شهادات ومذكرات

رابطة الطلبة العراقيين في الاتحاد السوفيتي (2)

استلمت رسائل عديدة حول مقالتي عن رابطة الطلبة العراقيين في الاتحاد السوفيتي، والتي نشرتها قبل فترة قصيرة، ولعل اهمها تلك الملاحظات التفصيلية الدقيقة من الصديق المهندس ضياء العكيلي – صاحب الفكرة بالكتابة عن الرابطة كما اشرت في تلك المقالة، واحاول في هذه الحلقة ان اتناول واحدة من النقاط التي اثارتها تلك الرسائل وحسب معلوماتي المتواضعة طبعا، واتمنى ان يساهم جميع الزملاء بهذا المشروع الجميل والمهم والحيوي فعلا حول كتابة تاريخ رابطة الطلبة العراقيين و الحركة الطلابية في الاتحاد السوفيتي آنذاك بشكل عام، والتي يمكن اعتباره بلا شك جزءا لا يتجزأ من تاريخ العراق المعاصرفي النصف الثاني من القرن العشرين.

...................

 

النقطة التي اريد التوقف عندها في هذه الحلقة هو الاجتماع الذي حدث عام 1962 مع الدكتور محمد المشاط – مدير دائرة البعثات في وزارة المعارف العراقية آنذاك، وهو المسؤول الاول عندها عن الطلبة العراقيين في الخارج كما هو معروف، وقد اشرت في مقالتي الاولى عن الرابطة الى هذا الحدث واهميته في مسيرة الرابطة وتاريخها عندئذ . لقد وصل الدكتور المشاط الى موسكو في زيارة رسمية لحسم قضايا الطلبة العراقيين في الاتحاد السوفيتي آنذاك، وفي مقدمتها طبعا قضية تعادل الشهادات السوفيتية في العراق والتي كانت تثير قلق الطلبة العراقيين بلا شك بعد اكثر من ثلاث سنوات من الدراسة في الجامعات والمعاهد السوفيتية، وكان من الواضح ان الموقف الرسمي العراقي تجاه تلك الشهادات كان سلبيا بكل معنى الكلمة، اذ انه كان ينطلق من مواقف سياسية بحتة مضادة للاتحاد السوفيتي بشكل عام ولنهج التقارب والتعاون المتبادل معه سياسيا وثقافيا، بعد ان استطاعت القوى السياسية العراقية المعنية، بالتنسيق مع القوى الاجنبية المعروفة طبعا، استعادة السيطرة على الوضع السياسي العراقي وايقاف ذلك المدٌ الوطني الذي كان سائدا في الساحة العراقية في اعوام 1959 – 1961، هذا الموقف الذي أدٌى في نهاية المطاف – كما هو معروف - الى انقلاب 8 شباط 1963 الاسود والدموي . لقد تحدٌى، بل واستفزٌ الدكتور المشاط بتصرفاته في موسكو مشاعر الطلبة العراقيين ورابطتهم، التي لم يعترف بها اصلا، وحاول ان يجتمع مع الطلبة العراقيين دون الاخذ بنظر الاعتبار وجود منظمة للطلبة او حتى الاستماع الى رأيها بالموضوع، واتصل بالملحقية الثقافية وطلب منها ترتيب هذا الاجتماع مباشرة، ولكن الطلبة اعلنوا انهم لن يجتمعوا به ما لم تنظٌم الرابطة هذا الاجتماع وبالتنسيق معها، وبعد اتصالات شبه علنية هنا وهناك بين الملحقية والرابطة (يعرف تفاصيلها الصديق ضياء العكيلي نفسه الذي شارك فيها، اذ كان آنذاك رئيسا للرابطة)، لم يستطع الدكتور المشاط ولا الملحقية الثقافية ترتيب هذا الاجتماع، وقد اضطر المشاط اخيرا، بعد ان فهم ان الملحقية لا تقدر ان تتحدى الرابطة وارادتها، ان يطلب من الرابطة تنظيم هذا الاجتماع، وهكذا جرى ترتيب الاجتماع مع الطلبة العراقيين في احدى قاعات جامعة موسكو، وقد كانت قيادة الرابطة جنبا لجنب معه في قيادة ذلك الاجتماع العاصف، والذي أعلن فيه المشاط – وبوقاحته وغروره - ان الجانب العراقي لا يعترف بشهادة الكانديدات السوفيتية على انها معادلة لشهادة دكتوراه فلسفة، وانما هي شهادة ماجستير ليس الا، وكانت حجته الوحيدة في كل ذلك تكمن في انه بحث عن كلمة ( كانديدات ) الروسية في القاموس الروسي – العربي ووجد ان معناها هو – (مرشح)، وبالتالي، فان الشخص الذي يحوز على تلك الشهادة – على وفق القاموس - يعني انه – (مرشح) للحصول على شهادة الدكتوراه ليس الا، بغض النظر عن ان هذا الشخص قد أنهى الكلية في العراق وانه تم ارساله للدراسات العليا والحصول على شهادة الدكتوراه، وان مدة الدراسة هذه تستغرق خمس سنوات باكملها بعد الحصول على شهادة البكالوريوس وانجاز اطروحة ضمن المواصفات العلمية العالمية ، بل ان بعض المبعوثين كانوا أصلا من الحاصلين على شهادة الماجستير من الجامعات الغربية، ودون مراعاة طبعا للموقف الدولي المعروف والمعلن تجاه هذه الدرجة العلمية المتميزة ، والذي يعترف بها باعتبارها شهادة دكتوراه – فلسفة بكل ما تعني هذه الشهادة العلمية المرموقة من معنى، وان كلمة ال (كانديدات) تلك ليست سوى تسمية تاريخية ترتبط بمسيرة التعليم العالي الروسي منذ بدايته وان موقعها في القاموس الروسي – العربي لا يمكن ان تحسم موضوع تعادل الشهادات...الخ . قابل الاجتماع هذه الافكار بالاستنكار الشديد، وتكلم بعض الطلبة حول ذلك، الا ان الدكتور المشاط لم يرغب بالاستماع الى منطق العقل والبحث العلمي الرصين، بل لم يأخذ كل ذلك بنظر الاعتبار، وحاول البعض ان يتحدث عن حقوق الطلبة التي رفضتها الملحقية ومنها مخصصات شراء المصادر العلمية مثلا، الا ان كل هذا الاراء ضاعت وسط الجو المتوتر الذي فرضه الدكتور المشاط على الاجتماع وردود فعل الطلبة على ذلك، بما فيها تصرفات غير لائقة فعلا جاءت من قبل الطلبة انفسهم (أطلق أحد الطلبة مثلا هلهولة مدوية أثارت الضحك بين الحاضرين)، وهكذا انتهى هذا الاجتماع دون اي نتيجة تذكر، بل سادته فوضى في نهاية المطاف، الا ان المشاط قد فهم (وهذا كان هدفا مهمٌا للاجتماع ) ان افكاره لن تمر، وان الطلبة لن يستمعوا اليه والى تهديداته الفارغة والعقيمة .

لقد كان هذا الاجتماع اول تجربة كبيرة واقعيا تخوضها الرابطة مع الجانب العراقي الرسمي والحكومي آنذاك، وعلى الرغم من ان الرابطة استطاعت ان تثبت وجودها وارادتها امام الملحقية الثقافية ومدير البعثات في وزارة المعارف شخصيا، الا ان هذا الاجتماع واقعيا لم يحقق مطالب الطلبة عموما ولم يمنحهم أي مكسب، وبالتالي لم يكن مفيدا لهم، وكان يجب التحضير لهذا الاجتماع بشكل محدد ودقيق وتقديم مطالب الطلبة تحريريا الى دائرة البعثات بشكل منسٌق وعلمي يستند الى الوقائع الموضوعية والتعليمات الرسمية التي تم ارسال الطلبة على اساسها، وكان يجب الاستعانة – مثلا - ببعض الحاصلين على شهادة الماجستير من الجامعات الغربية (الذين أشرت اليهم أعلاه) للحديث امام الاجتماع حول شهادة الكانديدات السوفيتية وخصائصها ومتطلباتها العلمية ومستواها من امتحانات وتقارير ومناقشات ومشاركات وبحوث مشتركة مع المشرف العلمي تنشر في مجلات مركزية مرموقة ومحكمة وخاضعة لمتطلبات علمية رصينة والاستماع الى سلسلة محاضرات في الاختصاص ..الخ، ولكن حماس الشباب واندفاعاته العفوية وعدم وجود الخبرة والتجربة و الروح العلمية والموضوعية بالتعامل مع الرأي الآخر و كذلك المستوى الفكري والثقافي العام للرابطة قيادة وقاعدة (وهذه مسألة مهمة ومركزية لكل منظمة جماهيرية بلا شك)، اضافة الى تصرفات الدكتور المشاط وعنجهيته وعدائيته طبعا حالت دون ذلك . لقد كان هذا الاجتماع – الضوء الاحمر الاول في المسيرة الصعبة اللاحقة لخريجي الجامعات السوفيتية والروسية في عراقنا الحبيب – منذ احتلال الجنرال مود وتبعاته الى احتلال الرئيس بوش وتبعاته...

في المثقف اليوم