شهادات ومذكرات

خروشوف والفنان نيئزفيستني

نيكيتا سرغييفتش خروشوف (1894 – 1971) – هو الامين العام للحزب الشيوعي السوفيتي بعد وفاة الشخصية العالمية المعروفة - ستالين عام 1953، و اصبح بعدئذ رئيسا لمجلس وزراء الاتحاد السوفيتي عام 1958 اضافة الى موقعه الحزبي، اي انه – باختصار - الشخص الاول في الاتحاد السوفيتي آنذاك والى حين اقالته بالقوة من كل مناصبه التي كان يشغلها بأمر جماعي متفق عليه من قبل قيادة الحزب الشيوعي السوفيتي والدولة السوفيتية عام 1964 كما هو معروف للقراء المتابعين لهذا الموضوع طبعا، أما ارنست يوسيفوفيتش نيئزفيستني فهو نحات سوفيتي (ثم حصل على الجنسية الامريكية و اصبح مواطنا امريكيا بعد هجرته الى هناك عام 1977)، ولد عام 1925 في مدينة سفيردلوفسك بالاتحاد السوفيتي ولا زال لحد الوقت الحاضر على قيد الحياة ويعيش في مدينة نيويورك بامريكا وهو استاذ في جامعة كولومبيا ولحد الان، وغالبا ما يزور روسيا، واحتفل بعيد ميلاده الثمانيني عام 2005 في موسكو، بل ان روسيا الاتحادية قد منحته عام 1995 وساما روسيا عاليا تقديرا لمجمل خدماته في مجال الفنون و كذلك وسام الشرف عام 1996 لخدماته امام الوطن، وقصة اللقاء الغريب والعفوي الذي حدث بين هذين الشخصين (اي خروشوف ونيئزفيستني) دخلت في تاريخ الفن التشكيلي السوفيتي ومسيرة الثقافة في الاتحاد السوفيتي بشكل عام، بل، ويمكن القول حتى في تاريخ الدولة السوفيتية برمتها اذ انعكست ابعاد هذه القصة في تعليقات المحللين السياسيين عالميا، بما فيهم الصحفيين والمعلقين العرب، حول قيادة الاتحاد السوفيتي ومستواها الفكري، وموقفها الثقافي و الحضاري بشكل عام ، وتأثير ذلك على المسيرة السياسية بالذات في الاتحاد السوفيتي، بل وانعكاس كل ذلك في مجمل السياسة الدولية في العالم، وهذا ما سنحاول عرضه في مقالتنا الوجيزة هذه .

حدث ذلك اللقاء المذكور اعلاه في الاول من كانون الاول / ديسمبر عام 1962 في قاعة المعارض المركزية التي تقع في ساحة مانيش المعروفة في وسط مدينة موسكو ، وهي الساحة المجاورة للساحة الحمراء الشهيرة، حيث كان هناك معرض فني كبير للفنانين الطليعيين من رسم ونحت لمناسبة الذكرى الثلاثين لتأسيس فرع اتحاد الفنانين التشكيليين في موسكو وتحت عنوان – (الواقع الجديد)، وقد زار المعرض الامين العام للحزب الشيوعي السوفيتي ورئيس مجلس الوزراء خروشوف نفسه و بمرافقة بقية قادة الاتحاد السوفيتي عندها مثل بريجنيف (الذي اصبح امينا عاما للحزب الشيوعي السوفيتي بعد خروشوف وبقي في هذا المنصب الخطير الى نهاية حياته) وكوسيغين وسوسلوف وميكويان ووزيرة الثقافة فورتسفا وغيرهم من الاسماء الرسمية المشهورة آنذاك، وبحضور مجموعة كبيرة من ابرز الفنانين التشكيليين والنحاتين السوفيت طبعا، و لم ينل المعرض اعجاب خروشوف بتاتا، و عندما وصل والقادة الذين كانوا يرافقونه عند اعمال نيئزفيستني، انتبه اليها و توقف عندها وابدى امتعاضه الشديد من تلك النتاجات الفنية، واستدعى هذا الفنان وأخذ يتكلم معه بشكل انتقادي صارم وحاد حول ذلك، بل حتى بدأ يوبخه مستخدما كلمات سوقية مثل (لوطي)، وان اعماله ليست سوى (غائظ كلاب)، وتكلم خروشوف بشكل عام عن الفن التشكيلي التجريدي المعاصر آنذاك وقال، انه اذا نغمس ذيل الحمار بالالوان فانه سيرسم مثل هذه اللوحات التي تشبه طفلا يلوث بيديه غائظه دون ان يفقه اي شئ ....الى آخر تلك الجمل البذيئة بكل معنى الكلمة، وكل ذلك امام جميع القادة والفنانين والصحفيين وبقية الضيوف وزوار المعرض، وقد صرح الفنان نيئزفيستني للصحفيين - في فترة لاحقة بعد هذه الحادثة طبعا - انه لم يقابل في حياته مثل تلك البذاءة والانحطاط في الكلام، ومثل هذا المستوى الهابط والرهيب من التعبير عن اختلاف الرأي في شؤون الفن بشكل عام، وقد اضطر الفنان التشكيلي نيئزفيستني ان يجيب عندما اعلن خروشوف انه (لوطي) قائلا – اعتذر من السيدة فورتسفا وزيرة الثقافة السوفيتية الموجودة امامي ولكني لست لوطيا ، وقد اشتهر هذا الخطاب في تاريخ الاتحاد السوفيتي بتسميته الغريبة والمعيبة طبعا في النقد الفني وهي – (خطاب عن اللوطية في الفن)، وعندما قال نيئزفيستني لخروشوف ان الكثير من شيوعيي العالم معجبين باعماله الفنية، واعطاه بعض الاسماء من شيوعيي ايطاليا وغيرها مثلا، فسأله خروشوف – هل يهمك رأيهم لانهم شيوعيون ؟ فأجابه – نعم، فقال له خروشوف – اذن استمع الى رأيٌ لاني الشيوعي الاهمٌ في العالم .

لقد كنت انا شخصيا في تلك الفترة طالبا في كلية الاداب بجامعة موسكو، وسمعت طبعا بهذه الحادثة رأسا في اوساط الطلبة واستمعت – مثل الطلبة الروس والاجانب آنذاك – الى نشرة الاخبار المركزية في راديو موسكو باللغة الروسية الى هذا الخبر، واطلعت في اليوم الثاني على النص الذي نشرته وكالات الانباء السوفيتية حول ذلك اللقاء والذي نشرته الصحف السوفيتية كافة كما كانت تسير الامور عندها في الاعلام المركزي، وقد تم بالطبع تشذيب كلام خروشوف بشكل او باخر، و تم حذف كل تلك الكلمات البذيئة التي اشرنا اليها (والتي لم نستطع ولم نرغب ان نشير اليها ايضا!) اعلاه، ولكن الموضوع – رغم ذلك - بقي في نفس اطاره طبعا، وتم التاكيد على قضية (ذيل الحمار!) الذي يستطيع ان يرسم مثل تلك اللوحات التشكيلية، والتي تنتمي الى الفن التشيكيلي التجريدي المعاصر في حينها، وقد اثارت تلك التعليقات الغريبة والساذجة والباهتة والبعيدة كل البعد عن المنطق العلمي والنظرة الموضوعية ردود فعل سلبية بين اوساط الطلبة الروس والاساتذة طبعا واستهجانهم، ولكنهم لم يحاولوا التعبير عن انطباعاتهم حول ذلك بشكل تفصيلي وعلني ، خصوصا امامنا – نحن الطلبة الاجانب، ولكننا شعرنا بموقفهم السلبي بشأن هذا الحدث وعدم ارتياحهم لتلك التصرفات المتسرعة هذه، و الشتائم الغاضبة، وغير المعقولة بتاتا تجاه الاعمال الفنية المعروضة آنذاك، و حتى سخريتهم المريرة منها، وقد اشار احد المؤرخين الروس قبل فترة الى ان هذا الخطاب يعد الاسوأ بين خطابات خروشوف كافة، ولا يمكن مقارنته حتى بخطابه و موقفه المعروف في منظمة الامم المتحدة، عندما نزع الحذاء وأخذ يدق به على المنصة ويلوٌح به امام وفود الدول الاعضاء في تلك المنظمة الدولية، وقد تم الاشارة الى كل ذلك – بما فيها ذلك الخطاب - بشكل غير مباشر حتى في الاعلان الرسمي الذي تم نشره آنذاك عن تنحيته من مناصبه عام 1964 .

ختاما لمقالتنا هذه نود ان نشير الى ان اقرباء خروشوف طلبوا من النحات نيئزفيستني ان ينحت تمثالا على قبره، وقد قام فعلا بنحت رأس خروشوف وتم وضعه على القبر، وهو لا زال موجودا لحد الان، ويعد من افضل الاعمال الفنية، التي استطاعت ان تجسٌد الحيوية التي كان يتميز بها خروشوف . اما النحات نيئزفيستني نفسه فقد اصبح الان واحدا من أشهر النحاتين في العالم، واقتنى بابا الفاتيكان بعض اعماله وادخلها في متحف الفاتيكان للفنون، وتم افتتاح متحف خاص له وباسمه في مدينة يكاتيرنبورغ الروسية في الذكرى ال88 لميلاده، ويضم المتحف اعماله النحتية التي أهداها لهم شخصيا وكذلك بعض الاعمال الاخرى التي حصل عليها المتحف من مصادر اخرى .

في المثقف اليوم