شهادات ومذكرات

نجاتي صدقي والادب الروسي

نجاتي صدقي - مثقف عربي كبير تصلح  سيرة حياته ان تتحول الى فيلم سينمائي مشوٌق جدا، يبتدأ من القدس في فلسطين عام 1908 حيث ولد ويمر عبرالحجاز وسوريا ومصر والقدس مرة اخرى ثم موسكو وباريس ومدريد ودمشق وبيروت وقبرص وينتهي في اثيناعام 1979 حيث توفي.

لا تهدف هذه المقالة الى رسم صورة تفصيلية لهذا المثقف الفلسطيني الكبير والمتميز ومسيرة نضاله السياسي ، هذه المسيرة التي ابتدأت عام 1924 عندما ارتبط بالحركة الشيوعية في القدس وتم  ترشيحه للدراسة في جامعة ستالين الشيوعية لكادحي الشرق في موسكو (والتي لم يترجم العرب تسميتها بشكل دقيق وواضح في معظم المصادر ولا ادري اذا كان الامر صدفة أم...) والذي كان نجاتي صدقي الطالب العربي الوحيد فيها عام 1925، والتي سيدرس فيها فيما بعد يوسف سلمان يوسف (فهد) من العراق وخالد بكداش من سوريا لكن بعد تخرجه عام 1929 اذ انهما درسا في ثلاثينيات القرن العشرين (تأسست هذه الجامعة عام 1921 و الغيت عام 1938 وتخرج فيها 29 طالبا اجنبيا فقط منهم الزعيم الفيتنامي هوشي منٌه والشاعر التركي ناظم حكمت). يعود نجاتي صدقي الى فلسطين بعدذلك، ثم يعتقل ، وبعد اطلاق سراحه يكلفه الكومنتيرن (مركز ادارة الحركة الشيوعية العالمي في موسكو) بالسفر الى باريس لاصدار صحيفة (الشرق العربي) وبعد 36 عددا منها يرسلوه الى اسبانيا للمشاركة في الحرب الاهلية ضد فرانكو لتحريض الجنود المغاربة الذين يعملون معه على التمرد ثم يعود الى باريس ويتقاطع مع الشيوعيين الفرنسيين فيعيدونه الى دمشق و هناك ايضا يتقاطع و يختلف مع خالد بكداش  ثم يتناقش مع الكومنتيرن لانه يرفض اتفاق هتلر وستالين عام 1939 حول عدم الاعتداء، وتؤدي هذه المواقف الفكرية المتميزة له  الى قطع علاقته التنظيمية مع الحركة الشيوعيةعموما، ومن اجل كسب لقمة العيش يبدا بممارسة العمل الادبي،منطلقا من معرفته للغات الروسية والفرنسية والاسبانية ويعطي لنا اوائل الكتب والدراسات في الادب الروسي والفرنسي والاسباني، ومقالتنا هذه مكرسة لالقاء نظرة عامة ليس الا على مساهماته في مجال الادب الروسي فقط.

الكتاب الاول في مجال الادب الروسي ظهر عام 1945 بعنوان – بوشكين امير شعراء روسيا، وقد اصدرته دار المعارف في القاهرة ضمن سلسلة (أقرأ) الشهيرة.لقد  (منح) نجاتي صدقي لقب (امير الشعراء) لبوشكين على الطريقة العربية ولاول مرة في تاريخ الدراسات العربية للادب الروسي ولا زالت هذه التسمية تستخدم لحد الان في بعض الكتابات العربية حول بوشكين،اذ لا يسميه الروس ولا اية امٌة اخرى بهذه التسمية (السلطوية)، رغم انه توجد بعض التسميات الروسية له مثل (شمس الشعر الروسي). ان اختيار بوشكين من قبل نجاتي صدقي يعني انه كان يفهم جوهر الادب الروسي بعمق بعيدا عن اخضاع الادب للسياسة، ويعرف ان بوشكين هو البداية الحقيقية للادب الروسي وانطلاقه وتألقه، وهذه مسألة في غاية الاهمية بالنسبة للفكر العربي في تلك الفترة التي كان كل شئ فيها يخضع للسياسة، ولو كان صدقي يخضع لذلك لاختار اديبا آخر بدلا عنه، و ربما يمكن القول حتى ان اختيار بوشكين يعني ان نجاتي صدقي اراد ان يعبر عن تأكيده لخلافاته مع رفاقه القدامى .ان كتاب نجاتي صدقي عن بوشكين هو اول كتاب نقدي مستقل ومتكامل عن الاديب الروسي – حسب علمنا المتواضع – بالعربية، وقد جاء شاملا وتناول بوشكين ومسيرة حياته وتأثره بالادب الفرنسي والانكليزي ،وخصوصا بشكسبير وبايرون، وتوقف عند موقفه منهما ، وقدٌم نماذج ابداعية له، وهي نقاط مهمة جدا في دراسة نتاجات بوشكين لا زال القارئ العربي بحاجة الى تأملها والتعمق في مختلف جوانبها، ومن الضروري هنا الاشارة الى ان الاديب اللبناني الكبير ميخائيل نعيمة قد كتب مقدمة هذا الكتاب واشاد بما جاء فيه لأن المؤلف يستند الى مصادر روسية وبلغتها الاصلية . أصدر نجاتي صدقي عام 1947 كتابا آخر في الادب الروسي بعنوان – (تشيخوف) وصدر ايضا ضمن سلسلة – اقرأ المصرية ، وهو ايضا اول كتاب عربي حول هذا الاديب الروسي الكبير، وقد سبق لي ان أشرت الى ذلك في مقالتي بعنوان – (شاكر خصباك وتشيخوف) المنشورة في العديد من المواقع الالكترونية، ولا زال هذا الكتاب لحد الآن يمتلك اهميته وقيمته الفكرية في المكتبة العربية، اذ رسم نجاتي صدقي فيه صورة قلمية موضوعية ودقيقة لهذا الكاتب الروسي وترجم – وبشكل رائع - نتاجات مختارة من ابداعه في مجال المسرح والقصة القصيرة، ويمكن القول – وبلا شك – ان اختيار تشيخوف من قبل نجاتي صدقي كان يرتبط ايضا بفهمه واستيعابه العميق للادب الروسي، اذ ان بوشكين وتشيخوف يجسدان قمتين متكاملتين ومنسجمتين في مسيرة الادب الروسي وتطوره في بداية القرن التاسع عشر ونهايته .الكتاب الثالث له صدر عام 1956 في القاهرة ايضا وضمن نفس السلسلة وهو بعنوان – غوركي،والذي يمكن اعتباره ابرز اديب روسي في ذلك الوقت . ان هذه الكتب الثلاثة التي قدمها نجاتي صدقي للمكتبة العربية تعد في الوقت الحاضر مساهمة مهمة جدا في مجال الدراسات العربية حول الادب الروسي ولا زالت تعتبر من ابرز المصادر في هذا المجال. وهناك كتاب آخر أصدره نجاتي صدقي عام 1952 في بيروت بعنوان – (المختار من القصص الروسي) لم استطع – مع الاسف – الاطلاع عليه ولهذا لا يمكن لي تعريفه و تقويمه ، رغم انني على قناعة تامة من قيمته العلمية والفنية.لقد منحنا هذا  الاديب والباحث كتبا ادبية  ودراسات ومقالات قيٌمة لا زالت تنبض بالحياة ولا زال القارئ العربي يطالعها ويرجع اليها باعتبارها مصادر مهمة في الادب الروسي ومسيرته وتاريخه،وكثيرا ما كنت اوصي طلبتي في قسم اللغة الروسية في جامعة بغداد بالاطلاع عليها، وقد اعادت بعض دور النشرالعربية طباعتها من جديد، اما تلك المقالات والاصدارات السياسية التي كتبها نجاتي صدقي قبل ذلك فقليلا ما يتذكرها القراء الآن.

 

في المثقف اليوم