شهادات ومذكرات

عن بعض العراقيين الذين مروا بموسكو (16)

انطلقنا معا من بغداد الى موسكو عام 1959، ودرسنا مبادئ اللغة الروسية واولياتها في نفس الكلية التحضيرية بجامعة موسكو، ثم افترقنا بعد انهاء الكلية التحضيرية للدراسة في جامعات روسية مختلفة كل حسب اختصاصه، وكنا نلتقي بعض الاحيان في موسكو طبعا اثناء اجتماع الطلبة العراقيين في مؤتمراتهم المتنوعة، ثم بدأنا نتابع بعضنا البعض في بغداد في السبعينات عن طريق مقالاتنا التي بدأنا بنشرها هناك، اذ أصبح هو تدريسيٌا في الجامعة المستنصرية وانا تدريٌسيا في جامعة بغداد، ثم فرقٌتنا ظروف العراق المتشابكة والرهيبة مرة اخرى، وهكذا وجدته اخيرا وهو يعيش في الدنمارك وانا في روسيا، وعدنا – من جديد - نتابع بعضنا البعض عن طريق مقالاتنا هنا وهناك في المواقع العراقية الالكترونية المختلفة . انه الاستاذ الدكتور عبد الجبار منديل .

تذكرت انه كتب ونشر رواية عن الطلبة العراقيين في روسيا، وتذكرت اني اطلعت عليها في حينها، ولكن في زحمة حياتنا الصاخبة في بغداد الثمانينات من القرن الماضي، عندما لم نكن نستطيع ان نفكر بعمق ونتأمل بهدوء ما الذي يجري حولنا بسبب تلك الاحداث الكبيرة الجسام التي كانت تجري امامنا بعنف وتحيط حياتنا اليومية، وهكذا لم نلتق في بغداد معا ولم نقدر ان ندردش معا حول تلك الرواية واهميتها ومكانتها في دنيا الادب العراقي آنذاك ولا عن ذكرياتنا حول دراستنا معا في الاتحاد السوفيتي في تلك الفترة، وافترقنا من جديد ... وبعد سنوات طويلة من حياتنا العراقية الجديدة و الصاخبة في بقاع العالم المختلفة، وجدت عنوانه وكتبت اليه وطلبت منه ان يرسل لي روايته تلك، وارسلها اليٌ مشكورا . انها رواية – (كيف حال الفرات ؟)، والتي كتب على غلافها – (رواية عن الطلبة العراقيين في الخارج)، ومن الواضح انه لم يستطع ان يكتب على غلافها آنذاك في العراق بدلا من تعبير - (في الخارج) تعريفا أكثر دقٌة وهو - (في الاتحاد السوفيتي)، رغم ان مكان الاحداث كان واضحا منذ السطور الاولى لتلك الرواية حول ذلك، اذ نقرأ في سطرها الاول ما يأتي – (في مساء خريفي من عام 1959 كانت طائرة فايكاونت تطير على ارتفاع 7000 م فوق أراضي الاتحاد السوفيتي ...). ويمكن القول – حسب معلوماتي المتواضعة حول ذلك - انها الرواية الوحيدة فعلا (وبشكل مباشر ودقيق ومحدد) عن حياة الطلبة العراقيين في الاتحاد السوفيتي آنذاك و روسيا الحالية، منذ تلك الايام الخوالي في الستينات الى حد الان، واريد ان اتوقف عندها في هذه الحلقة من سلسلة مقالاتي (حول بعض العراقيين الذين مرٌوا بموسكو)، اذ انها تشكٌل فعلا – من وجهة نظري - علامة متميٌزة جدا في مسيرة الادب المعاصر في العراق و طبعا في حياة العراقيين الذين درسوا في الاتحاد السوفيتي آنذاك .

تقع الرواية في 136 صفحة من القطع المتوسط، وقد صدرت في بغداد عام 1988 بمقدمة وجيزة جدا يشير فيها المؤلف أ.د. عبد الجبار منديل الى انه كتبها قبل (اكثر من سبعة عشر عاما ثم طويتها بين اوراقي ...وعندما عدت اليها وجدت انها لا تستحق ...الاهمال، وها انا اضعها بين يدي القارئ بدون أن اغيٌر فيها ولا كلمة واحدة .. .).

جمالية هذه الرواية تكمن بالذات في بساطتها الرقراقة، اذ لا توجد فيها حوادث دراماتيكية معقدة، وهي تنساب بهدوء وبشكل عميق وسلس وهادئ جدا، وتتناول الحياة اليومية للطلبة العراقيين في الاقسام الداخلية التي كانوا يسكنون بها، وعلاقاتهم مع بعضهم البعض، ومع الطلبة الروس الذين يحيطون بهم، و تتحدث طبعا عن همومهم اليومية و حنينهم الى العراق...الخ، وبالتالي فانه يمكن القول انها رواية فكرية بسيطة وشفافة تتناول حياة الطلبة العراقيين في الاتحاد السوفيتي في ستينيات القرن العشرين و تعكس فلسفة كل واحد من هؤلاء الطلبة ليس الا، رغم ان البطل المحوري في تلك الرواية هو احمد، الذي يجسد مؤلف تلك الرواية، او اي طالب عراقي آخر كان يعرض افكاره وهو يعيش في احضان الطبيعة الروسية . اقدٌم هنا مقطعا واحدا من تلك الرواية، والذي يمكن ان يرسم – من وجهة نظرنا – صورة عامة لطبيعة هذا النتاج الفني الرشيق وخصائصه –

(منذ ان تركوا القطار الكهربائي في قرية بتروفسكايا قطعوا اكثر من خمسة عشر كيلومتر. كان فولكوف قائد المسيرة يتقدمهم بقامته المديدة وشعره الاحمر وهو يسير في غابات التايغا الروسية ويوجه المجموعة بنفس الثقة التي يوجه بها الفلاح العراقي مشحوفه في الهور . كانت غابات التايغا تبدو كبحر بلا ضفاف . لم يتصور احمد ان الغابات يمكن ان تكون بهذا العمق وهذه السطوة. الطبيعة الروسية تبدو في ايام عرسها ... الاولاد والبنات الروس يبدون مسحورين بجمال الطبيعة، ولكن لا احمد ولا نبيل ولا سليم شاركوهم هذا الانجذاب الغريب نحو الطبيعة . كانت الفتيات ..يستلقين على الارض ويعانقنها بنشوة وهكذا كان يفعل الفتيان . الارض مغطاة بالاوراق الرائعة الالوان الندية.أشجار السرو والبتولا والصنوبر كانت تبدو ساحرة بتطاولها نحو السماء. كانت عالية رشيقة ومستقيمة ساحرة. كان الفتيان الروس يسمونها باسمائها ويعرفون عشرات الانواع منها، واذا كان أحمد لم يشاركهم فرحهم بطبيعتهم وغاباتهم الروسية فانه يستطيع ان يفهمهم. ما الذي يمكن ان يحدث لو سجن في شوارع مدينة حديثة بين صفائح الفولاذ والاسفلت، ثم اطلق سراحه بعد ذلك على طبيعة عراقية فيها نخيل وفي ظل ظليل وفيها الفرات وفيها المروج الخضراء!..ماذا كان يمكن ان يحدث؟ انه يفهمهم تماما .

اقتربت منه أكسانا وكانت تختلق المناسبات لمحادثته :

-هل تصدق ما يقال في الغرب من ان الروسي فلاح بطبعه..لذلك يحب الطبيعة ؟

-كلا بالطبع ..

-ان الروسي فنان بطبعه لذلك يحب الطبيعة !

لم يجب، فهي لا تعرف الحقيقة كلها.) (ص. 53-54)

هذا مقطع واحد من الرواية كما أشرت أعلاه، وهو ليس وحيدا بالطبع، ولكنه – كما نظن – يمكن ان يعكس طبيعة مضمون رواية (كيف حال الفرات؟)، للروائي (المنسي!) عبد الجبار منديل، ولا اريد التوغل في عمق هذا المضمون الجميل للرواية، ولا في جوهر البنية الابداعية الرشيقة لها، ولا في اسلوبها الساحر، اذ ان كل هذه العناصر تقتضي دراسة معمقة واتمنى ان تسمح ظروفي بتحقيقها يوما . ختاما لهذه المقالة استشهد بالسطور الاخيرة لرواية الكاتب المبدع أ.د. عبد الجبار منديل –

(ثم ابتعد القطار عن (روستوف)، وعن الدون الهادئ. شعر أحمد انه ترك خلفه كل ما يذكٌره بالفرات. ألقى نظرة أخيرة الى الدون ..ثم فجأة قفزت الى مخيلته عينا ليديا بفورتهما الفراتية، فعدل من استلقائته ونظر بأتجاه القطار....!)

 

أ.د. ضياء نافع

 

في المثقف اليوم