شهادات ومذكرات

حكاية شاعر خذله النقاد .. قيس لفتة مراد عاش في عذاب الجليد ومملكة اليأس

zayd alheliهل اسمي ما انتهت اليه حياة "الشاعر قيس لفتة مراد" المبدع، متعدد المواهب، حالة قدرية؟ ام سوء تقدير من قبله، ام غدر الزمن، ام جحود من خدمهم في حياتهم، ومدّ لهم يديه المتواضعة، ام أمر نفساني جابهه، ام كل ذلك مجتمعاً ..

أزعم انني، كنتُ من المقربين اليه، ومن المقربين اليّ طيلة سنوات طويلة، تمتد الى أعوام منتصف ستينيات القرن المنصرم، وربما السطور القادمة توضح ذلك، حيث الصحبة الأثيرة .. وشريط البداية يبدأ لقطاته بما يلي :

في منتصف ستينيات القرن المنصرم، التحقق عدد من الصحفيين والاعلاميين والفنانين، بإذاعة عراقية وليدة هي" إذاعة القوات المسلحة" تأدية لخدمة العلم، ضباطا وجنود، منهم العبد لله، كاتب هذه السطور، والشاعر خالد الحلي، مظهر عارف، لطفي الخياط، سامي قفطان، راسم الجميلي، فاضل خليل،علي الانصاري، سمير القاضي، عمانوئيل رسام، حسام الساموك، داود القيسي، رشدي عبد الصاحب، جاسم الخياط، اموري الرماحي، عبد الجليل علي، وغيرهم .. كان الالتحاق بهذه الاذاعة عملية شاقة، بل شاقة جداً، تحتاج الى (حظ) واقتناع مراجع عليا في الدولة، حيث كان القتال المؤسف على اوجه في شمال الوطن، وحجز مكان آمن في بغداد حيث الأهل، اشبه بالحلم، وقد سعى في وقتها المرحوم عبد العزيز بركات نقيب الصحفيين، الى استحصال موافقة المرحوم الرئيس عبد السلام عارف، على اصدار قرار بنقل كوكبة من المشتغلين في الاعلام الى تلك الاذاعة وكنتُ حينها أعمل محررا في صحيفة "العرب" البغدادية

..

(2)

 وقد استطاعت الاذاعة الفتية ان تحقق حضورا لافتاً على خارطة البث الاذاعي العربي .. وفي اثناء الانهماك في اعداد البرامج، وكتابة التعليقات، وتهيئة اللقاءات والتسجيلات اللازمة لعملية البث اليومي، دخل علينا الصديق راسم الجميلي ونحن في قاعة التحرير البسيطة في مبنى متآكل ضمن ابنية الاذاعة والتلفزيون في الصالحية ببغداد، صحبة رجل في العقد الثالث او اكثر، نحيف الجسم، بل ضئيله، سمات بشرته تميل الى البياض، هادئ الملامح، خفيض الصوت، حتى اننا بالكاد سمعنا صوته وهو ينطق بكلمة السلام علينا! ..

قال الجميلي: اقدم لكم زميلنا الجديد "قيس لفته مراد" لم يثر فينا ذكر إسمه شيئا، سوى الصديق فاضل خليل (الدكتور فيما بعد) الذي قام وقبّله، فبدأت ابتسامة القادم تتوضح بخجل ... ثم، نعرف بعد ذلك ان " قيس لفتة مراد" جاء نقلاً الى بغداد من الناصرية بقرار من رئيس الوزراء طاهر يحيى، بعد ان صادف ان اثناء زيارة رئيس الوزراء الى الناصرية وجود معرض فني خاص بالخط والرسم والزخرفة، كان مقاماً ضمن منهاج الزيارة لأعمال فنان شاب، اسمه قيس لفتة مراد ... ويبدو ان رئيس الوزراء اعجب بأعمال هذا الفنان، فأوعز بنقله الى صحيفة " الثورة العربية " التي كانت ناطقة بأسم الاتحاد العربي الاشتراكي، للأستفادة من موهبته في اعمال التصميم والخط .. وحين تمت دعوة مواليده لخدمة الاحتياط، اختير للالتحاق في العمل ضمن كادر اذاعة "القوات المسلحة "

وانني اتذكر ان قيساً، حين قدمه لنا راسم الجميلي، كان يتأبط، نسخة من تلك الجريدة، وعلى صفحتها الادبية قصيدة له، اظن كان عنوانها (الهناء) وقد جادله في اختيار العنوان والمضمون، الشاعر والصحفي نعمان محمود سيرت الذي كان احد العاملين في الاذاعة، بطريقة استفزازية، لكن "قيس" لم يحفل بملاحظات الزميل سيرت .. القاسية،

 

(3)

 ... ولم تمض ايام، حتى تكشفت لنا مواهب هذا الزميل الجديد، مثلما تكشفت لنا اسباب اهتمام صديقنا فاضل خليل بالقادم الجديد، واتذكر ان قيساً اعد برامج شعرية وثقافية مهمة، وتخصص برجالات التصوف، وسيرّ الاقدمين، وفيما يخص الصديق فاضل، فتبين إنه مثل دورا في مسرحية كتبها " قيس لفتة مراد " في الناصرية في بواكير شبابه عنوانها (اكازو) وهي مسرحية مستوحاة من التراث السومري، وعلمت لاحقها انها من اخراج الصديق المرحوم عزيز عبد الصاحب ... اذاً، نحن ازاء شخصية متعددة المواهب، ومنذ ذلك الوقت تعززت العلاقة وتوثقت لتستمر حتى وافاه الاجل المحتوم (توفي في الاسبوع الاخير من شهر آب عام 1995)

 و بدأت شهرة قيس، تأخذ مدى، وبدأ اسمه يتردد في الاذاعة، وبعد تموز 1968، صدرت جريدة " الثورة " المعروفة، وتم اختياره، ليكتب عموداً يوميا في صفحتها الأخيرة بعنوان " قناديل " ويغني له حسين نعمة اغنية من نظمه اشتهرت بشكل لافت، ويصدر له ديوان شعر وتبدأ احواله المعيشية بالاتساع والنمو، فيشير عليه بعض معارفه بالزواج، فيقترن بفتاة تصغره بسنوات هام بها كثيرا لجمالها، وهو المحروم من لذائذ الحياة، ورزق بأطفال، وهنا، اتذكر انه جاءني يوما الى صحيفة " الثورة " وكنتُ حينها مديرا لتحرير عددها الاسبوعي، عارضاً معاونته في تدبير عمل لزوجته في الجريدة، لأسباب اوجزها لي، لا مجال لذكرها هنا، وفعلا لبيّت طلبه، وتم تعيين زوجته في القسم الاداري ..

 احسستُ، من خلال لقاءاتي بقيس انه كان خائفا على الدوام، وقد نقلتُ هاجسي الى الاستاذ عزيز السيد جاسم، الذي كان دائم السعي الى تفقده ورعايته، فأيد ملاحظتي ... كان دائم الحيرة بين الاشياء، لا يقتنع بشئ، وحين يصل الى مرتبة اليقين في قضية ما، من قضايا الحياة، أجده يبدأ رحلة البحث من جديد، لذلك كنتُ اراه دائما معلق الانفاس، مندهشا يسائل نفسه، والكون ولا من مجيب ... انه مسكون بالحيرة والتساؤل يملك قدرة على الابحار نحو مستقبل ضبابي ... كان من الاشخاص الذين يخافون من أشياء مجهولة، حتى يتصور المرء انه من جنس بشر لا يعرفون ما يريدون !

 

 (4)

لم يهتم النقاد بـ " قيس " كشاعر، والغريب في هذه الجزئية، ان من هام بها حباً، واعني بها شريكته في الحياة  "ام عياله" شاطرت النقاد هذا الرأي !! وقد شكل ذلك حالة من اليأس لديه، لكنه كان يأساً مكبوتا ...وربما في السطور التالية التي كتبها قيس مخاطبا زوجته، ما يشيء الى حالة من النكوص انتابته:

تشكين إني شاعر، أنا شاعـر

كبير ولكن الحظـوظ عواثـر   

لاذنــب لـي أن لم ينلني ناقــــــــــد         

يعرف بــي أو ينلنـي خـــــــــــابر

لأنـي أبى إن أمـــرغ جبـــــهـتي   

بأعتابهم إن مرغ الوجه شاعـــر

حرام على قيثارتي أن أهينــــها

بزيف كما هانت لغيري القيا ثر

 

كان يحلم بالحب، بمعانيه الطلقة السمحاء الصافية، يسوّغ وجوده ويبني مستقبله ويرسمُ أحلامه، وينفض عنه صدأ القلق والحيرة والضياع النفسي المعتم، لكن اين هذا الحب ؟ لقد كان يحس في محيط مجتمعه اساليب (الألتواء) على مرآى من عينيه ومسامعه، دون ان يقدر على فعل شئ ..!

لذلك،عاش قيس لفتة مراد سنوات حياته، قلقاً، صامتاً، معذباً ضجرا، يائساً ... كان يعرف كل شئ عن ما يجري حوله، وقد أسرني بالعديد مما يحسه، لكنه آثر الصمت ... حتى قتله الصمت !

وهو القائل:

رأيت سرباً صغيراً

من طيور غريبة الأشكالِ

تتهاوى فوقي بأجنحةٍ بيضٍ

كثلج الذرى وصفوفٍ طوالِ

قال ...قاري هذي طيور الكراكي

تقصد الهور من اعالي الجبالِ

ان هذا الذي سرى يشعر بي

طائرٌ نادمٌ عزيز المنالِ

فهو عند الشتاء طيرٌ جنوبيٌّ

وفي الصيف من طيور الشمالِ

 

(5)

ورغم ان المعلومات المتوفرة عن قيس لفته مراد، تقول إنه ولد في مدينة سوق الشيوخ في محافظة ذي قار، ووالده كان رائدا في صحافة مدينة الناصرية، حيث اصدر صحيفة شهيرة هي (المنتفك) في اواسط ثلاثينيات القرن المنصرم، وظلت تصدر لمدة اربع سنوات، لكن المفارقة هنا، ان والدا بمثل هذه السمو الصحفي والثقافي، لم يتمكن من توفير جو دراسي مناسب، لولده، حتى إنه لم يستطع ان يكمل دراسته الابتدائية، وفي ذلك سر لم يفك لغزه الذين تناولوا سيرة هذا الشاعر، المظلوم حياتيا حتى آخر ايامه، مثلما لم يفكوا لغز أصل عائلته الوافدة الى الناصرية من احدى المحافظات الكردية، فقد ذكر لي مرة إن اصلهم من الكرد الفيلية ..

وبغض النظر، عن جذور قيس لفته مراد، لكن حبه لمدينة " الناصرية " ظل الحب الاكثر حضورا في حياته .. فـ "قيس" هو عبارة عن الناصرية كلها وهو القائل:

ولي في الناصرية إلف شوق      قــديم وقعـــه أبـــدا جـــديـــد

أعدني يا زمان إلى ربوعـــي       فغيـــر الناصــرية لا اريـــد

 

وايضا قال:

أنا من أور من بقايــــا حنيــن

حين تسترجع الطفـــولة أور

أنا بقيـــا العشــــاق والشعراء

ادخرتها مــــن الليالي الدهور

سأحكــي لديك أحلـــى الحكايا

أنا عنــــدي منها الكثير الكثير

 في ضلوعي أحزان كل الليالي

ولأنت الحزن المضاف الأخير

 

(6)

عانى قيس الكثير من المحن، يعرف سببها، دون مقدرة على حلها، لاسيما في سني حياته الاخيرة، حتى إنه غادر سكن الزوجية، واستأجر غرفة بسيطة في المنطقة القريبة من سينما " السندباد " ببغداد، وكثيرا ما مررت به، ورأيت الذبول يكتنفه بشكل واضح، ورغم ضيق ذات اليد، كان كريما مع من كان يعتقد انه من محبيه، لكن عندما ساءت حالته الصحية، وتم نقله الى مستشفى " ابن النفيس " ابتعد عنه الجميع، إلا قلة قليلة، وتدهورت حالته الصحية كثيرا، وعجزت كليتاه عن القيام بواجبهما رغم جهد الاطياء، فألح بشكل عجيب، على ان يُنقل الى غرفته، ... وبين جدران تلك الغرفة الموحشة، قال:

  عشت عشرين إلف يوم وليل

لم أذق راحة بها أو سلاما

كيف قاومت عبء تلك الليالي

والليالي اعبأ وها تتنامـــى

كل ليـــل يأتــي أقــول لنفسـي

ليت ليلي هذا يكون الختاما

 

(7)

تشرّد الخطأ بقيس لفته مراد في سكون الليل، وهدأة خيمته وحيدا... معه ظلّه ومعه عدّة الكآبة وعتاد الحزن، ومعه جعبة للذكرى .. ذكرى الماضي الجميل في الناصرية .. ومعه حفنة من اعشاب العمر الباقية، وخافق ظل يعتقد انه مازال قادرا على الهوى، مفعما بالشعر، بالفنون، لكنه مجرد اعتقاد واهم، وهنا يستذكر قيس لفته مراد، الزمان وما آل اليه وضعه، فيقول:

اين اهلي ورفاقي

اين اين اللذات

كل شيء تغير اليوم فيها

الورى والبيوت والطرقات كل شيء فيه غريب . .

 

 (8)

وانا اتحدث بين فترة واخرى مع كريمته الشابة " ايناس "  الساعية الى التذكير بالصديق الشاعر قيس لفته مراد، أجد إنها تدرك ان والدها كان يعيش في عذاب الجليد، وفي مملكة اليأس يحيا، فلم يقدر ضمن ظروف نعرفها وتعرفها، على الرفض والمقاومة ..

اليس هو القائل، موصيا اولاده :

وستكبرون وتنضجون

كما نضجت أنا بناري

وتعون ان أباكم للوهم عاش

وللقتارِ

هذا جناه أبي عليَّ

وقد جنيتُ على صغاري!

من آثارقيس لفته مراد الأدبية: ديوان من أغاني الحلاج واقصوصة قصيرة بعنوان (عودة إلى طفولتي) وديوان (العودة إلى مدينة الطفولة} وديوان (الفانوس) ومسرحية (الضحك ممنوع في المدينة) و(ديوان من شعر قيس لفته مراد) و(ديوان أحلام الهزيع الأخير) ومسرحية (اكازو) 

كما له مجاميع قصصية وعشرات الدراسات والخواطر ..

 

في المثقف اليوم