شهادات ومذكرات

فالنتين راسبوتين وداعا

فقد الادب الروسي (والادب العالمي ايضا) واحدا من أبرز أعلامه الكبار بتاريخ 15 / 3 / 2015 وهو فالنتين غريغوريفتش راسبوتين، الاديب الروسي الكبير، الذي ولد في 16 / 3 / 1937، وبهذا فانه توفي قبيل يوم واحد فقط من يوم ميلاده الثامن والسبعين، ومن هنا جاء تأبينه بشكل متباين ، اذ كتب البعض انه توفي عن عمر يناهز 77 سنة وكتب البعض الآخرانه توفى عن عمر يناهز 78 سنة .

فالنتين راسبوتين – اسم معروف للقارئ العربي عموما، وقد صدرت عدة نتاجات له بالعربية منها – (الهارب) بترجمة خيري الضامن عن دار نشر رادوغا (قوس قزح) السوفيتية عام 1982 (عنوانها بالروسية – تذكٌر ما دمت حيٌا) / و(الحريق) عام 1990 بترجمة خيري الضامن واصدار دار رادوغا ايضا، رغم اني وجدت اشارة في احدى المواقع الالكترونية الى ان د . نزار عيون السود قد ترجم هذه الرواية واصدرها اتحاد الكتاب العرب في دمشق عام 1989 ولكني لم أطلع عليها شخصيا / و(المهلة الاخيرة) و(نتاشا ...العجوز) و(في المستشفى) وذلك بترجمة أشرف الصباغ ... اضافة الى الكتابات الكثيرة حوله او الحوارات معه التي ظهرت في الصحافة العربية هنا وهناك، ومن بينها الحوار الممتع الذي أجراه معه الشاعر الفلسطيني الكبير معين بسيسو (1930 – 1984) في كتابه حول الاتحاد السوفيتي في ثمانينات القرن العشرين والذي صدر بالعربية بعنوان (الاتحاد السوفيتي لي)،وجاء هذا الحوار بست صفحات من الكتاب المذكور في الطبعة الروسية التي صدرت عام 1983 عن دار نشر (بروغريس) (التقدم) السوفيتية، حيث تحدث الشاعر الفلسطيني عن انطباعاته اثناء اللقاء مع راسبوتين في مدينة ايركوتسك الروسية (وهو حوار واسع وممتع وعميق يتناول كثيرا من المواقف الادبية لراسبوتين تجاه الادباء الروس مثل دستويفسكي، الذي قال عنه انه من اوائل الذين اكتشفوا الروح الروسية، وتشيخوف الذي أسماه معلمنا الحكيم، وايتماتوف الذي ذكر انه يجمع بشكل مدهش الروح الروسية وروحية الشرق ...الخ ولا مجال في اطار هذه المقالة الاستطراد تفصيلا حول مضمون هذا الحوار). وهناك مقالات عديدة اخرى ظهرت في الصحافة العربية، وخصوصا بعد رحيله، ومنها مقالة عبد الله حبه بعنوان طريف مشتق من رواية راسبوتين المشهورة دروس اللغة الفرنسية وهو - (دروس فالنتين راسبوتين الفرنسية) المنشورة في صحيفة طريق الشعب وعدة مواقع اليكترونية، والتي تناولت خصائص ادب راسبوتين من وجهة نظر مثقف عراقي عربي مقيم بشكل دائم في روسيا وتعامل فعلا مع نتاجات راسبوتين الابداعية وترجمها من الروسية الى العربية وتحاور معه شخصيا حول افكاره السياسية والاجتماعية والفلسفية والادبية، عندما التقى به مع الناقد السوري سعيد مراد واجريا سوية معه حوارا لمجلة (الطريق) اللبنانية التي كانت تصدر آنذاك في بيروت .. .

فالنتين راسبوتين هو استمرار ابداعي متألق ومتميز فعلا لتقاليد الادب الروسي العظيم منذ القرن التاسع عشر، ويمكن القول بالذات ان نتاجاته – قبل كل شئ - هي استمرار لتلك الموضوعات الانسانية البسيطة والعميقة والنموذجية لهذا الادب ومنهجه منذ كتابات بوشكين وغوغول وتشيخوف ...الخ، والتي تناولت هموم الناس البسطاء المشغولين ابدا بمشاكلهم الحياتية اليومية والغارقين فيها بغض النظر عن طبيعة النظام الاجتماعي والسياسي السائد في روسيا سواء كان قيصريا أو سوفيتيا ، وفي نفس الوقت يمكن القول ايضا ان راسبوتين هو استمرار   لذلك الخط الآخر من الادباء الروس العظام الذين اقتحموا ابواب الحياة الفلسفية والاجتماعية والسياسية الروسية بكل قوة وجبروت وعنفوان مثل دستويفسكي وتولستوي وسولجينيتسن ...الخ وتركوا بصماتهم الواضحة ومواقفهم الشجاعة في مسيرة المجتمع الروسي وتاريخه، وليس من باب الصدفة ابدا، ان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين زار راسبوتين شخصيا في مكان اقامته (وهذا الشئ لم يحدث سوى مع سولجينيتسن فقط لا غير) وتشاور وتحدث معه حول قضايا حماية البيئة، وبالذات بشأن بحيرة بايكال الشهيرة وشؤون منطقة سيبيريا بشكل عام، والتي شغلت حيزا كبيرا في النشاط الاجتماعي والفكري للكاتب (آخر كتاب صدر له كان عن سيبيريا)، ولهذا السبب، فان راسبوتين حصل على جوائز وتكريمات أدبية سوفيتية رسمية كثيرة مثل بطل العمل الاشتراكي ..الخ، وفي نفس الوقت حصل على جائزة سولجينيتسن الادبية، وهي جائزة يتم منحها تكريما لادباء لا يتناغمون مع السلطة السائدة - بشكل او بآخر طبعا - كما هو معروف، ولا زلت اذكر شخصيا عندما حضرت مؤتمر اتحاد ادباء روسيا كيف ان رئيس الاتحاد الكاتب الروسي الكبير غانيتشيف ذكر في خطابه اثناء افتتاح المؤتمر الرابع عشر لاتحاد الادباء ان راسبوتين هو – (مرشحنا الدائم للحصول على جائزة نوبل للاداب) الا ان لجنة منح هذه الجائزة لا توافق على ذلك لان راسبوتين لا يتناغم ولا ينسجم مع متطلبات هذه اللجنة وشروطها، لأنه يجسٌد (أدب الروحانية الروسية النقيٌة) (انظر مقالتنا بعنوان – اتحاد ادباء روسيا يعقد مؤتمره الرابع عشر) .

ختاما لهذه السطور نتوقف قليلا عند بعض الوقائع وكلمات الوداع التي كتبها عدة ادباء روس عن رحيل راسبوتين . النقطة الاولى في هذا المجال هي حضور الرئيس بوتين شخصيا في كنيسة (المخلٌص) بمركز موسكو لمراسيم تشييع الكاتب الروسي والتي قام بها رأس الكنيسة الارثذوكسية في روسيا البطريرك كيريل، علما ان هذه هي الكنيسة رقم واحد في عموم روسيا، والتي نسفها ستالين في الثلاثينات وحولها الى مسبح، ثم اعادتها روسيا كما كانت في السابق، وكان راسبوتين واحدا من أكبر الدعاة الى اعادة بنائها في حينه بتسعينيات القرن الماضي . رئيس الحزب الشيوعي الروسي زيوغانوف كتب مقالا خاصا عن راسبوتين نشره في مواقع الحزب الشيوعي لروسيا الاتحادية، واشار فيه الى ان ابداع راسبوتين يرتبط بالحقيقة والتي كان يتكلم عنها فقط في كل نتاجاته،ولهذا فانه دافع عن بقاء الاتحاد السوفيتي، وربط حياته في روسيا الجديدة بالدفاع عن سيبيريا وبحيرة البايكال باعتبارهما رمزا للوطن . صحيفة (ليتيراتورنايا غازيتا) (الجريدة الادبية) الروسية الاسبوعية نشرت على صفحتها الاولى في عددها الصادر بتاريخ18 – 24 / 3/ 2015 صورة كبيرة لراسبوتين وفوقها جملة (ما دمنا أحياءا- نتذكر) بحروف بارزة وكبيرة، وقد جاء في تلك الكلمة التأبينية ما يأتي – (.. رحل من الحياة فالنتين راسبوتين ... ان الضياء الذي ينبعث من هذه الشخصية كان ساطعا ودائميا لدرجة بان الظلام لم يكن باستطاعته ابدا ان يتغلب عليه... لقد كان يؤكد في كل سطر يكتبه على قيمه الانسان واهميته السامية ...)، ونشرت (ليترتورنايا غازيتا) في عددها المذكور اعلاه قصيدة الشاعر الروسي المعروف عالميا يفتوشينكو حول راسبوتين، والتي كتبها من مكان اقامته الجديد (والذي انتقل اليه منذ سنوات وهو امريكا)، والتي تحدث فيها عن ذكرياته حول هذا الكاتب الروسي وتقييمه الكبير له، مشيرا في الوقت نفسه الى اختلاف الآراء بينهما ....

نختتم مقالتنا هذه بالاشارة الى وصية راسبوتين التي نشرها غانيتشيف – رئيس اتحاد ادباء روسيا بعد رحيله قائلا، ان راسبوتين قد أوصى بعدم اطلاق اسمه على اي شارع او اي مؤسسة روسية اخرى بعد وفاته، وما اروعها من وصية لهذا الكاتب المتواضع العظيم!

في المثقف اليوم