1909 تم بيع الادارة النهرية العثمانية الى شركة لنج بمبلغ (250) الف ليرة.

مع اندلاع الحرب العالمية الأولى ودخول الدولة العثمانية الحرب مع المانيا والنمسا قررت بريطانيا ان تامين الطريق الى الهند يحتاج الى الإسراع في احتلال البصرة وبالفعل نزلت القوات البريطانية البصرة في 22 تشرين الثاني/ نوفمبر 1914، حيث قامت بتشكيل دائرة الحاكم العسكري، والتي كانت مهمتها القيام بالمهام المستجدة وتألفت من الرائد (داريس براذيلو) رئيسًا والنقيب (ريدبولارد) وهو وكيل قنصل بريطانيا السابق في البصرة (وتوم دكستر) احد قباطنة (السفينة كمين) التابعة للمقيمة البريطانية في بغداد مساعدًا ومترجمًا، وعدد من الضباط والموظفين البريطانيين والهنود والعراقيين، ثم تبعها تشكيل دائرة للشرطة تولاها العقيد (أي جي كريكسون) أحد منتسبي شرطة البنجاب والعديد من العناصر التي جائت من الهند. أصدرت السلطة العسكرية البريطانية في آب 1915م في المناطق العراقية المحتلة (قانون الأراضي العراقية )، يخول السلطة تطبيق القانون الهندي على المجتمع العراقي، وأجاز لها تعديله حسبما تتطلب الأوضاع المحلية اما في المناطق العشائرية المدنية، بموجب الأسس الواردة في نظام دعاوى العشائر المدنية والجزائية الذي وضعه هنري دوبس عام 1915، وذكر أنه مستمد من نظام الحكم الذي طبق في بلوشستان، وحدد القانون إحالة القضايا الخطيرة إلى اللجان العسكرية البريطانية للبت فيها في حين تحال القضايا الشخصية إلى المحاكم الشرعية التي تطبق (الشريعة المقدسة).

حددت السلطة البريطانية الأهداف السياسية البريطانية كما وردت في برقية وزير الهند في لندن إلى نائب الملك في الهند والدوائر العسكرية والملكية البريطانية في العراق بتاريخ 29 آذار 1917م، متضمنة مظاهر تحقيق السياسة البريطانية في العراق، في إن تبقى البصرة والناصرية وشط العرب وبدرة تحت الإدارة البريطانية بصورة دائمة، وتكون بغداد مملكة عربية يديرها حاكم أو حكومة عراقية تحت حماية بريطانيا، وتدار خلف ستار عربي بواسطة وكالة وطنية وفقا للقوانين الموجودة. كما أشار التقرير الإداري البريطاني الصادر في تشرين الأول من عام 1918 الى ان الإدارة البريطانية تعتزم تعيين قا ٍض سني في مدينة النجف، فضلا عن إصدار تعليمات على العمال العاملين عندها بإجبارهم ارتداء ثيا ِب موحدة بحسب انتمائهم القومي والطائفي، فالعمال السنة يرتدون كوفية حمراء وعقال اسود ويرتدي العمال الشيعة كوفية زرقاء وعقال ابيض .

قام البريطانيون بتوسيع نظام دعاوى العشائر بعد سيطرتهم على جميع الاراضي العراقية، اذ صدر نظام دعاوى العشائر المدنية والجزائية في 28 تموز/ يوليو 1918، الذي اصبح له قوة القانون اند صدور القانون الاساس العراقي (الدستور) في سنة 1925. شكلت القوات البريطانية ما سمي بالإدارة المدنية البريطانية في العراق ترأسها السير بيرسي كوكس حتى مايو عام 1918 فتبعه السير أرنولد ولسون .ومارست الحكومة المؤقتة البريطانية الهندية سياسة التهنيد من خلال فرض القانون الهندي لحين صياغة الدستور العراقي بغية إلحاق العراق وضمه بالتاج البريطاني . في 30 تشرين الثاني 1918 صدر قرار يقضي بأقامة استفتاء شعبي لمعرفة رأي البلد في تأسيس حكومة عربية، وتضمن ثلاثة اسألة: هل يفضل العراقيون دولة عربية واحدة تقوم بارشاد من بريطانيا، تمتد من حدود ولاية الموصل الشمالية إلى الخليج العربي؟، وهل يرون أن يكون أمير عربي على رأس هذه الدولة الجديدة؟، ومن الذي يرشحونه لرئاسة الدولة؟.

 كانت مدن الفرات الاوسط وبالاخص مدينتي النجف وكربلاء الشغل الشاغل للبريطانيين، منذ دخول قواتهم العراق في عام 1914، ذلك أن الفرات الاوسط كان مركز التشيع وما يحمل التراث الشيعي من نزعة الى النقد السياسي للسلطة على مدى السنين اضافة إلى الفلسفة الأمر الذي انعكس على نفسية المجتمع في مناطق الفرات الاوسط. أشار الحاكم السياسي برسي كوكس في حديثه عن الفرات الاوسط (أن المشكلة المعقدة في منطقة الفرات الاوسط في هذا الوقت أي عام 1917 ليس وجود قبائل كثيرة وإنما وجود مدينتي كربلاء والنجف).

في عام 1919 ذهب فيصل بن الحسين الى باريس لحضور مؤتمر الصلح في فرساي ولكن لم يسمح له بالمشاركة وعندما حاول الاحتجاج تمت دعوته الى وزارة الخارجية الفرنسية وهناك كانت اكبر صدمة تعرض لها العرب وفيصل ونرويها كما سجلها مرافق فيصل البريطاني (لورنس ) حيث التقاهم في وزارة الخارجية المسيو جان غوت مساعد مدير شؤون اسيا في الوزارة. وجرى الحديث بينهما – طبقاً لمذكرة بخط لورانس قدمت الى وزير الخارجية البريطاني واودعت سجلات الوزارة تحت الرقم 97/608 ملف 7 – 445 – على النحو الآتي:

“فيصل: انني لا استطيع ان افهم لماذا جرى استبعادي من قائمة الممثلين الذين يحق لهم الكلام امام مؤتمر الصلح؟

غوت: هذه مسألة من السهل عليك ان تفهمها. لقد ضحكوا عليك. ان الانكليز تخلوا عنك، ولو انك وقفت معنا لكان في وسعنا ترتيب امورك. اننا نعترف بوجودك هنا كضيف كريم، ولكن الضيف لا علاقة له بمؤتمر السلام، والخطأ يقع عليك انت لأنك جئت الى هنا دون ان تحصل على اذن بيكو ودون اخطاره. كنت واقعاً تحت نصيحة خاطئة، والنصائح التي اعطيت لك لا تنفعك.

فيصل: الجنرال اللنبي في دمشق ابلغني ان الحكومة البريطانية والحكومة الفرنسية كلتيهما تعترفان بقواتي كطرف محارب .

غوت: هذه اكذوبة. نحن لا نعرف شيئاً عن جيش عربي في سوريا.

فيصل: الجنرال اللنبي كان قائد جيوش الحلفاء، وكانت قواتي تحت قيادته. كان هو قائدنا الاعلى، وقد قال لي في دمشق انه يعتبرنا طرفاً محارباً، وقد صدقته.

غوت: هذه مشكلتك. وعليك ان تفهم انك اذا اردت صداقة فرنسا فيجب ان تطيع ما نقول به نحن”.

وقد اكتمل المشهد الدرامي في أيلول من نفس العام عندما التقى رئيس الوزراء البريطاني (لويد جورج) ورئيس الوزراء الفرنسي (جورج كليمنصو) في اليوم الاول من أيلول في مبنى السفارة الفرنسية، وبينهما اللورد هانكي الذي جرى تكليفه رسمياً وضع مذكرة عن حديثهما. في البداية – كما ورد في مذكرة اللورد هانكي – كان رئيس الوزراء الفرنسي يشعر بأن الحكومة البريطانية متضايقة من بعض تصرفات الرسميين الفرنسيين.وهي تعتبر انها احيانا تجاوزت حدود المقبول ازاء الحليف الاكبر وهو بريطانيا وكان كليمنصو حريصاً على استرضاء رئيس الوزراء البريطاني لأنه ما زال يشعر بالحاجة اليه في التسوية النهائية، وما يترتب عليها. وبدأ الحوار بين الاثنين. ودار على النحو التالي على حسب ما سجله اللورد هانكي في مذكرته بالحرف (وثيقة مجلس الوزراء الرقم 14/116 تاريخ 1 ديسمبر (كانون الاول) 1919):

“كليمنصو: انني حريص على ان لا تكون هناك خلافات كبيرة بيننا، فما زالت امامنا ظروف تقتضي لقاءنا المستمر. ان تحالفنا نجح في تجربة الحرب، وليس من المعقول ان يرسب في تجربة السلام”. ثم استطرد: “دعنا نسوي الامور بيننا مباشرة، وقل لي ما الذي تقترح ان نبحثه معاً الآن؟

” لويد جورج: دعنا نبحث في مصير العراق وفلسطين.

كليمنصو: اذن قل بصراحة ماذا تريد؟

لويد جورج: اريد الموصل. انتم تطالبون بهذا الاقليم ونحن نعتبره تكملة لجنوب العراق الذي اتفقنا على ان يكون من نصيبنا.

كليمنصو: حسناً. لك ان تأخذ الموصل. سوف نتركه لكم… هل هناك شيء آخر؟

لويد جورج: نعم… اريد القدس ايضاً. انكم تثيرون متاعب لنا، وتطالبون بالحق في فلسطين باعتبارها جنوب سوريا.

كليمنصو: لك ان تأخذ القدس ايضاً… هل هذا يرضيك؟

لويد جورج: هذا شيء طيب.

كليمنصو: ان بيشون (وزير خارجية فرنسا) سوف يثير لي مشاكل بسبب الموصل، وارجوك ان تساعدني ازاءه.

 لويد جورج: ماذا استطيع ان افعل لك؟

كليمنصو: اتركوا لنا سوريا شمال فلسطين من دون ان تثيروا المتاعب في وجهنا. انا لا اعني المنطقة المسيحية في لبنان فقط، ولكن اريد سوريا الداخل ايضاً: دمشق وحلب وحمص وحماه.

لويد جورج: ليست لنا مصالح حيوية في هذه المناطق، ولن نعارضكم عندما تضعوها جميعها تحت حكم فرنسي موحد!”.

وانتهت المناقشة بين الرجلين لأن رئيس وزراء ايطاليا انضم اليهما في صالون السفارة الفرنسية. وبهذا تقرر مصير الدول العربية ومنها العراق.

لم تستجب بريطانيا للمطالب الشعبية بتقرير المصير، بل سارعت هي وحلفاؤها الى الاجتماع في سان ريمو في إيطاليا في (25 نيسان 1920) ووزعوا الانتدابات، فأنيط انتداب العراق وفلسطين وشرق الأردن لبريطانيا. أذيع نبأ الانتداب على العراق في بغداد في (3 أيار 1920) فأعلن الشعب معارضته له، أدركت الحركة الوطنية هدف السياسة البريطانية في استمرار الحركة البريطانية المباشرة وعدم تنفيذ الوعود التي أعطيت للعرب في الحصول على الاستقلال والوحدة فقامت بتصعيد المقاومة ضد الاحتلال، وتوتر الجو السياسي في العراق وعقد زعماء الحركة الوطنية سلسلة من الاجتماعات السرية وقرروا اتخاذ التدابير لحشد العراقيين. وفي (2 حزيران 1920) حدثت مظاهرة جماهيرية واسعة عندما قابل ممثلوا الحركة الوطنية وكيل الحاكم المكي وطالبوا بإجابة المطاليب الآتية وهي إنشاء مجلس تأسيسي (جمعية وطنية) تضع دستور وتقرر شكل الحاكم وكذلك إطلاق حرية الصحافة. وقد ردت بريطانيا على هذه المطاليب موضحة شروط وكالة حكومة بريطانيا على العراق . كان اعتقال الشيخ شعلان أبو الجون شيخ قبيلة الظوالم في (30) حزيران في الرميثة أحد الأسباب التي أدت الى اندلاع الثورة إذ هاجم رجاله سراي الحكومة وقتلوا بريطانيين وانقذوا شيخهم فكانت تلك الرصاصات إيذاناً بإعلان الثورة في العراق ضد البريطانيين.امتدت الثورة بسرعة الى مناطق العراق المختلفة، فأعلنت الثورة في النجف في (2 تموز) ة وتمكن الثوار في الرميثة من مقاتلة البريطانيين وفي الشامية استطاع الثوار السيطرة على المدينة وتمكن الثوار من إحراز نصر كبير في موقعة الرارنجية (الرسمتية) قرب الكفل يوم (24 تموز) فاضطرت القوات البريطانية الى التقهقر نحو الحلة بعد أن فقدت (318) جندياً، وغنم الثوار (40) رشاشاً ومدفعاً واحداً. خفت حدة المعارك العسكرية بعد فترة قصيرة من وصول السير برسي كوكس واعتبرت الثورة منتهية بعد المفاوضات التي أجرتها بريطانيا مع الثوار في الرميثة آخر معاقل الثورة وتوقيعها الاتفاق معهم في (30 تشرين الثاني 1920) .

بعد وصول بيرسي كوكس الى بغداد في (11 تشرين الأول 1920)، واستقبل استقبالا حافلا تبارى خلاله الشعراء وعلى رأسهم الشاعر (جميل صدقي الزهاوي) في القاء القصائد في مدحه وهجاء الثورة التي حصلت وذمها اشد الذم .

كانت أولى الخطوات التي اتخذها المندوب السامي، انه عقد اجتماعاً لمجلسه الاستشاري في الحادي والعشرين من تشرين الأول من عام 1920، ضم في عضويته كل من بونهام كارتر ناظر العدلية، (وهو ايضا صاحب فكرة تشكيل الحكومة حينما كان رئيس اللجنة التي الفها ويلسون بعد ان اجرى استفتاء عام 1918 مع بعض التعديلات ) وهاول ناظر المالية فضلاً عن مساعده سليتر وبولارد ناظر الاشغال وبطبيعة الحال ضم هذا المجلس العنصرين البارزين في السياسة البريطانية، هما جون فلبي، والمس بيل السكرتيرة الشرقية واستمر هذا الاجتماع الطارئ زهاء الثلاث ساعات، وضح فيه كوكس افكاره حول تأليف الحكومة واعتبارها كالجسر الذي يربط فيما بين السلطات البريطانية المتمثلة بشخصيته وبين الشعب العراقي .

ولقد استبعد الاجتماع موضوع الاستعانة باي شخصية شيعية فقد عملت الدعاية البريطانية على زرع فكرة ان كل معمم شيعي هو (إيراني ) فحتى عندما تتحدث المس بيل عن السيد (محمد الصدر) وهو من سلالة ال البيت وجده الاكبر كان قادم من لبنان والشيخ مهدي الخالصي الكبير الذي تعود اصوله الى قبيلة بني اسد العربية وهما من كبار قادة ثورة العشرين تقول (إنهما من رعايا إيران)، وقد وصفت (السيد محمد الصدر) بما يلي "إن معكر صفو السلم هو السيد محمد الصدر، وهو عالم طويل القامة، اسود اللحية، ذو تقاسيم شريرة، قفز إلى الظهور البغيض بصفته رئيس المحركين خلال الإضطرابات وأخذ يدور في أنحاء البلاد ويسري شرّه فيها كما يسري لهيب الحرب، فقد صادف أن أُقيمت حفلة استقبال في المدرسة الإيرانية، حيث ذهبت كالمعتاد وكان من الضروري أن أذهب إلى هناك لأن السيد محمد الصدر هو المنظم للحفلة" . وقد إختصرت المس بيل رأيها قائلة: “ويجب أن أعتبر سيطرة الشيعة كارثة لا يمكن تصورها” . كذلك تم استبعاد اي شخصية كردية حيث كانت الدعاية البريطانية تعتبر أن فكرة وجود كردستان مستقلة فكرة خيالية تماما، كما وصفتها المس بيل في رسائلها التي قام بترجمتها (يونس السبعاوي) ونشرها (روفائيل بطي) . ويمكن معرفة التوجهات البريطانية من خلال المحادثة التي أجرتها المس بيل مع الحاج (ناجي رضا جادر) احد مالكي الأرض الزراعية في الكرادة وكان صديقا مقربا منها، عندما سالها عن سبب فوزه بمقعد في المجلس من دون سابق علم له بالأمر إلى إن أخبره مختار الكرادة بفوزه، فقالت له " انته نحن نعتبرك صديقنا" فسألها الحاج ناجي عن سبب غياب أعيان الشيعة في بغداد من المجلس، فقالت "أهل الكاظمية كلهم ما يفتهم وأهل بغداد (عنودي) وأهل النجف وأهل كربلاء كلهم (فارسي) ما يفتهمون عربي غير بس الشيخ عمران العلوان " وقالت المس بيل " أهل الدليم يتكلمون عربي ما يفهم منها أهل بغداد شي فاخترنا لهم فؤاد الدفتري حتى يعلمهم تركي وهم يعلموه عربي حجي بعد ماكو سؤال" .

لذلك قرر الاجتماع الاستعانة بنقيب اشراف بغداد السيد (عبد الرحمن النقيب الكيلاني)، عرض برسي كوكس في اثناء الاجتماع مجموعة من المقترحات والتي عدت الاسس التي قامت عليها الحكومة ومنها، تأسيس مجلس من الوزراء العراقيين وكان الى جانب كل منهم مستشار بريطانيا، ويكون هذا المجلس بادارة المندوب السامي مباشرة، وبعد تعديلات طفيفة اجريت على هذه المقترحات من قبل اعضاء المجلس الاستشاري تمت الموافقة عليه بالاجماع، ويلاحظ ان هذه الحكومة المؤقتة لم تكن إلاَ واجهة لتنفيذ صك الانتداب البريطاني على العراق، ويتضح ذلك من خلال ارتباط مجلس الوزراء بصورة مباشرة بـ(برسي كوكس) كما ان الوزراء المقترح تعيينهم سوف لن يكون لاي منهم دوراً مهماً في تمشية أمور البلاد في مختلف المجالات لكونه مرتبط ويعمل تحت توجيهات المستشار البريطاني الذي كان قراره نهائيا وقطعيا .

بالرغم من طرح اسم (عبد الرحمن النقيب الكيلاني) لرئاسة الحكومة المؤقتة خلال الاجتماع الا ان برسي كوكس كان يأمل ان يتولى هذا المنصب (طالب النقيب)، الذي لعب دوراً كبيراً في خدمة المصالح البريطانية، الا انه استبعد من الترشيح الى هذا المنصب وذلك يعود الى عدم الثقة الكاملة به من قبل المندوب السامي، ولمعارضة الاعضاء ولاسيما المس بيل، التي كانت تكن له الكره الشديد، بسبب نشاطه اللامحدود وطموحه الشديد بالوصول الى عرش العراق، في الخامس والعشرين من تشرين الأول لعام 1920، انهى برسي كوكس مفاوضاته التي اجراها مع الاشخاص المرشحين لمنصب وزراء في الحكومة المؤقتة، وتمكن من تخطي جميع الصعوبات التي واجهته خلال المباحثات، ولم يتوان المندوب السامي بعد هذه المباحثات من توجه رسالة تكليف الى السيد عبد الرحمن النقيب بتشكيل الوزارة وبناء على رغبة ملك بريطانيا في ذلك، فوافق النقيب على هذا الامر كما عبر عن ذلك كوكس بقوله انه قبل (بكل جراة واقدام ودون تردد) لقد تم ترتيب الدعوات لاعضاء مجلس الوزراء، وكذلك توزيع الحقائب الوزارية عليهم بصورة توحي للمراقب بانها صادرة من النقيب نفسه وليست مفروضة عليه من قبل المندوب السامي، وذلك لاعطاء هذه الحكومة واجهة وطنية وليست اجنبية، لقد تألف المجلس من ثمانية اعضاء، يرأس كل عضو منهم دائرة من الدوائر، اعلن تشكيل الوزارة في الخامس والعشرين من تشرين الأول عام 1920 وضمت، عبد الرحمن النقيب، رئيساً للوزراء وطالب النقيب وزيراً للداخلية، وساسون حسقيل لوزارة المالية، ونصب وزيراً للعدل مصطفى الالوسي، اما وزارة الدفاع، فقد اسندت الى جعفر العسكري، الضابط العراقي في الجيش العثماني والذي اشترك في الثورة العربية، ومن ثم اصبح حاكماً لولاية حلب في الحكومة العربية في سوريا، وعين لوزارة الاشغال العامة عزت الكركوكلي، واسند منصب وزير النافعة (التعليم) والصحة الى محمد مهدي الطباطبائي، اما وزارة التجارة فقد اسندت الى عبد اللطيف المنديل والوزارة التاسعة وهي وزارة الأوقاف كانت من نصيب (محمد علي فاضل)، والى جانب هؤلاء الوزراء المحليين، تم تعين مستشارين بريطانيين، كانوا بحقيقة الامر هم الوزراء الفعلين واصحاب القرار وهم جون فلبي مستشارا لوزارة الداخلية، والعقيد سليتر للمالية، وكان عليه ان يعمل في وزارة التجارة، والسير بونهام كارتر للعدلية والمستر نورتن للصحة، اما مستشار وزارة الاشغال والمواصلات فقد عين المستر ديفير اتكسون اما وزارة التجارة فقد استلم منصب المستشار فيها، وتكنسن اما وزارة الأوقاف فقد عين لها مستشاراً فيها فيما بعد، وهو كوك وكان أول اجتماع عقده مجلس الوزراء في الثاني من شهر تشرين الثاني عام 1920.

 ثم أصدر المندوب السامي برسي كوكس بياناً في (8 تشرين الثاني من العام نفسه) أوضح فيه أن الهدف من تأليف الحكومة هو الاسراع في تمهيد الطريق أمام الشعب العراقي لإبداء الرأي في شكل الحكومة التي يريدها عن طريق تأليف مؤتمر عام يمثل الشعب العراقي تمثيلاً صحيحاً.

في شباط 1921 نقل (وينستون تشرشل) من وزارة الحرب وأصبح وزيرا للمستعمرات، فقرر عقد مؤتمر في القاهرة دعا اليه الممثلين العسكريين والسياسيين البريطانيين في الشرق الادني لاعادة النظر في سياسة بريطانية في المنطقة ودراسة امكانات خفض النفقات البريطانية فيها، وتقرير علاقات الدولة الجديدة المقبلة في العراق ببريطانيا العظمي من حيث النفقات، وشكل الدولة المقبلة، وشخص رئيسها، ونوعية قوات الدفاع فيها، وغير ذلك. فلما ذهب السير بيرسي كوكس لحضور هذا المؤتمر كان من جملة من اصطحبهم معه سكرتيرته الشرقية غيرترود بيل التي كانت المرأة الوحيدة في المؤتمر. وقد شارك في المؤتمر السير هربرت صمويل (الحاكم العام المعين لفلسطين) وشارك فيه من الخبراء كل من الميجور لورانس والميجور كلايتون (من المخابرات العسكرية والسياسية) والمستر كورنواليس (من مخابرات وزارة المستعمرات)، كذلك حضر المؤتمر السير رونالد ستار، اللورد جورج لويد، الكولونيل كونلف أوون، الكولونيل هملتن، جون فليبي، الكابتن شكسبير وغيرهم واصدر المؤتمر قراراً يقدم عرش العراق الى الامير فيصل .وقراراً ثانياً يقدم امارة شرق الاردن الى الشريف عبد الله الابن الاكبر للشريف حسين .

عاد المندوب السامي الى بغداد في 19/ نيسان 1921 بعد انتهاء مؤتمر القاهرة وأذاع بياناً عما تم في المؤتمر وبدأ على الفور باتخاذ الترتيبات اللازمة لإنجاح ترشيح فيصل وأصدر بلاغاً أوضح فيه أن الحكومة البريطانية تعد الأمير فيصل مرشحاً موفقاً وعمل المندوب السامي أيضاً على تذليل العقبات التي تعترض سبيل الأمير فيصل ومنها إخراج طالب النقيب من وزارة الداخلية وأبعاده عن العراق وأبعاد جون فيلبي مستشار وزارة الداخلية لأنه من معارضي الهاشميين ومن دعاة الجمهورية.

شغلت بريطانيا الرأي العام في العراق في قضية من سيتولى العرش في العراق بعد أن عرضت أسماء عدد من المرشحين، مستبعدين أي شخصية عراقية شيعية باعتبارهم كما وصفتهم مس بيل " والشيعة، كما بيّنت في مناسبات عديدة من قبل، يكوّنون مشكلة من أعظم المشاكل" اما بقية المرشحين فكانوا من ذوي ارتباطات مع بريطانيا، ويتفاوتون في مراكزهم وأمكانياتهم، فعبد الرحمن النقيب له أنصاره في بغداد لكنه كان طاعناً في السن وعبد الهادي العمري وهو من أسرة موصلية معروفة وله شعبية في الموصل وطالب النقيب شخصية بصرية معروفة، وله علاقات واسعة مع الأمراء العرب في المحمرة والكويت ونجد وكان طموحاً يسعى قبل الحرب العالمية الأولى لأقامة إمارة عربية في جنوب العراق على غرار الإمارات المجاورة، وفيصل بن الشريف حسين ملك سورية المخلوع وأخوه عبد الله الذي رشحه المؤتمر العراقي الذي انعقد في دمشق في 8/ آذار 1920 ليكون ملكاً على العراق والشيخ خزعل أمير المحمرة الذي كانت له علاقات واسعة مع جنوب العراق وأحد أنجال أبن سعود أمير نجد، والأمير التركي برهان الدين أبن آخر سلاطين الدولة العثمانية وترددت أسماء أخرى منها أحد أمراء الأسرة المالكة في مصر وظهر تيار يدعو الى إقامة نظام جمهوري في العراق يتزعمه جون فيلبي مستشار وزارة الداخلية الذي استطاع أن يجمع حوله بعض الشخصيات البارزة في العراق أمثال توفيق الخالدي وفخر الدين جميل وعبد المجيد الشاوي وكانت بريطانيا ترى في الشخص الذي ترشحه لعرش العراق هو من يفتقر الى القوة الحقيقية ويعتمد في بقائه على الحكومة البريطانية وكان ممن أشار بعدم تعيين أحد من العراقيين ملكاً أو أميرا على العراق على أساس أنه سيثير حسد عراقيين آخرين فيخلقوا متاعب لا تنتهي للإنجليز" (ساسون حسقيل) وزير المالية في حكومة عبد الرحمن النقيب الكيلاني . وكان حزقيل يقترح أن يكون ملك العراق أو رئيسه أحد أبناء شريف مكة أو أحد أعضاء الأسرتين المالكتين في مصر وتركيا.

أسهمت عودة الضباط العراقيين من سوريا وعلى رأسهم نوري السعيد باختيار الأمير فيصل ملكاً على العراق ودعوة الجمعية التأسيسية لأن تقوم بمهامها الأربع الأساسية وهي تعيين مجلس الوزراء، واختيار حاكم للعراق، وتأسيس الجيش، وتصميم علم وطني. وقد نُفذت الخطة المرسومة. وتمّ حفل التتويج بحضور 1500 مدعو، ثم عُزف النشيد الملكي البريطاني لأنه لم يكن هناك سلام وطني عراقي، وفي الختام تمت الموافقة على تشكيل الحكومة العراقية التي رأسها عبد الرحمن النقيب كأول رئيس وزراء لمملكة العراق الفتية.

 

زهير جمعة المالكي

 

قراءة في رواية (أصابع التمر) للكاتب محسن الرملي

التفاصيل
كتب بواسطة: جمعة عبد الله

جمعة عبد اللهتدور احدث النص الروائي بين الماضي والحاضر عبر الاجيال الثلاثة، أو المراحل الثلاثة، التي يمثلها الشخصيات (الجد والاب والابن) وكل شخصية تمثل مرحلة معينة مرت على العراق في عواصفها الاجتماعية والسياسية. في مسائلها الحساسة والعويصة في دوامة الصراع وتقلباته وتحولاته عبر هذه الشخوص. الجد (المطلق) والاب (نوح) والابن (سليم) التي احتلت احداث المتن السردي، الذي يملك براعة في الصياغة والمعنى والرؤية والتعبير في المغزى والرمز الدال. بما شهد العراق من تحولات تمثلت . الفترة الملكية. فترة عهد البعث. فترة الشباب الذي تشرد وعانى الغربة والاغتراب. وما تحمل هذه المراحل من صراعات مختلفة بالتناقض والاضداد في داخلها، في المعايير والمواقف تجاه الحكم واساليب السلطة في العراق، بما تعرض من احداث عاصفة صبغت بلونها هذه التحولات. وكل مرحلة تتسم بمواصفات معينة تميزها عن المراحل الاخرى، في سياق الاحداث الجسيمة التي جرت على العراق. وحملت في رحمها من زوابع في تهشيم النسيج الاجتماعي والسياسي. الى مرحلة التأم وحتى مزق الهوية. لذا نجد في هذه الشخصيات الرمزية الدالة، صورة العراق في العادات والتقاليد الاجتماعية في الثأر والانتقام. في منصات الحب وأشجان القلب وعواطفه المنفعلة بالانفعال العشقي. في مسائل الارهاب وخاصة في زمن الدكتاتور المتسلطة. التي جلبت الارهاب والحروب. مما جعل جيل الشباب ان يهرب من شبح الدكتاتورية والحروب. بعدما سدت آفاق الحياة والعيش. مما جعلهم ان يخوضون مغامرة الهجرة في الغربة والاغتراب. وبدورها تؤثرعلى وتيرة الصراع الاجتماعي والسياسي الى الذروة التأزم. تدور احداث المتن السردي في عتباته، بين الاب والابن في اسبانيا مدريد، اثناء تواجدهما. وما صاحبه من تسليط الضوء على صورة العراق. وكذلك الصراع الثقافي بين العقليتين الشرقية والغربية. من عواطف مشحونة بالانفعالات بين العقلانية والتهور. على خلفية الماضي والحاضر في خضم الصراع على صورة الوطن. ولكن لابد من التمييز والتفريق في مواصفات هذه الشخصيات التي تمثل مراحل العراق المتعاقبة. لاشك أن الجد (مطلق) يمثل الارضية الراسخة في الاقناع العقلي والفكري والديني . يمثل الحكمة البصيرية في رؤية ميادين الصراع القائم، يمثل العقلية المقبولة والموضوعية في مواجهة الاحداث بالعقلانية. بينما نجد الاب (نوح) يمثل المرحلة المضطربة والتي تعاني من الازدواجية في الشخصية بين (المطيع والمتمرد). وهي اسطع مثال على فترة عهد الدكتاتورية البعثية في وجهها المتناقض بين (الديني والارهابي) في العقلية والثقافة. بينما نجد الابن (سليم) يمثل الجيل الذي عانى من وزر الدكتاتورية بين الارهاب والحرب. والهروب من وجه الدكتاتورية البشع. في محنته في التشتت والحرمان من الحرية والتأزم في الهوية. ولكن رغم هذه الاهوال ظل أميناً على حب الوطن ويحمل صورة الوطن في عقله وقلبه، رغم معاناة الغربة والاغتراب. نجد في شقة (سليم) الصغيرة جدرانها تمثل متحف لصور العراق. وكذلك يتميز بالسلوك العقلاني ووضوح الرؤية والموقف، في الصراع بين الثقافة والعقلية الشرقية والغربية. أن (سليم) في سلوكه وتصرفه يمثل صورة مشرقة للبطل الايجابي، عكس البطل السلبي في الصراع بين العقلية الشرقية والغربية. التي تناولتها الروايات العربية، على سبيل المثال، رواية (موسم الهجرة الى الشمال) ورواية (الحي اللاتيني). ونجد الاب (نوح) والابن (سليم) في صراع وخلاف، ضمن المنطق المسموح بين الاب والابن، ولكن يجمعهما الجد (مطلق) في التوافق والانسجام. فالجد هو الخيمة الذي يجمع عليها الفرقاء في داخلها على التوافق. نجد ان المتن الروائي توغل عميقاً في تفاصيل صورة العراق وتحولاته عبر الفترات المتعاقبة. والتي كانت الدكتاتورية الضربة القاصمة التي كسرت ظهر العراق، في التحطم والتشتت والارهاب. واصابت الوطن في اعمق أزمة حتى مزقت هويته. واصبح كل أمل الغريب والمغترب ان يجد هويته داخل الوطن حتى ينهي عناء البحث عنها (حيث أمارس هويتي الاولى، حنيني، شوقي الى احتضان الأم واخوتي،الى زيارة قبر عالية، الى السباحة في نهر دجلة، الى اصدقائي، الى ابقارنا وحميرنا ودجاجاتنا والجبل.. أتلهف الى أخبارهم، وعنهم. كيف هم الآن؟ ماذا حدث؟ وماذا يحدث؟ من مات منهم؟ ومن تزوج) ص38. هذه لهفة الحنين والشوق التي تفور في أعماق الوجدان بقهر وحزن وحسرة (أنه العراق يا أبي) هذا الترابط العضوي بين الماضي والحاضر. الذي دنسته الدكتاتورية في مجيئها المشؤوم. والتي حرثت في الخراب والتدمير، وما أصاب العراق من فواجع، لذلك يقول الاب (نوح) الى أبنه (سليم) (أكتب ما تشاء فلن يحدث أسوأ مما حدث.. هذا العالم الجايف) هذه حكايات العراق المأساوية التي تقطع الانفاس بحشرجة الالم والحزن والغضب. بأنها معاناة تحطيم الانسان وتهميشه . هذه تجسيدات الشخصيات المحورية التي سلط عليها المتن السردي . ولكن لابد من استعراض الملامح السمات البارزة لهذه الشخصيات التي تمثل مراحل العراق المختلفة:

1 - الجد (مطلق): يمثل الحكمة والعقلانية في الفعل والارشاد بحكمته القائلة (أذا نبح عليك الكلب فلا تنبح عليه، ولكن أذا عضك فعضه) ص9. وكان سعيه الحثيث والمثابر، في تشيد ما يطلق عليه من تسمية بالمدينة الفاضلة أو القرية الفاضلة، لكن هذا الحلم والامل اصطدم في المواجهة مع الحكومة في اجهاضه . كان ملتزما بوعي في التراث الديني وتقاليده وما جاء في القرآن. كان ملتزماً بالعقلية التي تبعده عن الطيش والتهور وسوء التقدير. لذلك من اجل امتصاص انتقام السلطة انتقل بقريته الى الضفة الاخرى من النهر، ليكن بعيداً عن الصراع غير المتكافئ مع قوات الحكومية. وكان يقول عنه الاب (نوح) موجهاً كلامه الى أبنه (سليم) (جدك رجل عظيم يا سليم، لكنه ربما ولد في غير عصره. أنني أحبه بشكل كبير) ص116.

2 - الاب (نوح): يمثل مرحلة في عهد البعث بفترته الاولى والثانية ، ويتميز هذا الجيل بين الاطاعة والتمرد. يمثل روح الازدواجية المتناقضة بين (الديني والارهابي). وهو بالذات نهج وسلوك حكم البعث في الارهاب، أوالدعوة الى الحملة الايمانية الدينية. وكذلك وجه الطيش والانتهاك. لذلك حين التقى (سليم) مع أبيه وجهاً لوجه في اسبانيا / مدريد. كان (سليم) صعق بالغرابة والاستغراب، لم يصدق عينيه بأن هذا الواقف أمامه هل هو أباه حقاُ ؟، في هيئته المتنافرة والغرائبية (هذا الرجل حليق الشاربين، صلع خفيف فوق الجبهة، طويل الشعر مربوطة الى الخلف، وخصلتان صغيرتان منه مصبوغتين بالاحمر والاخضر، ثلاث حلقات فضية تتدلى من أذنه اليسرى، أقراط.. أيعقل أن يكون هذا أبي ؟! أهذا هو أبي حقاً) ص19.. جاء الى أسبانيا / مدريد من أجل أخذ الثأر والانتقام من فتى السلطة الطائش، الذي تحرش بأبنته الصغيرة (استبراق) حين مسكها من مؤخرتها (بالضبط مثلما كان يفعل عدي صدام حسين في التحرش بالفتيات ويخطفهن من الشوارع) فما كان من الاب (نوح) ان افرغ في مؤخرته طلقتين. والفتى الطائش يصيح بغضب (أتعرف من أنا؟ فيجيبه: أنت أبن كلب.... أبن قحبة) ولكن كان الدمار والخراب حل بالقرية آل مطلق. فقد عاثت الحكومة قتلاً وخراباً، والنتيجة كان عدد الضحايا 17 قتيلاً حتى الاب (نوح) خرج من السجن معوق ومخصي. وسميت قريتهم بقرية (القشامر) وغيروا لقب (مطلق) الى اسم أل قشامر، ولكن بعد اشتداد ضراوة الحرب العراقية الايرانية، وحاجة الدكتاتورية الى وقود للحرب لتجنيد الشباب والرجال ودفعهم الى جبهات القتال. غيرت أسم قرية (القشامر) الى اسم (قرية الفارس) تيميماً بالفارس الدكتاتور، الذي حول العراق الى جحيم وتوابيت. فلذلك يتساءل بجزع عن عمل لجان التفتيش لنزع اسلحة الدمار الشامل بالقول (أية أسلحة ودمار شامل، هل هناك ما هو أكثر دماراً من الدكتاتور نفسه، الذي قتل وشرد الملايين، فلماذا لا ينتزعونه ويخلصوننا؟) ص125. وفي الاخير عرف الاب (نوح) بأن فتى السلطة الطائش الذي عين بعد ذلك في السلك الدبلوماسي. قد انتقل الى بلد آخر، أو الى جهة مجهولة، وربما قتل أو مات. لذلك غير قناعاته بالثأر والانتقام.

3 - الابن (سليم): يمثل الجيل الذي عانى الغربة والاغتراب، عاني شبح الدكتاتورية وارهابها، ومنهم السارد أو الروي نفسه، وهو يحمل مواصفات الكاتب أيضاً ، في مقارعة النظام والسلطة الارهابية، لذلك يصيح بالتذمر والسخط (لماذا.... لماذا فعلتم بنا كل هذا.. يا مجرمين) ص164. كان في بداية براعم حياته الشبابية، احب (عالية) أبنة عمه، حباً ملك جوانحه، وكان يبعث الرسائل والقصائد الشعرية عبر شقيقته الصغرى (أستبراق) وبعد ذلك اختار مكاناً لعش الحب بينهما، يلتقيان يومياً بالعاطفة العشقية الملتهبة وهم يمضغان أصابع التمر بكل شهية واشتياق وشهوانية . كان يطير بجوانحه العشقية بالبهجة ، لكن الموت خطف (عالية) واصابه الحزن الشديد. وفي شبابه كان ضد الارهاب والسلطة مما ضيقت عليه الخناق. مما دفعه الى التخلص من شبح الدكتاتورية بالهجرة الى أسبانيا، وهناك استطاع ان يوصل صوته المعارض للنظام. وينقل محنة ومأساة الوطن الى الرأي العام الاسباني. وهو يمثل العقلية الناضجة والواعية من شريحة المغتربين في المهجر. ويحمل صورة العراق بكل معاناتها. يمثل الجيل الذي بأستطاعته ان يتحمل المسؤولية العراق في الانعتاق والحرية.

 

جمعة عبدالله

 

 

علي أسعد وطفة.. أيقونة الابداع في علم الاجتماع التربوي (1)

التفاصيل
كتب بواسطة: د. محمود محمد علي

محمود محمد عليهناك نمطان من الأساتذة الجامعيين، نمط تقليدي تتوقف مهارته عند تقليد الآخرين، والنقل عنهم وضبط الهوامش، والحرص علي أن يكون النقل أميناً، وكلما كان من مصادر ومراجع أجنبية كان أفضل، وكلما قل فيما يقولون فإن ذلك هو الصواب عينه، ونمط مبدع يسخر قراءته لإبداء الرأي أو للتدليل علي صواب الاجتهاد العقلي الشخصي، وبالطبع فإن النمط الثاني هو الأقرب إلي النمط الفلسفي الحق، فالتفلسف ينتج الإبداع ولا يتوقف عند النقل وإثراء الهوامش .

ولا شك في أن الأستاذ الدكتور علي أسعد واطفه (أستاذ  علم الاجتماع التربوي بجامعة الكويت) من هؤلاء الذين ينتمون إلي النمط الثاني، فهو صاحب موقف فلسفي ونقدي واضح من كل ما يقرأ ولا يكتب إلا في حول أو في قضايا معاصرة  بغرض بلورة موقف مبدع ومستقل عن كل المواقف ومختلف عن كل الآراء المطروحة حول نفس الموضوع سواء قيل من قبل .

وهنا وجدنا أن البحث في علم الاجتماع التربوي في نظر الدكتور علي أسعد وطفة، هو تعبير خالص عن الموقف الفكري المستقل الخالص بالباحث، وليس مجرد مجموعة من النقول والشروح والتعليقات المفتعلة.

علاوة علي ذلك فإن جدية الدكتور علي أسعد وطفة وأصالته تتكشف عندما يطرح القضايا الفكرية والسياسية، حيث نجد الغاية من هذا الطرح ليست مجرد تكرار للأفكار، وإنما يسلط الضوء علي أفكار وقصايا بعينها، من أجل أن يكشف عن المجتمعات العربية، وكذلك من أجل أن يستقي القارئ العربي منها مصادر خلاصة من مشكلاته التي تؤرقه وخاصة مشكلة وجوده كإنسان له كرامته الأصلية .

هذا بالإضافة أيضاً إلي أنه مكافح مناضل، وتلك ظاهرة ملحوظة في حياته كلها، كافح في صباه وشبابه، كما كافح في كهولته وشيخوخته . كافح وناضل في ميدان العلم والتعليم، في ميدان التربية والاجتماع، في ميدان الوطنية والسياسة، وكلفه كفاحه ما كلفه من عنت ومشقة، وقد حاول جاهداً أن يجمع أنواع مختلفة من العلوم وضروباً من المعارف؛ وهو عالم يشار إليه بالبنان ضمن علماء الاجتماع التربويين .

وقد شهد له كل من عرفه بأنه نعم الرجل الذي في نظرته حنان، وفي قلبه تواضع، وهو ذو شخصية إنسانية طاغية، حانية، حاضنة، وذو بصيرة ناقدة، وشخصية بناءة إيجابية متفائلة، وقلب مفعم بحب البشر، كرس حياته للدفاع عن الإنسان، وإبراز كرامته وقدسيته روحياً ودينياً، حضارياً وثقافياً، اجتماعياً ومادياً.

علاوة علي أن علي وطفه (مع حفظ الألقاب) يعد قامة، وقيمة علمية، وأخلاقية كبيرة، على المستوى العلمي، والمستوى الشخصي أيضاً، لأنه دائماً كان يمد يد العون، لمن يعرف، ولمن لا يعرف صغيراً وكبيراً؛ كما يتميز بدماثة الخلق، وحسن المعاملة مع أصدقائه وزملائه فى العمل، وأنه كان يسعى دائماً إلى تحقيق هدف سامى ونبيل، وهو جبر الخواطر، وأن يجمع بين الصدقة الجارية، والعلم الذى ينتفع به.

لقد كان قارئا لكل الأحداث، ولم تقف قراءته هنا الحديث والمعاصر، بل أبي إلا أن يجمع بين الماضي والحاضر . ودون أن أعرض لإلمامه الواسع بعلم الاجتماع التربوي، وأحب أن أشير إلي تمكنه من هذا العلم ؛ حيث عرف أصوله وأحاط بشتي جوانبه، إذ درسها في عمق وسعة، وكون فيه رأيه الخاص، ولا أظن أن من بين أقرانه من أهتم بقراءة التربية العربية في معترك الحداثة، أو حضور المقدس في الثقافة العربية، أو جان جاك روسو: فيلسوف الحرية والأب الروحي للتربية الحديثة، أو موت المدرسة في زمن كورنا ... وهم جرا.

وإذا ما جئنا لنكشف ما تميز به علي وطفه من علم وافر وثقافة واسعة، وجدنا صيته في هذين المجالين يتجاوز نطاق العالم العربي والإسلامي إلي ما هو أوسع وأرحب . ولعل الذي أعان علي انتشار صيته وازدياد شهرته، ومعرفته المتنامية باللغات الأجنبية الحية . وغني عن البيان أن هذه اللغات، التي كان يعرفها علي وطفه (مع حفظ الألقاب)، لها شأن كبير في تشكيل تيارات الفكر والثقافة في عصرنا الحاضر. ناهيك عن أنه كان ضليعاً بلغته العربية – لغة القرآن الكريم – وعارفاً بالمصطلحات الاجتماعية والتربوية في لغاتها الحية.

وهنا يمكن القول مع محمد الإدرايسي (وذلك في حواره معه) بأن علي وطفه يعد  واحدا من علماء الاجتماع العرب الذين بذلوا جهوداً رائدة في مجال البحث العلمي في العالم العربي ؛ ولا سيما في قضايا التربية والمجتمع، عبر مسار بحثي يناهز ثلاثة عقود ونيف من الزمن. وتتوزع إنجازاته العلمية بين عشرات الكتب والمقالات التربوية والسيوسيولوجية التي تعد مرجعاً لا غني عنه لكل باحث ومهتم بشؤون التربية العربية من منظور العلوم الاجتماعية، كما أنه قدم ترجمات لأمهات المقالات والكتب المؤسسة للفكر التربوي والسياسي العالمي من اللغتين الفرنسية والإنجليزية إلي العربية.

وهو سوري الجنسية من مواليد دمشق 1955، وأستاذ علم الاجتماع التربوي بجامعة دمشق في الفترة 1988- 1997، ومعار إلي كلية التربية بجامعة كالكويت منذ عام 1997 حتي الآن، وهو عضو في اتحاد الكتاب العرب، وفي رابطة الكتاب السوريين، وفي اتحاد كتاب سورية الاحرار، وفي الشبكة العالمية للتربية علي حقوق الإنسان، وأخرا عضو الجمعية الدولية للمترحمين واللغويين العرب.. حصل وطفه علي شهادة الليسانس في الفلسفة وعلم الاجتماع من جامعة دمشق 1979، والماجستير في علم الاجتماع التربوي من جامعة كان Caen في فرنسا عام 1985، وعلي الدكتوراه في علم الاجتماع التربوي من الجامعة نفسها، وذلك سنة 1988.

وقد حصل الدكتور وطفه علي جوائز علمية عدة منها : جائزة حميد بن راشد للعلوم الاجتماعية 2014، وجائزة الملصق العلمي للعلوم الإنسانية في جامعة الكويت 2010، وجائزة الباحث المتميز لجامعة الكويت في مجال الآداب والعلوم الإنسانية في عام 2009.

يرأس حالياً تحرير مجلة نقد وتنوير، ويدير " مركز نقد وتنوير للدراسات الإنسانية والسياسية " وفق استراتيجيات علمية وأكاديمية طموحة تهدف إلي تنمية البحث والترجمة في حقل العلوم الاجتماعية والتربوية في العالم العربي.

ولعلي واطفه مؤلفات كثيرة نذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر: الجمود والتجديد في العقلية العربية: مكاشفات نقدية (2007)، وبنية السلطة وإشكالية التسلط التربوي في الوطن العربي (1999)، والتربية  إزاء تحديات التعصب والعنف في الوطن العربي (2002)، والتربية العربية والحداثة : رهانات الحداثة التربوية في عالم متغير (2013)، ورأسمالية المدرسة في عالم متغير: الوظيفة الاستلابية للعنف الرمزي والمناهج الخفية (2011)، وأصول التربية: إضاءات نقدية معاصرة (2011) وسوسيولوجيا التربية  إضاءات معاصرة في علم الاجتماع التربوي (2013).

ومن ترجماته : التربية والمجتمع (إميل دوركهايم، 1991)، والهوية (أليكس ميكشيللي، 1993)، واللاشعور (جان كلود فيلو، 1995)، وفلسفة الحب (بيير بورني، 1996)، والطفل والتلفزيزن (ميريه شالفون، 1996)، وسوسيولوجيا الاتصال الجماهيري (جوديت لازار، 1995)؛ هذا بالإضافة إلى مئات المقالات العلمية التربوية المنشورة في الدوريات العربية المتخصصة والمحكمة. ولم يتوان عن الانخراط في الثورة الإعلامية والرقمية، وهو التربوي الخبير، كتاباً، وإرشاداً، وتوجيهاً، إذ قـام بتأسيس عدة مواقع علمية متخصصة، وانفتح علي مواقع التواصل الاجتماعي، كالفاسبوك والتويتر وغيرها بفاعلية، ناهيك بالمساهمة في لجان مناقشة الأطروحات الأكاديمية، والإشراف علي كثير من البحوث الجامعية، فضلاً عن تحكيم العشرات من المقالات، والدراسات العلمية، والكتب، ومشاريع الأبحاث المختلفة، والأعمال العلمية للترقية، والمشاركة في عشرات الندوات والمؤتمرات العلمية، والدورات التدريبية، والمحاضرات العامة في المنطقة العربية وخارجها. وراكم وطفة، خلال ذلك كل خبرات تدريسية هـامة، تخطيطا ً وتأليفا ً وتدريسا ً وتحكيما ً وإشرافا.

وفي تلك الكتابات والدراسات والأبحاث، نجح علي وطفه في خلق لغة خاصة بها للتعبير عن دقائق أفكارها ومنعرجات مسائلها ومسافات حلولها بعبارات شفافة رقراقة، لا تشويش فيها، إلا ما كان من بعض التشقيقات الاصطلاحية التي يصعب علي المرء مجاراتها ببادئ الرأي؛ ولقد استطاع علي وطفة أن يكتب بلغة فلسفية متصالحة مع ذاتها ومع واقعها التاريخي؛ لغة منسجمة رقراقة قوية مبتكرة بعيدة عن الانغلاق، ولكنها لا تفرط عن مقتضيات الصناعة الفلسفية، وقد تخلت كتابته عن الطابع الدعوي وسلك مسلك الاستنباط السلس والجدل السيال. ليس هذا فقد برهن علي وطفة في تلك الكتابات علي أنه يمتلك قدرة كبيرة علي توليد الأفكار وربطها وانتقادها وتحويل أي موضوع في مجري الحياة العادية إلي موضوع فلسفي عميق... وللحديث بقية.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم  الفلسفة بكلية الآداب وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

 

صورة داخلية

التفاصيل
كتب بواسطة: د. جمال العتابي

جمال العتابيتاريخ الخوف.. للكاتب الباحث فالح مهدي

زخم الأسئلة عن الجذور وأدوات الصنع

الكاتب فالح مهدي يسعى لتجاوز ماهو مألوف ومكرر أو مستهلك في معظم كتاباته، وبرؤية جديدة في مشروعه النقدي، ويحاول فالح أن يحقق حضوراً متميزاً ومضافاً، فيجد نفسه في حالة إلزام وبحث عن الحقائق في موضوعات فكرية، وبلغات أخرى غير العربية، تفتح أمامه أبواباً واسعة لمعرفة مضافة.

ولعل فالح قدّم للمكتبة العربية إسهامات جديدة أغنت الذهنية الإنسانية بدراسات جادة، كنمط جديد في التفكير والإبداع، منذ أن صدر له (المنقذ) عام 1972، دراسة مقارنة في عقيدة المنتظر بين ثماني ديانات، وللكاتب مهدي إسهامات مهمة في كتابة الرواية والقصة القصيرة، باللغتين العربية والفرنسية، ثم إتجه نحو تناول القضايا الفكرية الأكثر حساسية، تلك التي تتعلق بالمكبوت الديني والإجتماعي والأخلاقي والسياسي في تاريخنا الحديث والقديم، وهو في سائر أعماله هذه ينتبه إلى ماهو مثير في الكتابة، منشغلاً بعمق في الكشف والإضاءة.

إن إختيار فالح مهدي لنهجه الجديد في الكتابة، ليس إختياراً شخصياً فردياً لمادة معرفية، بقدر ماهو إستجابة لحاجة عميقة في الذات تتمثل  بزخم الأسئلة السايكولوجية، الميتافيزيقية، الأنثروبولوجية، السسيولوجية، وعموما هي أسئلة وجودية، عن الحياة والموت، عن الاديان، واللاهوت والطوائف، لذلك كان إختياره لـ(تاريخ الخوف) كميدان للدراسة، إختياراً فكرياً يضرب بجذوره في أعماق الكائن القلق المتسائل، انه إختيار غير عرضي، فالإنسان منذ القديم، يجد نفسه مدفوعاً إلى التساؤل عن مصادر الخوف وأسبابه ودوافعه،

ولكي نقف عند أبعاد (تاريخ الخوف) الصادر عن بيت الياسمين للنشر والتوزيع في مصر 2022، لابد من الإشارة إلى الصعوبة التي تواجه الكاتب في البحث التاريخي، فالباحث فالح مهدي ليس مؤرخاً يعتمد التسلسل التاريخي، إنما هو باحث في المعرفة والفكر، وحسب أوغست كونت، فأن المعرفة الجيدة بمعنى من المعاني لا تتيسر إلا بالإطلاع على تاريخه، كما انه ليس طرفاً في صراعات، ومن ثم فهو لن يوجهها، بل عامل أساس في إخمادها.

توزع الكتاب إلى ستة فصول، تبحث في جذور الخوف، أصوله وبداياته الأولى منذ عصر الصيد وجمع القوت حتى زمننا المعاصر، وتجنب فالح البحث في حالات الخوف (البديهية) كما يصفها، كالذعر والرهبة والهذيان، وفقدان العقل، وراح نحو (العمود الفقري) للكتاب المتمثل بالسؤال : لماذا إستندت كل الديانات إلى موضوع الخوف لكي تقوم ويستقيم أمرها؟ والثيمة الأساسية الثي إعتمدها البحث، هي الخوف الممنهج الذي رسم مسيرة المجتمعات، وتحكّم بطرق أداء وظائفها، وإعادة بناء سلوكها، في ضوءالمنهج الذي إعتمدته الأيديولوجية الدينية والأسطورية منذ مئات السنين، الموت أساس وجوهر مخاوف الإنسان، بل كان العامل الأول في قيام الحضارات، وتطور الثقافات.

1981 تخاريخ الخوف

ان تاريخ المعتقدات الدينية التي سادت كانت من نتائجها الإيحاء بتشييد الإهرام، والقبور، والتوابيت، والمعابد، والكتابات والتماثيل والنصب، والكثير من الصناعات الفنية، والأدوات الموسيقية، وحتى الرقص والموسيقى تقدما بسبب ذلك، ان الدافع لعبادة مظاهرالطبيعة كان بسبب الخوف لإتقاء شرها، وبرأي الفيلسوف الأثيني كريتياس(460-403 ق. م)، ان الناس ابتكروا الآلهة كي يزرعوا الخوف في نفوس الآخرين.

ان صعوبات عديدة تواجه الباحث في دراسة الخوف، فهو موضوع معقد ومتشابك، لانه يتعلق بدراسة تاريخ الذهنيات والأحاسيس الداخلية الدفينة جراء حوادث ووقائع كثيرة، مثل الكوارث والحروب والأوبئة والموت، والمجاعات، والأهوال الكثيرة، ودراسة فالح مهدي تعدّ اضافة جديدة لدراسات سابقة بدأها المؤرخ (جورج لوفيفر) نشرها عام 1932، بعنوان الخوف الكبير عام 1789،خصصها للثورة الفرنسية التي عمّت فيها الفوضى بشكل خطير، وكانت الدراسة حافزاً لدراسات أخرى تشتغل على الخوف كثيمة، أهمها مقالة مهمة للمؤرخ الفرنسي (لوسيان فيفر)، إلا ان أهم عمل صدر عن تاريخ الخوف هو الكتاب المرجع للمؤرخ الفرنسي (جون دوليمو)، بعنوان تاريخ الخوف من القرن 14 الى القرن18الصادرعام1978، ودراسة أخرى للمؤرخ البريطاني (ريتشارد أوفري) حول العصر المريض، نشرت عام2009، وفي كتاب: الخوف تاريخ فكرة  سياسية للامريكي (كوري روبين)، يخلص فيه الى ان الخوف أصبح ركيزة أساسية لدعم السلطة وتبريرها.

في ضوء ذلك يمكن القول ان الخوف كشعور انساني وغريزة طبيعية، أسهم بشكل كبير في صناعة التاريخ العالمي، وان تاريخ البشر ما هو الا يوميات مجتمع يعيش على وقع الخوف بكل أشكاله.

وإذا كان تساؤل فالح مهدي عن إمكانية قراءة تاريخ الخوف وفق المعايير التي إعتمدها في البحث، فان العديد من الآراء والأستنتاجات التي توصل اليها الباحث تستحق المراجعة والتأمل، والمناقشة، منها على سبيل المثال، اشارته الى ان الأيديولوجية الدينية هي التي كرّست صناعة الخوف، وليست تلك الايات التي قادت للذعر، انا افهم ان الايديولوجيا في هذا الحقل اساسها واحد، وفي اشارة أخرى الى ان الانسان الاوربي، كفّت ان تكون بلاده بلاد خوف، بتقديري ان الوقائع والأحداث التي يشهدها العالم الآن وأوربا على وجه الخصوص تقول غير ذلك، فالمخاطر والتهديدات ومصادرالخوف ما تزال ماثلة بوجوه متعددة.

وأمام واقع قاد العالم الى كوارث كبرى بملايين الضحايا والخسائر في حربين عالميتين، هل يمكن الجزم ان نظاماً قام ببنائه لينين وشيده ستالين انه(اكثر الأنظمةإرهاباً في العالم)؟ وإختتم فالح مهدي كتابه بمبحث أخير عنوانه (الرحمة مقابل الخوف)، ناقش فيه كتاب الباحث عبد الجبار الرفاعي (الدين والإغتراب الميتافيزيقي)، بتقديري، ان هذا المبحث بحاجة الى دراسة مستقلة، لا تندرج ضمن كتاب تاريخ الخوف، ربما لأن الكاتب مهدي ذهب الى موضوعة أخرى تتعلق بالحرية لا الخوف،

والملاحظة ذاتها بخصوص النصوص والصلوات والاشعار التي وردت في المتون، اتساءل كم هي أضافت للمضامين غنى وتأثيراً؟

وثمة ملاحظة أخيرة أقولها لانها تأتي ضمن إهتمامي بالإخراج الفني، والطباعي، والتشكيل، وهي ملاحظةأعني بها دار النشر، التي لم تكن موفقة في تصميم الغلاف واخراج الكتاب بالشكل الذي يتناسب واهميته الفكرية والمعرفية، أو مع أهمية اسم الكاتب وحجم الجهد العلمي الذي بذله فيه.

ان الاقتراب من موضوعة الخوف بالبحث والدراسة المعمقة، وبمقاربات متنوعة، يعد مغامرة للكاتب، استطاع فالح مهدي أن يخوضها بجدارة، والكتابة في هذا المجال، تعد إنجازاً له، وللفكر الإنساني.

 

جمال العتّابي

 

أهمية الخيال في التفاعل الاجتماعي

التفاصيل
كتب بواسطة: ابراهيم ابو عواد

تحليل عناصر التفاعل الاجتماعي لا يعني تمزيق الروابط الإنسانية بين المُكوِّنات الاجتماعية، وإنَّما يعني وضع الطبيعة الرمزية للفرد والمجتمع تحت مجهر الشعور الإنساني، لأن الفرد يتحرَّك في المجتمع انطلاقًا مِن شُعوره الداخلي الذي يُحتِّم عليه الانخراط في حركة التاريخ الجماعي، وأن يكون جُزءًا مِن الكُل، ولَبِنَةً في صَرْح المجتمع الحَي، الذي يُدرِك أبعادَ ذاته، ويُدرِك حُدودَ مجاله الحيوي . وحياةُ المجتمع لا تتكرَّس كواقع محسوس وحقيقة شرعية إلا إذا أدركَ المجتمعُ كِيانَه والكِيانات المُحيطة به . وهذه الإدراك يُمثِّل الخُطوة الأُولَى لتفسير مُكوِّنات الذات، وعلاقتها بالآخَر، سواءٌ كان الآخَر داخليًّا أَم خارجيًّا. والعاجزُ عن إدراك ذاته، لن يستطيع تفسيرها، ومَن لَم يَمتلك الوعي بالذات والآخَر، لن يستطيع تكوين روابط بينهما قائمة على الاحترام المتبادل، وهذا يعني وُجود احتمالية كبيرة للصِّدام بينهما .

2

شرعيةُ التفاعل الاجتماعي مُستمدة مِن مبدأ التجانس في العلاقة المصيرية بين معرفة الطبيعة الرمزية وفلسفة السُّلطة الاجتماعية . والتجانسُ يعني وضع الخصائص الرمزية فرديًّا وجماعيًّا في القوالب الاجتماعية المُناسبة، وهذه القوالب بمثابة الحدود بين الدُّوَل . وكما أن الحدود السياسية تُوضِّح الأراضي الجُغرافية التي تُمارس فيها الدَّولة سِيادتها، كذلك القوالب الاجتماعية تُوضِّح المساحات الإنسانية التي يُمارس فيها المجتمعُ سِيادته. وينبغي التفريق في الفكر الاجتماعي بين السُّلطة والسِّيادة، فالسُّلطةُ وسيلة عملية تختص بتنفيذ الأفكار على أرض الواقع، وليس لها علاقة بالأفكار الذهنية والإرادة الداخلية، أمَّا السِّيادة فهي منظومة وجودية شاملة للإرادة والتنفيذ معًا . أي إنَّ السِّيادة هي العَقْل، والسُّلطة هي العَضَلات .

3

لا يُمكن فهم السُّلطة الاجتماعية إلا بفهم ذراعها التنفيذي، التي تتغلغل في تفاصيل المجتمع الإنساني، لأنَّ السُّلطة فكرة ذهنية مُجرَّدة، لكن التطبيقات العملية المحسوسة هي التي تَكشف هوية السُّلطة وماهيتها . والعلاقة بين السُّلطة وتطبيقاتها تُشبه العلاقةَ بين الغاية وآلياتها، فالغايةُ لا تَكشف طبيعة الآليات، لكن الآليات تَكشف طبيعة الغاية، وذلك لأنَّ الغاية خيال حالم، أمَّا الآليات فهي الوسائل العملية لتحويل الخيال إلى حقيقة، والحُلم إلى واقع .

4

عِندما يَغرق المجتمعُ الإنساني في ضجيج الشعارات، يُصبح عاريًا مِن المعنى المعرفي، ومُفتقِرًا إلى الخيال الاجتماعي، الذي يقوم على نقدِ الأحداث السياسية، ومُساءلةِ النظريات الفكرية التي تتحكَّم بالسلوك الفردي والجماعي، وطرحِ تصوُّرات جديدة وبدائل إبداعية . وغيابُ الخيال يعني بالضرورة غياب الحُلم، وإذا خَسِرَ الفردُ حُلْمَه، خَسِرَ إنسانيته وشرعية وجوده ومشروعية حياته، وفَقَدَ القُدرةَ على تغيير مُجتمعه نحو الأفضل، مِمَّا يَجعل الفرد والمجتمع يَصِلان إلى طريق مسدود بلا حُلم ولا واقع، وينشأ النزاع بينهما، ويتعمَّق الصراع على الوهم . لذلك، ينبغي إرشاد الفرد إلى أهمية الخيال، واختراع الأحلام، وضرورة تطبيقها عمليًّا وتنفيذها واقعيًّا . وهذه هي الضمانة الأكيدة لفتح آفاق المستقبل أمام الفرد، وتعزيز ثقته بنَفْسه ومُجتمعه، وحمايته مِن اليأس والفشل .

 

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

 

 

"ألف شاعر" واجهوا القمع والسجن والنفي والمطاردة!

التفاصيل
كتب بواسطة: محمد عبد الشافي القوصي

محمد عبد االشافي القوصيأول كتاب يُؤرِّخ لشعراء المعارضــة

كتاب (شعراء في مواجهة الطغيان) يُعدُّ موسوعة أدبية عن تاريخ الشِّعر السياسي في الوطن العربي، إذْ يَعرِض مآسي الشعراء العرب عبر العصور.. أولئك تعرضوا لأشد أصناف القمع والتعذيب والمطاردة والتصفية الجسدية!

"هذا الكتاب" بمثابة صندوق للشكاوى، ودفتر للمظالم، وساحة مصارعة، ومحكمة علانية منعقدة، تتبادل فيها الاتهامات بين الظالمين والمظلومين، بين المفترِين والمُفترَى عليهم، بين الطغاة المسلحين والمستضعفين العزل!

"هذا الكتاب" يحتوي على القصائد الممنوعة، والقصائد التي لم يُعرف أصحابها الأصليون، والقصائد التي بسببها تمَّ تصفية هؤلاء الشعراء، أوْ سجنهم، أو مطاردتهم، أوْ نفيهم؛ بدءاً من عمرو بن كلثوم، مروراً بالفرزدق، والكميْت، ودعبل، حتى نصل إلى البارودي، والكاظمي، ومحمود الزبيري، وأمل دنقل، ويحيى السماوي، ومُظفَّر النواب، ونزار قباني، وأحمد مطر، وغيرهم من الذين قضوا أعمارهم في المنافي والسجون!

إنَّ أزمة هؤلاء الشعراء تكمن في (أنظمة الحكم) الجائرة التي أنشبتْ أنيابها عبر حقب تاريخية مظلمة، وجاءت عن طريق انقلابات رعناء؛ تعمّدت تهميش الصالحين والمصلحين، وعزلهم عن مواقع الريادة والتأثير، بلْ ومطاردتهم وتصفيتهم؛ حتى يخلو الجو لحواشي السلطان من الأقزام والمتسلّقين الذين هم –بمثابة– اليد اليُمنَى من الطغيان!

***

ترى؛ لماذا يغضب الشعراء؟ وما هي الدوافع التي جعلت الشعراء يحملون راية العصيان؟ وأجبرتهم على كتابة القصائد المسمومة؟ التي يُعَدّ اقترافها من "الكبائر" أوْ من "المحظورات"! وما هي الأسباب التي أرغمتهم على كتابة هذا الشِّعر الحارق، وهذه القصائد المتفجِّرة التي جَرَّتْ عليهم كثيراً من الأزمات والمصائب؛ كالسِّجن والنفي والمطاردة والتشريد والتصفية الجسدية!

هؤلاء الشُّعراء لا يتصنَّعون "الشِّعر السياسي" ولا يتكلَّفونه كالأغراض الشعرية الأخرى، إنما يفرض نفسه عليهم فرضاً، ومُساقونَ إليه سوقاً، ومدفوعونَ إليه دفعاً .. ربما لسوء الأحوال الاجتماعية وتدهور الأوضاع السياسية، أوْ ربما بسبب طبيعتهم النفسية القلقة، أوْ بفعل شياطينهم المردَة، أوْ بسبب قسوة الحياة، ووحشية الحكومات، وضراوة الأنظمة الحاكمة!

فالشَّاعر العربي جُبِلَتْ نفسه على خَلْق هذا اللون الشِّعري "المُزعِج"! ورأى نفسه مشدوداً إليه شداً، ومدفوعاً إليه دائماً بدافع قهري. فعندما تلحّ عليه فكرة القصيدة أوْ موضوعها، لا يستطيع صدها أوْ منعها أوْ حتى تأخيرها ... إنها لحظة المخاض -كما وصفها الشعراء أنفسهم! فلابد لهذا الجنين أن يخرج إلى النور على الفور سواء كانت ولادته عادية مُيسّرة، أوْ قيصرية مُتعسِّرة! المهم أن يخرج هذا الكائن إلى الحياة ... أمَّا عن اسمه ورزقه وأجله؛ فهذه مسائل أخرى تتضح معالمها فيما بعد الولادة.. حيث يبدأ صراع هذا "الوليد" الشِّعري مع الوجود الخارجي المُلَبَّد بالسحب الداكنة، والعواصف الهوجاء، والحُفر الاجتماعية والمطبّات السياسية. ولطالما أمسى هذا الوجود الخارجي في حالة لا تسمح له بقبول هذا الوليد أوْ منحه مكاناً تحت النور!

***

"هذا الكتاب" جمع أشهر القصائد السياسية عبر التاريخ التي أودتْ بحياة أصحابها، وألقتْ بهم في غياهب الضياع ... حيثُ نتوقف مع الشّاعر الذي هجا "نوبار باشا"، والشّاعر الذي هجا "رياض باشا"، والشّاعر الذي هجا "الخديوِ سعيد"، وثورة شاعر البادية، وشـاعر البـؤس، وشـاعر في رَحِم السجن! والمُلاكِم الأدبي، وشـاعر الإسلام، وشاعر الثورة، وشاعر الدعوة، وشاعر وراء القضبان، وشاعر الانتفاضة، وشاعر الصحوة، والشَّاعر المجهـول، وأزهري في مواجهة الاحتلال، والأعمى الذي رأى كل شيء، وأمير شعراء الرفض!

وهناك قصائد مهمة جداً، احتواها الكتاب، مثل: قصيدة جـلاّد الكنانـة! ورسالة في ليلة التنفيذ! ورسالة في ليلة النصر! وفلسفة الثعبان المقدس، والخروج من السجن الكبير، واللَّعين الأول، وفرعون مصر، وفرعون وقومه، وقذائف الحياة الأولى، وصرخة من خلف الأسوار، والقدس عروس عروبتكم، والسيرة الذاتية لسيّاف عربي،  وأغاني الديكتاتـور، ومبارك العميـل، وكـِلاَب وأُسُـود، وصـلاة الكُهَّـان، والحاخام يخطب في بغداد، وارحــل يا جبان، وارحــل .. يا بلطجـي، وارحلـوا عنّا .. إلى غير ذلك من القصائد التي تقطر دماً.

نعم؛ إنها قصائد حارقة أطاحت بالأنظمة، وزلزلت عروش الطغاة!

وفي الوقت ذات؛ جنتْ هذه القصائد على شعرائها مصائب كبرى، فعوقبوا بالمطاردة، والملاحقة، والتصفية الجسدية!

العجيب؛ أنَّ أغلب هؤلاء الشعراء من (مصر واليمن والشام والعراق) وهذا أمر يجب التوقف عنده، والبحث في كُنْه هذه المجتمعات الاستبدادية؛ التي فرضت على أدبائها التمرُّد والعصيان!

ومن القصائد التي احتواها هذا الكتاب، قصيدة (ارحــل يا بلطجي) للشاعر السوري "محمود السيد الدغيم" التي هجا بها "بشّار الأسد"، قائلاً له:

ارْحَلْ وَخُذْ كُلَّ اللُّصُوْصِ

وَخُذْ رُعَاْعَكَ يَاْ هُبَلْ!

بَلْ خُذْ جَمِيْعَ الْمُخْبِرِيْنَ

وَكُلَّ جُمْهُوْرِ الْفشلْ

إِنَّاْ خَلَعْنَاْ خَوْفَنَاْ

فَارْحَلْ كَمَخْلُوْعٍ رَحَلْ!

بلْ استمع إلى الشاعر العراقي (يحيى السماوي) وهو يَروي مآسي وطنه:

فأرض "دجلة" عندي عن مصائبها

ما لا يُقالُ، فماذا يكتبُ القلمُ؟

مدائنٌ أصبحتْ للناس مقبرةً

وأنهُرٌ ماؤها مما يُراقُ دمُ!

وأيُّ حاكم لؤمٍ بات يحكمنا

وقدْ تساوى لديهِ الدِينُ والنغمُ!

وما أروع تشبيه الطغاة العرب بالكلاب الضالة، بل الكلاب أشدّ طهراً منهم –كما يقول الشاعر "إسماعيل شعشاعة":

كِلابٌ والكلابُ أشدُّ طُهْراً

كِلابٌ .. والكلابُ أجَلُّ قَدْرَا

إذا شبّهْتَهُمْ فيها اشمأزَّتْ

وتاهتْ فوقهمْ تختالُ كِبْرا

كلابُ الأرضِ أنصعُ .. بَلْ كَفَجْرٍ

وهم زادوا اسْوِداداً بَلْ وفُجْرَا

كِلابُ الأرضِ أرفعُ في مقامٍ

وأطهرُ منهمو فعلاً وسؤْرا

وهُمْ عارٌ على وطني وقومي

أحالوا الخصبَ كُثْباناً وقَفْرَا !

***

محمّــد عبد الشّــافي القُوصِـــي

 

 

روايتان من عالم الحب الرومانسي

التفاصيل
كتب بواسطة: ناجي ظاهر

ناجي ظاهريُقدّم الكاتب والشاعر الفرنسي خالد الذكر الفونس دي لامارتين (21 تشرين الاول 1790 - 28 شباط 1869)، في روايتيه الهامتين، "جرزيلا"، أولا، و"رفائيل" لاحقا، رؤية دافئة للحب الإنساني الراقي، يزيد في أهمية ما يقدمه.. وفي قيمتهِ أيضًا، انه اعتمد في كتابته هاتين الروايتين على تجربته الذاتية.. تلك التجربة التي ابتدأت سخونتُها تزداد رويدًا رويدًا حتى انتهت إلى جمرة، تحرقُ اليدَ وتشعلُ الروح.. بنار الفقد والحرمان، من اجمل ما خلق الله.. المحبة على هذه الارض.

لامارتين شاعر فرنسي عُرف بأنه من أهم شعراء الحب والرومانسية، ولد في مدينة لاكان الفرنسية عام 1790 ورحل من عالمنا عن عمر ناهز التاسعة والسبعين عامًا. كتب الشعر وله فيه عددٌ من المجموعات أهمها " التأملات"، كما كتب الرواية وله فيها روايتان كما سلف، تحدّث فيهما عن حبه المتقد المشبوب.

سبق وقرأت هاتين الروايتين وعاودتني الرغبة في قراءتهما مؤخّرًا، فقمت بقراءتهما واحدةً اثر الأخرى. ابتدأت بقراءة الرواية الأولى "جرزيلا"، بترجمة إبراهيم النجّار، وقد صدرت في أواسط الثلاثينيات، بعدها قرأتُ رواية "رفائيل"، بترجمة احمد حسن الزيات، عِلمًا ان مجيد غصن قام بترجمة هذه الرواية مجدّدًا، وقد قدّمتُ قبل فترة، محاضرة عنها في المعهد الفرنسي في مدينتي الناصرة، قارنت فيها بين الترجمتين. فرأيت أن الزيات قدم ترجمة اعتمد فيها على تمثُّل الحالة اللغوية الروائية وقام بعدها بتعريبها، وكأنما هي كُتبت بلغةٍ عربية جزلة، في حين كانت ترجمة مجيد غصن اقرب ما تكون إلى النصّ المترجم المتّبع حاليًا فيما يقوم آخرون بترجمته من لغات أخرى إلى لغتنا العربية.

يَتّبع لامارتين في كتابته لكل من هاتين الروايتين أسلوبًا مميّزًا يركّز على التطوّر البطيء للحدث، لكن الغني في تفاصيله ووصفهِ للمشاعر، لهذا ليس من السهل تلخيصهما، أما فيّما يتعلّق بالحدث الروائي ذاته فإن مؤلّفهما، يحكي في جزيلا عن رحلة الى إيطاليا، قام بها أيام شبابه الاول، وتعرّف خلال رحلته هذه على جزيلا، ابنة الصياد الفقير، التي ستقع في هواه، بسبب طيبته وايجابيته في التعامل معها ومع عائلتها، وبسبب انسانيته الدفّاقة. تتعلّق جرزيلا بالراوي، مع علمها انه لن يرتبط بها لبُعد الشقّةِ بينَ عائلته الغنيةِ وعائلتها الفقيرة. وتنتهي الرواية نهايةً محزنة مؤسية تتمثّلُ في الفراق الابديّ بين اثنين، رجلِ وامرأةٍ، كان بالإمكان ان يعيشا قصةّ حبٍّ فريدةٍ من نوعِها. لكن بدلَ ان تنتهي هذه القصة إلى التواصل والوصال، تنتهي بالفراق، لهذا تحقّق نوعًا من خلود .. أمُه الشوقُ وأبوه التوقُ الابدي.~

في روايته الثانية" رفائيل"، واذكر بالمناسبة ان طبعةً منها صدرت في بلادنا، قبل العشرات من السنين، وقُيّض لي ان اطلع عليها في حينها وان اقرأها، فإن الحدثَ الرئيسيّ فيها لا يفترقُ كثيرًا عن الحدث الرئيسي في جرزيلا، فهي تحكي قصةَ حبٍّ ملتهبٍ بينَ شخصيةٍ عظيمة يقوم بتقمّصِها، والتعامل معها على اعتبار انها قناعٌ روائي، هي شخصيةُ الفنّان العالمي العظيم، رفائيل، وبين امرأةٍ قست عليها الحياةُ فأفقدتها الامَ والأب، والقت بها في ميتمٍ للأطفال في ضائقة. في هذا الميتم، او الملجأ، تتعرّف على واحد من رجال العلم يكبرُها بخمسة اضعافِ عمرها، كما تُخبر رفائيل في بداية تعرّف كلٍّ منهما على الآخر، هذا الرجل لا يهمه شيءٌ سوى سعادتها. وعندما يشعر بضيقها الذي سرعان ما يتحول إلى معاناة صحية، يرسل بها لتقيم في بلدة سافوا الفرنسية، وهناك يلمحُها رفائيل، القادم من باريس العاصمة، ويأخذ في تحيّن الفرصةَ للقاء بها. القدر لا يبخل عليه بهذا اللقاء المتمنّى، فيتصادف ان تواجه عاصفة قاربًا يقلُّها، فما يكون من رفائيل إلا أن ينقذها. هاتان الشخصيتان، يقع كلٌّ منهما في هوى الآخر. وتتطوّر الاحدث إلى أن تقوم تلك المرأة المحبوبة بإبعاده عنها، بادعاءٍ تلفّقُه، ليتبيّن لنا، نحنُ القراءَ في نهاية الرواية، انها إنما أبعدته عن معاناتها في ايامها الأخيرة وتقضي هذه الحبيبةُ ليعيش رفائيل مأساةَ حياته بفقدهِ الفادحِ لها.

كما قلت في كل من هاتين الروايتين، مواقف تسمو فيها أحاسيسُ كلٍّ من العاشقين المدنفين المتيّمين، إلى آفاقٍ عاليةٍ شاهقة. تبحر في آفاق الإنسانية العامة، وتقدمان كما سلف صورًا مُبهرةٍ للحبّ الرومانسيّ الطاهر الحنون. روايتان تدفعان من يقرأهما لأن يتفاعل مع احداثِهما، وكأنها تقع الآن وهنا.

 

بقلم: ناجي ظاهر

 

سيميائية النص الشعري في: تيمَّمي برمادي للشاعر يحيى السماوي

التفاصيل
كتب بواسطة: يوسف عبود

يوسف عبودبلغ النضج الفني في المجموعة الشعرية (تيمَّمي برمادي) للشاعر يحيى السّماوي، مداه الأقصى، حيث تُعّدْ هذه المجموعة هي الخامسة والعشرون من إصداراته الشعرية، خلال مسيرته في بناء وتكوين وتشكيل النص الشعري، فقد تضمنت تلك النصوص رؤىً وصوراً وإيحاءات وإشارات ورموزاً ودلالات تدخل في بنية النص،لتحيله الى حالة من التدفق الواعي بإنسيابية وإيقاع وموسيقى تهز وجدان المتلقي وتسحبه الى أتونها دون أن يعكر صفو هذه الرحلة أي عائق أو تعثر أو هفوة أو وقفة تعيق هذا التدفق،وسوف نكتشف أن بناء النص لدى الشاعر تأثر بشكل ملفت للنظر، بحياة الشاعر وتجاربه وفكره ورؤاه وثقافته وتجربته الطويلة، وهو يشبه (أي النص الشعري) بالنسيج المتداخل من ألوان عديدة تشكل هذه التراكيب التي تعبر عن صفاته وسلوكه وطبيعته وتأملاته، منها:الوطن، الغربة، عشق المرأة حد الوله، الشعور بالحرمان الكبير الذي يصل الى أنه لا يرتوي بالماء لأطفاء ظمئه، ولكن برشفة من شفتيها، وهي عنصر التفاعل الذي يشده نحو حب الحياة،ونجد أيضاً كبر السن وهناك مواطن كثيرة من النصوص تشير الى مايحدث للإنسان عندما يتجاوز الستين من عمره، وما يحصل له من متغيرات تجعله يقترب الى النهايات وهي معروفة، الموت، القبر، والتي أشار لها الشاعر في بعض من نصوصه، كما نجد الأشارة الى الطفولة رغم بلوغ العمر عتيا، وفي حالة قد تكون متفردة يوظف الشاعر النصوص القرآنية وهي لا تشبه التناص، بل أنها تدخل ضمن النص لتتوحد مع المفردة والثيمة ووحدة الموضوع لنقلها من حالة الاستماع إليها الى واقع عملي تطبيقي، كما سوف يمر ذكره في تحليلنا هذا، ونجد السّماوة مسقط رأس الشاعر حاضرة في تلك النصوص، واعتمدت بنية العنونة التي وسمت بها المجموعة (تيمَّمي برمادي) الرؤية الشاملة لتلك النصوص، كونها لم تكن مختارة لواحدة من النصوص، بل أنها دعوة لسيدة القلب والحياة أن تتيمم بهذا الرماد، الذي يعني الكثير، هو الإنكسارات النفسية العميقة، هو الإحباطات الكبيرة التي لحقت به، هو رحلة الحرمان والغربة، هو النهايات، وهوإطلالة هذا الركام الكبير من العمر، وهو أيضاً تجربته الشعرية الكبيرة، أما عناوين النصوص، فقد إختيرت أغلبها من متن النص، من الوسط، أو البداية، أو النهاية، وهي في أحيان كثيرة الرؤية الشمولية للنص، كما إننا سوف نجد الومضة الشعرية التي تنتمي الى القصيدة العمودية وليست الى قصيدة النثر، كما أن الشاعر يستحضر الحضارة السومرية لتكون واحدة من الركائز المهمة التي تشكل بناء النص الشعري، و نكتشف ذلك من أول قصيدة في هذه المجموعة والتي خلت من الإهداءات والتقديم والمقدمة التي وجدها الشاعر زوائد لا تخدم النص الشعري، ولا تساهم في عملية التعاشق المطلوب بين النص والمتلقي، ليعطيه فرصته الطيبة في السياحة في عالم الشعر دون دخيل، وتلك القصيدة هي (ميلاد):

تغدو الملاكُ السومريَّةُ شهرزادَ

تقصُّ بالقُبُلاتِ ليْ

قصصاً

عن الضِلَّيلِ صارَ مؤذِّناً

ومُبشَّراً بالعشبِ باديةَ السماوةِ

والرُّبى بالإخضرارْ

 

وتزفُّ للكهفِ البشارةَ

بالمدى النشوانِ..

والليل المؤبَّدِ

بالنهارْ

2153 يحيى السماوي

وفي قصيدة (وادي زهور اللوز) نجد هذا النسيج حاضراً يمثل التكوين والتشكيل لهذا النص، الطفولة، الكهولة، لغة النصوص القرآنية،بإشاراتها السيمائية، والعشق الذي يجعل الحياة بستاناً من الزهور:

عَجَباً عليّ

رجعتُ في "الستين"

طفلا

 

أصحو

لأقطف من حقول الصدر

تفّاحاً

ومن وادي زهور اللوز أرتشف الندى

فأنامُ مقروراً

سريري غيمةٌ

ووسادتي عشبٌ وريحانٌ

ودفلى

 

جَرَّبتُ أنْ اختارَ غيرَكِ

قبلةً لِصلاةِ عِشقي

فإستدارَ إليكِ قلبي والمُصَلّى

 

أما الومضة الشعرية (صُبّار الألم) التي تتناول موضوع الندم بالرؤية التي يقدمها الشاعر بشكل مثير للإهتمام:

قالتْ ستندمُ

ليس تدري أنني أدمَنتُ

صُبّارَ الندمْ

 

أمضيتُ عمري

أزرعُ الأملَ الجميلَ

وما حصدتُ

سوى الالمُ

وفي قصيدة (إستجداء) نكون فيما ذهبنا إليه في بحثنا النقدي هذا، حول مساهمة النص القرآني في تشكيل النص الشعري، وتحويله من آية مسموعة الى واقع تطبيقي يدخل في متن النص:

ورغيفاً من عناقٍ

دافئِ الجمرِ

بتوليِّ التنانيرِ

يقيني من ذئابِ الزمهريرْ

 

فأنا

أوصى بي اللهُ

يَتيمٌ وغريبٌ وأسيرْ (*)

ويضع إشارة (*) لنقرأ في الهامش الإشارة الى قوله تعالى (ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماًوأسيراً)

وفي قصيدة (قطوف ليست دانية) نكتشف الإشارات السيمائية بتأثر النص الشعري بالنص القرآني من خلال بنية العنونة وكذلك متن النص:

حتى إذا نادى الآذانُ

إلى صلاةِ الفجرِ

أغواني نُعاسكِ بإقتطافِ

التينِ والتفاحِ

من حقلِ الأنوثةِ

وإرتشافِ ندى زهورِاللوزِ

خالطهُ شذاكْ

وفي الومضة الشعرية (ومضة) التي نكون فيها مع الأعمى الذي لايجد في حياته جدوى، وهي دلالة رمزية لواقع الحياة التي لا نجد فيها ما يمكن ان يثير معالم الفرح، إذ نجدها صحراء قاحلة لا جدوى منها:

قالَ ليّ الأعمى

أنا

أرضٌ يبابٌ

 

ليس يعنيني إذ أشرقتِ الشمسُ

أو البدرُ عن الشرفةِ

غابْ

 

ما الذي تخسرهُ الصحراءُ

إن جَفَّ السرابْ

 

أما قصيدة (قناعة) فأنها رؤية لإكتفاء الحبيبين ببعضهما حد التوافق والانسجام، مستحضراً المثل الشعبي الذي إستُقيَ من موروثنا (وافق شنن طبقة):

فأطعميني صَحْنَ لثمٍ

إنني بتُّ قنوعاً

جشعي لا يتعدى شفتي

والحَدَقةْ

 

فسأرضى بالندى من زهرةِ اللوزِ..

ومن فردوس واديكِ البتوليّ بِشمّ الزنبقةْ !

 

إنني شنٌّ

فكوني طبقةْ

وفي قصيدة (ليس يعنيني الذي قيل) فنكون مع حالة النهايات التي تحدثنا عنها، وكيف تكون مشاعر الكهولة وتأثير سني العمر، التي تتمثل بعلاقة هي أشبه بنفاذ صبر من كل شيء، فهو يريد أن يغلق الابواب والشبابيك، ولكن يبقي قلبه ينبض حباً ليس بعنفوان الشباب:

أغلقي بابكِ

والشباكَ والتنُّور والمِكحَلةَ

اليقظةُ..

والحُلمَ الخيالْ

 

فأنا

أغلقتُ أبوابَ جوابي

وشبابيكَ السؤالْ

 

ليس يعنيني الذي قيلَ

عن الصَّب الفراتيَّ

وما سوفَ يقالْ

وفي قصيدة (ياجبل العمر) نكون مع تلك المجسات التفاعلية التي تثير القلق والخوف من تداعي العمر، وبلوغ قمته كما يصفه النص، إلآ أنه واقصد في ذلك الرجل الكهل الذي رسم ملامحه الشاعر، أن يبلغ قمة العمر، يريد أن يبقى مع الربيع، مع الزهور، مع الرياحين، مع العشق الأخضر، ويحافظ على محبوبته:

يا جَبَل العمرِ

ألا تعرفُ من وسيلةٍ

تمنعُ خطوي من وصول القمّةْ ؟

 

أريد أن أبقى مدى الدهرِ على السفح مع الأنهارِ

والأشجارِ والأطيارِ والأوتارِ

والكأس التي خَمرتُها تحيلُ كهفي غيمةً

مع التي قميصها

شَقَّ ستارَ الظلمةْ

 

فأرضعتني قُبلاً

ووسَّدتُ فمي مرايا الجيدِ

فانزلقتُ نحو الحَلّمَةْ

المجموعة الشعرية (تيمَّمي برمادي) للشاعر يحيى السّماوي، هي خروج من قيود السياقات الفنية لصناعة القصيدة الشعرية وما تفرضه من سطوة تعيق حرية الإنطلاق والتدفق ، والتي إمتلك ناصيتها الشاعر وسبر أغوارها، الى حيث المعالجات الفنية الجديدة التي تضمنت هذا النسيج الرائع من المحاور والافكار والمؤثرات الذهنية والثقافية وتجارب الحياة، وتجربة رحلته الطويلة مع الشعر.

 

يوسف عبود

.......................

* من إصدارات مؤسسة المثقف في سيدني استراليا، ودار تموز - ديموزي دمشق لعام 2018

* فصل من كتاب (تفاعلات النص الشعري الحديث) إصدار الورشة الثقافية عام 2020

 

 

نقد في الفلسفة الغربية المعاصرة

التفاصيل
كتب بواسطة: علي محمد اليوسف

علي محمد اليوسفصدر لي عن دار غيداء بالاردن كتابي الفلسفي الجديد بعنوان (نقد في الفلسفة الغربية المعاصرة)، إليكم تفاصيله:

المحتويات

المقدمة

القسم الاول : اللغة والفلسفة

-  فائض المعنى في فلسفة اللغة

-  توليدية جومسكي في التحول اللغوي

- البنيوية:الانسان خارج منظومة الحياة

- التفكيكية وسلطة تقويض النص

- بول ريكور : فلسفة الارادة والانسان الخطاء

- بول ريكور : تأويل خطاب ما بعد البنيوية

- ادراك الوجود ..الفكر واللغة

القسم الثاني: مختارات فلسفية محكمة

- فويرباخ: الطبيعة ونزعة التفكير البدائي الميتافيزيقي

- عالم الانسان المصنوع والطبيعة

- وحدة الوجود في الصوفية والفلسفة

- الوعي القصدي في فلسفة جون سيرل

- وعي الذات وما بعد الحداثة

- العقل والجسد ...البيولوجيا والفلسفة

-  الفلسفة وما بعد الفلسفة

القسم الثالث: الفلسفة الامريكية المعاصرة

-   الذرائعية والواقعية الجديدة في الفلسفة الامريكية المعاصرة.

-   وليم جيمس... هل الوعي موجود ؟

- المثالية النقدية الاميكية..الطبيعة والعقل والاخلاق

-  تيارات فلسفية امريكية متداخلة معاصرة

-  المنهج الطبيعي في الفلسفة الواقعية النقدية الامريكية

-  النزعة المثالية النقدية في الفلسفة الامريكية

القسم الرابع: هيدجر والميتافيزيقا

-  سؤال هيدجر في الوجود والعدم

-   الوجود مفهوم ميتافيزيقي وليس موجودا انطولوجيا

-   الوجود والموجود.. الثابت والصيرورة

-  هيدجر وميتافيزيقا الوجودية

- تعالق الوجود والموجود في فلسفة هيدجر

-  كلمات فلسفية في الوجود والحياة ج6

- العدم من منظور فلسفي

- الحقيقة البراجماتية والوعي الزائف

القسم الخامس : الفلسفة والمعرفة

- مبحث الابستمولوجيا في الفلسفة المعاصرة

- الابستمولوجيا والخبرة العقلية

- كانط وقالبا الزمان والمكان في الادراك العقلي

- فرويد :الزمن في اللاشعور

-  قضية فلسفية: قريبا من المتن بعيدا من الهامش

- شذرات فلسفية مداخلة وتعقيب ج2

- كلمات فلسفية في الوجود والحياة ج6

- هوسرل:ماهية الانسان في المنهج الظاهراتي (الفينامينالوجيا).

- الجنس البدائي ومشاعية تملك المرأة والثروة

2154 علي محمد اليوسف

المقدمة

كعادتي المتبعة في مؤلفاتي الفلسفية الاخيرة لا يقتصر هذا المؤلف على موضوع محوري مركزي واحد كما يدأب عليه بعض الباحثين في الفلسفة عنونة الكتاب فقط، وغالبا ما يسود مثل هذا التناول الحشو الزائد والاستطرادات الاجتزائية من تاريخ الفلسفة المعادة المكررة التي لا علاقة له بمتن الكتاب المركزي المتناقض مع العنونة من حيث وجوب ربط العنوان الدلالي مع موضوع الكتاب المحوري الواحد قيد البحث الفلسفي، أذ نجد عنونة عريضة مبهرة ومضمون فكري فلسفي فقير ضحل يبتعد عن توضيح ومناقشة صلب موضوعه المعلن في عنوان الكتاب وهو ما نجده واضحا عند المشتغلين في المباحث الفلسفية تعريبا أو شروحات عرضية لا تخرج عن تكرار نفس المفردات نصّيا ونقلا حرفيا عن أصل الموضوع دونما حتى أمكانية عرضها بوضوح.

أختصر القول أن محتوى هذا الكتاب لا يخرج عما كنت دأبت عليه في مؤلفاتي الفلسفية من ميزات أقصدها بالذات ولا تفرض هي نفسها، تلك هي أن القضايا الفلسفية التي أتناولها وهي جميعا تخص الفلسفة الغربية المعاصرة متنوعة جديدة، مقالة ، دراسة ، وبحث، مثال ذلك أني أفردت قسما كاملا يتألف من ثمانية مباحث في الفلسفة الذرائعية (البراجماتية) الامريكية وتياراتها الفلسفية المتعالقة المتداخلة تحقيبا زمنيا معها، التي غالبا لا نجدها في مؤلفات مترجمة عن الانكليزية والفرنسية والالمانية معظمها ترجمات أكاديمية لا تتعرض كثيرا للتيارات الفلسفية المتعالقة مع البراجماتية العملية المزامنة لها من حيث التحقيب التاريخي لنشوء تلك التيارات وتبيان الاضافات الفلسفية التجديدية والاختلافية التي طرأت على الذرائعية الامريكية الفلسفة الأم التي ولدت من رحمها..

مسألة أخرى أن مباحث ومحتويات هذا الكتاب الفلسفية تقع في خمسة اقسام موزعة على ستة وثلاثين مبحثا هي تنويعات فلسفية مختارة بدقة وعناية مكتنزة بموضوعاتها وليست عروضا سطحية مكتفية بالتعريف بها كمواضيع كما هي في الاصل المترجم كأنها مسلمات لا يطالها الشك ولا النقد الرصين في توضيح نقاط الضعف التي تحويها تلك القضايا البحثية المعربة في ألنص الاجنبي المنقول الى العربية ويجري عندنا التعتيم على تحاشي نقد تلك الاراء لغياب توفرالقدرة الفلسفية والامكانية الفكرية في نقدها وتبيان مناحي القصور فيها ومعاملتها كتوثين فكري صنمي معصوم من الاخطاء لا نقد يطاله ولا توضيح حصيف يتقصّاه..

كما أن تخمة العروض الفلسفية المترجمة للعربية أصبحت من الكثرة والتراكم الثقافي والاكاديمي التداولي قرائيا تخصصيا في قاعات التدريس الفلسفي الجامعية ما يستوجب معه ضرورة ممارسة النقد لها وزرع النزعة النقدية لدى طلبة الجامعة المتخصصين بدراسة الفلسفة بغية الشروع بتأسيس مشروع فلسفي عربي يقوم على التكافؤ الندّي في رؤيتنا الفلسفية العربية الخاصة بنا التي بدأت تفرض نفسها علينا..والتحصيل الفلسفي أصبح مكمن قيمته اليوم لنا عربيا أن يكون جزءأ لا يتجزأ من مشروع تحديث عربي مطلوب وأكثر الحاحا بضرورة حضوره في كل مناحي حياتنا..

مسألة أخرى جديرة بالتنويه لها هي أنني أعمد تجنب أستخدام ثبت المصادر والمصطلحات الفلسفية باللغات الانكليزية والفرنسية والالمانية المعرّبة كما وردت في الاصل والتي أصبح هوس الاكاديمين من نقلة النصوص الفلسفية محموما بأستعراض قدرات لا تتعدى نقل تعريب حرفي للمصطلح الاجنبي على أنه مفتاح التفلسف المحتكر من قبل الفيلسوف المؤلف والتغاضي عندنا عن ضرورة تقريب تلك المصطلحات الفلسفية الاجنبية من ذهنية وتلقي القاريء العربي كبنية نقدية وليس كمسلمة ناجزة لا يمكننا المساس بها..

معظم الباحثين في قضايا الفلسفة عندنا يعاملون المصطلحات الفلسفية الاجنبية على أنها مفاهيم ومباحث فلسفية قائمة بذاتها وهو خطأ..فالمصطلح الفلسفي كما هو المصطلح في كل ميادين العلم والمعرفة هو أجماع متفق عليه من قبل واضعي تلك المصطلحات بينما يكون (المفهوم) مبحثا فلسفيا مشاعا للجميع الاسهام بتناوله وتخليقه وتصنيعه من جديد..بمعنى المصطلح ثابت لا يتغير، والمفهوم متغير متحرك غير ثابت لعدم أمتلاكه أجماعا حسميا عليه..

لا حاجة لتكرار أن القضايا الفلسفية المطروحة في فصول هذا الكتاب هي من الكثرة والتنوع الثري التي تجعل المتلقي المتخصص الفلسفي وغير المتخصص يتنقل بين ثنايا تلك المواضيع بمتعة معرفية نقدية وحصيلة فلسفية تجعل من تلك القضايا الفلسفية نصوصا يمكن للباحث العربي المتمكن من ثروته الفكرية وأدواته البحثية ممارسة نقدها بكل يسر وسهولة ولا تحتاج الفذلكة اللغوية المستعصية الخاوية من المعنى والتنطع وراء المصطلح المستغلق واللغة التي دأبت عليها المؤلفات الفلسفية العربية كتلفيق وتدليس يستغفل المتلقي العربي وليس كتأصيل معرفي حقيقي في مسؤوليته توصيل المعنى المطلوب فلسفيا..

وميزة أسلوب طرح مواضيع الكتاب المنوعة هذه التي أعتمدتها في جميع مؤلفاتي أنها تبتعد عن تقعرات اللغة وطلاسمها العصيّة المربكة في محاولة التضليل المخادعة على أنها فلسفة تمتلك العمق والرصانة وهي في حقيقتها تعمية لغوية وعدم وضوح في التعبير الفكري الفلسفي..

النقد الفلسفي ألذي أمارسه مع منقودات لمواضيع فلسفية أجنبية في محتويات هذا الكتاب أجدها تضطرني مجاراتها بلغة فلسفية من وزنها قد تبدو صعبة على المتلقي القاريء المتخصص وطلبة الدراسات الفلسفية في الجامعات العربية لكنها هي بالاصل كذلك صعبة فلسفيا..فالفلسفة ليست قيمتها في وضوح المعنى ولا قيمتها في أستغلاق لغة التعبير عنها أيضا..وعلى النقد تكافؤ المنقود كقراءة جديدة على صعيد لغة الفلسفة مع الاصل النصي والا انفقد الهدف الذي لا يكتفي بعرض الموضوع الفلسفي فقط..

أود هنا بالختام الاشارة الى أن محاربتي الوضيعة في مدينتي الموصل والعاصمة بغداد كوني باحثا في مجال فكري – ثقافي هو الفلسفة غير متاح ولا متوفر لغيري من عديمي الموهبة والامكانية مجاراتي به من حملة الشهادات الجامعية العليا بوسائل التزويرومزاد البيع والشراء لتراخيص الشهادات الجامعية المفلسة في مجال الفلسفة وحملتها غالبيتهم خلو من القدرة والقابلية في كتابة بحوث في مجال تخصصهم الذي يدعونه أساتذة جامعيين يقومون تدريس الفلسفة في الجامعات العراقية،،

لذا أصبحت محاربتي والتعتيم على منجزي الفلسفي عراقيا وليس عربيا الذي غالبا ما أنشر العديد منه على مواقع عربية فلسفية وثقافية محكمّة مثل موقع المثقف في سدني وموقع الحوار المتمدن، وموقع كوة المغربي وموقع فيلوبريس التونسي وموقع النور بالسويد.. وأني والحمد لله متابع ومقروء في نتاجي الفلسفي بآلاف من القراء العرب بما يسعدني المفاخرة به وبهم بهذا المجال.. عليه تكون محاربتي في مدينتي الموصل والعراق هو شهادة كفاءة أبداعية فلسفية أنتزعها منهم عنوة أن كتاباتي الفلسفية الموزعة في بحوثي ومقالاتي ومؤلفاتي الصادرة عن دار غيداء الغراء بالاردن هي رقم صعب تجاوزه أمام عديمي الموهبة والقدرة الفلسفية ممن يحاربوني بغباء ودناءة وأنانية مرتذلة على الصعيد الشخصي وليس الفكري.. وأجد ذلك من الامور غير الغريبة التي أعتدتها تصدر عن أناس متخلفين يرون في المبدعين الحقيقين جبالا سامقة ويبقون هم صغارا يتصارعون في الحفرالموحلة على سفوح وحافات تلك القامات الثقافية الكبيرة ..

لقد عقدت ببغداد واربيل بالتعاون مع بيت الحكمة الذي لا يمتلك أي نوع من مباديء ورسالة بيت الحكمة العباسي العريق فلسفيا وحضاريا وبالتعاون مع المؤسسات التي ترتبط بوزارة الثقافة أو الاتحادات شبه المستقلة عنها وبعض كليات جامعة بغداد جميع هؤلاء عقدوا مؤتمرات بائسة داخل العراق بأسم الفلسفة لا تمت للفلسفة بأدنى صلة، ومسخوا محبة الفلسفة وقيمتها العليا في أذهان الطلبة والمهتمين بالشأن الفلسفي من العراقيين، ولا يوجد من بين هؤلاء القائمين على مثل هذه المؤتمرات الهزيلة ثلاثة مشاركين على الاقل ممن يمتلكون حضورا فلسفيا على المستوى العربي كباحثين تحترم كتاباتهم أسوة بمفكرين وباحثين كفوئين عربا بهذا المجال كما في الاردن والمغرب وتونس ولبنان ومصر ممن أصبحت منابرهم ومنتدياتهم الفلسفية مفخرة لكل العرب الذين يتطلعون تحقيق نهضة فلسفية متاحة..

أخيرا أود التنبيه ألى مسألة مهمة أن ما سبق لي نشره على صفحات مواقع الكترونية ويجدها القاريء من محتويات هذا الكتاب، تشوبها في العديد منها أخطاء تعتبر من الامور العادية التي يقع بها كل مؤلف وكاتب وأتداركها بالتصحيح  ويعتبر تصويب الكتاب لها هو المرجع الصحيح وليس المنشور منها على مواقع التواصل الاجتماعي.

أتوجه بالعرفان الجميل لكل متابعي نتاجي الفلسفي على مواقع الانترنيت العربية ومؤلفاتي الورقية المطبوعة بدار غيداء في الاردن على ثقتهم بكتاباتي الفلسفية... والى مزيد من الابداع الفلسفي العربي بعون من الله وتوفيقه.

 

علي محمد اليوسف /الموصل

كانون ثان /2019

 

برنامج "جو شو" والتنكيت المخادع

التفاصيل
كتب بواسطة: د. محمود محمد علي

محمود محمد عليعالم النكته ملئ بالمواقف الساخرة والناقدة والمضحكة، والتي تسري علي ألسنة الناس، كما تسري النار في الهشيم، والنكتة تعبير عن موقف هزلي بأسلوب ساخر يحيي بروح نقدية، ونجاح النكتة، لابد لها أن تكون بأسلوب مقتضب موجز جداً، وساخر يحمل معني كبيراً غير مباشر في باطنه، وكلما تكون مثيرة للضحك فهي أقوي وقعاً وتأثيراً وبالتالي نجاحاً.

والنكتة في حد ذاتها معالجة لوضع، أو حدث غير مرض عنه، وحياة النكتة تطرقت لمواقف عدة في الحياة وجوانيها بأساليب مختلفة، فأخذت الشك الخطابي أو الحركي أو المكتوب أو التحريري أو رسوم كاريكاتورية تعبر عن هذه المواقف .

وتعد النكتة خطاباً ناقداً يختزن حمولات حجاجية، مبنية علي مناقضة الآراء والأفكار، والوقائع، والاحتجاج عليها، هذا الاحتجاج يتخذ صوراً تعبيرية عدة تتيحها الوسائل والوسائط المستعملة في توصيله، وإثارة ردود الأفعال ؛ التي تستجيب – عادة – باستعمال السياق والصورة والشكل التواصلي، ولا تعتمد التواصلية بمختلف أشكالها وأنواعها ومضامينها علي الفكرة تحديداً ؛ بقدر ما تقع بكل ثقلها علي الوسيط، ومفهوم الوسيط هنا يتخذ بعده الألي الوسائلي، كما يظهر بعده الصيغي الذي يتلبس رداءً ثقافياً دارجاً، ومتداولاً يعطي هذه التواصلية بعدها المأمول، وقد يطمح بها في جنوح بعيد إلي أبعاد أخري، تتنامي داخل المحض الثقافي للفكرة، وقد يفيض لتتكتل في وسائط وأفكار أخري تتجاوز المدار الأولي إلي مدارات أحري، ويمكن لهذا الكلام أن يحاكي في شئ من الحقيقة المفهوم القريب والبعيد للنكتة، والنكتة المتعددة النابعة من عمق المعايشة، الرفض، الاستنكار، القبول، اللاموقف الذي يشكل موقفاً بحد ذاته في تجلية صاحب النكتة.

هذا النوع هو ما كان يبغيه الدكتور عزمي بشارة، عندما أختار يوسف حسين ليجسد له برنامج "جو شو"، للدفاع عن فكر جماعة الإخوان المسلمين الذين سقط مشروعه عقب أحداث ثورة الثلاثين من يونيه 2013، هذا من ناحية، واستخدامه كمخلب قط ضدهم في حالة انقلابهم علي مشروع عزمي إسلام الذي يزعم الدعوة للقومية العربية (المزيفة) .

وبرنامج "جو شو" من البرامج التي ما تزال مستمرة حتي الآن، وهو يذاع في العاشرة مساءً بتوقيت السعودية في كل خميس علي قناة العربي؛ وجو شو وسابقًا "جو تيوب"، هو كما قلنا برنامج تلفزيوني سياسي كوميدي ساخر يتألف من فقرات تتناول الأوضاع السياسية في العالم العربي، ويسخر من الأوضاع السياسية في مصر بعد  ثورة الثلاثين من يونيه عام 2013.

وفي عام 2016، انتقل يوسف حسين من برنامجه على منصة يوتيوب ليقدم برنامجه باسم جو شو عبر شبكة التلفزيون العربي الذي يبث من لندن، بعنوان "جو شو" بداية من شهر رمضان 1438 هـ  وتعرض حلقاته أيضًا على قناة سوريا ؛ وجو تيوب، أو جو شو، أو يوسف حسين، وأبو ليلي ونعنيعة.. وأسماء كثيرة لشخص واحد، وهو برنامج أسبوعي، يتحدث عن الأوضاع الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية ؛ وبخاصة في مصر.

ويوسف حسين ظاهرة إعلامية عُرفت وعرفها الملايين في الوطن العربي من خلال اليوتيوب وقناة سوريا وقناة العربي، بجرأته وخفة دمه .. ظهر في فترة كانت موجودة بكثرة البرامج الساخرة التي تزعم أنها تنقد الأوضاع السياسية في زمن الربيع العربي ؛ وخاصة فيما يتعلق بالقضايا السياسية المستجدة من خلال الكوميديا السوداء وهو ليس له حدود لا في النقد ولا في السخرية .. والعديد من الإعلاميين شبهوه بالإعلامي باسم يوسف المزيف والمخادع، لكنه في فترة قصيرة حاول أن يكون له بصمة خاصة به من خلال الفبربيكات الإعلامية، وصارت لديه قاعدة جماهيرية كبيرة من الشباب والشيوخ (المغرر بهم والمؤهلين للإستماع والإصغاء لأي شئ يقدح في النظام المصري الحالي).

وقد شكل يوسف حسين حالة من التمرد علي نظام الدولة المصرية الحالي بطريقة سلمية تأخذ فكرة تكتيكات حرب اللاعنف عند جين شارب (والتي تمثل النواة الصلبة لحروب الجيل الرابع)، إلي أن اصطدم مع السلطة في المملكة العربية السعودية، وسوريا، والجزائر، واليمن، وفلسطين، وأمريكا، وغيرها الكثير بملوكها وأمرائها ورؤسائها، كانت مادة دسمة عبر برنامجه الشهير " جو شو " الذي أصبح يتناول البرامج العربية والمصرية، وبموقع انتقاد، أو ما يمكن تسميته بالكوميديا السياسية السوداء .

لقد بات جو شو يمثل حاضنة شعبية لبعض المصريين وفي العرب (المغرر بهم كما قلت)، واستطاع أن يحول كل شئ لكوميديا سوداء، إلي أن عده بعضهم أيضا حاضنة لكثير من المؤيدين باطنيا لفكر جماعة الإخوان والسلفيين المسلمين؛ وعلي الرغم من محبي جو شو القلائل فلا يخلو الوضع من انتقاد الآخر (أي الكُثر) له لاتهامه بعدم الموضوعية، وعدم التزام الحياد، واتباع توجهات وسياسة القناة التابع لها، وعدم تخطي ما يمكن تسميته بالخطوط الحمراء .

وحول نشأة البرنامج قال " يوسف حسين" (حسب موقع ويكبيديا): أنه بعد بداية الربيع العربي لم يكن لدى فريق العمل أدنى فكرة بإنشاء قناة جوتيوب في البداية، وأتت الفكرة "بمحض الصدفة" حسب ما قال يوسف حسين في لقاء على قناة سوريا، (بعد ثورة الثلاثين من يونيه عام 2013)، قام يوسف حسين وأحمد الذكيري بإنشاء مقطع فيديو سياسي ساخر مدافعًا فيه عن الرئيس السابق مرسي وتحميله على موقع اليوتيوب، وحقق أكثر من نصف مليون مشاهدة في وقت قصير، وبعد شهر تقريبًا قام جو "يوسف" والذكيري بتكوين فريق عمل صغير، وإنشاء قناة جوتيوب على اليوتيوب، وعلى مدار شهور قاموا بعمل 12 حلقة ساخرة عن تناقضات التيار الليبرالي السياسي، وتناقض الإعلامين (بعد ثورة الثلاثين من يونيه)، فقام فريق جوتيوب بعمل 31 حلقة ناقش من خلالها جميع الأحداث التي مرت بمصر بشكل ساخر، وتخطى مشتركو قناة اليوتيوب أكثر من مليون ونصف مشترك وقامت بعض القنوات التلفزيونية بعرض الحلقات على شاشاتها  مثل الجزيرة مباشر مصر، وقناة الشرق وقناة رابعة.

وقد كان الهدف من برنامج جو شو كما قلت، هو تكرار نفس المهمة التي كان يقوم بها برنامج البرنامج لباسم يوسف، مع اختلاف الغايات والتوجهات (وإن كان كلاهما يصبان في نفس الاتجاه وهو الفوضي الخلاقة)؛ بمعني أن نفس المواضع هو تكرار برنامج جو شو للمواضع المتعلقة بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وخطاباته السياسية، وكيفية تعامل الرئيس السيسي معها من خلال عرضها بطريقة ساخرة، وجاء في المرتبة الثانية موضوع الإعلام، وكيفية معالجته للأحداث السياسية في مصر، وكيفية تعامل الإعلاميين المصريين لهذه المواضيع.

وهذا يشير إلي أن برنامج جو شو قد حرص علي متابعة تطورات الحياة السياسية في المجتمع المصري بعد ثورة الثلاثين من يونيو 2013، ويظهر ذلك من تركيز البرنامج علي الرئيس السيسي وخطاباته السياسية بشكل كوميدي يغلب عليه التنكيت المخادع، وكذلك معالجة القضايا السياسية التي تهم المجتمع المصري حالياً بشكل ساخر ومضحك، ومن ثم تناوله لمعالجة الإعلاميين المصريين لهذه القضايا، وهذا يظهر أن سر قدرة برنامج  يوسف حسين علي اجتذاب الجماهير ومتابعة المشاهدين له بشكل كبير آتيا من تركيز البرنامج علي حصر المضمون السياسي للقضايا اليومية المستجدة.

أما فيما يخص الموضوع الوطني وتغطية القضايا الوطنية ومعالجتها سواء السياسية، أو الاقتصادية، أو الاجتماعية، فنجد أنها لا تشكل محور اهتمام بالنسبة ليوسف حسين، مما يعكس عدم أهمية مناقشة وعرض هذه القضايا الوطنية في برنامجه، وهذا يعكس غياب الحس الوطني لبرنامج جو شو الذي يقدمه يوسف حسين .

وثمة نقطة مهمة نود الإشارة إليها، ألا وهي أن يوسف حسين كان يتناول المواضيع السياسية التي يطرحها في برنامجه في إطار الخبر التلفزيوني، وهذا يعكس قدرة يوسف حسين علي عرض المواضيع وتناولها بتكنيت زائف كونه ناقل للخبر بأسلوب ساخر، ليترك للمشاهد عدم الحرية في تناول وفهم الخبر، ويعكس ذلك براعة يوسف حسين، وقدرته الإعلامية علي طرح المواضيع والمضامين والمحتوي السياسي، لهذا البرنامج بأسلوب الخبر الصحفي ليظهر، وكأنه ناقل للخبر من ناحية وصانع له بما يثبت عنه صفة التدخل الشخصي وعرض آراؤه الشخصية في المواضيع التي يعالجها .

ومن الأمور الأخرى التي لاحظناها في برنامج جو شو، أن وحدة التحليل الرئيسية التي تم تناولها من قبل يوسف حسين للمواضيع السياسية، كانت تتمثل في استخدام متغير الوقت والفترة الزمنية التي يغطيها برنامج يوسف حسين الساخر، وجاء بالدرجة الثانية استخدام الكلمة، ثم الفقرة، وأخيراً الجملة، ويعكس ذلك مستوي تركيز يوسف حسين وهدفه من إيصال معلومة معينة، أو خبر معين للمتلقي، أو أن يوجه المضمون السياسي باتجاه معين من خلال استخدام متغير الوقت ومستوي تكراره لبعض الكلمات والمصطلحات، وهذا فيه إشارة واضحة لتدخل يوسف حسين علي أنه يريد إيصال معلومة معينة للمتلقي في المضمون السياسي للحلقات التي يعرضها .

كذلك وجدنا برنامج  جو شو الذي يعرضه يوسف حسين كان يتخذ مواقف معارضة لوجهات النظر التي عرضها في برنامجه، وهذه تعبر عن شخصية يوسف حسين ومواقفه الايديولوجية، تجاه القضايا السياسية والاجتماعية، مما يشير إلي أن يوسف حسين لم يكن صريحا لآرائه الشخصية ومواقفه اتجاه القضايا المطروحة، وهذا يشكل تدخلا أو انحيازا لدي يوسف حسين وينفي عنه صفة الموضوعية إذا تم عرض هذا الرأي بأسلوب صريح وواضح .

أيضاً كشف لنا برنامج جو شو أن الطريقة الهزلية هي الصفة المميزة لبرنامج يوسف حسين، مما يعكس أهمية التركيز  علي هذه الطريقة لتناول يوسف حسين لعرض الموضوع، بما يعبر عن شخصيته وما يميز برنامجه عن البرامج الأخرى، ثم جاءت طريقة عرض برنامج جو شو بأسلوب ساخر تعبر عن القدرة الكبيرة ليوسف حسين في عرض المواضيع، وهذا يشير إلي أن الصفة الأساسية للبرنامج هي عرض الموضوع بأسلوب ساخر هزلي انتقادي، وهذا ما يميزه عن البرامج الأخرى، فقدرة يوسف حسين علي استخدام السخرية في توصيل المضمون السياسي يعكس براعته في إيصال ما يريده للمتلقي بطريقة غير مباشرة.. وهناك أمور أخري سوف نكشف عنها في قابل الأيام لهذا البرنامج.. ونكتفي بهذا القدر.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل - جامعة أسيوط

.........................

1- الشعيبي، صالح بن عبدالعزيز: الصفحة الأخيرة : عالم النكتة، الأمن والحياة، جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، مج 8،ع 9، 1989، ص 62.

2- هاجو مدقن: السخرية الرفيعة في النصوص التفاعلية الرقمية: قراءة في الادبيات الساخرة في الفيسبوك، سياقات اللغة والدراسات البينية، العلوم الطبيعية للنشر، ع4،3، 2016، ص 116.

3-  هنيدة أحمد خليل: درجة توجه المضمون السياسي لبرنامج باسم يوسف الساخر، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة الشرق الأوسط، طلية الأعلام، الأردن، 2015.

4- جو شو (برنامج).. ويكيبيديا.

 

 

هل يعيد انتخاب بايدن تشكيل الجغرافيا السياسية العالمية؟

التفاصيل
كتب بواسطة: عبد الله العبادي

عبد الله العباديمن السابق لأوانه الحديث عن التغييرات التي يمكن أن يحدثها انتخاب جون بايدن في ظل ظروف وبائية خطيرة يشهدها العالم بأسره، وفي ظل انقسام أمريكي قد يعصف بالأمن الداخلي خصوصا وأن ترامب توجه للمحاكم وجند أكثر من ستمائة محام لمواجه غريمه وطاعنا في نتائج الانتخابات.

الشارع العربي تابع الانتخابات الأمريكية وكأن شخص الرئيس سيغير شيئا من موقف الولايات المتحدة الأمريكية اتجاه القضايا العربية وعلى رأسها الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ومشروع الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، فكل الإدارات الأمريكية كانت حليفا بدون شروط للكيان الصهيوني على حساب حق الشعب الفلسطيني في إعلان دولته المستقلة.

في تعليقه على فوز بايدن يرى منصف المرزوقي اليساري وأول رئيس لتونس بعد الحراك الشعبي، إنه فوز الديمقراطية على الشعبوية، فوز الانسانية على العنصرية، فوز المبادئ على المصالح، انتصار الذكاء على الخبث، لطمة موجعة من النظافة على وجه الفساد. من الصعب فهم تفاؤل المرزوقي، فالبيت الأبيض لا يختزل في شخص، فالرئيس موظف تنفيذي لأجندة سياسية وأمنية ومصالح قومية.

مستشار الأمن القومي الأمريكي الديمقراطي زمن حكم باراك أوباما بن رودس يقول في مذكراته "العالم كما هو" يقول إن الرئيس الديمقراطي السابق أوباما  يكره العرب بشكل غريب وكان يردد أمام مستشاريه أن العرب ليس عندهم مبدأ أو حضارة وأنهم متخلفون وبدو. وبايدن ليس إلا الرفيق الحميم لأوباما ويحملان نفس الأجندة الحزبية ووجهات النظر حين يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية الأمريكية.

من حق المواطنين الأمريكيين أن يفتخروا بديمقراطية الاقتراع والعملية الانتخابية، فكل الرؤساء كانوا وبالا على بعض المناطق العربية، لكن مهما اختلفت الألوان الحزبية للمترشحين تبقى مصلحة الوطن وحماية المصالح الخارجية من الأولويات، رغم اعتزازهم بأصولهم فقد قال بايدن ل BBC أنا إيرلندي أما نائبته فقد أكدت أكثر من مرة فخرها بأصولها الهندية والجامايكية، هذا الفخر لم يفهم على أنه ضعف في الوطنية بل اعتزاز بالأصول وولاء تام  وانتماء للوطن الأم ورغبة في خدمته.

رؤية بايدن تختلف عن ترامب حين يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية والعلاقة مع الدول والمؤسسات العالمية، فترامب كان يرى وطنية أمريكا أولا وتخلى عن العديد من الاتفاقيات الخارجية والمعاهدات الدولية في قراري أحادي. لكن بايدن سيعيد أمريكا لدورها التقليدي الريادي على المستوى العالمي القائم على أساس القيم الغربية المشتركة، والعودة إلى التحالفات العالمية وعودة الإدارة الأمريكية إلى منظمة الصحة العالمية وستحاول قيادة العالم لمواجهة جائحة كورونا.

من أولويات بايدن أيضا محاربة التغير المناخي والعودة للانضمام إلى اتفاقية باريس للمناخ التي تخلى عنها الرئيس المنتهية ولايته، حيث أكد بايدن نيته في بناء اقتصاد يقوم على الطاقة النظيفة من أجل خلق وظائف جديدة. وأكد بايدن أنه مستعد للعودة لاتفاقية العقوبات المفروضة على إيران مقابل التقليص من برامجها النووية التي انسحبت منها الإدارة الأمريكية قبل ستنين وعارضها بعض الحلفاء.

وبمنطقة الخليج، وعد بايدن بالعمل على إنهاء الحرب باليمن بسبب تفاقم الوضع الكارثي وارتفاع الضحايا من المدنيين، وقد تتراجع الإدارة الأمريكية الحالية عن مساندة السعودية وقد تشوب العلاقات الأمريكية السعودية بعض التوتر بسبب نقاط خلاف عديدة، لكن رغم ذلك تبقى السعودية الحليف الاستراتيجي الأول في الخليج العربي.

يحاول بايدن أيضا العمل مع روسيا كقوة عالمية والعودة إلى معاهدتين كانت إدارة ترامب قد انسحبت منهما، سيعود بايدن لمغازلة الدب الروسي والتفاوض من أجل تمديد الاتفاقية الثالثة التي أوشكت على نهايتها للحد من الترسانة النووية للبلدين. أما بخصوص الصين فالسياسة الأمريكية واحدة بين الجمهوريين والديمقراطيين، الصراع الاقتصادي ومحاولة فرض إجراءات تجارية قاسية، الفرق بين الحزبين يكمن فقط في طرق تنفيذ الإجراءات المفروضة.

أما بخصوص القضية الفلسطينية، فبايدن لن يكون استثناء داخل الحزب فكلمة احتلال لم تسمع خلال برنامجه ولا برنامج السياسة الخارجية للحزب، ربما يكون هناك ضغط من الجناح اليساري داخل الحزب الذي سيعمل على الضغط على مرشحه من أجل حماية حق الفلسطينيين وربما ضغط أكبر من أجل إنهاء الاحتلال والاتجاه نحو حل الدولتين، الشيء نفسه يطالب به الجناح اليساري داخل الحزب لإنهاء الحرب في أفغانستان والعراق.

أما بخصوص ملف الصحراء المغربية، فق أعلنت إدارة ترامب موقفها الواضح ومساندتها لمقترح الحكم الذاتي الذي تقدم به المغرب لمجلس الأمن الدولي كحل عادل للقضية. الإدارة الحالية وبحسب العديد من المحللين، في انتظار تعيين طاقمة وخصوصا ممثل السياسة الخارجية، ستكون طبق الأصل لإدارة أوباما وربما يستعين ببعض مستشاري هذا الأخير. ويستفيد المغرب من العلاقات الطيبة الذي تربطه بهيلاري كلينتون، كما أن بايدن سيسعى لإيجاد حلول كبرى وأزمات خلقها ترامب مما سيتيح للمغرب التعامل بشكل مريح مع الإدارة الجديدة. ومهما تعددت القراءات فالحل السلمي ومبادرة الحكم الذاتي التي تقدم بها المغرب منذ مدة تعتبر الحل الأنجع لنهاية الصراع، كما أن المشروع التنموي الذي يواصله المغرب بأقاليمه الجنوبية يؤكد حرص المغرب على تنمية كل مناطقه من طنجة إلى الكويرة.

المغرب في صحرائه والصحراء في مغربها.

 

عبد الله العبادي

الكاتب الصحافي

 

عزل ترامب وأبواب الجحيم

التفاصيل
كتب بواسطة: بكر السباتين

بكر السباتينخاتمة الرعونة طريق مسدود.. فمسيرة حكم الرئيس الأمريكي دوناند ترامب منذ أربع سنوات حتى نهايتها، كانت تجربة مريرة بالنسبة لغالبية الأمريكيين على كافة الصعد الداخلية والخارجية، فبدا كأنه زوبعة عصفت بالبلاد فاسترعت المصلحة محاصرتها والقضاء عليها درءاً من عواقب استمرارها المخيف؛ لتنتهي فترة حكمه بكل أطرافها إلى منطقة الخطر، وكان على أحدهم أن يغادر المركب طوعاً أو يُلقى به في البحر؛ كي يصل المركب بالبلاد إلى بر الأمان. من هنا جاء الموقف الأمريكي الرسمي ليحسم معركة المواجهة مع رئيس ثبت بأنه متهور وغير متوازن، مما جعل مجلس النواب الأمريكي يصوت لصالح قرار عزل الرئيس المنتهية ولايته، دونالد ترامب، ويتهمه بـ"تحريض" أنصاره علناً وعلى رؤوس الأشهاد في أعمال الشغب التي شهدها مبنى الكابيتول (مقر البرلمان) الأسبوع الماضي في سابقة غير مشهودة.

وانضم عشرة نواب من حزب ترامب الجمهوري إلى الديمقراطيين في التصويت على القرار، الذي جاء بنتيجة 232 صوتا مقابل 197.. وهو فارق يدل على مدى الاحتقان الذي تسبب به الرئيس المقامر ترامب من جراء سياساته المتهورة وغير المألوفة من قبل الأمريكيين التي يرمي من خلالها إلى وضع العراقيل في طريق الرئيس المنتخب جو بايدن وإشغاله في قضايا لم تكن بالحسبان، بعدما سُدَّتْ المنافذ في طريق استعادته للفوز الذي قال بأنه مُختطف من قبل الديمقراطيين عن طريق التزوير وهو ما عجز عن إثباته أمام القضاء الذي حكم لصالح الرئيس الذي ثبت فوزه بنسبة عالية.

وبهذا، أصبح ترامب أول رئيس في تاريخ الولايات المتحدة يُعزل مرتين أو يتهمه البرلمان (الكونغرس) بارتكاب جرائم بمعاونة أنصاره ممن أدرجوا في قائمة الإرهاب اليميني الداخلي.

وسيواجه الرئيس الجمهوري ترامب الآن محاكمة في مجلس الشيوخ. وإذا أُدين، قد يُمنع من تولي المنصب مرة أخرى.

لكن من غير المرجح أن يضطر ترامب إلى ترك البيت الأبيض قبل انتهاء فترة ولايته خلال أسبوع، وهي فترة مناسبة يستطيع من خلالها اتخاذ قرارات مدمرة غير محسوبة في إطار خيارات عديدة يتوقعها المراقبون ولعل أسوأها ضرب إيران نووياً، وإشعال حرب ضروس في الخليج العربي يكون من شأنها أن تعطل آلية تسليم السلطة إلى جو بايدن؛ فيحظى بذلك على أطول مدّة ممكنة للبقاء في الحكم وفق القانون الذي سيجيز له ذلك، وخاصة أن مجلس الشيوخ الذي ينتظر منه المصادقة على قرار العزل، لن ينعقد قبل حفل تنصيب جو بايدن المزمع إقامته في الثاني من فبراير المقبل حيث ستسلم السلطة للرئيس الجديد من قبل مايك بنس، نائب الرئيس المنتهية ولايته، ترامب الذي رفض الحضور احتجاجاً على اختطاف حقه بالرئاسة وفق ما يدّعي.

فهل تأخذ الغطرسة ترامب نحو التصعيد الجماهيري من جديد لإفشال هذا الحفل خلافاً لتصريحاته الأخيره ووعوده بتسليم سلس لسلطة! وخاصة بعد إدانته من قبل مجلس النواب وصدور قرار بعزله!

التقارير الأمنية ترجح هذا السيناريو وفق ما يُنْشَرُ من تصريحات لمسؤولين أمريكيين. منها ما جاء في افتتاحية الغارديان بعنوان: (الديمقراطية في أمريكا: التهديد حقيقي)، " بأن هناك تقارير أوردت في طياتها تحذيرات مكتب التحقيقات الفيدرالي بشأن احتجاجات مسلحة محتملة في العاصمة وفي أنحاء من الولايات المتحدة في الأيام المقبلة. وأغلقت السلطات المنطقة المحيطة بنصب واشنطن، بالقرب من المكان الذي حث فيه ترامب مؤيديه على القتال من أجل حقه في البقاء في المنصب".

فاتخذت الإجراءات الأمنية اللازمة لحماية الحفل على هذا الأساس.. ففي أعقاب الغضب الناجم عن اقتحام أنصار ترامب للكونغرس الأسبوع الماضي، ستنشر السلطات ما لا يقل عن عشرة آلاف عضو من الحرس الوطني في واشنطن بحلول نهاية هذا الأسبوع.

ويبدو إن اختيار ترامب حَشْدِ أنصاره ضد تسليم السلطة يُعد بمثابة مقياس على نرجسيته وغطرسته وإرادته المشوشة.

ويرى مراقبون أن أعمال الشغب في الأسبوع الماضي لم تكن وليدة الصدفة أو عبارة عن مسرحية لمرة واحدة خرجت عن السيطرة، بل كانت ساحة للهجوم على الديمقراطية تدور منذ شهور.. أي استراتيجة لها أهداف محددة، وهنا تكمن الخطورة فاسترعى الأمر رداً حاسماً من قبل الكونغرس بتجريم الرئيس ترامب كونه حرض أنصاره على الفوضى واستغل صلاحياته لإحداث الضرر بالديمقراطية وتشويهها، ووضع سمعة أمريكا على المحك، حتى أن بعض الدول في الاتحاد الأوروبي رفضت استقبال وزير الخارجية بومبيو بذريعة أن التعامل يجب أن يكون مع إدارة الرئيس المنتخب، جو بايدن، بل أن الصين ذهبت إلى أكثر من ذلك أثناء تقديم واجب المواساة للأمريكيين، إذْ شبهت هجوم "الرعاع" على مبنى الكابيتول (مقر البرلمان) بالغوغائيين المعارضين للصين في هونكونغ، كونهم دُعِمُوا إعلامياً وسياسياً من قبل ترامب نفسه، في مفارقة قد تقلل من قدرة واشنطن على ممارسة السياسة الخارجية فيما يتعلق بحقوق الأقليات في الصين، بارتياح،

ورغم تنصل ترامب أخيراً من مسؤوليته إزاء ما جرى من هجوم سافر على الديمقراطية، في محاولة منه لاحتواء الضرر الذي من شأنه أن يصيب مستقبله السياسي، إذا ما صادق مجلسُ الشيوخ على قرار مجلس النواب لعزله.. فقد صرح بأنه سيسهّل عملية انتقال السلطة إلى جو بايدن في الموعد المحدد، وإنه أمر الأجهزة الأمنية لتقديم الحماية الأمنية اللازمة لحفل تنصيب الرئيس الجديد، وإن حركته الاحتجاجية غير مسؤولة عن "الهمجيين الرعاع" الذين هاجموا الكونغرس؛ لا بل أنها تأنف قبولهم في صفوفها، وطالب بمحاكمتهم على الفور وكأنهم كانوا خارجين عن طوعه!. وقال بأن أمريكا هي بلد القانون داعياً إلى تضافر الجهود لتوحيد الشعب الأمريكي المنقسم على نفسه؛ لمواجهة وباء كورونا.. الذي يعتبر العدو الوحيد لكل الأمريكيين.

ولم يتطرق ترامب في كلمته إلى موضوع قرار مجلس النواب الأمريكي بعزله، وفق نصائح مقربين إليه مثل كوشنر ووزير الخارجية بومبيو.

إن الفوضى العنيفة التي حدثت الأسبوع الماضي وأدخلت ترامب في مصيدة كان قد أعدّها لخصومه، والتي أدت إلى مقتل خمسة أشخاص في حادثة اقتحام مبنى الكبيتول، جاءت تتويجاً لاستراتيجية ترهيب وتشويه سمعة المؤسسات الديمقراطية في الدولة التي يقودها. لذلك فإن الأعضاء الديمقراطيين في مجلس النواب محقون كما يبدو، في بدء إجراءات العزل للمرة الثانية ضد رئيس أتهم بأنه "مارق".

وفي سياق الضغط الاقتصادي على مصالح ترامب حتى يخضع لإرادة الكونغرس، صرح محافظ نيويورك، الديمقراطي بيل دي بلاسيو، يوم أمس الأربعاء، أن المدينة ستنهي عقودها مع مؤسسة ترامب الخاصة، بعد اقتحام أنصاره مبنى الكابيتول.

ووفقا لصحيفة "الأندبنتدنت" الأمريكية، نقلا عن أحدث إفصاحات مالية للرئيس، تبين أن منظمة ترامب حققت حوالي 17 مليون دولار خلال العام. وعليه فإن خسائر ترامب ستكون فادحة لو توسع هذا الباب.. وهي فاتحة لتشكيل قوى ضاغطة اقتصادية لتهديد مصالح ترامب من خلال ضربات موجعة كهذه حتى يستقيم أمره ويتوارى وفق الممكن عن المشهد السياسي الأمريكي درءاً لخطورته.

فهل يخرج ترامب إذن من عنق الزجاجة دون ثمن باهظ سيدفعه من مستقبله السياسة، لأن الحزب الجمهوري الذي تضرر من وجوده، لن يتحمل عنه أعباء الفاتورة التي تسبب بها في غضون الأربع سنوات الماضية.

ما زالت التكهنات غامضة فيما قد يحدث في الثاني من فبراير من قبل أنصار ترامب لتخريب الحفل، وقد يصل أسوأها حدَّ الاغتيالات في مقامرة مفصلية قد تحول الانقسامات الشعبية إلى حرب أهلية محدودة قد يصعب الرجعة عنها، خلافاً لما يراه المتفائلون في أن القطار سيمضي وإن نبحت الكلاب مكشرة عن أنيابها.

 

بقلم بكر السباتين..

14 يناير 2021

 

 

أبو تمام!!

التفاصيل
كتب بواسطة: د. صادق السامرائي

صادق السامرائيحبيب بن أوس بن الحارث الطائي، (188 -231) هجرية، ولد في قرية جاسم من قرى حوران بسورية، وإستقدمه المعتصم وقدمه على شعراء زمانه، وتولى بريد الموصل لأقل من سنتين، ومات بعد وفاة المعتصم بأربعة سنوات، وقبل وفاة الواثق بسنة.

وفي ديوانه قصائد يمدح فيها المأمون (170 - 218) هجرية، مما يشير إلى وجود علاقة بينهما.

والمعروف عنه كان يحفظ أربعة عشر ألف أرجوزة من أراجيز العرب غير القصائد .

وهو أديب ومن فحول الشعراء، وتعرضت قصائده لشروحات متعددة من قبل أساطين اللغة والبيان كالخطيب التبريزي وغيره.

ومن تصانيفه: فحول الشعراء وديوان الحماسة، مختار أشعار القبائل، نقائض جرير والأخطل، الوحشيات، ديوان شعر.

ولشعره دراسات نقدية متنوعة لأنه إنتهج مذهبا جديدا في الشعر، فكان بعيد المعاني غريب الإستعارات، مليئا بالطباق والجناس، وسببا بإثراء اللغة العربية وتطوير مفرداتها وأساليب الكتابة بها.

ويُعد أبو تمام ثورة معرفية وموهبة شعرية نادرة زعزعت أركان الشعر العربي، وصدح صوته في آفاق الدولة العباسية، وهي في أوج قوتها وذروة إنطلاقها الحضاري، فعبّر عن جوهرها ومنطلقاتها الحضارية بشعره، الذي يتوافق وما وصلت إليه من مجد الإبداع.

ولديه العديد من القصائد التي يمدح بها المعتصم، وأشهرها قصيدته التي قالها بعد فتح عمورية، والتي مطلعها:

السيف أصدق أنباءً من الكتب

في حدّه الحد بين الجد واللعب

والعلم في شهب الأرماح لامعة

بين الخميسين لا في السبعة الشهب

....

وقد أمضى أبو تمام معظم حياته في العراق بمدينة سامراء، وعلى الأرجح أنه رافق المعتصم منذ بداية خلافته حتى وفاته، وهو الذي قدّم البحتري إلى بيت الخلافة العباسية وأجازه.

ولا يوجد ما يشير إليه في سامراء، ولا دراسات عن حياته فيها، وأظنه قد أنشد قصيدته المشهورة في عمورية بسامراء، لكن البعض يرجح أنها في مكان آخر أثناء العودة من الحملة.

 توفى في الموصل أثناء توليه لبريدها في زمن الواثق.

أبو تمام ظاهرة نادرة لا تتكرر، فأثناء عمره القصير أنتج شعرا متميزا وفكرا منيرا، وأسهم في تدوين أحداث دولة ذات كيان سامق، ففي عمر مبكر كان يرافق المعتصم، وينشد قصائده بمجالسه وأمام جهابذة اللغة والعلم والفكر والفقه.

فأية موهبة وطاقة إبداعية كانت تتخلق في دنياه؟!!

 

د. صادق السامرائي

 

 

رأي مختلف في المعري

التفاصيل
كتب بواسطة: ناجي ظاهر

ناجي ظاهر(قراءة سريعة في كتابة بديعة)

ينطلق الكاتب الناقد اللبناني الخالد مارون عبود في كتابه عن ابي العلاء المعري "زوبعة الدهور"، من فكر نيّر مستقل، لا يعبأ بأصحاب القول العنيد" عنزة ولو طارت، ويتوصّل بالتالي الى استخلاصات جديدة واجتهادات فريدة، تشمل اضافةً عميقة جدًا الى ما سبق وقيل عن شاعر المعرّة  صاحب " ديواني" سقط الزند"( الشرارة تخرج من ارتطام حجرين)، و"لزوم ما لا يلزم"، الذي انتهج فيه المعرّي نهجًا غير مسبوق متّبعًا نهجًا فريدًا.. ثلاث قواف متتابعة لا قافية واحدة كما درج الشعر العربي عليه في ابداعاته المتنوعة.

الكتاب صدر عام 1945، عن دار المكشوف اللبنانية، وما زال صالحًا للقراءة والاستفادة منه ومما ضمّه من اجتهادات عبوّدية ذكية وجريئة ايضًا، وقد اعدت قراءته مؤخرًا، بعد ان توفّرت لدي نسخة اصلية قديمة منه.

قبل التوغل في التحدث عن الكتاب وما فاض به من اجتهادات لافتة خاصة، اود ان اقدّم فكرة عنه، يقع الكتاب في 276 صفحة من القطع الصغير، ويتطرق فيه مؤلفه، العلّامة، إلى العديد من المحطات الهامة في فهمه لابي العلاء وفي تاريخه وعطائه الثرّ الثمين. مثل: كيف كنت افهم المعري، مدرسة ابي العلاء ومعتقده، مذهب ابي العلاء، وشاعر العقل الفاطمي.

واضح من هذه العناوين، لا سيما الاخير بينها، ان عبّود يقدّم اجتهادًا جريئًا وغير مسبوق في فهمه عقيدة ابي العلاء، وانه يحاول ان يتعمّق في قراءته له عبر نصّه وليس عبر شخصه، كما حاول ويحاول الكثيرون، وفق عبود ذاته.

من الاجتهادات المختلفة واللافتة في قراءة عبود لابي العلاء في كتابه هذا، قوله ان اللزوميات ما هي الا نظمُ متمكن، وانها لا تختلف في كينونتها عن الفية ابن مالك المعتمدة على النظم، وليس على الخلق الشعري، وبعيدا عن تقديس آخرين للمعري، يتقاطع عبّود ويتفق مع الكثيرين من دارسي المعري.. في ان قصيدته " غير مجد في ملتي واعتقادي" هي من عيون الشعر العربي.

يطرح عبود في كتابه هذا السؤال الذي طالما طرحه آخرون عن ابي العلاء مُفكرًا، ويُفهم من حديثه عنه انه لم يكن مبادرًا في افكاره، وانما هي كانت رادًا لأفعال، مثل موقفه من اللذات التي يقول عنها" ولم اعرض عن اللذات الا لأن خيارها عني خنسنه". ويلخّص رأيه هذا في اننا لا يمكننا ان نطلق على المعري صفة الفيلسوف، كما فعل كتّاب مصريون في عدد مجلة" الهلال "المكرس له ولذكراه الالفية، وانما هو يقدّم اجتهاداتٍ متشائمةً للحياة والانسان وحسب.

مع هذا يعرف عبّود قيمة المعرّي مفكرًا وضع العقل في اعلى سلم اولياته " حكّموا العقل لا امام سوى العقل"، وينهي كتابه بخاتمة قصيرة تحت عنوان "عنزة ولو طارت"، ينعى فيها على اولئك الذين لا يحترمون المعري وعطائه بقد ما يقدّسونه. ضمن اشارة ذكية منه للنظر المتمعن فيما خلّفه من تراث ابداعي. ويكفي لفهم هذا الكتاب، جيدًا، ان ننظر في عنوانه" زوبعة الدهور" لنتأكد من ان عبود يحترم المعري.. لكن لا يقدسه.. وفي هذا حكمة تدل على شجاعته وخصوصيته المتفردة.. ناهيك عن انها تدل على ناقد عميق النظر.. وافر الاطلاع.. يقول كلمته ولا يمشي، وانما يتوقف عندها معتبرًا اياها رسالة عظيمةً ومسؤولية تاريخية.

كتاب جدير بالقراءة.

 

ناجي ظاهر

 

لماذا يحتاج الدينار العراقي الى دعم سياسي؟

التفاصيل
كتب بواسطة: حاتم حميد محسن

حاتم حميد محسنفي 19 ديسمبر 2020 جرى تخفيض قيمة الدينار العراقي بنسبة 23%، نزولا من سعره الرسمي السابق 1182 دينار الى 1450 دينار لكل دولار امريكي. وزير المالية العراقي ذكر ان التخفيض جرى الاتفاق عليه مع صندوق النقد الدولي وهو يخدم التنويع في الاقتصاد العراقي(1).

ماهي الأهداف من تخفيض العملة؟

ان التخفيض يجعل الصادرات ذات سعر تنافسي ومن ثم يقود الى بيع المزيد من الصادرات، رغم ان هذا قد لا يؤدي بالضرورة الى هبوط مماثل في قيمة السلع والخدمات المستوردة. صناع السياسة ايضا يأملون ان تخفيض العملة يقود الى "تحوّل في الانفاق"، بمعنى ان المستهلكين ينفقون نقودهم على منتجات الشركات المحلية بدلا من إنفاقها على المستوردات.

التحول في الإنفاق يمكن ان يُدعم بفرض ضرائب اضافية او جديدة على المستوردات او عبر إدخال حصص (كوتا) سوف تقلل مباشرة من الإنفاق على الاستيراد. هذه الاجراءات كان القصد منها ايضا تحسين كل من ميزان التجارة و(بشكل غير مباشر) ميزان المدفوعات.

اخيرا، اعتمادا على مرونة عرض السلع، فان الضغوط التضخمية قد تبرز في الأجل القصير الى المتوسط.

في العراق، اوضح صنّاع السياسة في وزارة المالية والبنك المركزي العراقي وبشكل صريح اسباب تخفيض الدينار العراقي كالتالي:

1- هناك شعور بان الدينار العراقي عالي السعر مقارنة بالدولار الامريكي(2)، بما يشجع الاستيرادات ويدفع رأس المال للرحيل ويثبط الاستثمار الاجنبي والسياحة، مع وجود اقتصاد يميل نحو التجارة وتجارة التجزئة بدلا من القطاعات المنتجة.

2- في ضوء السعر المرتفع للدينار العراقي، يصبح الاقتصاد العراقي أقل تنافسية، والاسواق العراقية تصبح تحت سيطرة الاستيراد.

3- الدينار العراقي العالي القيمة، عموما، لا يشجع الاستثمار في القطاعات التي يرغب العراق تطويرها مثل الزراعة والسياحة والصناعة والخدمات.

4- ان تعديل قيمة الدينار العراقي سوف يزيد العائدات من البترول بالدينار العراقي وسوف يقلل عجز الموازنة، لكن توقيت تخفيض العملة الآن هو مرتبط عضويا بهبوط حاد في عائدات الدولة من البترول وان سعر الدينار العراقي يجب ان يعكس هذه الحقيقة(3).

يمكن القول، ان خفض الدينار العراقي يمثل اختبارا هاما لرئيس الوزراء مصطفى الكاظمي ووزير ماليته علي علاوي. بهذه العملية هما يكسبان وقتا ثمينا – انها لحظة الحقيقة، حيث ان عملا سياسيا واقتصاديا حاسما مطلوب الآن لحماية الدينار والاقتصاد العراقي من الانزلاق نحو الهاوية. الكاظمي يجب ان يمنع الدخلاء من التخريب المتعمد والمنظم جيدا والمستمر منذ عام 2003 في مفاقمة دورة تفتيت الاقتصاد والمجتمع في العراق. انها مسؤولية عليا للكاظمي للعمل ضد الدخلاء الذين يسعون الى تعميق الشرخ والعمل ضد الصالح العام.

لكي يحميان الاقتصاد العراقي من الانهيار، فان امام رئيس الوزراء ووزير المالية فترة قصيرة من جنوري الى جون 2021. هما يجب ان يركزا على ثلاث قضايا حساسة وهي السياسة والاقتصاد والتنويع الموجّه نحو التصدير.

السياسة

يلخص معتز كمونه، الصناعي العراقي السياسة بدقة :معلقا على تخفيض الدينار العراقي، هو يخشى ان "سيطرة الميلشيات والجماعات المسلحة على السياسة، والاقتصاد والجيش يعطيهم فرصة هامة جدا للمنافسة وإفشال اي مزايا للصناعيين في العراق(4). ونفس الرؤية لدى محمد المعموري، وهو مستثمر في الزراعة، يلاحظ ان "الحكومة دعمت الاستيراد من السلع الزراعية وتجاهلت دعم الانتاج المحلي"

لكي يحقق خفض العملة اي فرصة للنجاح يجب على الكاظمي ان يتحدى، ويواجه بشكل رئيسي الميلشيات المسلحة ويمنعهم من اضعاف سلطة الدولة والاقتصاد لمصلحة الطبقة السياسية الدينية والبلوتوكرات المنتفعين ذاتيا. الميلشيات الاسلامية والجماعات المسلحة بما فيها الحشد، يُزعم انها تُموّل جزئيا من اموال البترودولار العراقية التي يتم تداولها عبر غسيل الاموال وشبكات التجارة والسيطرة على المنافذ الحدودية والفساد الصريح والتام. لم يكن ابدا من مصلحة تلك الجماعات والميليشيات تشجيع الانتاج المحلي لأن مثل هذه الاستراتيجية سوف لن تخدم حماتهم الاجانب.

هذا التحدي لا يمكن معالجته كليا في الستة اشهر. لكن هذه الفترة ستكون حاسمة في اتخاذ خطوات مصيرية لإحتواء النشاطات الضارة للدخلاء، عبر تحقيق اصلاحات اقتصادية في العراق، وان كانت غير تامة كما تبين "الورقة البيضاء". لكي نؤسس توازن مالي فوري، يجب ان تكون الاولوية للفساد واسترداد الاموال المنهوبة (والتي قدرت بحوالي 200 بليون دولار) (5) . الدخلاء يمثلون "الدولة العميقة"، وهو التحدي الامني اليومي الذي يجب ان يواجهه الكاظمي. انهم قوة سياسية واقتصادية مدمرة.

اذا لم يتخذ الكاظمي إجراءات سريعة وحاسمة للقضاء على نشاطات الدخلاء وتلبية مطالب المنتفضين من الشباب المتحمسين العراقيين الذين يسعون لسيادة وطن، عندئذ فان تأثيرات خفض الدينار العراقي، وتنفيذ الاجراءات في "الورقة البيضاء" ومحاولات ادارة المال العام كلها ستتلاشى. ان جموع الناس العاطلين عن العمل، وجماعات اخرى، سوف يفقدون الثقة في قدرة الحكومة على إحداث التغيير الذي يخدم القطاعات الأفقر في المجتمع.

الاقتصاد

في مقابلة مع محطة TRT في اغسطس 18، 2020، يبين السيد علاوي، وكما متوقع فهما عميقا للتحديات التي تواجه الاقتصاد العراقي(6). ورقته البيضاء في اكتوبر 2020 تحتوي على اثنين من التحديات الكبيرة:

1- ترشيد الانفاق التشغيلي بنسبة 13% من الناتج المحلي الاجمالي نزولا من النسبة الحالية 25%، من خلال تقليل حجم ومقدار الاجور والمنافع التي يمنحها الموظفون العموميون لأنفسهم.

2- تنويع الاقتصاد عبر استخدام القطاع الخاص لكي يمتص نسبة البطالة العالية.

هذه تُعتبر مهمة صعبة. لكن، كما في السياسة، كذلك في الاقتصاد، السيد علاوي يمكنه ان يضع الاساس للتغيير في الستة اشهر القادمة (وربما بعدها).

لم يكن هناك جديدا في أي من المهمات التالية. ما هو جديد هو الفورية في اتخاذ الاجراء والفعل المطلوب، والحسم الذي يجب ان ينفذ به علاوي هذه المهمات والتي تتمثل بـ :

1- مزاوجة المشاريع المملوكة للدولة مع الشركات الدولية، لكي يتم خفض تدريجي للاعانات الثقيلة، خلق مهارات جديدة وزيادة الانتاجية . شركة سكود للسيارات هي مثال جيد لملائمتها للظروف العراقية.

2- توسيع وتنفيذ استثمارات هائلة في البنية التحتية. عندما تقترض الحكومة للاستثمار (وليس للاستهلاك) فهي قاعدة ذهبية مقبولة، في بناء الموانئ البحرية ومحطات الطاقة والطرق وسكك الحديد والمدارس والإسكان، هذه الاستثمارات سوف تمتص عدد كبير من العاطلين والداخلين الجدد لسوق العمل.

3- تغيير القوانين الحالية وإدخال قوانين جديدة لخلق بيئة ملائمة للقطاع الخاص للاستثمار ومباشرة الاعمال، كل ذلك يجعلها عامل جذب للاستثمار.

4- إنعاش وتوسيع التصنيع (بما فيه البتروكيمياويات) والقطاع الزراعي.هذه ستراتيجية مجربة وناجحة لتحويل العراق الى اقتصاد قائم على التصدير. جنوب كوريا هي مثال جيد للاختبار.

5- إعادة بناء القطاع المصرفي، وهذا يتطلب تحركا جريئا وسريعا لوقف غسيل الاموال عبر مزاد العملة وشبكة التجارة. يجب بناء الشفافية في المصارف لإزالة الفساد.

6- فرض نظام ضريبي فعال وتصاعدي، النظام الحالي فيه الكثير من الثغرات ويمكّن من ممارسة الفساد من جانب جباة الضرائب. كذلك ضريبة الشركات يجب ان تحفز الاستثمار من جانب القطاع الخاص.

7- الحكومة يجب ان تقوم بترشيد انفاق الموازنة والتخصيصات، والتركيز على الاستثمار والبنية التحتية لمدينة الموصل. الحكومة يجب ان لا تتراخى عن هكذا ترشيد عندما ترتفع اسعار البترول مرة اخرى.

8- يجب على الحكومة ان تبدأ فورا بعملية استرداد الاموال المنهوبة من جراء الفساد والتي تشير التقديرات وبتحفظ على انها بحدود 200 بليون دولار امريكي. يجب على الحكومة ترسيخ الولاء لبناء الوطن، وليس للاحزاب الدينية والطوائف او الاقليات الاخرى، وبهذا تستعيد المبادئ الصحيحة وقيم السلوك. المخالفون يجب ان يواجهوا نظام قانوني عادل.

وفي ضوء أعلاه، من المدهش ملاحظة ان مسودة ميزانية 2021 تخصص اكثر من 83 بليون دولار "للانفاق التشغيلي" اي أقل فقط بمقدار 10 بليون دولار من الايرادات المتوقعة لعام 2021؟ هذا يضع خطة علاوي في سعيه لإنجاز توازن مالي امام التساؤل. والشيء المدهش الآخر هو تخصيص 2.5 بليون دولار للحشد، بما يساوي 40% من الاموال المخصصة للدفاع، واكثر مما هو مخصص لوزارتي التعليم العالي والصحة في زمن جائحة كورونا. ايضا هناك 450 مليون دولار ستذهب الى الوقف الشيعي وما يقارب 200 مليون دولار للوقف السني. ولو جمعنا هذه الاموال المخصصة للاوقاف الدينية نجدها تشكّل ما يقارب ثمان مرات اكثر مما خصص لمدينة الموصل التي دمرها داعش والتي خُصص لها فقط 86 مليون دولار(7).

يمكن القول ان هذه التخصيصات هي انعكاس لقوة تأثير الاحزاب الدينية (وميليشياتها) على الحكومة. في الوقت الذي يكون فيها الاقتصاد في حالة يرثى لها، فان مثل هذه التخصيصات تلقي ظلالا من الشك على خطاب الحكومة بحماية الاقتصاد.

تنويع الاقتصاد Diversification of the economy

ان تغييرات حاسمة وعاجلة في السياسة الاقتصادية مطلوبة فورا في الأشهر الستة القادمة. لم يحصل ابدا شعور قوي في العراق بأهمية المبادرات المتعددة الجوانب لتنويع الاقتصاد. وبينما تعمل الحكومة العراقية مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، فان مقترحات الأخير في تنويع الاقتصاد العراقي من خلال المنتجات الزراعية تحتاج الى فحص دقيق (انظر البنك الدولي 2020، فصل 4). ومع ان السياق مختلف، وان تحولات واسعة حدثت منذ ذلك الوقت، لكن مقترحات البنك الدولي تذكّر بمقترحاته للحكومة العراقية في عام 1952 (انظر البنك الدولي، RID، 1952، ص40-97)(8). وبينما هو يعتبر الزراعة ذات اهمية حيوية في سياق العراق، لكن الزراعة وحدها سوف لن تستوعب الـمتوقع من الـ 4.5 الى 5 مليون من الداخلين الجدد الى سوق العمل بحلول عام 2030، دعك من البطالة العالية وحدها. ايضا، لأجل زيادة خزائن الحكومة، يحتاج العمال العودة من القطاع الكبير اللارسمي ودفع ضرائب من خلال عمالة ذات مردود. في العصر الرقمي، لا يمكن للعراق عمل نفس الاخطاء التي ارتكبتها حكومته في الاربعينات من القرن الماضي وحتى 2020. الأدب الاقتصادي الواسع يشير الى مزايا التنويع عبر التصنيع الموجّه للتصدير(9) عندما يدعمه اطار قانوني، وبنية اجتماعية ومادية، وقطاعات ذات تعليم قوي وصحة من الدرجة العالية .

ان الأمن وبيئة الأعمال كلاهما ضروريان للاستثمار الاجنبي المباشر ليشارك مع الحكومة والقطاع الخاص في البدء بالتنمية الاقتصادية، والتي تعني ايضا زيادة مشاركة النساء في سوق العمل.

وفي خلاف ذلك، كما يرى المتشائمون، فان الاهداف البعيدة المدى "للورقة البيضاء" سوف تذهب هباءً، كما حصل للعديد من خطط التنمية القومية السابقة في العراق.

استنتاج

حكومة مصطفى الكاظمي يجب ان تتخذ اجراءً حاسما في الستة اشهر القادمة لحماية الدينار العراقي والاقتصاد من الانزلاق نحو الهاوية. عبر تخفيض قيمة العملة، كسب رئيس الوزراء ووزير المالية وقتا ثمينا، الدينار العراقي يجب ان تدعمه افعال تحمي التغيير (الايجابي) الحقيقي في الاقتصاد وفي تمويل البلاد. وبالنهاية، فان قيمة العملة تعكس مدى صحة الاقتصاد. التنويع في الاقتصاد يجب ان يقوده الاستثمار في التصنيع الموجّه نحو التصدير، مع ارتباطات امامية وخلفية تتغلغل في كل جوانب الاقتصاد.

السؤال هو هل سيحوّل رئيس الوزراء ووزير المالية الصورة القاتمة "Bleak house" (10) الى "توقعات واقعية"؟ هذه هي لحظة الحقيقة.

 

حاتم حميد محسن

.........................

المصدر:

 Iraq-businessnews-com/wp-content/2021/01/IQD-needs-political-support

للباحث والخبير Dr Amer K.Hirmis مسؤول في شركة CBS (Capital Business Strategies Ltd) المحدودة للاستشارات في المملكة المتحدة. في 2009 عمل الكاتب كخبير في التخطيط التنموي في وزارة التخطيط العراقية، وصدر له كتاب (اقتصاد العراق- من الماضي القديم الى المستقبل البعيد) عن دار Grosvenor House publishing، المملكة المتحدة.

الهوامش

(1) انظر

http//www.mof.gov.iq/pages/mofBannerHeadlineDetail.aspx?BannerNewsID=886,and https://cbi/news/view/6224,websites accessed on Dec 20,2020.

(2) هذا الادّعاء مخالف لأخر استنتاج لتقرير من الباحثين في البنك المركزي العراقي، الذي يقترح انه على اساس مبدأ القوة الشرائية (ppp) فان الدينار العراقي هو منخفض القيمة في اي مقدار بين 4 الى 14% عند 1182 دينار عراقي لكل دولار. انظر mahwoos,A.Hussain and Muhammad,B-Qasim(2020)، الدينار العراقي 1200 دينار لكل دولار امريكي؟ (متوفر في

 http//iraqieconomists.net/accessed

 on November23,2020.

(3) انظر الجواب على السؤال الخامس:"اسباب تغيير سعر الصرف؟" المنشور في موقع وزارة المالية المشار اليه اعلاه في (1).

(4) انظر الحرة، في 20 ديسمبر 2020 "تخفيض قيمة العملة العراقية.. قرار صحيح في وقت خطير"

 https//www.alhurra.com/Iraq/2020/12/20

(5) علاّوي، (2020)، الاقتصاد السياسي للتآكل المؤسسي والفساد الرسمي – حالة العراق (متوفر في

 :http//iraqieconomists.net/en/2020/05/19/accessed of June 20,2020

(6) انظر محطة الاذاعة التركية

 TAT(https://www.youtube.com/watch,accessed on Dec14,2020). في هذه المقابلة يبيّن علي علاوي فهما عميقا لمختلف التحديات الحالية التي تواجه العراق – الأمن، البطالة العالية، مشاكل المنافذ الحدودية، الفساد الواسع الانتشار، تضخم الخدمة العامة، ضعف الانتاجية، نقص البيئة الملائمة للأعمال وغيرها. هو قال ان العراق في مفترق طرق. وذكر ان صندوق النقد الدولي يوفر تمويلا من خلال حقوق السحب الخاصة و بعض برامج التسوية الهيكلية عند الحاجة، اما البنك الدولي يساعد في مشاريع التنمية والتمويل ومشاريع دعم الجماعات الاجتماعية.

(7) انظر الجدول B في مسودة الميزانية الاتحادية لعام 2021 متوفرة في http//iraqieconomists.net/ar/wp-content,Dec30,2020

(8) لاحقا، في تقرير البنك الدولي للتنمية والبناء(IBRD) يعترف بانه قبل عام 1958"جرى تجاهل التصنيع في البلاد .. حيث ان الانفاق الكلي على التنمية خلال السنوات المالية 1951/52 – 1958/59 لـ "الصناعة والطاقة كان 13% مقارنة بـ 32% للزراعة، و 24% للنقل والاتصالات، و 28% للاسكان والبناء"(1963:18IBRD,).

(9) صادرات العراق غير النفطية تشكل نسبة ضيلة من الصادرات الكلية في عام 2019، انها شكلت 3.9% من الصادرات الكلية (www.cosit.gov.iq). العراق يعاني من عقود من العجز المزمن في الميزان التجاري. هذا جزئيا انعكاس لحقيقة ان : قطاع التصنيع يشكل فقط 0.86% من الناتج المحلي الاجمالي(النصف الاول من عام 2020 بالاسعار الثابتة لعام 2007)، الزراعة فقط 4.29%، البناء والبنية التحتية 1.93%، وبالمقابل، "الحكومة العامة"7.24% أي اكثر بثمان مرات من مساهمات التصنيع (انظر

 http://cosit.gov.iq/docements/national accounts, table 5,accessed on Dec23,2020). وهكذا، فان استبعاد التصنيع من ستراتيجية التنويع الاقتصادي بالطريقة التي يريدها البنك الدولي، لاتبدو خيارا جيدا.

(10) هي رواية كتبها شارلس دكنز(1852-53)، تتحدث عن قصة عائلة كان افرادها يكافحون ضد بعضهم البعض في المحكمة حول النقود والأملاك التي تعود لهم. النظام القانوني كان معقدا جدا لدرجة ان القضية استمرت لوقت طويل، كان على افراد العائلة دفع مبالغ كبيرة للمحامين، الامر الذي جعلهم في النهاية لن يحصلوا على أي شيء .

 

المثقف في حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي (197): الحرية والأخلاق

التفاصيل
كتب بواسطة: صحيفة المثقف

majed algharbawi14صادق السامرائيخاص بالمثقف: الحلقة السابعة والتسعون بعد المئة، من الحوار المفتوح مع ماجد الغرباوي، رئيس مؤسسة المثقف، حيث يجيب على أسئلة الأستاذ الدكتور صادق السامرائي:

 

الوعي الأخلاقي

ماجد الغرباوي: تقدم، إذا كان هدف إدراك العقل هو معرفة الشيء دون العمل به، من قبيل إدراك حقائق الوجود، فإن مبدأ الإدراك يسمى عقلا نظريا. ويسمى عقلا عمليا إذا كان هدفه تحديد الموقف العملي، باعتباره معيارا للتميز بين الخير والشر والحُسن والقُبح. فيصدق أنه: مبدأ إدراك "ماذا يجب أن أفعل؟"، بإزاء الواقع. لا بمعنى توقف الفعل الأخلاقي على نتائجة، بل يبقى إرادة خيرة بدواقع إنسانية، لتجسيد إنسانية الإنسان. يمتثل له المكلف كواجب أخلاقي ملزم بحكم العقل العملي، تحققت أو لم تتحقق مقاصده. وهذا شرط الفعل الأخلاقي، ولا خلاف في ذلك. إنما أعني، أن الفعل الأخلاقي يضفي معنى أخلاقيا على الواقع، ويطبعه بطابعه الإنساني، قصده أو لم يقصده... معنى يساهم في ترسيخ قيم الفضيلة والخير والعقلانية وسمو النوايا البشرية، خاصة العلاقات الاجتماعية وعلاقة الـ"أنا" بالآخر. ويحول دون اتخاذ الإنسان وسيلة لتحقيق أهدافه، بغض النظر عن خصوصيتها، فإن الإنسان يبقى إنسانا تحت أي ظرف كان.  وبشكل أدق أن الاستجابة للفعل الأخلاقي كواجب إنساني، يترك أثرا ينعكس على الواقع وروابطه الاجتماعية، وبذلك يكتسب المجتمع طبيعة أخلاقية، تسودها العدالة، ويعم الخير، لأن الأخلاق ممارسة سلوكية، وكل ممارسة تترك أثرا، إيجابيا أو سلبيا. ويغدو تربة صالحة لنمو قيم الفضيلة. فهناك إذاً أثران للفعل الأخلاقي، الأول انعكاسه على النفس البشرية، حينما تنشرح لفعل الخير، وتشعر بسعادة كبيرة، وراحة ضمير، تتلاشى معها أنانية الفرد، وضيق أفقه الأخلاقي، ويغدو مهيأ لتحمل تبعات فعله، مادام منطقه إنسانيا يرى فيه صورته. بينما يحدث العكس مع اقتراف الشر، أو مع عدم الاستجابة لنداء الضمير، فيشعر بتأنيبه، وهو شعور نفسي ضاغط، لمن كان ضميره حيا، وهو ما تصوره آية: (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ). ومع كل فعل أخلاقي تسمو الروح وتسمو الأخلاق ويعيش الفرد مشاعر روحانية، تتطلع للكمال.

وأما الانعكاس الثاني فما يتركه الفعل الأخلاقي على العلاقات الاجتماعية، وروح الجماعة والشعور بالمسؤولية تجاه الآخر الذي هو رهان مجتمع الفضيلة. وهذه نتيجة مهمة ربما لم يُكشف عنها سابقا. بمعنى آخر، أن الواقع ماثل أمام العقل العملي حينما يصدر أوامره. ومثوله هو رؤية الأنا ضمن محيطها الاجتماعي، بجميع خصوصياته وتناقضاته وملابساته، فهو فرد له استقلاليته، وبنفس الوقت جزء لا يتجزأ من مجتمعه، حتى قيل قديما: الإنسان اجتماعي بطبعه. وعليه يمكن تصور وعي الفرد لذاته ولغيره على ثلاثة أنحاء:

1- تارة يعي الشخص ذاته بما هي ذات إنسانية مستقلة، ذات مشاعر تشارك بها الآخر الإنسان، وتميّزها عن غيرها من الكائنات، وهي الوسط  الذي يتجلى فيه معنى "حب لأخيك كما تحب لنفسك"، تجليا مرآتياً، يرى فيه الآخر نفسه، فقط يقيسه على نفسه بل يراه نفسه، عندما يقرر ماذا يجب أن يفعل. فوعي الآخر في امتداده الإنساني، هو رهان العقل العملي. وهو القانون الكوني الذي يرتهن له الفعل الأخلاقي. فحينما تقدم على فعل تستحضر الآخر في ذاتك، وتضعه في موضعك وأنت تريد وعي الحالة أو الظرف الذي يمر به، فتبادله ذات المشاعر الإنسانية، وأنت تقرر ماذا يجب أن تفعل. لذا يجب أن تتمنى له ما توده لنفسك من الخير، وتبادر له كواجب إنساني. ويلزمك الفعل الأخلاقي دفع الأذى عنه كما تحب ذلك لنفسك. فتكون نفسك الحرة مقياسك لفرز العمل الأخلاقي عن غيره. ومن شأن هذا إشاعة قيم أخلاقية سامية. وهو ما نتوخاه لتفادي انهيار القيم والمبادئ الأخلاقية. ولازم كون الاستجابه للفعل الأخلاقي، استجابة للواجب، عدم ارتهانه لمقاصده، كالثواب والعقاب. والخوف والرجاء، كي يفقد الفعل قيمته الأخلاقية، ويغدو مقايضة، لا يبادر له ما لم يضمن جزاءه. لذا أكدت أن الأحكام الأخلاقية في القرآن، إرشاد لأحكام العقل العملي. وأما تعلق الآوامر الإلهية بالفعل الأخلاقي، وهو أهم المباحث الأخلاقية، فسيأتي.

2- وتارة ينظر الإنسان للذات بما هي جزء من المجتمع وثقافاته وعاداته وتقاليده ورؤيته الدينية. فالذات هنا تختزن الكل الثقافي، دون الخضوع لسلطته ما لم يضمن الفعل الأخلاقي شروطه في وحدة الموضوع والحكم. غير أن تلك الخلفية تكشف له عن الواقع حينما يريد الاستجابة لنداء الضمير، بدوافع إنسانية خيرة فقط وفقط. فهو كما يعي ذاته مستقلة عن محيطها الاجتماعي، يعي تحيزها الاجتماعي ومختلف انحيازاتها. فقد يتعارض الفعل الأخلاقي مع أعراف وتقاليد المجتمع، وحينئذٍ، ينبغي له التحقق من نواياه ودوافعه.

3- وثالثة يعي الفرد ذاته ضمن حركة الوجود، باعتباره مركز الخلق، فكيف يكون فعله الأخلاقي؟. لا فرق بين من يؤمن أو لا يؤمن بوجود الخالق أو الكائن الأسمى، إذ ليس للإنسان وجود مستقل عن الوجود. هو جزء منه يتأثر به ويؤثر فيه، خاصة في ظل الفتوحات المعرفية المذهلة، التي لا يمكن السيطرة عليها إلا بتمثل القيم الأخلاقية، حيث بات من السهل فناء مجتمعات كاملة خلال دقائق، باستخدام أسلحة محرمة. أو التلاعب بالجينات الوراثية، مما يؤثر سلبا على الطبيعة البشرية للإنسان، أو استباحة القيم الإنسانية بعنوان حقوق الإنسان. لا شك بشرعية حقوق الإنسان لكن ينبغي أن لا تهدر قيمته ومكانته الوجودية، كما تدعو له النظرية النسوية الرادكالية المتطرفة، حيث التمركز حول الأنثى، وإرساء ثنائية صلبة تفصل بين الذكر والأنثى، فتنعدم فرص التكامل البيولوجي والإنساني، الذي يحكم العلاقة بين الرجل والمرأة منذ وطأت أقدامهما الأرض. ويدعو هذا الاتجاه للاستغناء عن الرجل، باللجوء لأساليب جنسية، تستغني بها المرأة عن الرجل. ولا ريب أن دعاة هذه النظرية يستبعدون الأخلاق الإنسانية بالأخلاق الطبيعية بدعوى أنها تبيح للإنسان ما كان يتمتع به في بداية حياته الاجتماعية. لكن من قال أن هدر القيم الإنسانية كانت جزءا من أخلاقياته؟ كيف تكاثرت البشرية، وكيف تطورت وأنشأت علاقات اجتماعية.

 وبالتالي، الفعل الأخلاقي يشتمل على رؤية كونية للكون والوجود والإنسان والحياة وما بعد الموت لمن كان مؤمنا بوجود عالم ما ورائي، ووجود يوم للحق والعدل، هو يوم المعاد، كما تؤكد عليه الأديان. إذاً، ليس الفعل الأخلاقي مجرد إرادة خيرة بل إرادة تنبثق عن إنسانية الإنسان، بعيدا عن أية خصوصية تباعد بينه وبين إنسانيته التي هي إنسانيتك. فيكون فعلا أخلاقيا محضا، مجردا، يحقق معنى الإنسانية التي نفتقدها اليوم في ظل عالم تحكمه القوة وشريعة الغاب والأنانيات البشعة، حتى أبادوا الملايين من السكان الأصليين في أمريكا واستراليا وغيرهما من الدول، بوصفهم شعوبا متوحشة أو غير متحضرة. فهل تعتبر إبادتهم عملا أخلاقيا يراد به حماية المجتمع البشري؟.

إن هذا التصور للفعل الأخلاقي ضمن أبعاده الثلاثة يضفي معنى على سلوك المجتمع، يساهم في تكريس القيم الإنسانية وقيم الفضيلة. فينبغي عدم التعامل مع الأخلاق بنظرة تجريدية بعيدا عن الواقع، كي نحقق نحن / المجتمع ما نصبو له من الفعل الأخلاقي. بمعنى آخر لا تكفي الإرادة الخيرة بمفردها شرطا للفعل الأخلاقي ما لم ينبثق الفعل بدافع إنساني، يعمل على تطوير الواقع البشري، فمع كل فعل أخلاقي نكرس إنسانية الإنسان في تعامله مع الذات والآخر والمجتمع والوجود. إضافة لذلك، إن وعي الفعل الأخلاقي في بعده الإنساني، كشرط أساس لصدقيته، يحول دون تزييفه تحت أية ذريعة، دينية أو عرفية. وهو ما تعانيه المجتمعات فعلا، حيث تمارس الرذيلة والعنف والقتل، بل والإبادات الجماعية واستغلال الإنسان، دون رادع أخلاقي، بذريعة تارة تكون دينية وأخرى عرفية وثالثة المصلحة العامة، التي في أغلب الأحيان مصلحة الأنظمة الشمولية والاستبدادية، التي تستبيح كرامة الإنسان وحيثيته وثرواته. والقضية نسبية، فما تفعله الدول بدافع المصلحة يفعله الأفراد والجماعات بدافع الحفاظ على الهوية أو تأكيد الذات من خلال نفي الآخر، وإقصائه أو قتله. تجده في أكثر الدول تطورا حضاريا، عندما تهدر مركزية الغرب أو مركزية أمريكا كرامة الآخر، باعتباره هامشا يدور حول مركزه، وليست دول الشرق أقل إجراما كروسيا والصين وغيرهما. وعلى هذا الأساس اقترفت الحروب جرائم بشعة، سحقت الإنسان الذي هو هدف الخلق وهدف الأخلاق ورهان الله مع ملائكته. واستباحت جميع القيم، حتى انقلبت موازين الخير والشر، وراح تسويف الأخلاق يطال كل القيم الروحية والدينية.

بهذا يتضح الفارق بين العقلين النظري والعملي. الأول يقصد معرفة الشيء، والثاني يحدد موقفا عمليا من الواقع. وهي وظيفة العقل العملي، باعتباره معيارا للتمييز بين الخير والشر والحُسن والقُبح؟ وهذا يضعنا أمام مسوؤلية كبيرة، مسؤولية حماية الوعي من التزييف كي يأخذ العقل دوره في حماية الإنسان، عندما يكون حرا، قادرا على اتخاذ قراراته بذاته، وهي عملية شاقة في ظل تآمر مستمر لترويضه ومن ثم اغتياله، وذلك عندما تنقلب مهمته من معيار للتمييز بين الخطأ والصواب منطقا، وتمييز الخير من الشر أخلاقيا، وتمييز الحُسن من القُبح جماليا، إلى أداة تربط الحق والخير بالمنفعة دون اعتبار لأية قيم إنسانية. يقول محمد عابد الجابري: (أما اليوم فنحن نشاهد العقل يتحول من معيار منطقي وأخلاقي إلى مجرد أداة حتى أصبح يوصف بالعقل الأداتي: مهمته تحقيق النجاح بدون اعتبار لأي شيء آخر، فأصبح النافع هو الحق وليس العكس. وبعبارة أخرى تعرفون مرجعيتها الفلسفية: العقل الأداتي هو العقل الذي يربط الحق والخير والحسن بالمنفعة والنجاح، شعاره كل ما يحقق النجاح فهو حق وصواب وجميل. ومن الطبيعي أن ينساق هذا العقل الأداتي مع شعار: الغاية تبرر الوسيلة). وعندما يتحول العقل إلى أداة لتزوير الوعي، تنقلب القيم من قيم إنسانية تعلو على الأنانية والمادية والنفعية إلى قيم مادية، شريرة، تجعل من المنفعة مقياسا للفعل الأخلاقي، ولو على حساب إنسانية الإنسان فضلا عن استغلاله واتخاذه وسيلة لتحقيق مآربه. ليست هناك جريمة أكبر من هدر كرامة الإنسان، وقد كرمته السماء قبل الأرض: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً). وهذا يكفي سببا لتأكيد شرط الإنسانية في الفعل الأخلاقي، من أجل خلق واقع عملي، يجد فيه الإنسان إنسانيته، وأجواء آمنة تضمن كرامته وحريته. الإنسان محور الوجود، كما ذهبت لذلك في نظرية الخلافة أو نظرية الإنسان في مقابل نظرية العبودية، التي تضحّي بالفرد لصالح التشريع، وتنسى أن الأحكام الشرعية قائمة بملاكاتها ومصالحها التي هي مصالح الإنسان، وليس الله بحاجه لأحد. وأن هدف حركة التاريخ قرآنيا تحرير الإنسان، واستعادة إنسانيته: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)، بعيدا عن أية ولاية، وهذا معنى تحريره، أن يتولى شؤونه بنفسه، بما أودع الله فيه من قدرات عقلية، وضمير حي يراقب سلوكه وتصرفاته، ليضعه دائما على الطريق الصحيح. فالغاية النهائية للأديان عودة الإنسان لمركزيته، غير أن الخطاب الديني السائد وفي جميع الأديان، سلب الإنسان حريته، وارتهانها إما لنصوص فرضوا ولايتهم على فهمها، أو لفتاوى تسلب الفرد حريته، بدافع القداسة والخوف من اليوم الآخر. وهذا مكمن الخطر، الذي يستدعي وعيا قادرا على تشخيص الحقيقة، بعيدا عن أية سلطة فوقية، مقدسة أو غير مقدسة. سواء عدالة الصحابة أو عصمة الأئمة أو قداسة الفقيه أو رجل الدين بشكل عام أو أي عنوان يسلب الفرد حريته.

إن تحرير العقل غاية سامية نسعى لتأصيلها، من خلال فهم جديد للدين يأخذ بنظر الاعتبار مركزية الإنسان، ويراعي مصالحه، ولا يفرط بحريته وإنسانيته وعقلانيته. إذ نفهم من الآية المتقدمة ومن مقاصد الرسالات السماوية، تحرير الإنسان من عبودياته، الدينية وغير الدينية، واستعادة مركزه، ليتحقق هدف الخلق من وجوده وجعله خليفة في الأرض. وهذا يتوقف على وعي الإنسان لحريته، وعدم ارتهانها لأية جهة سوى عقله المعياري القادر على التمييز والتشخيص. الحرية لازم وجودي للإنسان، لا يمكن لأحد سلبها إياه. وعندما تسعى الأديان لتحريره فهي بالحقيقة تستعيد حريته من قبل النظام العبودي ومن ثم القبلي فالأبوي. بينما راح الفقهاء يكرسون العبودية تحت عناوين شرعية، حتى بات الفرد يفتخر بعبوديته للسلطان مهما كان ظالما جبار متكبرا. لذا لا يتحقق الفعل الأخلاقي ما لم يعِ الإنسان كينونته وحريته. بل لا يصدق الفعل الأخلاقي بدونها. الحرية هنا تعني التحرر المطلق إلا من وعي الذات وإنسانيته. فصدقية الفعل الأخلاقي مرتهن لحرية الفرد، وهذه نقطة مهمة، تقمع منطق التبرير والاعتذار، وتبقي الفعل الأخلاقي فعلا إنسانيا، ينطلق من مشاعر عميقة، غير مرتهنة لأية جهة خارجية. وهذا ما أكده محمد باقر الصدر في تعريفه للعقل العملي: (العقل العملي هو ما يكون لمُدركه تأثير عملي مباشر دون الحاجة لتوسّط مقدّمة خارجيّة)، والأخلاق من مدركات العقل العملي. وعدم الحاجة للمقدمات تعني تحرر الفرد، وعدم خضوعه لأية سلطة وهو يتخذ موقفه من الواقع سوى مدركات العقل العملي.

إن خسارة الإنسان لحريته يؤثر سلبا على قراراته، حداً قد لا يجد بأسا باضطهاد الآخر وربما تصفيته اجتماعيا أو جسديا. وقد يضفي على سلوكه صفة أخلاقية، تقمع ضميره وشعوره الإنساني. مهما كانت الجهة التي ترتهن حريته، دينية أو أيديولوجية. فالحرية شرط أساس في صدقية الفعل الأخلاقي، أو ستنقلب الموازين وتفقد الأخلاق أصالتها، وتستبدل بأخلاق مكتسبة، نسبية، تزرع في الإنسان روح العبودية والطاعة والانقياد. فلا أمل في وجود مجتمع فاضل أو مجتمع إنساني، تسوده القيم الأخلاقية الأصيلة، مع استلاب الحرية وارتهانها لأيديولوجيات متقاطعة في أهدافها ورؤيتها الكونية. فمثلا يغدو التسامح الحقيقي الذي أعنه به كما جاء في كتاب التسامح ومنابع اللاتسامح: (الاعتراف بالاخر وبحقوقه المشروعة حقيقة، لامنّة ولا تكرما، باعتبار تعدد الطرق الى الحقيقة). أو (التسامح يعني: الاعتراف بالآخر، والتعايش معه على أساس حرية العقيدة وحرية التعبير، لا تكرما ولا منّة، وإنما حق، باعتبار تعدد الطرق إلى الحقيقة، لا نسبيتها). (أنظر: ص23). وهذا كفيل أن يجعل التسامح فعلا أخلاقيا، يتقوم بالروح الإنسانية المشتركة، بينما يفقد التسامح الشكلي صفته الأخلاقية، عندما يلغي المشاعر المشتركة التي هي رهان الفعل الأخلاقي. وتبقى خطوط التماس بين الثقافات والأديان والقوميات هشة، تنهار عند أول اختلاف يضر بمصالح أحدهما. لذا لست مع التعريف الاصطلاحي المشهور للتسامح الذي يراد به: (موقفا إيجابيا متفهما من العقائد والأفكار، يسمح بتعايش الرؤى والاتجاهات المختلفة، بعيدا عن الاحتراب والإقصاء، على أساس شرعية الآخر المختلف دينيا وسياسيا وحرية التعبير عن آرائه وعقيدته). (ص21). إذ لا يكفي الموقف المتفهم في صدقية التسامح الحقيقي، وفقا لشروط الفعل الأخلاقي، ما لم يتضمن اعترافا حقيقيا بالآخر. ولا ريب أن هذا الفهم للتسامح ضروري في ظل أجواء التناحر والاقتتال حول احتكار الحقيقة، واحتكار طرق الوصول إليها، لكنه لا يفي بالشرط الأخلاقي. وحينئذ كيف يمكن تكييف هذا التعريف أخلاقيا مع ارتهان الوضع الأمني له؟

يأتي في الحلقة القادمة

 

............................

للاطلاع على حلقات:

حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي

 

للمشاركة في الحوار تُرسل الأسئلة على الإميل أدناه

almothaqaf@almothaqaf.com

 


 

الصفحة 1 من 145

  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • ...
  • 6
  • 7
  • 8
  • 9
  • 10

hewar2

(194)،(195)،(196)،(197)

84 mahmod mohamad ali200

اقرا ايضا

  • عود على الامثال الروسية (35)
  • الفلسفة البنيوية والعود الفلسفي
  • الدوغماتية.. مرض حكّام العراق
  • علي القاسمي وشهادات المغاربة له بالريادة الفكرية (1)
  • أَلْقِيَمُ أَلْكَوْنِيَّةُ وَالْخُصُوصِيّاتُ الثَّقافِيَّةُ
  • بين رهبتين.. لذاذة النثر وترف المعنى
  • آفة العدمية السياسية في العالم العربي
  • مصداقية الادب
  • شامبليون!!
  • كيفَ تمَّ إفراغُ الأستاذيةِ منْ محتواها؟
84 mahmod mohamad ali200

القائمة البريدية



العدد: 5250 المصادف: الثلاثاء 19 - 01 - 2021م


العودة لأعلى

تابعونا على:

الحقوق محفوظة صحيفة المثقف 2006 - 2021 ©

تابعونا على: